لطيفة مهداوي، مراثي الخلفاء والقادة في الشعر العباسي إلى آخر القرن الرابع الهجري: دراسة في البناء والصورة والإيقاع، دار الكتب العلمية، بيروت، 2010.
صدر في طبعة أنيقة كتاب مراثي الخلفاء والقادة في الشعر العباسي إلى آخر القرن الرابع الهجري دراسة في البناء والصورة والإيقاع للطيفة مهداوي، أستاذة بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة. وهي دراسة انصرفت فيها المؤلفة إلى الاشتغال بالتراث الشعري العربي القديم خلال فترة ثقافية معينة حددتها الباحثة في العصر العباسي، لما للماضي وللتراث العربي القديم ولهذه المرحلة التاريخية بالضبط من سحر وسطوة على الوجدان. إنه عشق لتراث تغلغل عميقا في ذواتنا، ومكون رئيس في بناء شخصيتنا العربية. لكن ليس كل معجب بالماضي يرغب في الاستلقاء تحت أفيائه سنين عددا، مستسيغا اجترار المألوف، بل هناك من جاء إلى التراث الشعري القديم من قلق السؤال، محركا مستفزا، رغبة في تغيير موقع الرؤية، لتتبدى له نتيجة ذلك، عوالم أخرى، حيث يبدو النص القديم، ممتلئا باحتمالات متعددة، يزيدها خصوبة، إعمال أدوات منهجية جديدة، تستثمر معارف شتى.
وإذا كان للحداثة مقدرة على خلخلة الأشياء، والدعوة إلى التجاوز، واختراق المألوف وخلق الدهشة، فإن هذا الأمر لا يأتي إلا لمن خبر مسالك القديم وامتلك ناصية المحاورة مع النص التراثي، حتى إذا كان، تهيأ للوقوف على عتبة التجاوز. لقد أصبح الدرس الجامعي اليوم، مطالبا بتكوين جيل يعيد التواصل مع النص القديم، قراءة وفهما، درسا وتحليلا وتمثلا. فقد لوحظت فجوة الغربة بين الطالب الجامعي اليوم وتراث الأدب العربي القديم، وهي فجوة تتسع سنة بعد أخرى. وقد يتعذر – مع مرور الزمن- التفاعل المطلوب مع هذا التراث، الذي يعتبر معرفته وفهمه ومدارسته، عتبات أساسية للعبور إلى عمق النص الأدبي المعاصر، فلا حداثة أدبية بإهاب عربي، دون تمثل النص الأدبي العربي القديم.
من هنا تأتي أهمية الدراسات التي تتخذ التراث الأدبي العربي القديم، حقلا للبحث سواء بكشف نصوص غميسة وتحقيقها تحقيقا علميا، يضع أمام الدارس إمكانية جديدة لمحاورة إرثه الأدبي، أم من خلال دراسة تسعى لكشف جديد، أو إضاءة جانب ظل غامضا، أو إعادة النظر في موقف أو مسألة أو ظاهرة من خلال صياغة أسئلة جديدة تتوسل بما تحققه مختلف حقول المعرفة من تطورات، وما تصل إليه من نتائج علمية تتجدد باستمرار.
لكل أولئك تكتسي الدراسة التي قدمتها لطيفة مهداوي، قيمتها العلمية الرصينة، حيث اتخذت من العصر العباسي إطارا تاريخيا، يحدد المجال الزمني الذي تتحرك هذه الدراسة داخله، على امتداد ثلاثة قرون، بدءا من القرن الثاني للهجرة إلى أواخر القرن الرابع.
ولما كان التحديد الدقيق سمة مميزة لهذا العمل، فقد عملت صاحبته على انتخاب المتن الشعري الذي رصدته للانشغال به، فكان انتقاؤها للنص الرثائي، ولتزيد العمل دقة في التحديد، حصرت الموضوع في نمط معين من تلك المراثي، هو ما قيل في الخلفاء والقادة، منبهة القارئ إلى أن الدراسة ستلتفت إلى فنية التعبير كما استوت في هذا النمط من التقصيد، للكشف عن طبيعة بناء النص وصوره وإيقاعاته.
القارئ لهذا العمل، تتوالد لديه مجموعة من التساؤلات، أحدها يرتبط بطبيعة موضوع هذه الدراسة، الرثاء. وفي اعتقادي أن لطيفة مهداوي، قد توفقت في هذا الاختيار. فهذا النمط من الكتابة الشعرية يتميز ببعده الإنساني، وتأمله ودراسته تكشف عن جوانب عميقة للذات العربية الشاعرة في بعدها النبيل، فضلا عما يمكن أن يقدمه هذا العمل من مفاتيح لسبر الأغوار النفسية للإنسان العربي، وطبيعة تشكيلها خلال فترة تاريخية معينة.
إن الرثاء يرتبط بالموت، أي بقضية ذات أبعاد فلسفية، وبلغز حير الإنسان منذ الأزل، وولد في مختلف الثقافات والحضارات دوائر لا متناهية من الأسئلة، وربما كان هذا الفن الشعري في تراثنا العربي من أصدق ما خلد من أشعار. سئل أعرابي: ما أجود الشعر عندكم؟ قال: ما رثينا به آباءنا وأولادنا، ذلك أنا نقوله وأكبادنا تحترق. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى وهو يتحدث عن الرثاء: إنه أحسن مناطق الشعر. فإذا التقينا إلى شعراء الغرب المحدثين، وجدنا الشاعر الإنجليزي “كيتسKEATS”؛ (وهو أحد شعراء البحيرة الذين أثروا عميقا في حركة التجديد الشعري العربي الحديث، وهم وودز وورث وبايرن ووليم بليك إلى جانب كيتس) مفتونا بالموت، وفي إحدى قصائده يقول: “الشعر والمجد، أشياء عميقة حقا، لكن الموت أعمق، الموت مكافأة الحياة الكبرى”. من ثم فإن موضوع هذا العمل، وإن كان قد انشغل بفن الرثاء خلال حقبة تاريخية قديمة من تراثنا الشعري، فإنه يتشح في جوهره ببعد إنساني مشترك.
وقد حصرت الباحثة موضوعها في المراثي التي ارتبطت بالنخبة، ممثلة في “الخلفاء” و”القادة”، من ثم فإنها تعرض لتحليل علاقة معينة داخل المجتمع العربي، هي علاقة المبدع أو المثقف،(وهو هنا شاعر)، مع مراكز سلطوية ممثلة في “الخليفة”، سلطة سياسية، و”القائد ” سلطة عسكرية، وأحيانا تتداخل السلطتان في شخص واحد. وهذه العلاقة التي يثيرها هذا النوع من المراثي، ترتبط بطبيعة تشكل المقول الشعري، فتتوالد الأسئلة: كيف يقول الشاعر وهو يرثي خليفة أو “قائدا”؟ هل يمكن أن تتحكم طبيعة القيم التي يجسدها المرثي في تشكيل النص، معجما، صورة، إيقاعا؟
لقد سعت لطيفة مهداوي إلى تناول هذه الجوانب وغيرها، اعتمادا على النص أساسا، بعد أن تجمع لديها متن شعري غني، اختارته بعد قراءة متأنية للعديد من الدواوين الشعرية، والمصادر الأدبية الكبرى، وهو عمل ليس بالهين، كما يعرف ذلك الباحثون المتمرسون بهذا النوع من القراءات.
ومن خلال ثلاثة أبواب حاورت الباحثة النص الرثائي العربي القديم، في مستويات متعددة، وربما من أهم تلك الفصول، وقوفها مع الرثاة وقد اتخذوا من الطبيعة مجالا يصوغون من خلاله، رؤاهم ومواقفهم من الحياة والكون والإنسان. وقد خصصت أحد مباحثها لإبراز الاختلال الذي يعتري المكان في النص الرثائي، حيث يعيد الشاعر تشكيل الفضاء، ويصوغ من خلال الحدث/الفاجعة، خريطة مختلفة لجغرافية محتلة. “فتهامة” و”نجد”، كادا أن ينمحيا من الوجود المادي، بغياب قائد عربي هو “معن بن زائدة” في مرثية الشاعر “مروان بن أبي حفصة”، بل إن الزمن بدوره يتحول على يد شاعر المراثي، ليتشكل من خلال نفسيته، فيغدو أحيانا بإيقاع واحد رتيب، ويرخي الليل سدوله على الدورة الزمنية لليوم بكامله، على غرار ما يرسمه مروان بن أبي حفصة في رثائه للقائد معن بن زائدة الشيباني، حين يقول:
كأن الليل واصل بعد مَعْن لياليَ قد قُرنَّ به فَطَالاَ
جانب آخر كشف عنه هذا العمل، يتجلى في مجموع القيم التي يبلورها هذا الفن الشعري، بعضها يقدم صورة للمجتمع العربي خلال حقبة زمنية معينة، وبعضها الآخر يرسم المشترك الإنساني خارج الزمان والمكان. ولما كان المتن المدروس، يرتبط وثيقا بشريحة اجتماعية محددة، ممثلة في “الخلفاء” و”القادة”، فإن هذا الصنف من الرثاء يسهم في رسم قيم فئة اجتماعية مهمة ومؤثرة في المجتمع العربي نظرا لمكانتها، ولما مارسته من تأثير في مسيرة التاريخ العربي.
فنية الرثاء عند الشاعر العربي القديم، أمر لم تغفله الكاتبة، فتتبعته تأملا وتحليلا، كاشفة عن الأدوات الفنية التي توسل بها الشعراء الرثاة لبناء نص، شكل الشاعر معجمه وصوره وإيقاعاته، بطريقة تهدف إلى التأثير في وجدان المتلقي. وليتحقق هذا الأمر، توسلت الباحثة بما رأته مناسبا من المناهج، فلم تبق حبيسة واحد منها، بل استعانت بكل ما يسعف في اختراق النص بدءا من الوصف إلى الاستقراء فالإحصاء، مع توظيف المادة التاريخية التي تضيء في كثير من الأحيان مستغلقات النص، لذلك تجد في هذه الدراسة خارجيات النص تطوعها الباحثة لتفتيق دواخله، وما أدركت هذا المبتغى إلا بعد توطيد السبيل، من خلال التوثيق والضبط. والمتصفح لفهرس المصادر والمراجع التي اعتمدتها الباحثة يبين المجهود الكبير الذي بذلته في جمع المادة أولا، ومحاورتها ثانيا، وكلنا يعلم أن النص الشعري القديم، لا يسلم لك القيادة، إلا بعد مدارسة ومكابدة، وبعض تلك النصوص دونها خرط القتاد.
لقد وفقت الكاتبة في التفاتها إلى نمط من الكتابة الشعرية، لصيق بالمشاعر الإنسانية العميقة؛ فالرثاء ليس نصا لتصعيد الزفرات، أو لطم الخدود وشق الجيوب، بل تجربة وجدانية إنسانية عميقة؛ وإذا استعرنا مفهوم الباحث جمال الدين بن الشيخ للقصيدة العربية القديمة، فالرثاء يغدو كتابة ذاتية كونية اجتماعية.