،المغرب في عهد الوطاسيين من خلال”وصف إفريقيا” للحسن الوزان، تنسيق محمد استيتو، سلسلة دراسات وأبحاث تاريخية
الرباط- منشورات جمعية الحسن الوزان للمعرفة التاريخية، 2011
I
إصدار
صدر مؤخرا كتاب جماعي جديد عن المغرب زمن الوطاسيين، اعتمادا بالأساس على نص الحسن الوزانوصف إفريقيا.
والكتاب باكورة منشورات جمعية الحسن الوزان للمعرفة التاريخية، وأول أعداد سلسلتها دراسات وأبحاث تاريخية. وتهدف الجمعية، المكونة من جامعيين، إلى نشر الوعي بأهمية دور التاريخ في التقريب بين الثقافات وخلق جسور التعاون بينها، وتعميم المعرفة التاريخية، ونشر الدراسات والأبحاث التاريخية، وتحقيق المتون التراثية ونشرها، وتوفير المعلومة التاريخية، وترجمة الأعمال التاريخية الرصينة إلى اللغة العربية، وتنظيم اللقاءات العلمية والأوراش التكوينية.
وبناء على بعض هذه الأهداف، تقدم الجمعية نفسها كهيئة مواطنة، منشغلة بتعميم المعرفة التاريخية وتبسيطها، وبتحقيق العلاقة المفقودة بين هذه المعرفة وبين مطالب المجتمع وتطلعاته. وتأسيسا على بعضها الآخر، تقترح الجمعية نفسها فضاء أكاديميا، متخصصا في التاريخ، منفتحا على العلوم الاجتماعية والآداب.
واختارت الجمعية أن يكون باكورة منشوراتها عملا عن المغرب زمن الوطاسيين ومن خلال كتاب الحسن الوزان وصف أفريقيا. والاختيار في نظرها ليس اعتباطيا، بالنظر إلى افتقار الزمن المذكور إلى دراسات جادة ووافية من جهة، واعتبارا للمكانة المتميزة التي يحتلها كتاب وصف أفريقيا بين مجمل مصادر المغرب الوسيط والحديث، وتقديرا لصاحبه المجسد لمثال “المثقف المتميز“، الواصل بتجربته الشخصية وبمتنه النوعي بين ثقافات البحر المتوسط وحضاراته.
وقد ذيل هذا العمل الجماعي، المخصص أساسا للمغرب الوطاسي من خلال رواية الحسن الوزان الوصفية، بثلاث نصوص بحثية وتراثية.
II
تميز المعلومة ومزالق النص
تعترض الباحث في تاريخ المغرب، في غالب الأحيان وفي فترات بعينها، مشكل استعصاء المادة المصدرية ومعضلة عجزها عن الإجابة عن أسئلة دقيقة وفي مواضيع مستجدة باستمرار. ومرد الاستعصاء والعجز التنميط الغالب على معظم هذه المادة، وفقر مضمونها من الإحصاءات الرقمية والأوصاف المجتمعية والأحوال الذهنية. ودفع الإحساس بالضجر من هذه المادة المصدرية والوعي بمحدودية إفاداتها الباحثين إلى التنقيب عن غيرها من دون جدوى في غالب الأحيان. غير أن المختص منهم في فترتي العصر الوسيط المتأخر والحديث، هو الذي حالفه الحظ بقدر كبير. ذلك أنه وجد ضالته في مصدرين متميزين من حيث نوعية الإفادات وتفردها وكثافة النص وتشعب دلالاته. ويتمثل الكتابان في موسوعة مصادر المغرب الدفينة بأجزائها المصنفة وفق أسماء الدول ذات العلاقة بالمغرب[1]، ومؤلف وصف أفريقيا للحسن الوزان المصنف ضمن كتب الرحلة والجغرافية[2].
قدم المتدخلون، في الكتاب الجماعي موضوع القراءة، جوانب القوة والتميز في مؤلف الحسن الوزان وصف أفريقيا.
ومنها تميز شخصية الحسن الوزان (1488- بعيد 1550) نفسه، التي انعكست إيجابا على ما سطره من معلومات وأورده من فوائد. ذلك أنه راكم قبل التأليف خبرة قل نظيرها، من قبيل التكوين العلمي المستحسن، والمعرفة اللغوية المتنوعة، ومرافقة والده في استخلاص الضرائب، وممارسة التجارة، وتقلد وظيفة كتابة البيمارستان وخطة الشهادة، ورفقة السلطان في حركاته، وتولي السفارة، فضلا عن شد الرحال في أكثر من رحلة. وقد لا يبذل الباحث جهدا مضنيا للتوصل إلى أن ما دونه الحسن الوزان هو في الحقيقة مشاهدات شخصية ومعاينات ذاتية، حفظت بعضها ذاكرة قوية وبعضها الآخر تقاييد خلفها في داره بفاس أو ضاعت منه لحظة الأسر.
وقد ساهمت الظروف غير المألوفة التي كتب فيها الحسن الوزان وصف أفريقيا في اكتساب تأليفه خاصياته المميزة. ذلك أنه وقع، بعد كل الخبرة التي اكتسبها، في الأسر سنة 1520، وأهدي إلى البابا ليون العاشر الذي تبناه وعمده ومنحه اسمه. وما من شك أن حياة الحسن الوزان الجديدة في ايطاليا عصر النهضة غيرت الكثير من رؤيته لمعيش الناس ومعاشهم ولطرق تدوين أخبارهم وإيقاعات حياتهم، باستحضار مضمر للمقارنة مع من يقابلهم في محيطه الجديد. كما أن الكتابة تحت الطلب ولمتلقي/قارئ غريب، دفعت الحسن الوزان سنة 1526 إلى الاهتمام، غير المعهود في عموم المصادر، بالتفاصيل والتدقيقات والهوامش.
أحصى المتدخلون في الكتاب الجماعي المستويات الإخبارية التي يحفل بها كتاب وصف أفريقيا. ومنها الحضور القوي للجانبين الإحصائي والرقمي والوصف الدقيق لأحوال المغرب الاقتصادية والاجتماعية والجغرافية، بحيث وفر إفادات ثمينة عن الإنتاج والاستهلاك في البوادي والمدن ومداخل المخزن ونفقاته وأجور الموظفين والأسعار والسكة والضرائب والحرف والصنائع والأسواق وتنظيمها ومواقع المعادن وأعداد المؤسسات الدينية والاجتماعية وأوضاعها ووسائل القياس و المكاييل والأوزان والطرق والتضاريس والمناخ والغطاء النباتي والثروة الحيوانية، فضلا عن العادات والتقاليد والموروثات من العلاقات الاجتماعية.
غير أن حالة الانبهار التي قد تنتاب المطلع غير المتريث ولا المتحفظ والمنتقد على هذا المصدر المتميز حقا قد تفضي بصاحبها إلى تبني تقديرات غير صحيحة واستخلاص استنتاجات بعيدة عن الواقع. وقد أصاب منسق كتاب المغرب في عهد الوطاسيين، حينما قدمه بمقال/مدخل يتناول هذا الجانب الهام، أي علاقة الباحث بمصدره الذي قد يظنه متميزا، من خلال نموذجوصف أفريقيا.
يقدم عثمان المنصوري للأسباب التي تفرض ضرورة تحرز الباحث كلما اعتمد على كتابوصف أفريقيا، وتدفع إلى عدم الاطمئنان كلية إليه وافتراض نسبة من الخطأ والنقص في مضامينه. وذكر منها اعتماد الحسن الوزان على الذاكرة، بعيدا عن المصادر الأصلية لتاريخ المغرب وجغرافيته، مما قد يعرضها للنسيان وفقدان ملكة الضبط، خصوصا لما يتعلق الأمر بتدقيقات الإحصائيات والأرقام والأسماء. كما ذكر منها كيفية الانتقال اللغوي للنص، مذ كتبه أو أملاه الحسن الوزان وبلغة قد تكون العربية أو الايطالية. وأكد في هذا المستوى على ضرورة الانتباه إلى الفارق بين هذا النص الأصلي الغائب وبين النسخة المترجمة والمعتمدة في الوسط الأكاديمي المغربي منذ سنة 1980، باعتبار أن هذه الأخيرة ما هي سوى خاتمة لسلسلة من عمليات نشر الكتاب بلغات مختلفة ومنذ 1550. وخلص إلى أن تعدد الوسائط وتنوعها أصاب الكتاب ولا شك بتحريفات نتيجة للقراءة الخاطئة والجهل بتاريخ المغرب وجغرافيته البشرية والطبيعية.
وضرب الباحث أمثلة من مزالق وصف أفريقيا، ومنها ما يتعلق بروايته عن الأحكام العرفية، والتعميم الحاصل في الضبط الزمني للأوصاف والأخبار، وصحة الأرقام والإحصاءات، وتصنيف التجمعات البشرية والمنشئات العمرانية… [3].
وما من شك أن هذا المقال المدخل يضع شروط قراءة سليمة للنص ويحذر من الاطمئنان الكلي له. هذا مع العلم أن معظم الملاحظات الواردة فيه تصدق أيضا على خلاف كتاب الحسن الوزان من المصادر.
III
حفريات في نص نوعي وكثيف
يمكن تصنيف مساهمات الكتاب الجماعي ضمن مستويين من المقاربة. الأولى انصبت على التاريخ الاقتصادي والاجتماعي، أي الجانب الأكثر غزارة من حيث المعلومة والإفادة في وصف أفريقيا، والثانية اختارت أن تنحت من جسم هذا النص مواضيع مبتكرة.
أجمعت نصوص المقاربة الأولى، وهي ثلاثة، على تفرد متن الحسن الوزان من حيث غزارة المعلومة ونوعيتها، مما جعله بامتياز مصدرا لتاريخ المغرب الاقتصادي والاجتماعي. وقد استعرض محمد استيتو الإفادات الاقتصادية القوية في النص، وصنفها في المستويات الثلاثة التالية:مستوى وصفي لخريطة المغرب الطبيعية، وتتضمن تنوع المناخ وتوزيع السكان وأشكال التضاريس ومواقع المناجم والمعادن. ومستوى ملاحظة التباين في التطور الاقتصادي والاجتماعي في البوادي والمدن، بحسب الموقع الجغرافي وطبيعة المجال وقدرة المؤهلات وكثافة النشاط الفلاحي أو الحرفي. ومستوى رصد مساهمة الأندلسيين في تطوير المناطق التي استوطنوها بعد نزوحهم إلى الضفة المغربية.
وإلى جانب هذه الزاوية الوصفية والتقييمية لنص الوزان، طرق الباحث باب موضوع هام، يتمثل في رصد معوقات الاقتصاد المغربي في مطلع الأزمنة الحديثة ومن خلال نفس النص. وقد حصرها في ثلاثة أصناف. الأول، يتمثل في العامل الطبيعي أو الحتمي على الأصح، ومنه صعوبة التضاريس وقسوة الطبيعة والمناخ في مجالات واسعة وموحشة من بلاد المغرب، كما منه توالي دورات الجفاف والقحط وتتابع خراب الجراد والحضور القوي للحيوانات المفترسة. والثاني، يتمثل في العامل البشري، ومنه تفشي الجهل والبطالة والاستئناس بالكسل والإهمال وقلة الخبرة والدراية، مما انعكس سلبا على وسائل المواصلات وعمليات الإنتاج في البادية والمدينة وفي القطاعين الفلاحي الحرفي، ومن تم على معيش الناس ومعاشهم. والثالث، يتمثل في مظاهر الخلل التي اعترت المرافق الاقتصادية وآليات تدبير الشأن الاقتصادي، ومنه بعد الأسواق عن مناطق الإنتاج وقلة منازل التجار وتعدد العملة وكثرة رسوم المرور وارتفاع قيمتها وثقل الضرائب وتنوعها وتدهور الوضع الأمني خصوصا في المجالات الهامشية والسواحل التي طالها الاحتلال الأيبيري[4].
يطرق محمد استيتو بهذه الزاوية الثانية موضوعا هاما، يمكن استكماله بتعميق البحت في الدهنيات والتشريعات ودور المخزن ووضع التجار في المدن والفلاحين في البوادي، وباستحضار إمكانية المقارنة مع متغيرات الضفة الشمالية من المتوسط، والتمييز بين الثابت/البطيء والمتغير/الظرفي في المجتمع المغربي، مع مقابلة إفادات نص الحسن الوزان بما يرد في غيره من المصادر المصنفة ضمن استوغرافية المغرب الحديث أو ذات الصلة.
واختار الحسين عماري البحث في وصف أفريقيا عن العلاقات التجارية بين المغرب والسودان الغربي. ومعلوم أن النصوص الجغرافية والرحلية، وكتاب الحسن الوزان من بينها، تعد من المصادر المهمة والمتميزة في دراسة هذه العلاقة. غير أنها تطرح في رأي الباحث “إشكالات معرفية ومنهجية“، تتطلب التحري والتدقيق.
ويجيب كتاب الحسن الوزان، في رأي الباحث دائما، عن مجموعة من التساؤلات التي تخص عبور الصحراء، من قبيل التحولات الطارئة على الطرق التي تسلكها القوافل التجارية وارتباط عدد من الأنشطة الاقتصادية في المغرب بالتجارة مع الصحراء واستفادة شيوخ قصور الجنوب من أرباح هذه التجارة ومن ضرائب الحماية والمرور التي يحصلونها من القوافل. كما يسلط المزيد من الضوء على المشاكل التي كانت تعترض تجارة المغرب الصحراوية مثل مشكل الماء والأمن، وعلى تدابير إعداد القوافل، وعلى المتغيرات التي طرأت على المحاور الكبرى للطرق التجارية في القرنين 15 و16م، وعلى عدد من المراكز الوسيطة التي لعبت أدوارا مركزية في هذا الاقتصاد الحيوي على طول الشريط الفاصل بين الجنوب المغربي وعمق الصحراء. كما يدلي كتاب الحسن الوزان بإفادات ثمينة عن دور المغاربة اليهود في هذه التجارة، وعن نوعية البضائع الرائجة فيها مثل التبر والخيول والملح والأسلحة وغيرها من المنتجات الحرفية المحلية أو المستوردة من أوربا، وعن “بضاعة” الرقيق التي كانت تحصل من الحروب السودانية المحلية وتروج بيعا وتبادلا وإهداء محليا وإقليميا[5].
من المؤكد أن إفادات الحسن الوزان عن العلاقات التجارية المغربية السودانية جد ثمينة، لكن البحث يقتضي توظيفها بشكل موسع للوصول إلى نتائج تفسر مثلا الوضع الذي آل إليه المغرب على مستوى الدولة والمجتمع عشية ظهور الدولة السعدية الشريفة، أو توضح على الأقل مظاهر وانعكاسات المد العثماني الذي وصل تلمسان والتوسع الأيبيري الذي بلغ مصب نهر السنغال على تجارة كانت وقتها تعد بمثابة العمود الفقري للاقتصاد المغربي.
ويغري كتاب وصف أفريقيا، وهو كتاب رحلة موسع وجغرافية مفصل، باستخلاص مونوغرافيات جهوية وحضرية من غزير إفاداته. وقد راودت الفكرة محمد عمراني الذي حاول في مداخلته استخراج ما ورد في الكتاب من معلومات اقتصادية واجتماعية عن جبال الريف والهبط. وبالفعل تمكن الباحث من جمع مادة مهمة عن طبيعة هذا المجال المعقدة والمتنوعة، وعن ساكنته وأنشطتهم الاقتصادية المعتمدة على الإنتاج الزراعي وتربية الماشية واستغلال المجال الغابوي والمنتج الحرفي والتجاري. كما تمكن من رسم صورة مفصلة للوعاء الضريبي الخاص بهذه الجهة، ولطرق استخلاص الجبايات وأوجه صرفها.
والتقط الباحث الإفادات الاثنوغرافية الواردة في الكتاب، ليضع صورة مفصلة لهذا المجال، شملت أنماط العيش من غداء ولباس وسكن، والممارسات الاجتماعية من عادة معاقرة الخمر إلى ظاهرة حمل السلاح[6].
تقدم جبال الريف والهبط نموذجا للمجال المعقد. مجال معزول بتضاريسه الوعرة، ولكن متواصل مع جواره بتعدد مسالكه وانفتاحه بالمواجهة مع أيبيريا. مجال متنوع النشاط الاقتصادي بحكم غنى الغطاء النباتي والإطلالة على البحر وزراعة الكروم وتجفيف العنب وتنويع الزراعة للتغلب على قلة الأرض الصالحة للاستغلال، ولكن فقير لثقل الضرائب وإجحافها والتي انعكست سلبا على معظم الساكنة. مجال ولج العصر الحديث، ولكن ببنيات عتيقة لم تتغير كثيرا كما يستشف من مقارنة النصوص الرحلية والجغرافية والإخبارية.
ونحت نصوص المقاربة الثانية، وهي ثلاثة أيضا، إلى البحث في كتاب الحسن الوزان عن إفادات قد تجيب عن سؤال الهوية وتوضح وضع المغاربة اليهود وتقتفى أثر وصف أفريقيا في الأدبيات الإبداعية الأوربية.
و قد لاحظ علاوة عمارة محدودية مساهمة المصادر العربية في رسم معالم الفترة التاريخية المغاربية السابقة للإسلام، مما قد يوحي خطئا بحدوث قطيعة بين الثقافة العربية الإسلامية الطارئة والثقافات المحلية والوافدة السابقة. واستنتج الباحث الجزائري أن إهمال معظم المصادر العربية المقصود لفترات ما قبل إسلامية أدى بالمقابل إلى إنتاج قطيعة ابستمولوجة مبنية على معرفة عالمة نجحت في أسلمة الذاكرة.
غير أن وصف أفريقيا اختلف عن هذه المصادر، وأولى عناية لافتة للنظر بأحوال الشمال الإفريقي قبل الفتح الإسلامي. ومرد هذا الاهتمام تشبع الحسن الوزان، في الفضاء الثقافي الذي أنتج فيه نصه، بأفكار نهضوية تختلف إلى حد كبير عن ما خلفه من عقليات وذهنيات في البلدان الإسلامية .
ويؤكد علاوة عمارة على أهمية المقدمات العامة في وصف أفريقيا، والتي احتلت فيها الجغرافية الطبيعية والبشرية والسياسية لبلاد البربر ما قبل الإسلام مكانا بارزا. ولاحظ الباحث الجزائري أن الحسن الوزان، مثل غيره من الجغرافيين والإخباريين المسلمين، مزج بين التاريخ والأسطورة عند الحديث عن الأصول البشرية واللغوية للبربر. ومع ذلك احتسب له ميزة هامة، وتتمثل في توضيحه بأن هوية شمال أفريقيا لا ترتبط بالعنصر المحلي البربري فقط، وإنما أيضا بمختلف المكونات البشرية والثقافية التي استوطنت المنطقة أو عبرت منها، بما فيها العرب والإسلام. وتأسيسا على هذا التوضيح تفهم العلاقة التفاعلية بين الكتابة الإفريقية وكتابة الحضارات التي مرت من المنطقة قبل الفتح الإسلامي. وبناء عليه أيضا يجب النظر إلى المدينة والتمدين في المغارب على كونه موروث ضارب في القدم ونتيجة تفاعل سابق للحدث الإسلامي[7].
ولكن خلافا لاعتراض الباحث وفي اعتقادنا، تظل إشارة الحسن الوزان، إلى طول المدة التي استغرقها الإسلام لينتشر ويتجدر في الوسط الأمازيغي وإلى دور الشيعة في هذه الدينامية الدينية والثقافية، جديرة بالاهتمام وذات أبعاد أعمق من حجة قارئه.
وغير بعيد عن قضايا الهوية والتنوع الثقافي، اختار الحسن لغرايب اقتفاء أثر المغاربة اليهود على الخريطة الجغرافية البشرية والطبيعية التي وضعها الحسن الوزان بكتابه وصف أفريقيا. ولاحظ وجودا مؤثرا وفاعلا لهذه الطائفة في عدد كبير من الأنشطة الاقتصادية وفي مناطق مختلفة من بلاد المغرب. وذلك في زمن دقيق من تاريخ المغرب، تراجعت فيه قوة الدولة، وخرجت إبانه مجالات ترابية واسعة عن سلطة المخزن، وتوالت خلاله الكوارث الطبيعية وقل الأمن وعز الأمان، وتمكن الإيبيريون حينه من احتلال العدد الأكبر من مراسي البلاد ومراكزها الساحلية.
ويستخلص من نص الحسن الوزان أن الطائفة اليهودية مارست النشاط التجاري على ثلاثة مستويات: التجارة المحلية الداخلية والتجارة الصحراوية والتجارة الدولية. ويترتب على هذه الخلاصة ضرورة إعادة النظر في انصراف معظم المؤرخين إلى الاهتمام بالمستوى الثالث فقط، أي بمساهمة اليهود في التجارة الدولية المروجة للبضائع النفيسة.
كما يستخلص من نص الحسن الوزان أيضا حضور قوي للطائفة اليهودية في النشاط الحرفي والفلاحي، وخصوصا صناعة الحلي وضرب السكة والخرازة وصباغة النسيج وعصر الخمر والزراعة وتربية الماشية. فضلا عن الحضور السياسي، من قبيل المثول في البلاط وتقلد مهام دبلوماسية[8].
لا يناقش الباحث إلا سريعا، ووسط كم هائل من المعلومات، الأسباب التي جعلت العنصر اليهودي يحتكر أو يتفوق في بعض الأنشطة إلى أن أصبحت لصيقة به. وبينما يدفع بمقولة أن لا فارق كان موجودا بين اليهودي والمسلم في المجال الاقتصادي، باستثناء اختلاف العقيدة، فانه لم يدل بتفسير لتلك “المهارة” اليهودية الموروثة والطافحة من نص المقال. كما لا يتوسع الباحث في تصنيف فئات هذه الطائفة، باعتبار أن منها من رسخت أجدادها في التربة المغربية، كما منها من طرأ أفرادها على البلاد في موجات متأخرة من أهمها هجرات النصف الثاني من القرن 15م، وهي التي عاصرها صاحب وصف أفريقيا.
ويتناول محمد الكيحل موضوعا يرفع من قيمة نص وصف أفريقيا، ليبلغ به مصاف الأمهات العربية التي أثرت في الأدب الأوربي، من قبيل ألف ليلة وليلة ورسالة الغفران. ويتعلق الأمر باستلهام حديث الحسن الوزان عن مدينتي القصر الكبير ودبدو وحكاية الصياد والسلطان في كتابات الأديب الايطالي ماتيو بانديللو القصصية/الروائية. وقد ضمن الباحث مقاله ترجمة لنص قصصي للأديب الايطالي، استلهمه من رواية الحسن الوزان لعلاقة أمير دبدو بالسلطان محمد الشيخ الوطاسي. مع العلم أن ماتيو بانديللو اعتمد على وصف أفريقيا في أكثر من قصة.
واستنتج الباحث أن ماتيو بانديللو ظل وفيا للأصل الذي اعتمده، إلا أنه صقله في نص إبداعي يتلاءم مع القارئ الأوربي، زمن النهضة التي من سماتها عشق الشرق وسحره. كما لاحظ أن الأديب الايطالي استبدل شخص الحسن الوزان الراوي بشخص التاجر الراوي، في ظرفية ازدهار التجارة المتوسطية بقيادة تجار جنوة.
واتسمت النصوص القصصية/الروائية التي أبدعها الأديب الايطالي، باستلهام رواية الحسن الوزان في وصف أفريقيا، بالتسامح والانفتاح، بحيث تتلاقح فيها الديانات وتتواصل الثقافات وتنعدم الفوارق الحضارية. بل ويتفوق ماتيو بانديللو على الحسن الوزان في هذه الأخلاق والطباع النبيلة، باعتبار ما تتميز به بعض أوصاف هذا الأخير من قسوة عند الحديث عن بعض المناطق الجغرافية والتجمعات السكنية المغربية[9].
IV
ذيول الكتاب
ذيل ملف المغرب في العهد الوطاسيين من خلال كتاب الحسن الوزان وصف أفريقيا بثلاثة نصوص أدرجت ضمن ملفين حملا عنواني دراسات تاريخية ووثائق ومخطوطات.
قدم محمد المهناوي، في النص الأول، مراجعة نقدية لما هو متداول من حديث عن ضعف الوطاسيين وعجزهم العسكري وتفوق السعديين عليهم بفضل احتكارهم ملكية السلاح الناري. واستعرض، اعتمادا على نص حوليات أصيلا المترجم مؤخرا[10]، القدرات العسكرية التي كانت للبرتغاليين المحتلين لعدد من المدن والمراكز الساحلية المغربية. وبين، وهذه إضافة نوعية لما هو متداول بين المؤرخين، أن الوطاسيين أصروا على امتلاك السلاح الناري لجهاد البرتغاليين في البداية ومقاومة السعديين بعد ذلك. وكانت موقعة المعمورة سنة 1515م مناسبة أسهمت فيها المدفعية الوطاسية في إفشال حملة برتغالية، مما كان له الوقع الحسن على معنويات ملك فاس وأهلها. وكان الوطاسيون قد أقاموا وحدات متخصصة في إنتاج السلاح الناري، كما تعهدوا بالعناية الفائقة العناصر الأجنبية المكلفة بهذا الإنتاج والساهرة عليه.
وهكذا، لم يكن السعديون أول من اعتمد الخبرة الأجنبية في إنتاج السلاح الناري، بل كانوا مجرد مقلدين للتجربة والخبرة الوطاسيتين في هذا الباب. كما أن هذا الاعتماد على اليد العاملة الأجنبية وعلى المهارات غير المغربية لم يساعد على تبلور وتطور صناعة حربية “وطنية”[11].
ودرس سيدي محمد العيوض، في النص الثاني، استعمالات الملح في العصور القديمة اعتمادا على الإشارات النصية والمعطيات الاركيولوجية، وعدد منها الاستعمالات الغذائية والطبية والبيطرية والدينية. كما عين مواقع الملاحات البحرية والسبخات المعدنية، خصوصا في شمال أفريقيا. وبين أن تجارة الملح كانت رائجة منذ هذه الأزمنة المبكرة، بل وأصبح الملح، منذ 1200ق.م.، من البضائع التي ساهمت تجارتها في تطور المجالات المطلة على البحر الأبيض المتوسط 12. وختم أحمد العزاوي هذا الكتاب الجماعي بنشر نص محقق، عبارة عن حوليات تغطي القرن 15 والنصف الأول من الذي يليه. وتسمح هذه الحوليات، بالرغم من تأخر مؤلفها عن العصر، بملء بعض الفراغات التي يعاني منها مغرب نهاية العصر الوسيط ومطلع الحديث. وبالرغم من أن معظم الأخبار الواردة في هذا النص معروفة في غيره من المصادر ومتداولة في ما سواها من الدراسات المنجزة مؤخرا، فان الباحث ولا شك سيجد فيه ضالة ما يبحث عنها إن على المستوى الإخباري أو التحريري[13].
[2] الوزان (الحسن- ليون الأفريقي)، وصف أفريقيا، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، بيروت- دار الغرب الإسلامي، الرباط- الشركة المغربية للناشرين المتحدين، 1980 و1982، جزآن.
[4] استيتو (محمد)، فائدة كتب الرحلات والجغرافية في كتابة التاريخ الاقتصادي للمغرب: أنموذج “وصف أفريقيا” للحسن الوزان، نفسه، ص. 27- 63.
[5] عماري (الحسين)، العلاقات التجارية بين المغرب والسودان الغربي في بداية العصر الحديث من خلال كتاب “وصف أفريقيا”، نفسه، ص. 81- 98.
[6] عمراني (محمد)، جوانب من الحياة الاقتصادية والاجتماعية في جبال الريف والهبط من خلال كتاب “وصف أفريقيا”،نفسه، ص. 99- 130.
[8] Laghraib (El Hassane), Le Maroc du XVIème siècle d’après Léon l’Africain: les juifs et leurs activités, Ibid, pp.3-38 de la partie rédigée en français.
[9] الكيحل (محمد)، حضور كتاب “وصف أفريقيا” في الأدب الأوربي خلال عصر النهضة: دبدو بين وقائع التاريخ ووحي الخيال من الوزان إلى الأديب الإيطالي ماتيو بانديللو، نفسه، ص. 131- 148.