تقديم:
القوس والفراشة: رواية الانتصار على اليأس
سجل صدور رواية القوس والفراشة إضافة مفصلية للرصيد الروائي العربي المعاصر، ويمكن عد هذه الرواية امتدادا قويا لكل التجربة الإبداعية لمحمد الأشعري في تجلياتها التجنيسية المتنوعة.
لقد جمع هذا العمل في انتمائه ورغم انتمائه إلى جنس الرواية، بين الطاقة الشاعرية والعمق الأسلوبي والتأمل في الشروط والإكراهات والمفاجآت التي تحكم النفس البشرية وتغير مساراتها، من السكون إلى المأساة ومن المأساة إلى الفاجعة كما هو حال التقاطعات التي عرفتها مصائر الشخصيات الثلاث. ولا يفوتني هنا أن ألمح إلى اللحظات التي كان فيها السرد تأملا في فعل الكتابة نفسه وفي الشروط الوجودية المحددة لها.
كتب عبد الكريم جويطي في سياق آخر، أن هذه الرواية كتبت بحزن عميق. وأنا أقول إنها كتبت بشغف أعمق، تضع من خلاله القارئ في مواجهة نفسه بقسوة، عابرا لحظة المتعة إلى تأمل القوة المعرفية التي تبسطها الرواية أمامه دون استئذان ولا قابلية للرجوع إلى الوراء. شغف يجعل هذه الرواية لنتصارا للجمال على اليأس، وللإبداع على الموت (الإرهاب، والخراب، والفساد…). وقد قالها الفرسيوي مخاطبا روح ابنه (ص 78): “إنتاج أكبر قدر من الجمال، لأن ذلك هو السبيل الوحيد للانتصار على اليأس”.
قليلة هي الكتب التي يخرج منها القارئ مختلفا عن لحظة الدخول. وأنا أزعم أن رواية القوس والفراشة من هذه الكتب التي جعلتني أعيش لحظة اكتشاف العالم من جديد بعد قراءتها، وكأن موقع شرفتي على الكون تحول إلى طرح أسئلة جديدة حول مفارقات الحب والموت وحتى السياسة.
لقد استدعى الغنى الموضوعاتي والتأملات العميقة في الوجود البشري وفي إكراهات السياسة وعلاقة الفرد بنفسه وبمحيطه وفي تحولات القيم، ثراء آخر في المقاربات التي اعتنت بقراءة الرواية من منظورات مختلفة. يظهر هذا الأمر في العروض التي يتضمنها الملف الذي تقترحه مجلة رباط الكتب على قرائها والذي يتضمن قراءات مختلفة في المنظور جامعة للرؤية التي تقارب رواية القوس والفراشة في شموليتها الفنية والإنسانية.
في عرض حورية الخمليشي كان التركيز على الحضور الشعري في النص وأهمية هذا الاستثمار في إضفاء قيم جمالية عميقة على النص السردي. وقد اعتبرت الكاتبة أن “اختراق الشعري للغة الرواية سمة مميزة لسرديتها. شعرية الفضاء والأمكنة، وشعرية اللون، وشعرية لغة الحواس، بهدف دعوة المتلقي إلى التأمل في معنى الحياة وكنه الأشياء”.
أما عرض عبد الحي مودن فقد وقف على حضور السياسي في هذه الرواية، حضور يجعل منها مساهمة في تشخيص الوضعية القاتمة “لمجتمع ينمو بدون روح” و”أرضية سياسية وسوسيولوجية وتاريخية موثقة بشكل دقيق، تمتلئ بها صفحات الرواية: التوسع العمراني للمدن، تاريخ وليلي وفضاءاته، سرقات الآثار، موسيقى الشباب…الخ. ركز عرض أحمد إد علي على ثلاثة جوانب في مقاربة النص تدخل كلها في مجال الاستبطان النفسي للقيم الجمالية ولحركة الشخصيات ومصائرها في النص، وتتلخص هذه الجوانب في ما سماه بأنساغ الحياة وبمسألة الهوية وأخيرا بأعطاب السياسة من خلال ما تكشفه الرواية من مفارقات.
هذه المفارقات هي ما ركز عليه عرض ادريس كسيكس في مداخلته، حيث اعتمد استراتيجية تفكيكية من أجل “إظهار المستويات الجمالية والوجودية والخطابية التي استطاع من خلالها الأشعري إلى حد بعيد تجديد نقط تماس مثيرة لها بارتباط بما هو آني وما هو كوني ، ما يقع للفرد في تفاصيل الحياة اليومية ويصله سياسيا وعاطفيا بالأنا الجمعي”.
في عرض عبد الفتاح لحجمري محاورة لكل التفاصيل الروائية المرتبطة بالشخصيات وبمصائرها. وكعادته في الإنصات لنبض النصوص العميقة، اعتبر عبد الفتاح لحجمري الرواية جوابا على سؤالين: لماذا حاضرُنا على ما هو عليه؟ ولماذا ننتمي اليوم إلى سُلالة الخوْف والقلق؟.
أما مداخلة ابراهيم الخطيب فتسعى إلى مساءلة العلاقة بين جنوب الروح والقوس والفراشة. ومن خلال هذه المساءلة يتتبع الكاتب الخيوط التراجيدية لحياة آل الفرسيوي في الروايتين، تراجيديا اعتبرها ابراهيم الخطيب – فيما يخص مسألة النزوح – شبيهة بهبوط آدم إلى الأرض بعدما طعم من الشجرة المحرمة (القتل بالنسبة لآل الفرسيوي)، وأن مآسي هؤلاء جميعا كانت من قبيل عواقب الوعيد الإلهي بأن الناس، في الأرض، سيكون « بعضهم لبعض عدو».
أنور المرتجي عاد هو الآخر إلى العلاقة بين الروايتين، معتبرا أنه “لا يوجد تلازم حتمي أو سببي بين الروايتين بل هناك علاقة طباقية” ، وقد ركز الكاتب في إطار هذا الاختلاف على تبيان الحضور القوي للنص المتشعب أو الجذمور في رواية القوس والفراشة، وأيضا إلى حضور مفهوم التحقيق منتهيا إلى اعتبار الرواية “تنزاح عن المقاربة المباشرة للواقع، بالرغم من توظيفها للتحقيق الصحفي، الذي يعري خبايا الفساد الإداري، والسطو على الثروات، والربح السريع للمقاولين الجدد، نتيجة للاختيارات البيرالية الهجينة”.
اختتم هذا اللقاء أشغاله بالكلمة القوية التي ألقاها محمد الأشعري والتي أشار فيها إلى خلفيات الكتابة ومحدداتها الجمالية وعلاقات الاتصال والانفصال بين روايتي جنوب الروح والقوس والفراشة. وقد ركز الأشعري هنا على القيمة والأهمية الجمالية والفنية للنص خارج التفاصيل الاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي يتضمنها: “لقد حاولت انطلاقا من اليومي أن أبني الرواية بطريقة تهم مغرب اليوم. ليس من مهام الروائي التنبؤ أو تفسير التاريخ لكن مهمته الأساسية هي ان يقدم كتابة ممتعة لأنه إن فشل في هذا الأمر فلا قيمة لكل حقائق التاريخ التي يسردها.”
حاولت مختلف العروض أن تبرز القيم الإنسانية والجمالية التي عيرت عنها الرواية بعمق سردي وتخييلي من خلال حكاية آل الفرسيوي، قيم جعلت الرواية تستحق بجدارة جائزة البوكر التي حصل عليها محمد الأشعري في دبي أياما قليلة بعد انعقاد هذا اللقاء الدراسي.