الأربعاء , 1 مايو, 2024
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » الأدب من منظور المقاربة الوسائطية

الأدب من منظور المقاربة الوسائطية

العادل خضر، الأدب عند العرب مقاربة وسائطية، دار سحر للنشر وكلية الآداب – منوبة تونس 2004.

kiraat_11.13قليلة هي الدراسات التي تكرّست للبحث في ماهية الأدب في الثقافة العربية الإسلامية وبأرت قراءاتها على التقصي في أصله وفصله، لما لهذا التوجه من أهمية في بلورة معرفة تتعدى سياق نشأة الأدب وعلاقته بالمؤسسة الأدبية إلى تحديد مسارات تطوره، وتوصيف عناصر الثبات والتحول فيه. وإذا استثنينا الأبحاث الاستشراقية العديدة عن تاريخ الفكر والثقافة في العالم العربي الإسلامي، وكذلك الدراسات التي كتبها عبد الفتاح كيليطو وتضمنت مناقشات دقيقة حول الأدب يمكن الاطلاع عليها لأخذ فكرة عنها، فإننا لا نكاد نعثر إلا على مساهمات قليلة لا تقارب موضوعها بما يتطلبه من مغامرة منهجية وحفر عميق في المدونة الثقافية والأدبية العربية الإسلامية.

أما الدراسة التي أنجزها الباحث التونسي العادل خضر فهي تمثل إسهاما متميزا في هذا المجال. فهي تستفيد من الجهود النقدية المعاصرة المتحققة في حقل البحث في نظام الأدب وقواعده (رولان بارت، بيير بورديو، بيير ماشري ) وفي المعرفة ووسائطها وأنظمتها (بول ريكور، دوبريه، فوكو، هابرماس). لذلك فهي لا تسقط التعريفات المتحققة في الثقافات الأخرى على الأدب العربي، كما أنها لا تجتزئ تعريفات بعينها وتعممها على الأدب كما فعلت الكثير من الأبحاث التي تناولت هذا الموضوع، وإنما تنجز تحليلا سوسيولوجيا دقيقا لمعرفة كيفية انبثاق الأدب وانتشاره وظهور العلوم والممارسات الثقافية اللصيقة به. والأدب هنا يُفكّر باعتباره نوعا من العمل الذي لا يمكن الحديث عنه أو تعيينه إلا في علاقته بفاعله.

يأخذ المؤلف بنظرية العمل(Théorie de l’action)، كما يستفيد من المقاربة الوسائطية (Médiologique)، في تحديد العوامل التي جعلت وجود الأدب والأديب ممكنين في الثقافة العربية الإسلامية. وتنبني الفرضية الوسائطية التي ينطلق منها على التسليم باستحالة وجود فكرة دون وسيط مادي يكون الحامل الذي ترتكز عليه، والمطية التي تمتطيها لتسير في الأمكنة والآفاق وتدور في سوق المبادلات اللساني، والآلة التي يجري بها نقلها في الزمان فتضحي جزءا من الميراث والذاكرة(ص،9).

ويتقرر عن هذا قاعدتان لا تصح إحداهما إلا بالأخرى، أما الأولى فمفادها أن التغيير الذي يحدث في نظام الإبلاغات يؤثر بالضرورة تأثيرا بالغا في المضامين المنقولة، والثانية مفادها أن أي تغير في وسائل النقل يؤثر أيما تأثير في نظام الإبلاغات، وبالتالي في المضامين المنقولة (ص،9). وعلى هذا الأساس يفسر المؤلف التطورات العديدة التي تطرأ على الأنظمة الثقافية وأنماط إنتاجها على أنها مرتبطة بتغير الدائرة الوسائطية. ويأخذ الكاتب من المطبعة نموذجا للتدليل على صحة فرضيته سواء من جهة ما أحدثه ظهورها من تحولات في أوروبا أدت إلى اندثار السكولاستيكية وظهور النزعة الإنسية والقوميات والحروب الدينية، أو من جهة دخولها إلى البلدان العربية في عصر النهضة وما نجم عن ذلك الدخول من اندثار بعض أشكال التأليف كالمختصرات والحواشي والعزوف عن الكتابة السجعية واستبدالها بكتابة مرسلة خلقت أشكالها الأدبية الخاصة بها كما أنشأت جمهورا جديدا له عادات جديدة في التقبل والقراءة والتفكير والنظر تختلف عن جمهور علماء المساجد وطلابها(ص،11).

وزع المؤلف مشهده في كتاب الأدب عند العرب على أربعة أبواب، إضافة إلى مقدمة وخاتمة عامة وفهارس وقائمة بالمصادر والمراجع. الباب الأول الذي يحمل عنوان: خلاص العالم من السحر أو الفرد الميثي (الوظيفة الرمزية للأدب) يتكون من ثلاثة فصول هي: مقدمات في عالم الجاهلية المعيش: الوحي والدولة والمال، وتغير بنى الاعتقاد ومؤسساته، وتغير أبنية المقدس، وظهور الإنسان الديني. والباب الثاني حمل عنوان: السلالة المقدسة أو شجرة أنساب الأعوان والوسائطيين الجدد (وظيفة الأدب التعليمية) وهو يتضمن أربعة فصول هي: الناطقون القدامي بالعبارة النبوئية، والرّسول أو المعلم الأول والصحابة الورثة أو الجسم الوسيط، ثم  القرّاء ونشأة زاوية الأدب السكولاستيكية، أما الباب الثالث فقد حمل عنوان: مولد الأديب ووظائف الأدب (الوظائف التقنية) وهو يتضمن ثلاثة فصول هي: الأديب ووظيفة التمثيل، وصناعة القانون أو مراقبة الكلام والمتكلمين، أما الفصل الثالث والأخير من هذا الباب فقد حمل عنوان: الأديب سليل الملائكة (وظيفة النقل). وهذه الفصول المتنوعة في مضامينها وفي القضايا التي تتناولها، هي التي تفصح عن تمكن الباحث من استكشاف تلك العلاقة المركبة بين اتساع فضاء الدولة الإسلامية بالتجارة أو بالفتوح أو بالملك و نشأة مفهوم الأدب.

تَرِدُ في مقاربة الباحث الكثير من المفاهيم التي تحدد تناوله لماهية الأدب في الثقافة العربية الإسلامية. ومن هذه المفاهيم نجد الأدب نفسه. وبالانطلاق من نظرية العمل، يرى العادل خضر أن مفهوم الأدب يتميز بطابعه التاريخي؛ فهو يعكس طبيعة الأفكار والتصورات السائدة عنه باعتباره ممارسة تتعين بمن ينجزها. ولا يتحدد مفهومه فقط انطلاقا من الخصومات الأدبية التي تسود في عصر ما، وإنما كذلك بالتصورات والمفاهيم التي تروج عن الأدب. وما يميز هذه المفاهيم والأوصاف التي تطلق على القول الأدبي هو طابعها النسبي. فهي ليست دائما قادرة على تقديم وصف دقيق للظاهرة الأدبية، وإنما هي تعبير عما تتوافق عليه الجماعة من أفكار وتصورات ووجهات نظر حول الأدب مرتبطة بالفضاء الثقافي العام الذي يتأسس خلال فترة ما. وبتعبير آخر “فالأوصاف التي تجري على القول الأدبي لا تكون سمات مشتركة من شأنها أن تؤلف الشرط اللازم والكافي لكل الأقاويل الأدبية، وإنما هي مواقف قضوية مختلفة في التاريخ والثقافات يتخذها القراء بنوع من الاتفاق الضمني والتواضع العفوي اتخاذا يعبر عن تصور مخصوص للأدب والجمال والفن تدخل في تشكيله عدة اعتبارات سوسيولوجية بالأساس”(ص،24).

 واستنادا إلى هذا الفهم يرى الباحث أن مفهوم الأدب يتحدد بنوع العلاقة القائمة بين حال الأشياء في العالم والقول. وهذه العلاقة بين العمل الأدبي والعالم لا تخرج عن ثلاثة أنواع: فهي إما علاقة تعيين وتمثيل أو علاقة تحوير وتحويل أو علاقة تعبير وتأويل(ص،19).

إن ما يستخلصه الباحث من تأمله في هذه العلاقات الثلاث يُحدّثُ عن أمر هام مفاده أن الصراع بين الأدباء حول طبيعة الأدب لا يتركز بالأساس على المضامين التي يعبّر عنها القول الأدبي، وإنما على الأساليب التي بها يقول هذه المضامين ويعبر عنها. ولذلك عندما نصغي معه لما تقول به نظريات الأدب عبر هذا المسار الزمني الطويل الذي جعل فيه الإنسان من الأدب مجالا للتعبير عن رؤيته لذاته والعالم من حوله، نجد أن ما تقول به هذه النظريات بصدد العمل الأدبي لا يخرج عن أن يكون إما محايثا: أي أنه يرى وظيفة الأدب في استقلاله عن العالم، وعناصر هويته قائمة فيه بحيث لا تحتاج إلا لمن يمتلك قدرة على وصفها وصياغتها في نظام أو نمذجة تستوعب نصوصا أخرى مشابهة كما هو الحال بالنسبة للشعرية البنيوية (فلاديمير بروب)، أو تصورا متعديا يرى إلى الأدب في علاقته بمنتجه وبالسياق الاجتماعي التاريخي الذي يحيط به، وبقدرته على التعبير عن هذه المتغيرات وتجسيدها في بناء فني متماسك ودال. وهذا ما يتردد صداه في خطاب النظريات المنفتحة بأشكال مختلفة ومنها: الشعرية الاجتماعية (باختين، بيير زيما، بيير بورديو، جون بيسيير). وما تقرره هاتان النظريتان بصدد الأدب، هو ذاته ما يمكن أن يقف عليه المتأمل في الصراع بين مذهبي الصنع والطبع في تاريخ الأدب العربي قديما. إذ إن الصراع بين أنصار هذين المذهبين هو صراع بين انحياز لطريقة في القول الأدبي تعتمد الشفافية والإشارة المباشرة للأشياء في العالم، وأخرى ترى أهمية الأدب في تكسير العلاقة الإحالية عبر اللجوء إلى الغموض والإبهام، وتوظيف اللغة بشكل معقد بحيث لا يُسلِّم القول الأدبي نفسه للقارئ بشكل سهل، وإنما يحضه على بذل جهد كبير من أجل الاقتراب من دلالاته وأبعاده.

كما يعتمد الباحث على مفهوم السنن في تحديد القول الأدبي. وهو لا يأخذ بهذا المفهوم في دلالته اللغوية اللسانية، وإنما يعتمد على المنظور الثقافي. وإذا كانت السنن التي تؤلف بها النصوص على اختلاف أحجامها ذات طبيعة لغوية، فإنها تحمل أيضا أبعادا ثقافية لا يمكن أن تنسحب على جميع الثقافات. وهذا التصور الثقافي الذي يتبناه المؤلف في هذه المقاربة يتعين الأدب من خلاله ضربا من المواضعات الاجتماعية أو الدينية أو الأخلاقية أو الجمالية التي يفرضها المجتمع في مرحلة من مراحل تطوره ويسلم بها المؤلف وجمهوره على نحو ضمني(ص،24).

هذه المواجهات النظرية التي يستند إليها العادل خضر في حفرياته في ماهية الأدب في الثقافة العربية، حددت نظرته للقول الأدبي ومنتجه. تلك النظرة التي تنأى عن التعالي، سواء من جهة تحديدها للأدب من حيث أهمية العلاقة التي يقيمها بالعالم أو من حيث تصورها للأديب بوصفه فردا مندمجا في الجماعة، يبدع الأدب ويشارك من خلاله في شبكات التخاطب الاجتماعي المختلفة. فالأدب هاهنا يتحدد في وسائط الإبلاغ وتقنياته ومؤسسات نقله المتوفرة، أما الأديب فهو كل من استخدم هذه التقنيات على نحو يخدم أغراض المؤسسة الأدبية (ص،25).

ومن المسلمات التي ينطلق منها الباحث في هذه الدراسة كون الأدب لم يعرف استقلاليته في حقل الثقافة العربية القديمة قياسا إلى الاستقلالية التي تمتع بها في العصر الحديث نتيجة التحولات الاجتماعية والسياسية التي حددت وظيفة المؤسسة الأدبية وخلقت نوعا من المسافة بينها وبين السلطة. بل ظل الأدب خاضعا للسلطة، لأنه كان يمثل الرأسمال الإخباري الذي تستند إليه في إضفاء الشرعية على وجودها، ومن خلاله تمنح ممارساتها المقبولية التي تتمتع بها عند الجماعة. لكن ما يميز وضع الأدب في الثقافة العربية هو تنوع الشروط الاجتماعية التي لازمت ممارسته، وكذا السنن التي أحاطت به. فإذا كان الأدب قد ظل مُحتكَرا من قبل السلطة، فإن هذه العلاقة القائمة بينهما كانت تنعقد على أنحاء مختلفة كلما تغيرت التشكيلات الاجتماعية، وتغيرت معها قواعد تشكلها السياسي، أي قواعد انبناء العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع (ص،26).

 من هذا المنطلق يقدم المؤلف تحقيبا للتشكيلات الاجتماعية بتشكلها السياسي، جسده في ثلاث حقب أساسية يتحدد من خلالها دور الأدب باعتبار الوظائف المختلفة التي اضطلع بها الأديب، وكذلك الأديب باعتبار نصيبه من ميراث العربية بوصفها وسيط الوحي ومرتكز الرسالة اللغوي وحاملها اللساني (ص،27).

ففيما يتعلق بمرحلة الجاهلية الأخيرة وبداية الإسلام يذهب المؤلف إلى أن الأدب خلالهما تميز بتضامنه التاريخي مع تجربة الوحي الفريدة والتأسيسية. فقد ساهم إلى جانبها في التمثيل والتحويل اللذين كانا يجريان على أحوال الأشياء في عالم الجاهلية المعيش. ولما كان الأدب عملا ترميزيا، وهو هنا يتقاطع مع الوحي، لا يهدف إلى الحديث عن حال الأشياء في العالم المعروف سلفا وهو الجاهلية، وإنما كان يستثمر اللغة بشكل يسهم في توفير شروط جديدة لمعرفة هذا العالم. وهذه الميزة التي تتحقق للأدب يتجاوز بها مجال الخطاب واللغة ليغدو ممارسة مؤثرة هي ما يدعوه الباحث بـ النجاعة الرمزية.

وعندما يتصور المؤلف الوحي تجربة أدبية، فلأنه يستثمر اللغة العربية ويتحقق داخلها ويعبر عن نظرته للعالم من خلالها. وأهميته لا تكمن هاهنا في طبيعة الأشياء الجديدة التي أتى بها، وإنما في قدرته على صياغة أفكار ومضامين يشترك فيها مع الديانات الأخرى السابقة بشكل يجعلها مركوزة في النفوس، ومشكلة لضرب من اللاوعي المعرفي – الاجتماعي الذي يتحول بمقتضاه المرء إلى إنسان مسلم (ص،42).

من نتائج هذا التضامن بين الوحي والأدب ظهور الدين وتشكل الدولة القائمة على الوحي. وبهذين الأمرين بدأت صورة العالم الجاهلي المعيش تتهدم تدريجيا لتحل محلها صورة جديدة يشيد الإسلام ملامحها عبر وسائط جديدة منسجمة مع العالم الجديد ومنها: المال والدولة والثقافة واللغة؛ وهي كلها وسائط تهيئ للأفراد إدماجا جديدا في النظام الاجتماعي. فإذا كانت الصورة السابقة تنهض على فهم ميثي للعالم، فإن الصورة الجديدة تقوم على فهم عقلاني حجاجي، لهذا لم ينزل القرآن ليذكر بحقيقة منسية فحسب ( فكان ذكرا) وإنما ليفرق بين حقيقة ثابتة وأخرى زائفة (فكان فرقانا) (ص،45).

في هذا السياق التاريخي الذي يوافق القرن السابع الميلادي ظهر الأدب في الثقافة العربية الإسلامية كنتيجة للوسائط الجديدة المعبرة عن معرفة متوائمة مع العالم الجديد. وكان الرسول (ص) الأديب الأول بامتياز “لأن رسالته لم تكن مجرد إبلاغ لمضامين عقدية جديدة كما يوحي بذلك القرآن، وإنما هي تدخل عميق في طرق إدراك الفرد للعالم. وقد تم ذلك بفضل استغلاله لمرتكزات البث والنقل وطرق التنقل (خطوط التجارة) وأجهزة الانتشار التي هيأت لتلك المضامين سبل الرواج” (ص،47).أما الظروف التي هيأت هذا الظهور ووفرت مناخه الملائم فيراها الباحث سابقة على نزول الوحي، خاصة ما له علاقة بما أحدثته التجارة والمال:

– من تفرقة في المجال العربي بالجزيرة العربية إذ انقسم إلى مجال حضري بمدنه الناشئة ومجال بدوي بأحميته المتناثرة في قلب الصحراء.

– وتنظيم جديد في الوجود الاجتماعي ينهض على علاقات منفتحة بين القبائل بفضل المعاهدات والأحلاف.

– وتوظيف جديد لرأسمال القبيلة الرمزي بتجنيده في خدمة القيم التبادلية بدل القيم الاستعمالية.

– وتغيير في الفضاء الأخلاقي الذي أصبح فيه الفرد يطرح أسئلة جديدة تمكنه من الاندماج في عالم يخضع للتحول.

– وتجديد في وسائل البناء المعرفي بفضل استخدام الكتابة التي ضاعفت من حجم المبادلات التجارية والإخبارية(ص،77).

وهذه التحولات جميعها هي التي تكللت بظهور الوحي بوصفه التعبير الأمثل عن واقع جديد آخذ في التشكل.

 أما الوظيفة التي اضطلع بها الأدب ضمن هذه التشكيلة الجديدة فتتمثل في الوظيفة الرمزية التي بها يتعرف العربي إلى الواقع الجديد كما أن القرآن كان ينهض بدور حاسم في تطوير الإدراك وتيسير الانتقال من عالم ذي كوسمولوجية أسطورية إلى عالم ذي كوسمولوجية كتابية توحيدية لها مؤسساتها، وبنى الاعتقاد الخاصة بها ونجاعتها الرمزية.

يقوم تصور العادل خضر للدور الذي اضطلع به الأديب في الثقافة العربية الإسلامية على ملاحظة شديدة الأهمية تقول بتأخر ظهور الأديب عن التحولات التي كانت تحدث في مجال الحقيقة بين دعاة الفهم الميثي للعالم وأنصار الفهم الجديد: الحجاجي والعقلاني. ويرى الباحث أن هذا الدور مارسه في المقام الأول الرسول (ص) باعتباره خاتم النبوة، حيث اضطلع بإبلاغ حقيقة جديدة لها وسائطها التي تغاير وسائط الإبلاغ في مونوبول الحقيقة السابقة. والأهم هاهنا أن هذه الحقيقة لم تعد ماثلة عند مالكيها السابقين: الكهان والمجانين والآلهة المتعددة، وإنما غدت مجسدة في كتاب هو النص القرآني. والناس ليسوا على مرتبة واحدة في معرفتها والوصول إلى كنهها كما عبر عن ذلك القرآن. ومدار التنافس بين القراء قائم في مدى القدرة على امتلاك أدوات الوصول إلى هذه الحقيقة وتشييدها، وهو صراع أيضا على مؤسسات المعنى التي بها يفرض كل معنى ويبلغ(ص،216). في هذا السياق المؤطر بالمرحلة المدنية من الإسلام الأول ظهر وجه الأديب، إذ لم يكن همه منصبا على استنباط المعنى وتأويله فقط، وإنما إلى معرفة الوسائط التي بها يبين هذا المعنى فيلقى إلى السامع فيدعن أو يقرأه المتلقي فيصير مركوزا في نفسه. ولاستجلاء هذا الدور الذي اضطلع به الأديب إلى جانب وسطاء آخرين في الدفاع عن الميراث المقدس، يلجأ الباحث إلى الحفر في شجرة أنساب الأديب، ليس من زاوية التاريخ الأدبي، وإنما من منطلق يعنى بالبحث في تاريخ أساليب نقل الحقيقة وفرضها(ص،217).

يذهب المؤلف إلى أن الفترة العباسية تميزت بفهم جديد للأدب، اجترح بفعل التحولات الاجتماعية المختلفة التي تحققت في المجتمع الإسلامي. ويتمثل ذلك في اتجاه المؤسسة الأدبية نحو الاستقلالية، حيث برزت وظيفة الأديب بوصفها شكلا من العمل الذي لا يختلف عن باقي الوظائف التي ينهض بها الفاعلون الاجتماعيون الآخرون.

وبمعنى آخر فالقداسة التي كان الأديب يتمتع بها في الفهم السابق المتبلور في الفترة الجاهلية وبداية العصر الإسلامي، شُرِعَ في انتزاعها خلال هذا العصر الجديد وبتأثير من عوامل متعددة. والحق أن هذا الفهم الجديد لوضع الأديب ليس أمرا سهل التحقق، فهو لا يمكن أن يتأسس أو يحدث إلا بفعل تحولات كبرى تمس البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية. وبقدر ما ينطبق هذا الفهم على الحقل الثقافي الغربي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، ينطبق كذلك على الحقل الثقافي العربي خلال أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حين كان قيد التشكل وقتذاك. وإذا تذكرنا أن تصور العادل خضر للأديب باعتباره إنسانا وسائطيا ينتمي إلى الانتلجنسيا، حيث يمثل ضلعا من مثلث تمثل الدولة ووسائل الإبلاغ ضلعيه الآخرين، أمكننا القول إن كل تغيير في وظيفة الأديب لا يمكن إلا أن يزامله تغيير في ضلع من هذه الأضلاع (وسائل الإبلاغ والدّولة والأنتلجنسيا).

وبهذا المعنى، فظهور الأديب يمثل استجابة طبيعية للتحولات البطيئة والعميقة التي شهدتها الثقافة العربية، مما أدى إلى استبدال الأعوان الوسائطيين القدامى بأعوان جدد، اقتضتهم التحولات التي طرأت في ميدان العمل وفي مجال المؤسسة الأدبية.

يستطيع قارئ هذا الكتاب أن يتلمس عناصر أطروحة ثاوية فيه مفادها أن ثمة علاقة بين اتساع الفضاء الجغرافي الإسلامي وظهور الأدب. وهذا ما تؤكده الخلاصات التي يستنتجها المؤلف وهو يتتبع وضع الأدب في الثقافة العربية الإسلامية. لكن الأهم في هذه الأطروحة هو الجدل الذي تقيمه بين الممارسات الفكرية ممثلة في الأدب والمكان، إذ يتيح الأدب أفقا أرحب للتأمل في المكان وقراءة امتداداته في الرموز والتعبيرات التي ينتجها البشر. لذلك تبدو فكرة اتساع المكان بمثابة الحاضنة الثقافية والرمزية التي تشكل فيها الأدب العربي، وهذا ما يبيح التساؤل عن العلاقة بين ظهور الأدب وأنساق الهيمنة، وبشكل يحيلنا على الطروحات اللماحة لإدوارد سعيد في هذا المجال.

إن دراسة العادل خضر تكتسب أهميتها من منظورها التصوري الشمولي الذي يقرأ ظاهرة نشأة الأدب في علاقتها المعقدة بالمؤسسات الأدبية والثقافية والوسائط الإبلاغية المختلفة. لقد مكنته هذه الرؤية من إنجاز نوع من التقصي العميق في مسارات تشكل الأدب وفي المفاهيم التي اتخذها بحسب الوظيفة والدور اللذين أسندتهما له الجماعة في كل فترة من فترات التاريخ العربي الإسلامي. ولأن الأدب جزء من النظام الثقافي ومن رؤيته للعالم، فإن تكونه وطبيعته لا ينفصلان عن تلك الرؤية رغم أن ما يقف خلف إنتاجه هو الأديب المتمتع بفرديته واستقلاليته. وهذه العلاقة المعقدة هي التي اجتهد المؤلف في مقاربتها والاستدلال عليها عبر الكشف عن التداخلات بين الوحي والنبوة والدولة والأدب وبني الاعتقاد في الحقيقة، متوسلا بالمقاربة الوسائطيّة التي لا تعنى بتاريخ الأفكار، ولا بتاريخ الأشخاص والأحداث والموجودات، وإنّما تعنى بشروط الوجود التّقنيّ للموجودات الأدبيّة كالأدب والأديب، والأشياء الثّقافيّة كالمعاجم وبيوت الحكمة والمساجد.

- إدريس الخضراوي

56

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.