كتاب مدارات حزينة للإثنولوجي الفرنسي كلود ليفي ستروس، الصادر عام 1955 عن دار النشر بلون، ضمن سلسلة “الأرض البشرية”، من الكتب ذات الأهمية القصوى في مجال العلوم الإنسانية، التي صدرت خلال القرن العشرين.
كان هذا الكتاب قد خلَّف عند صدوره أثرا كبيرا في صفوف المثقفين بمختلف تخصصاتهم واهتماماتهم، من فلاسفة وأدباء وعلماء اجتماع ومؤرخين، وغيرهم، ونبههم لأهمية الإثنولوجيا، ليس فقط كبحث ميداني، ولكن أيضا كفضاء للتفكير والنقاش. وهذا الأثر المعرفي، الذي شدد عليه المؤرخ الفرنسي جيرار نوارييل (G. Noiriel) في كتاب تحت عنوان مساخيط الجمهورية الفرنسية (دار النشر فايار، 2005)، ظل يتفاعل في الساحة المعرفية والثقافية في فرنسا، وفي أوربا بشكل عام، حتى مطلع القرن الواحد والعشرين، علما أن هذا الكتاب تُرجم إلى سبعة وعشرين لغة.
لماذا إذن هذه العودة المتكررة لكتاب مدارات حزينة؟ ولماذا عودتنا نحن، كمؤرخين ومثقفين عموما، لهذا الكتاب؟
يمكن الحديث عن ثلاثة مقومات رئيسية ضمنت لكتاب مدارات حزينة حياة مديدة، وحياة متجددة:
أولا، القيمة الأدبية. فالكتاب يجمع بين ذكريات البحث الميداني حول هنود أمازون البرازيل، والتأملات الفلسفية حول الحضارة البشرية، والتجربة الشخصية التي تمتزج فيها الأسئلة حول الانتقال المعرفي من الفلسفة إلى الإثنولوجيا، وحول الانتقال المهني من الجامعة الفرنسية إلى الجامعة البرازيلية، وحول الغاية، كما يقول صاحب الكتاب، من بحث إثنولوجي في “بقايا بشرية” على بعد آلاف الكيلومترات من البلد الأم. وهذا المزيج صاغه كلود ليفي ستروس بكثير من الإتقان الأدبي، بكثير من الشاعرية، وفي نفس الوقت بقليل من الصرامة العلمية المعهودة في أبحاث العلوم الإنسانية. وهذه النفحة الأدبية التي قوَّاها ذلك العمق الفلسفي المرتبط بالتكوين الأصلي للكاتب، هي التي تفسر إقبال جمهور واسع من المثقفين على قراءة هذا الكتاب. فالعديد من المثقفين المعاصرين لهذا النص، من أمثال ريمون آرون، وجورج باطاي، ومشيل ليريس، تشمموا فيه رائحة إنسانوية، رائحة أدب الأنوار وفكره المُشرق، فقارنوه بمونتيسكيو، وجون جاك روسو، وشاطوبريون.
ثانيا، القيمة الإثنولوجية، من حيث المسافة التي خلقها ليفي ستروس بينه وبين الأبحاث الإثنولوجية التقليدية التي تصف أكثر مما تفسر. ومسألة التفسير هذه تكتسي أهمية بالغة، إذ يقول في كتابه أن قيمة علم اجتماعي ما تكمن في قدرته على تخطي عتبة الملاحظة والبحث المونوغرافي، والإرتقاء إلى درجة البناء النظري، أي بناء نماذج تفسيرية كبرى، متأثرا، كما صرح بذلك، بفكر كارل ماركس. وفي واقع الأمر كان صاحب كتاب مدارات حزينة، وعمره آنذاك سبعة وأربعين سنة، قد قرأ كل ما كتب حول الإثنولوجيا، الأنجلوساكسونية بالدرجة الأولى، مونوغرافيةً ونظريةً، وكان على بيِّنةٍ من مناهج العلوم الإنسانية ومآزقها. وبرأيي يُذكِّر كتاب ليفي ستروس بالفيلم السينمائي الذي كان قد أنجزه المخرج الأمريكي أورسن ويلز سيتزن كاين سنة 1941، إذ أن هذا المخرج كان قد شاهد كل الأفلام التي راكمتها السينما العالمية إلى ذلك الحين، كما كان على بيِّنةٍ من اتجاهات العمل السينمائي وانحباساتها، فابتكر فيلما جديدا، من حيث السرد السينمائي، وطريقة الفلاشباك، والموسيقى التصويرية. وهذا الاطلاع الواسع على حقل ما، بما يكفي من العمق والتأمل، والإحساس بعدم الرضى على ما هو معروض في الميدان، هو الذي يمنح للمرء القدرة على خلق المسافة اللازمة بين الذات والموضوع، وتجاوز الصيغ المتداولة في هذا الموضوع، وابتكار نص جديد، أو بحث جديد، أو فيلم جديد، أو مسرحية جديدة، أو لوحة جديدة.
ثالثا، القيمة المعرفية الكونية. قارب ليفي ستروس الحضارة الأوربية بعيدا عن مفهوم المركزية الأوربية، واعتبرها خيارا من بين خيارات أخرى كثيرة أنتجتها البشرية عبر مناطق عديدة من العالم، بصرف النظر عن مسألة التفوق التي تبقى مجرد وهم في نهاية المطاف. فالحضارة، برأيه، لا تقاس بالابتكارات التقنية، وإنما بخصوصيتها وتعايشها مع باقي الحضارات. ولذلك، يرى ليفي ستروس أنه لا وجود لحضارة كونية بالمعنى المطلق للكلمة. فقد أبان أن التفكير ما قبل المنطقي، ليس تفكيرا عشوائيا، بل هو نظام مبني على نحو متباين بالقياس إلى التفكير الأوربي. وقد أكد ليفي ستروس في أكثر من مناسبة على أن “موضوع الأنثروبولوجيا يرتبط في المقام الأول بتفسير هذا التباين”. والمطلع على كتاب العرق والتاريخ الذي كان قد نشره سنة 1952 يدرك إلى أي حد تندرج هذه الأفكار ضمن تصور متناسق للمعرفة والعالم. وتُفسر ظرفية الخمسينيات هذه المقاربة المتحررة من فكرة التفوق الأوربي، إذ أن الحرب العالمية الثانية وما أفرزته من حرب باردة، والتقدم الصناعي وما سببه من تدمير جماعي، والثورة الروسية وما خلقته من رعب بيروقراطي، كلها عوامل شككت في مفاهيم التقدم والحرية، وأفقدت الإنسانية إنسانيتها.
واليوم يطرح علينا هذا الكتاب، ومقوماته الأدبية والمعرفية، سؤالا عريضا حول طريقة عملنا، وطريقة مقاربتنا لتخصصاتنا، وطريقة كتابتنا، وضرورة الدفاع المعرفي، وأيضا السياسي، عن قيمة كل حقل من حقول الآداب والعلوم الإنسانية. وهذا السؤال، العريض والمتعدد، يبدو ملحا، في الوقت الراهن، أكثر من أي وقت مضى، خاصة في مجتمع مثل مجتمعنا، أصبح فيه الكثير من الناس، من أصحاب القرار ومن غير أصحاب القرار، يشككون في جدوى الآداب والعلوم الإنسانية ويحُطّون من قيمتها.
ونختم بما قاله جيرار نوارييل وهو يتحدث عن مشكلة العلوم الإنسانية هذه، في معرض نقاش حول كتابه المذكور: “أعتقد أن كلَّ الجامعيين يجدون أنفسهم أمام ضرورة الدفاع، بشكل أو بآخر، كما صنع كلود ليفي ستروس على طريقته الخاصة، عما يقومون به. وهذه الضرورة ليست خاصة بمجال اشتغالنا. فكل المهن، كما سبق أن تنبه إلى ذلك إميل دوركايم، تقوم بذلك. لكن طبيعة مساهمة العلوم الإنسانية في مجال المعرفة، إذا لم تجد من يدافع عنها [في شكل خطابات حول البحث]، فإنها قد تتعرض للتهميش، والانقراض حتى. على أرض الواقع، يضيف جيرار نوارييل، لا توجد أدنى مصلحة ملموسة من شأنها أن تحمي العلوم الإنسانية من هذا التهديد”.