Roxanne L. Euben, Journeys to the Other Shore : Muslim and Western Travelers in Search of Knowledge, Princeton University Press, USA, 2006.
في ظل الصراعات الفكرية والإيديولوجية التي يعيشها عالمنا المعاصر، المتمثلة في الجدلية التاريخية بين “الإسلام” و “الغرب” جاء كتاب رحلات إلى الضفة الأخرى للكاتبة الأمريكية روكسان ل. أوبن لرأب صدع هذا الخلاف، خلاف ليس في حقيقته إلا مجرد تصور فكري حاصل بين الضفتين فلا وجود لصراع أصلا. كل ما هناك مجموعة أحكام مسبقة تتوارثها أجيال عن أجيال، وتزكيها نظرة بعض المتطرفين مستحضرة بعض السياقات التاريخية لكتابات الرحلة عند العرب وعند الغرب، وما لها من دور مهم في وضوح الرؤية وفي مجموعة من التصورات الفكرية التي تبنى على أساس خاطئ. ولعل المثلين المدرجين في بداية الكتاب خير دليل على مكانة وأهمية الرحلة، “اللي ما جال ما يعرف بحق الرجال” و”جل ترى المعاني”.
لقد هالني، في البداية، المستوى المعرفي في الكتاب الذي يدل على مستوى البحث العلمي الجاد للإنتاجات والإصدارات الغربية، والتي تبين المستوى الفكري والثقافي للجامعات الغربية عموماً، والأمريكية خصوصاً. فلقراءة هذا النوع من الكتابات يجب أن تكون مؤهلا لذلك، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بعملية الترجمة، لأن الكتاب يحاول أن يدمج سياقات مختلفة؛ دينية، وسياسية، وفكرية، وحضارية، ولغوية، وأدبية، بغية إيضاح الرؤية وتقريب الصورة من القارئ.
أما المؤلفة روكسان ل. أوبن،Roxanne L.Euben فقد بذلت جهودا كبيرة في البحث، وهي أستاذة النظريات السياسية في كلية ولزلي Wellesley الأمريكية، وصاحبة كتاب العدو في المرآة : الأصولية الإسلامية وحدود العقلانية الحديثة، و كتاب رحلات إلى الضفة الأخرى: الرحالة المسلمون والغربيون يبحثون عن المعرفة، الذي نقدمه هنا. ولا يتجاوز هذا الكتاب الأخير ثلاثمائة وثلاث عشرة صفحة. قسمته إلى ستة فصول، وفهرس يتضمن مسرداً للمصطلحات في آخر الكتاب.
الفصل الأول من الكتاب بعنوان: “الحدود: أسوار ونوافذ – بعض التأملات في سرديات الرحلة”، تطرقت فيه إلى العلاقة التاريخية بين الرحلة والاستعمار، على اعتبار أن كتابات الرحلة الأوروبية هي التي أنتجت فكرة الآخر المستعمَر، ثم تطرقت إلى مسألة الحدود، التي عبر عنها الشاعر السوري “أدونيس” بأنها مجرد أسوار ونوافذ وتساؤل عن خط أو رسم الحدود بين المسلمين والعالم الغربي، حيث أشارت إلى العلاقة الجدلية بين الإسلام والغرب. فعن أي غرب نتحدث؟ من المهم تحديد مفهوم واضح لهذا الغرب، أين تبتدئ وأين تنتهي حدود هذا الغرب، فأحيانا يختزل الغرب في أوروبا، و أخرى في أمريكا. والغرب في واقع الحال غروب فهو مفهوم واسع وكبير، والغرب اليوم هو خليط من الأعراف والديانات والهويات، حيث نجد الإغريق والرومان والمسيحية، وتقول نفس الشيء عن الإسلام؛ فهو خليط من الأعراف والإثنيات والمذاهب المختلفة، فهناك السنة والشيعة، وممارسة الإسلام تختلف من مذهب لآخر.
وانتقلت الباحثة للحديث عن مفهوم الرحلة كاستعارة وكممارسة من طرف الرحالة إلى الضفة الأخرى، إلى عالم أقل معرفة حسب Nietzsche. أما “إدوارد سعيد” فتحدث عن رحلة أو هجرة النظرية : كيف أن الأفكار والنظريات تهاجر وتنتقل من بيئة إلى أخرى، وأثناء رحلتها تفقد الكثير من خصوصياتها، بل الأكثر من ذلك يتم تكييفها، إن صح التعبير، مع المؤسسات الجامعية المستقبلة وفق النظام والتوجه السياسي لهذا الأدب. فمفهوم النظرية بالنسبة لإدوار سعيد مرادف لكلمة أفكار. وخلصت في نهاية الفصل إلى فكرة “التخييل الاجتماعي” كما جاء بها تشارلز تايلورا Charles Taylor، وهي تصور الناس لطريقة عيشهم في انسجامهم، والتطلعات التي يأملونها، فليست كل الرحلات تخييلية أو أدبية، بل هي مجرد إنارة الطريق لقضية مجهولة.
الفصل الثاني من الكتاب جاء بعنوان : “منظرو الرحلة وممارسو الترجمة”، قسمته المؤلفة إلى ستة عناوين صغرى كالآتي :
Å النظرية؛
Å اعتبار العالم بأكمله كأرض أجنبية؛
Å الانفتاح والانغلاق؛
Å الإسلام، الرحلة، وطلب العلم؛
Å طبيعة الرحلة المزدوجة الأوجه؛
Å الرحلة كممارسة للترجمة.
ابتدأت هذا الفصل بعرض أسطورة ﮔلـﮕامش (الرحالة السومري) اكتشفت أول مرة سنة 1853، والتي تفيد على أن السعي وراء طلب العلم كان دائماً متعلقاً بالرحلة وبالتجارب المباشرة غير العادية. كما أشارت إلى أن جذور التقاليد الغربية تعود إلى عالم هوميروس صاحب الملحمة الشعرية “الأوديسا”، ثم انتقلت إلى الحديث عن العالم الإسلامي، فقدمت مثالاً واضحاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، ووصفت حياته وسيرته وهجرته من مكة إلى المدينة، واعتبرت ذلك دليلاً واضحاً على أن المسلمين كانوا يهاجرون ويرحلون بحثاً عن المعرفة. كما أوردت كلام الفيلسوف البريطاني James Mill الذي بين العلاقة بين الرحلة والتجربة، وأرجع الكلمة إلى أصولها الهند-أوروبية، مشيراً إلى العلاقة الضمنية بين الرحلة والمعرفة.
“الانفتاح والانغلاق” هكذا جاء عنوان المقال الثالث الذي ناقشت من خلاله أفكار “هابرماس” وفلسفته حول العقلانية الغربية، إلى جانب أفكار بعض المستشرقين Richard Rorty و Ernest Renan وبرنارد لويس Bernard Louis، وهذا الأخير الذي انتقد عدم إلمام المسلمين بالآداب واللغات والديانات والثقافات الأخرى، مما يؤدي في نظره إلى نوع من القصور في الفكر وفي الوعي كذلك. وخلص لويس في الأخير إلى أهمية الوعي بدراسة الثقافات الأخرى، وإلى أهمية الوعي بدراسة الثقافات المبعدة والهامشية وعدم إقصائها.
المقال الرابع تطرق إلى العلاقة بين الإسلام والرحلة وطلب العلم، أي: (المعرفة)، وتحدثت عن الحج كفريضة إسلامية وأنه يعد بمثابة رحلة دينية، كما تحدثت عن مفهوم الرحلة في الثقافة الإسلامية.
“طبيعة الرحلة المزدوجة الأوجه”، هو عنوان المقال الخامس في هذا الفصل، والذي فتحت فيه نقاشاً بين فقهاء عرب وفلاسفة غربيين؛ من قبيل Anthony Pagode Diderot وأفلاطون، وغيرهم، و السيد قطب، والإمام الغزالي، والخميني، بخصوص الرحلة.
أما المقال الأخير الذي ختمت به هذا الفصل، فهو “الرحلة كترجمة”، تناولت فيه العلاقة المركبة بين الرحلة والسعي وراء المعرفة.
أما الفصل الثالث للكتاب : “هيرودوتس وابن بطوطة: الرحالون الكذابون والمنظرون “، فقد خصصت قسماً لكل من هيرودوتس، الرحالة والمؤرخ الإغريقي والملقب بأب الأنثروبولوجيا، و ابن بطوطة، القاضي والرحالة الإسلامي والملقب بـ “ماركو بولو الإسلام”، و”أمير الرحالة”. وحاولت الكاتبة الأمريكية في هذا الفصل كشف العلاقة بين الرحلة والكذب، كما بينت أن الرحلة جنس أدبي مستقل، عكس ما كان ينظر إلى الرحلة على أنها فرع من فروع التاريخ أو الجغرافيا؛ فالرحلة عكس العلوم الأخرى تعتمد بالأساس على المشاهدة والمعاينة، ويقوم الرحالة بترجمة ذلك عن طريق الوصف و السرد. وأثناء حديثها استحضرت العديد من السياقات التاريخية الإسلامية، والصراع التاريخي بين السنة والشيعة، وما صاحب ذلك من عنف وكراهية وتفرقة، وقد كشفت هنا عن مدى إلمامها واطلاعها على العديد من الكتب الدينية والفكرية العربية.
أما الفصل الرابع فاختارت له كلاً من الطهطاوي وتوكفيلTocqueville كأديبين وممارسين للرحلة ذاع صيتهما في تلك الفترة في رحلة البحث عن المعرفة العملية. ومهدت في بداية الفصل لشرح ظروف ذهاب رفاعة رافع الطهطاوي ضمن البعثات الطلابية إلى فرنسا، ومدى تأثره بالثقافة والفكر الفرنسيين، و قد ترجم هذا الإعجاب فيما بعد في عمل سماه: تخليص الإبريز في تلخيص باريز.
أما أليكسيس دو توكفيل Alexis de Tocqueville فهو رجل في الخامسة والعشرين من عمره لما ذهب مع صديق له اسمه Gustave de Beaumont في رحلة عمل إلى أمريكا لدراسة نظام العدل وظروف السجون هناك، فكتب تقريراً عن الديمقراطية في أمريكا منتقداً فيه النظام الفرنسي. وقد توصلت الكاتبة الأمريكية من خلال مقارنتها لتوكفيل والطهطاوي إلى أنهما يشتركان في العديد من الصفات: كالدين والتعليم والالتزام السياسي، وأن الرحلة في جميع سياقاتها المتعددة؛ التاريخية والسياسية والاقتصادية وعبر ثقافية هي رحلة هدفها البحث عن المعرفة. فكتاب الطهطاوي كان بمثابة استحضار لما يسمى بالنظرية /الثيوريا/ البيداغوجية، والبحث عن الدروس في الخارج في محاولة الاستفادة منها بنقلها واستعمالها في وطنه.
مَثَّل النصان معاً: الديمقراطية في أمريكا وتخليص الإبريز في تلخيص باريز لكل من أليكسيس دو توكفيل ورفاعة رافع الطهطاوي تداخلاً ثقافياً وسياسياً وجمالياً ولغوياً أيضاً، وهو ما عبرت عنه الكاتبة بـ “الوساطة الإبستمولوجية”.
وقد ضمنت الكاتبة الفصل الرابع ثلاثة عناوين صغرى ثم الخاتمة: “تفويض التحليل النقدي، ورحلات عبر الزمان والمكان، والوسائط المتعددة. وقد أشادت في المقال الأخير، أي: “الوسائط المتعددة”، بدور الرحلة في النهوض بالمجتمعات من خلال معرفة ما توصل إليه الآخر من تطور. كما وصفت رحلة الطهطاوي بأنها نص متعدد الأصوات، ونص هجين يعكس الفكر الفرنسي وثقافة الفرنسيين. ولا شك أن الإطلاع على الأعلام الفرنسيين، أمثال: مونتسيكو، وفولتير، وروسو، وراسين، وديكارت، وغيرهم، سيمكن من بلورة مفاهيم سائدة في تلك الفترة، كالعقلانية، وهو الأمر الذي تأثر به الطهطاوي وحمله إلى مصر بدافع التنوير والعقلانية والحداثة. لقد وجد الطهطاوي نفسه في نقطة تقاطع بين العلم الإسلامي الذي نهل منه كثيراً في مصر، والعلوم الأوروبية المختلفة التي تعلمها في ما بعد، وأهلته لكي يكون حكماً، إن صح التعبير، بين العلم الإسلامي والآخر الأوروبي.
وحمل الفصل ما قبل الأخير في كتاب رحلات إلى الضفة الأخرى مقارنة من نوع آخر، وجاء عنوانه كالتالي : “مونتسكيو والسيدة سالمة، الجُنُوسة النوع والرحلة”. وقسمت هذا الفصل إلى قسمين صغيرين، الأول بعنوان: “الرسائل الفارسية لمونتسكيو”، والقسم الثاني بعنوان: “مذكرات السيدة سالمة”، ثم خاتمة تركيبية.
حاولت الكاتبة الأمريكية في بداية هذا الفصل أن تفتح نقاش الإشكال الأجناسي للرحلة: هل هي جنس أم نوع؟ ثم رحلة المرأة وما رافق ذلك من جدل بين مؤيد ومعارض لتنقل المرأة. وإن سافرت، هل يتم العمل بكتاباتها ككتابة تندرج ضمن إطار الرحلة. استهلت الكاتبة الأمريكية المقال المخصص للرسائل الفارسية لمونسكيو بتمهيد لهذه الرواية المكتوبة على شكل رسائل، وللظروف التاريخية التي أدت إلى منع نشرها في العديد من بلدان أوروبا آنذاك، إلى أن نشرت في هولندا، وبالضبط في امستردام، سنة 1721. والرسائل الفارسية عبارة عن رسائل كان يرسلها ويتلقاها بطل الرواية الفارسي “أوزبيك” من شخصيات في بلاطه في أصفهان، كما أشارت الكاتبة في الفقرة الثانية إلى أنه عادة ما يتم قراءة الرسائل الفارسية كامتداد أو تمهيد للعمل الذي سيظهر فيما بعد لمونتسكيو. أما روح القوانين أو الشرائع فيصنف ضمن أشهر أعمال مونتسكيو، وهو بمثابة مشروع تنويري يربط بين الرحلة والمعرفة العقلية. أو كما عبر عن ذلك Jean Starobinski بأن عمل مونستكيو يمثل انتصاراً للعقل على الدوغمائية، وانتصاراً للوحدة على التفرقة، والشمولية والكلية على المعارضة. واسترسلت بعد ذلك في الحديث عن هذا العمل الروائي الرسائل الفارسية الذي يعتبر مثالاً حياً على الاستشراق Orientalism بطرقه التقليدية، كما عبر عن ذلك المفكر “إدوارد سعيد” بأن هذا العمل جسد إلى حد كبير المفاهيم والأحكام الخاطئة والمغلوطة عن الإسلام وبلاد فارس في القرن الثامن عشر، أو كما عبر أحدهم، يوديث شكلار Judith Shklar بأن «الشرق من خلال الرسائل الفارسية ليس حدوداً جغرافية بقدر ما هو كابوس يجسد كل مساوئ الإنسانية».
أما المقال الثاني في هذا الفصل فخصصته الكاتبة للحديث عن جنس آخر وهو المذكرات. واختارت له كاتبة من الضفة الأخرى، وهي السيدة سالمة بنت سعيد بن سلطان. هذا الانتقال هدفه إثارة الانتباه إلى استيعاب أكثر للأجناس ليس بصفتها أشكالا فنية، وإنما أشكالاً للتفكير. فالعملان معاً الرسائل الفارسية لمونتسكيو، ومذكرات “السيدة سالمة” يختلفان من حيث النوع والثقافة واللغة. فالعمل الأول عبارة عن عمل تخييلي، والثاني يندرج ضمن المذكرات، أو كما قالت إن «عملها ليس بحكاية ولا رواية ولا تخييل»، وإنما إعادة تذكر أحداث من الماضي المجيد. فالأميرة سالمة بنت سعيد غادرت سنة 1867 لتتزوج التاجر الألماني “هاينريش رويته” الذي أحبته، وعاشت في ألمانيا، لكن زوجها سرعان ما توفي في حادث شتاء 1870 وهي أم لثلاثة أطفال لقد عاشت حياة شاقة لا نعرف عنها الكثير. كما تنقلت بين مدن ألمانية عدة ، وحاولت في بعض هذه المدن أن تكسب بعض المال بتدريس اللغة العربية. واسترسلت المؤلفة بعد ذلك في تحليل مذكرات السيدة سالمة معترفة بأنها حاولت إلى حد كبير إيضاح الرؤية المتعلقة بالمرأة العربية، والتي كان يشوبها العديد من الضبابية لدى الأوروبيين، من قبيل أن المرأة العربية مضطهدة، ومقموعة يتم اختزالها في الجسد.
أوردت المؤلفة في آخر مقالها حول هذه المذكرات آراء بعض النقاد، كـ”ليفيس ستراوس” وتعليقه حول الفرق بين الرحلة والمذكرات معتبراً أن أدب الرحلة يربك إلى حد كبير جانب التخييل. كما أورت رأي “إدوار سعيد” بخصوص هذه النقطة. وأنهت هذا المقال بمجموعة من المقارنات، منها: مقارنة وضعية المرأة في الشرق بنظيرتها الأوروبية، وكشفت المؤلفة عن الجهل الكبير للأوروبيات عن وضعية المرأة العربية، كما قدمت بعض الملاحظات عن طقوس زواج النساء العربيات وزواج الأوروبيات. بالإضافة إلى مقارنة النظام التعليمي بأوروبا بنظيره في العالم العربي على ضوء ما جاء في مذكرات السيدة سالمة.
وكعادة المؤلفة فقد أنهت كل فصل من فصول الكتاب بخاتمة تركيبية تضمنها خلاصات ما توصلت إليه في كل فصل. وقد خرجت الكاتبة من هذا الفصل بخلاصات حول مدى تورط المرأة الأوروبية في المشروع الاستعماري الأوروبي من خلال كتاباتها التي تتأرجح بين الإيجاب والرفض من جهة، تهميش وإقصاء المرأة ومن جهة أخرى، فيما يتعلق بهذا الجانب المتعلق بالمشروع الاستعماري. وبعد ذلك ختمت الفصل بتقديم وجهة نظر بخصوص الرحلة كمفهوم وممارسة لعملية الترجمة، ثم الترجمة القائمة على ثنائية المفارقة للعماء والتبصر.
الفصل السادس، وهو الفصل الأخير في الكتاب اختارت له الكاتبة عنواناً، هو «ماضي العوالميات (الكوسموبوليتيات) وحاضرها، الإسلام والغرب»، وابتدأته بآيات بينات من الذكر الحكيم: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.( سورة الحجرات، الآية 12. ثم الآية الثانية )لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً، وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم، فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ، إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.( سورة المائدة، الآية 48.
بعد ذلك حاولت المؤلفة أن تعطي تمهيداً للتيار الفكري الراهن، وهو تيار ما بعد الاستعمار الذي لم يعد يؤمن بفكرة الحدود، ففكرة الحدود أضحت فكرة متجاوزة ولم تعد ممكنة، فلم تعد هوياتنا تتشكل انطلاقا من الفضاء والمكان الداخليين وإنما عبر التيارات العالمية المتعددة نتيجة العولمة الاقتصادية والهجنة الثقافية. وانتقلت بعدها للحديث عن مفهوم “الكوسموبولويتية”. ولكن وقبل أن تشرع في شرح هذا المفهوم الجديد القديم، قدمت توضيحاً لعلاقة المجتمع بحاكمه وعلاقة الدولة والمجتمع من خلال نظرية سياسية غربية.
“ألكوسموبولوتية” مصطلح يعود إلى العصور اليونانية القديمة، ويعني “مواطن من العالم”. ويرى دارس آخر أن هذا المصطلح يرجع إلى العصور المصرية، وأشارت أنه تم ترجمة هذا المصطلح بشكل مختلف، وفي مختلف الحقب التاريخية، مروراً بالرومان إلى روسو. ولخصت الباحثة Mehta Prapta «أن توالد الكوسموبوليتيات” لديه تفاعلات جمالية وجودية أخلاقية وشرعية»، ثم بعد ذلك لخصت هذا المفهوم في الرغبة في الارتباط بالآخر.
كما أوضحت الكاتبة الأمريكية أن هدفها ليس محاولة إعطاء تتابع تاريخي (كرونولوجيا) لمفهوم العوالمية “الكوسموبولتية” بقدر ما حاولت مقاربة توليد المعاني للعوالمية الجديدة (للكوسموبولوتية الجديدة)، كالوعي المتزايد بأهمية الاحتكاك بين الناس والثقافات والأفكار، والعلاقة بين كل ما هو محلي وعالمي: كل ما هو خاص، وكل ما هو عام؛ بين كل ما هو متجذر وكل ما هو منفصل وغير متحيز. وبعبارة أخرى الكوسموبولتية هي كيفية التفاوض بين المحلي وغير المحلي، وبين الخاص والعام. وفي خضم المقاربات لهذا المصطلح قدمت المؤلفة رأي دارسة أمريكية هي: Sheldon Pollack في الموضوع قائلة: «متى يجب أن نفهم أو نستوعب العوالمية (الكوسموبولتية) بأنها فعل وممارسة بقدر ما هي فكرة واقتراح».
وانتقدت بعد ذلك المؤلفة الأمريكية السياسة الإسلامية الحالية التي تجسد كل ما هو ضد مفهوم العوالمية (الكوسموبولتية) بامتياز، من قبيل الأطروحات المناهضة للانفتاح، والتي لا تعكس، كما قالت الكاتبة، طبيعة شبكة الرحلات الإسلامية عبر التاريخ، والتي تعطينا مجالاً تعليمياً للعوالمية (للكوسموبولتية) وممارساتها، مستحضرة السياق التاريخي الإسلامي والعربي منذ فترة الحكم العباسي إلى الهجنة اللغوية والثقافية التي ميزت فترة الحكم الإسلامي في الأندلس، ثم الحكم العثماني، وما رافق ذلك من تبادل وتعدد في الإثنيات، بل حتى الفلاسفة الهيلينيون المسلمون ألحوا من خلال أفكارهم وممارساتهم على الفكر العوالمي (الكوسموبوليتي) في العصر الإسلامي الوسيط، وهو الأمر الذي يتعارض مع آراء بعض الفقهاء المسلمين في اجتهاداتهم، إذ يمنعون الهجرة إلى بلدان النصارى إلا في حالة الضرورة من جهة، ومن جهة أخرى كلمة عوالمية (كوسموبولوتية) عادة ما تشكل نوعاً من الحساسية، وتفهم على أنها استعمار ثقافي من نوع جديد، أو كما عبر عن ذلك الصحفي المصري فهمي الهويدي، بأنها محاولة “كَوْكَلَتِ العالم” cocalized the world، أو محاولة فرض آخر الصيحات الغربية في مجال الزي (الموضة) والغناء على العالم، فهل هذا هو مفهوم العولمة؟