أثناء محاولته الإجابة عن مدى استطاعة فهم الإنسان انطلاقا من غنى الظواهر المحيطة به، وتحاشيا الارتكان إلى الكليات المجردة أو السقوط في نسبية ثقافية[1]، يقترح غيرتز النظر إلى مفهوم الثقافة باعتباره “نمطا من المعاني المتجسدة في رموز تنوقلت تاريخيا، وهو نظام من المفهومات المتوارثة يعبر عنها بأشكال رمزية، وبواسطة هذه الأشكال يتواصل الناس، وبها يستديمون ويطورون معرفتهم حول الحياة ومواقفهم منها”[2]. يُستشف من هذا التعريف أهمية ودور الرموز الخارجية كحامل للمعاني المتناقلة والمتوارثة، على غرار الرموز الأخرى التي يوفرها علم الوراثة، حيث تندمج الشفرات في النظام العضوي الحي. ولما كانت هذه الأخيرة غير قادرة على إرشادنا في التعامل مع حالات ثقافية، يأتي دور الأنظمة الرمزية الخارجية، “فلكي نستطيع تأمين المعلومات الإضافية اللازمة لنا لتمكيننا من الفعل كنا مجبرين على الاعتماد أكثر فأكثر على المصادر الثقافية- ذخيرتنا التراكمية من الرموز ذات المعنى”[3]. هكذا يرى غيرتز أننا نفكر ونفهم من خلال انسجام بين حالات النماذج الرمزية وعملياتها في مواجهة حالات العالم الواسع وعملياته؛ فإذا ما دخلنا في مراسيم معينة مثلا ولم نكن نعرف القواعد الشعائرية المتبعة فستفقد كل تلك النشاطات معناها بالنسبة لنا.
أملا في بعث روح تجديدية في الدراسات الأنثروبولوجية للدين يقترح غيرتز تقديم تعريف مبني على هذه الأسس الثقافية باعتباره ظاهرة ثقافية ذات طبيعة عالمية. فما هو هذا التعريف؟
يجيبنا غيرتز أنه “نسق من الرموز يعمل على إقامة خواطر وحوافز قوية شاملة ودائمة لدى الناس عبر تشكيل تصورات حول النظام العام للوجود، وبإضفاء هالة من الواقعية على هذه التصورات، إذ تبدو هذه الخواطر والحوافز واقعية بشكل فريد”[4]. هناك من النقاد، وعلى رأسهم طلال أسد، من يرى أن هذا التعريف، الطامح إلى الكونية باستناده إلى الأسس الثقافية العامة للنوع البشري، يشكل نقطة ضعف الخطاب الغيرتزي، إذ أسقطه في حبال خطاب المركزية الغربية بتعميمه تعريفا مرتبطا بالخصوصية الثقافية الدينية الغربية. إنه تعريف مدين بالكثير للثقافة المسيحية في لباسها الحديث، وهو تعريف اتخذ مقياسا لتحليل ديانات أخرى تخضع لعلاقات مختلفة بالمقدس والشفاعة والمجتمع المحلي. خصوصا إذا علمنا التحول الجذري الذي عرفه تاريخ المسيحية من كونها حقيقة تاريخية لطالما ساهمت في تدبير الشأن العام بقواعدها وضوابطها ومؤسساتها إلى أن غدت حديثا منزوية في دائرة المجال الخاص، وارتدت مجرد معاني رمزية مرتبطة برؤية عامة للوجود يعبر عنها بطقس أو معتقد لا غير.
لذلك فتعريف غيرتز ذاته “نتاج لرؤية ما بعد أنوارية تنظر إلى الدين كظاهرة خفية قادرة على الوجود، مفصولة عن المجال العام، إننا أمام إستراتيجية نقدية لإبراز الخصوصية التاريخية للمفاهيم الكونية بدليل أن التعريف الذي ينهل من المسيحية الحديثة لا يمكن أن يطبق على مسيحية العصور الوسطى أو ما قبل الحديثة”[5]. مما يستدعي البحث في الخطابات والممارسات الدينية انطلاقا من “إمكاناتها ووضعيتها المشروعة والتي ينبغي أن تفسر بوصفها نتاج قوى تاريخية”[6].
يترتب عن هذا المنطلق النقدي أسئلة حول مدى استقلالية الرموز الدينية كأدوات للمعنى؟ وهل بالإمكان الوقوف على حقيقة دلالاتها واستجلاء مقاصدها دون إدخال عامل الضوابط الاجتماعية التي تضمن قراءة صحيحة شاملة؟ كيف يمكن الوقوف على حقيقة التجارب الدينية دون التفكير في الكيفية التي تشكلت بها، وإن تم الادعاء بإنتمائها إلى عالم روحي خاص بها؟
تلك هي المنطلقات الكبرى لهذا النقد؟ فما هي عناصره وهل أسعفته الآليات المنهجية في القراءة الصحيحة والنقد التشخيصي لأطروحة غيرتز حول الدين؟ لندقق مع غيرتز تعريفه للدين قصد استجلاء عناصر النقد الموجه له. فقد ركز أثناء تعريفه للدين على خمسة عناصر عمادها الرموز المقدسة التي تتكفل بإدماج إيتوس (ethos) أي مجموعة من الأمزجة والحوافز القوية الشاملة والدائمة مع رؤية للعالم (Weltanschauung) ممثلة في مجموع التصورات حول النظام العام للوجود، محددة بذلك مجموع الأفكار المتناسقة للطريقة التي ينبغي أن يسلك وفقها الناس، وذلك عبر انسجام بين السلوكات ورؤى العالم. ما نلمسه من هذا التعريف الأهمية البالغة للرمز من خلال قدرته على تخزين المعاني ومضاهاة الواقع بإعطاء معنى معياري لواقع مجرد، وفي قدرته الإشارية سواء إلى شيء أو حدث أو علاقة مع احتفاظه باستقلاليته عن الشيء المشير إليه، مما يحفظ له قوته المتواصلة في نقل التصورات التي هي معاني الرموز.
في المقابل، ومن منطلق الإمكانية التاريخية في تحديد الخطاب والممارسة الدينية، واعتمادا على أطروحة فيجوتسكي عالم النفس، يرى أسد أن الرمز ليس شيئا أو حادثة تحمل معنى، بل الرموز هي مجموعة من العلاقات بين الأشياء والحوادث يحصل تداخل فريد فيما بينها في إطار مفاهيم، معللا ذلك بمثال تعليم اللغة والرموز لدى الأطفال كنتاج لعملية التنشئة الاجتماعية التي من مقتضياتها علاقات اجتماعية، وعليه ليست الرموز ذواتا مستقلة[7] عما تحيل إليه. وقد يرجع بنا هذا إلى أساس التصور الأنثروبولوجي الغيرتزي للثقافة والأنماط الثقافية كمركبات من الرموز وكمصادر للمعلومات خارج حدود الجسم، بخلاف برنامج العالم الوراثي؛ فالأنماط الثقافية تصورات ونماذج تكون تارة من الواقع أو عنه، هدفها موازاته كنظام لا رمزي سابق عنها، وتارة تكون نموذجا لأجل الواقع. يبدو كما لو أن هذه الأنماط الثقافية المتمثلة في الرموز شيء والحياة شيء آخر، مما حدا بأسد إلى اعتبار أن هذا التصور لا يسعفنا في قراءة تصرفات المسيحي المؤمن وتفهم سلوكاته داخل المجتمع الحديث، مستندا في ذلك إلى نقد الفيلسوف الأخلاقي ماكنتاير (remac inty) للكتاب المسيحيين المعاصرين بتصرفاتهم كباقي الناس الآخرين ،إلا أنهم “يستعملون مصطلحات مختلفة في توصيف سلوكاتهم هذه مع إخفاء تمايزهم”[8]، كنوع من المفاصلة الشعورية للمسيحي المعتقد داخل المجتمعات الحديثة، إذ لا تمكننا الأنماط الثقافية من الإمساك بها وكأنها معان خارجة عن الظروف الاجتماعية، ولأن الأمر ليس كذلك، يرى أسد ضرورة الرجوع إلى المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية، فالدليل على عناصر الدين والعبادة ينبغي أن تتفهم على مستوى السلوك الاجتماعي وليس على المستوى الباطني للذوات، لينتقل غيرتز بعد ذلك إلى تلك الروح المتمثلة في الأمزجة والحوافز كمكون أساسي للدين؛ إنهما ليسا أفعالا ولا مشاعر، بل استعدادات نفسية، إذ ُتعطى الحوافز معنى انطلاقا من الأهداف المرجوة كالفعل الإحساني حينما تؤطره غايات إلهية مقابل الأمزجة التي تأخذ معناها من الظروف التي تنشأ فيها كأن تكون مؤصلة في مفهوم خاص بالطبيعة الإلهية.
مقابل هذا التصور يرى أسد أن الدين ليس مجرد استعدادات نفسية تتكفل الرموز بغرسها، وإنما هو خطاب قوة ابتداء من القوانين (إمبراطورية – كنسية) أو عقوبات (نار جهنم – إخلاص– السمعة الحسنة – السلام) إلى النشاطات المنضبطة للمؤسسات الاجتماعية (الأسرة – المدرسة – المدينة – الكنيسة) والأجساد البشرية (الصوم – الصلاة – الطاعات – الكفارات)؛ ليتساءل بعد ذلك عن خصوصية خطاب القوة المحدد لهذه الاستعدادات النفسية المتمثلة في الأمزجة والحوافز، مستندا إلى القديس أوغسطين الذي قدم آراء حول الوظيفة الدينية الإبداعية للقوة بعد تجربته مع الهرطقة والمذهب الدوناتسي، مصرا على أن “الإكراه شرط للوصول إلى الحقيقة، وأن الانضباط شرط للحفاظ عليها”[9]، فعبر منطق القوة والمعاملة الصارمة والمران والتربية، استنادا إلى عنصر الزمن تتحول كل تلك الإكراهات إلى استعدادات نفسية من أمزجة وحوافز، وإلى إرادة، وإلا كيف “سيراهن المجلس الكنسي القديم لعام 1215 على ضرورة الاعتراف السنوي الخاص لكل مسيحي مرة كل عام بطريقة منفصلة بذنوبه، وأن يتعهد بعملية التكفير الكاملة حسب استطاعته، وإذا لم يتم ذلك سيطرد من دخول الكنيسة، ويحرم من الدفن بالطريقة المسيحية بعد موته”[10]، ذلك ليس سوى مثال تقريبي لأشكال عمليات الانضباط التي كانت تقوم بها الكنيسة لتربية النفوس قصد إيصالها إلى استعدادات نفسية معينة من جهة، وغرس حقائق دينية لاهوتية اتجاه الذات والوجود والآخرين من جهة أخرى.
يرى غيرتز أنه إن لم تعمل تلك الرموز على ربط أو دمج تلك الاستعدادات النفسية في إطار تصورات كونية فلن يتحقق البعد الديني، مستدلا على ذلك بالتمييز بين نشاط زهدي موجه نحو غاية جزئية كتخفيف الوزن، والنرفانا كنشاط غير مشروط لارتباطه برؤية كونية للعالم. وهذا ما تتميز به الأنظمة الرمزية في قدرتها على تجاوز الخاص إلى ما هو كوني.
يستقي أسد عناصر الاعتراض على هذه الحقيقة الغيرتزية من تاريخ الفكر الديني الغربي، ومدى انغراس هذه الأنظمة الرمزية في تربتها التاريخية، وذلك بتعدد الخطابات الدينية المحددة حسب الميادين، إما رافضة للممارسات الوثنية أو قابلة لها، يقدم مثال “سلسلة الكتيبات المعروفة بالأدلة التكفيرية أو الثوبة التي عن طريقها فرض الانضباط المسيحي منذ حوالي القرن الخامس إلى القرن العاشر للميلاد، كتحديد للممارسة الوثنية باعتبارها غير مسيحية، كالقسم والحنث أمام الينابيع أو الأشجار، أو أي مكان خارج الكنيسة، أو تناول الطعام لدى الآلهة المحلية وهي ذنوب تستحق العقاب”[11]. فقد ظل هم الكنيسة في القرون الوسطى مرتبطا بالسعي الحثيث لإيجاد خطاب كوني مشروع تتحدد من خلاله الفروقات بين الدين الحق والباطل، بين المقدس والدنيوي، وأن الكلمة الأخيرة كانت تعود لتعاليمها وممارساتها، وليس لاعتقاد الفرد المسيحي، لذلك ظلت الكنيسة تمارس سلطة قراءة الممارسة المسيحية لأجل الحقيقة الدينية؛ في هذا السياق يبدو “أن كلمة هرطقة كانت تحيل في البداية إلى جميع أنواع الأخطاء بما في ذلك الأخطاء اللاشعورية التي تشمل بعض الأنشطة (simoniaca heresis)، إلى أن وصلت إلى معناها الحديث (الصياغة اللفظية للرفض أو الشك في أي معتقد معرف من طرف الكنيسة الكاثوليكية) داخل مسار الجدالات المنهجية للقرن السادس عشر”[12]. ما نستشفه أن الكوني يتحدد انطلاقا من سيرورة ُتفرض من خلالها الخطابات ذات الصلاحية المشروعة التي تستطيع ادعاء التفسير الكوني، ويُعترف لها بالتجذر الديني بشكل منظم.
إذا كان غيرتز يرفض تعريف الدين كممارسة تقليدية أو عواطف تحيل إلى قضايا وعظية أخلاقية، أو اختزاله في اعتقاد بوجود كائنات روحية كما فعل تايلور، فإنه، ولإزالة هذا اللبس، يرجع إلى مفهومه الأنثروبولوجي للثقافة، إذ بدون هذه الأنماط الثقافية المتمثلة في تدخل “الرموز التي تخص فلسفتنا ونظرتنا الى الكون weltanschauunng، ومقاربتنا للحياةlebensanschauungi”[13]، سيصبح الكون كتلة فوضوية من الميولات والعواطف غير المحددة.
لكن ما حقيقة هذه الفوضى التي تستدعي تدخل تلك الرموز؟ يجيبنا غيرتز بأن هناك “أحداث مشوشة مفتقرة ليس الى التفسير فحسب بل وإلى قابلية التفسير أيضا تهدد باقتحام مجال الانسان على أطراف قدراته التحليلية، وعلى أطراف طاقاته على التحمل، وعلى أطراف الاستبصار الأخلاقي لديه”[14]، ولذلك فالتشويش مرتبط بثلاث معضلات:
الأولى: مشكلة التفسير أمام الحيرة والإرباك، حيث يرى غيرتز أن دور الدين والأنظمة الرمزية هي وضع التجربة الإنسانية العادية في سياق دائم من الهم الماورائي لأجل رفع الشكوك الغامضة والواقعة في العقل.
الثانية: تخص الألم والمعاناة، فتأكيدا لأطروحة نادل (Nadel) أنه إن كانت الديانات قد تسببت في الإزعاج أكثر من السعادة، فإن غيرتز يستثني المسيحية، إذ تعلمنا قصة الفتاة، التي ماتت كل عائلتها، في علاقتها مع الآلهة ليزا (leza)، أن الدين لم ُيجعل لتجنب المعاناة ،بل هو طريقة وأسلوب في المعاناة، أي كيفية التعايش معها والقدرة على تحملها، فمشكلة المعاناة تهديد مستمر لقدراتنا على تنظيم عواطفنا وأحاسيسنا تماشيا مع الألم مما ينقلنا إلى المعضلة.
الثالثة: المرتبطة بالمفارقة الأخلاقية، والتي تقحمنا مباشرة في مشكلة الشر. ما تقوم به الأنظمة الرمزية في تصور غيرتز أنها لا تنكر هذه الأحداث المستعصية بقدر ما تقوم بوصل دائرة الوجود الإنساني الذي يعرف مشكلة المعنى من حيث “أحاسيس العجز التحليلي والعاطفي والأخلاقي”[15] بدائرة أوسع ابتغاء التنفيس وحصول الاطمئنان.
يرى طلال أسد أنه في الوقت الذي يشخص فيه غيرتز المآلات الوظيفية للمسيحية الحديثة من خلال إثبات الدور الرمزي الذي يمكن أن يلعبه الدين أمام هذه الفوضى والقلق الأنطولوجي بجعل العالم مستساغا وقابلا للتفسير والتبرير والتحمل؛ نجده يعلن عن هامشية الدين في المجتمعات الصناعية الحديثة على غرار تصور كارل ماركس باعتباره وعيا مفصولا عن الواقع وخارج عن علاقات الإنتاج باعتباره لا ينتج معرفة بقدر ما يعبر عن حرية المستلب وتعويضه بشكل ضبابي المعالم[16]. إذا ما استثنينا وضعية المسيحية الحديثة، فهل يصدق هذا الوصف على باقي الأديان داخل المجتمعات الأخرى؟ يرى غيرتز أن الانفلات من “قلق الفوضى” رهين باعتقاد المتدين في وجود نظام أساسي يتجاوزه. ولذلك فالمنظور الديني “يتحرك فيما وراء وقائع الحياة اليومية إلى وقائع أوسع تصححها وتكملها”[17]. إذ تعمل الأنشطة الرمزية الدينية على تكريس المنظور الديني بإنتاجه وتكييفه بل وتحقيق قدسيته أو تحريمه، وهو أمر موكول للطقوس الدينية، يستدل غيرتز على هذه العلاقة من خلال تأويله لطقس مسرحي يدعى “رانغدا وبارونغ”، وقد رأى بنفسه كملاحظ “كيف أن ممثلات يقمن بلعب دور رانغدا العجوز الشريرة يرمين بأنفسهن أو يركضن هائجات مسعورات”[18]. ليخلص إلى حقيقة أهمية الطقوس الدينية في تأكيد وجود عالم حق، إذ بفضلها يتم انتشال المتفرج من العالم اليومي الاعتيادي إلى العالم الحقيقي، وما حالة الغشيان التي يصاب بها بعض الحضور إلا دليل على أنهم أصبحوا جزءً من حقيقة الرموز المتضمنة في الطقوس المسرحية.
لذلك لا تشكل الطقوس نماذج لما يعتقد الناس فحسب، بل هي نماذج لتحصيل الإيمان أثناء تمثيله؛ إنها تولد قناعة تطابق المفاهيم الدينية للواقع حيث تقوم الأنشطة الرمزية “بصهر العالم المعيش بالعالم المتخيل”[19]. في هذا السياق يتساءل أسد حول مدى الإمكانية الوظيفية للطقوس في تكريس الاعتقاد الديني داخل وضع درامي حيث يبلغ الناس مستوى إيمانيا كما يتصورونه[20]، فانطلاقا من تصوره لتراجع الديني في المجتمعات الحديثة الغربية، ما الذي يجعل المشارك يأخذ الأشكال الرمزية بتلك الطريقة المؤدية إلى الاعتقاد الديني، خصوصا إذا كان المنظور الديني باهتا؟ فالطقوس ليست إنجازات مقدسة في ذاتها، بل ينبغي التركيز على النشاطات الانضباطية في أشكالها المؤسساتية للمعرفة والممارسة التي في سياقها تشكلت واستقرت الاستعدادات التي من خلالها يتم الوصول إلى الحقيقة، في هذه الحالة لن يكون الطقس مجالا لبلوغ الإيمان بل مجالا يتم فيه ممارسة الإيمان وتأكيده.
من النقد المنظوري إلى بعض محددات التعريف
حاول أسد تبيان تهافت ادعاء الكونية المركزية في تعريف غيرتز للدين، نظرا لتجذرها في الخصوصية الثقافية للمسيحية الغربية الحديثة التي ارتدت مجرد معاني رمزية مرتبطة برؤية عامة للوجود يعبر عنها بطقس أو معتقد أو بهما معا، وذلك بنسجه منظورا مضادا يمتح تصوراته للدين من مرحلة العصور الوسطى. ولما كانت الرموز شأنا مرتبطا بالممارسة الإنسانية فإنها ستظل تحت رحمة القوى التاريخية المنتجة لها باستمرار حسب جدلية مطلب الحقيقة وإمكانات القوة، ولعل انكباب أسد على صياغة خطاب مقابل لتعريف غيرتز قد شغله عن افتحاص الآليات النظرية لإنتاج التعريف الغيرتزي، وقد تتوضح بعض خطوات هذا المطلب بشكل جلي إذا ما عمدنا إلى مقارنة بعض عناصر التعريف الغيرتزي مع تعاريف ماكس ڤيبر خصوصا وأنهما يلتقيان في ترجيح كفة البحث في المعنى والدلالة ونظام القيم، آخذا بذاك صبغة العلوم المتفردة (Idéographique) عوض الشرح السببي عبر بناء القوانين، كما هو حال العلوم المعممة (Nomothétique)، فما هي محددات التعريف الغيرتزي للدين؟
لئن اتفق غيرتز مع ڤيبر على أن الإنسان كائن عالق في شبكة من المعاني التي نسجها بنفسه، والتي تستلزم البحث عبر علم التفسير، فإنهما يختلفان في طريقة بناء تعريفاتهما، بالنظر إلى المحددات النظرية. فمن أجل الوصول إلى فهم ثابت للحقيقة الإنسانية، يرتكز غيرتز على الشفرات الوراثية في عالم البيولوجية، ذلك أن أساس تعلمات الحيوان ارتكازه على معلومات مشفرة في جيناته الوراثية، علما بخضوعه لمنطق المثير والاستجابة. هكذا يستند الفعل البشري من حيث التنظيم على مجموعة من “التعليمات المشفرة أو المخططات التفصيلية (blueprint)”، والتي تشكل منارا يهتدي بها الفعل بنقله من القدرة الفطرية إلى القدرة الثقافية[21].
هناك خيط رفيع في نظر غيرتز يفصل بين عالم الحيوان وعالم الإنسان متجليا تارة في تصورات أو نماذج مبنية عن الواقع بتمثيله وجعله قابلا للاستيعاب، وتارة في نماذج لأجل الواقع عبر وضع وصفات وتعليمات متبعة بالتركيز عليه انطلاقا مما نعبر عنه داخل الأنظمة الرمزية. لذلك فسر ادعاء التعريف الكوني للدين استنادا على الثقافة اعتبار العمليات المبرمجة وراثيا على درجة عالية من التعميم عند البشر، وما يميزها هو حضور التصور المتمثل في المصدر الرمزي الذي هو خاصية إنسانية[22]. على هذا الأساس قدم غيرتز تعريفه للثقافة كنظام متراتب من المعاني والرموز، يُعرِّف الأفراد من خلالها عالمهم ويعبرون عن مشاعرهم ويصدرون أحكامهم؛ فالتعرف على شيء أو حدث أو فعل هو وضعه على خلفية رمز مناسب. لتصبح المهمة مخولة للنماذج الثقافية كبرامج توفر قوالب أو مخططات لتنظيم العمليات الاجتماعية والنفسية بشكل يشبه كثيرا توفير الأنظمة الوراثية لتنظيم العمليات العضوية.
بخلاف ذلك، يستلهم ڤيبر محدداته النظرية وتصوراته من الكانطية الجديدة نختزلها في ثلاثة عناصر:
وحدة الوعي : حيت تقوم الذات العاقلة بجمع المعطيات الحسية عبر الإدراك الحسي لتحويلها إلى معقولات.
الذات كقوة عقلية : اعتبار الفكر وحده كفيلا بإنتاج موضوعاته سواء كانت علمية داخل عالم المعرفة أو أخلاقية داخل عالم الفعل أو حسية داخل عالم الفن، إذ يتخذ الوعي صبغة عضوية تلقائية، إنه قمة التعبير عن الاستقلالية الكبرى للعقل[23].
العقل كذات أخلاقية : ذلك أن العقل جوهر وسند الذات الأخلاقية. وقد عبر ريكرت Rickert عن ذلك بمقولته: “أن تعرف يعني في العمق أن تقوم بتقييم”. أضحى العقل قوة نافدة داخل آليات الإنتاج الڤيبري جسده في مفهوم “النمط المثالي” كقدرة على انتقاء المعلومات والمعطيات حتى تتيسر عقلتنها؛ من هذا المنطلق نجده يُعرِّف الثقافة: “أنها من وجهة رؤية الإنسان كخط مستقيم متناه يقوم الفكر باستثماره من حيث أهميته ودلالته بالنسبة لمآل العالم اللامتناهي والغريب عن كل دلالة”[24]. إذ بخلاف تعريف غيرتز يخفي هذا التعريف منهج العقلنة، “فرغم محدودية العقل أمام لانهائية الوقائع نجده يقوم بانتقائها وعزلها وتجريدها، فليست مهمة العقل اكتشاف الوقائع وإنما هدفه إعطاؤها دلالة من خلال ربطها بقيمنا الفكرية”[25]، لتصبح الواقعة الاختبارية ثقافة في أعيننا بربطها بأفكار قيمية علما أن التحديد الثقافي عند ڤيبر متعلق بالمعنى الذي يعطيه الفاعل لفعله.
ولما كان ڤيبر مهتما بآثار الأخلاق الدينية البروتستانتية على نمط الحياة الحديثة، فقد جعل موضوعه الأساسي هو الفعل، فوراءه يكمن الوجود الإنساني، وأن الرموز الدينية مظهر لهذا الفعل. في المقابل يبدو أن غيرتز أقل اهتماما بالجانب العملي منه بالجانب السيميائي لعوالم الحياة، حيث ظل ينظر إلى الثقافة كمورفولوجيا الأشكال الرمزية عوض كونها مجال للتفاعلات ومن خلال تحليلها كتعبير معنى رمزي عوض كونها نتاج قضايا عملية[26]، لذلك انحصر منهجه الفينومينولوجي في تعقب حقيقة الفعل الديني كتمثل للواقع الاجتماعي. وإذا كان ڤيبر معنيا بما أحدثه الدين من تحول في الحضارة فقد أعطى للفهم (Verstehen) خاصية موضوعية عملية بجعله حلقة مركزية يتقاسمها التأويل من جهة المعنى والتفسير من جهة السبب، علما بأن السببية في الظواهر المتفردة إسناد وليست إخضاعا لقوانين. في حين ظل غيرتز ينظر إلى الحوافز باعتبارها مجرد استعدادات نفسية.
يؤدي بنا هذا إلى نقطة أخرى يتقاسمها كل من غيرتز وڤيبر تخص مشكلة المعنى المرتبطة برؤية العالم كعجز تحليلي عاطفي أخلاقي، وذلك عبر صيانة نظام حقيقي يتولى شرح أسباب نقاط الغموض وتناقضات التجربة الإنسانية وأحيانا الاحتفاء بها[27]، من خلال التدخل القوي للرموز في عملية وصل دائرة الوجود الإنساني بدائرة أشمل تبتغي الاطمئنان أو ما عبر عنه بول ريكور (Paul Ricoeur) بجدل الأخلاقي والكوني بتمكينه مرة أخرى من الفهم وجعل الحياة قابلة للفهم. فبخلاف غيرتز الذي أهمل الجوانب العملية في علاقتها بإنتاج المعنى ناظرا إلى الحل الديني كتذويب للعالم العادي في عالم حقيقي أشمل، نجد ڤيبر قد اهتم بالوجه العملي لهذا المشكل اللاهوتي حيث يرى أنه “بالاعتقاد في العناية الإلهية نلفي العقلنة الدينية تصورا معارضا للفكر السحري، وهو تصور هيمن على جميع الديانات السماوية الموحدة سواء الشرقية أو الغربية”[28]. تكمن أهمية هذه الرؤية العقلانية للعالم والمتضمنة داخل هذا المفهوم من خلال تجاوزها لمسألتين أساسيتين بصدد مشكل الألوهية.
الأولى : تجاوزها لثنائية قوة الإله وجلاله وقدسيته من جهة، والنقص الأخلاقي للمخلوقات من جهة أخرى.
الثانية : تجاوزها للثنائية الروحية التي تشطر الكون إلى عالم النور وعالم الظلمات.
أيضا مفهوم الجزاء، يقول ڤيبر: “لقد أصبحت الأشياء تحمل معاني ودلالات، بما في ذلك اللاعدالة أو العوز في هذا العالم، حيث تصالحت الرغبة في الانتقام مع اللاعدالة الموجودة في هذا العالم، ولذلك فإن النار هي الجزاء لأجل غير مسمى، كما أن الثواب الأبدي والهناء محتفظ به للإنسان التقي”[29]؛ هكذا ستنقلب كفتا المعادلة غير المتساوية (عدالة الإله في مواجهة مظالم العالم والفوضى الاجتماعية) كعلامات غير نهائية داخل النظام الكوني للعدل الإلهي، خصوصا وأن الجزاء مرتبط بمفهوم الآخرة التي وعدت بها الديانات النبوية، وهو مفهوم “لم يكن معروفا لدى الديانات الأخرى باستثناء المسيحية وبعض الاعتقادات الزهدية”[30].
حدث نوع من الاستقلالية الموضوعية للعالم مع تعليق معناه عن كل ذاتية إلاهية، عبَّر عنها مارسيل غوشي بأن “إقامة المسافة مع إلاله جعلت العالم قابلا للمعقولية”[31]، مشكلة بذلك إرهاصات عقلنة السلوك الديني انطلاقا من رؤية أخلاقية معينة، وقد تغير المعنى بأن وجد الفرد نفسه متحكما في مآله. ولأن المسألة مرتبطة بمقتضيات عملية، سيعاد طرح مشكل المعنى داخل المجتمعات الحديثة أثناء مقارنة المنظور الديني لدى غيرتز مع الدائرة الدينية عند ڤيبر؛ فقد أقر غيرتز إمكانية تجسيده بارتدائه حلة واقعية تمنحه إياها الأنظمة الرمزية الدينية محققا بذلك واقعا قائما بذاته يستجمع كل مواصفات القدسية والواجب والتحريم أمام العالم الدنيوي؛ في المقابل نجد ڤيبر ونظرا لاستشكاله سيرورة العقلنة الدينية؛ يعتبر الدائرة الدينية في المجتمعات الغربية الحديثة غير قادرة على تشكيل واقعية تدمج روح الجماعة برؤية العالم نظرا لابتلاعها من طرف الاجتماعي، وقد اخترلها في مفهوم فقدان المعنى والتي تصل إلى افتقاد قبول الدين على مستوى التجربة الإنسانية[32]، وما يعنيه من اهتزاز بنية المنظور الديني ككل. مع ذلك، لعل الدلالات الرمزية للنقاش الأخلاقي الراهن حول الإجهاض والولادة في الغرب أو حقوق الديانة في السياسات، أو بروز حركات دينية منضبطة لدليل على هذا الأدب المنبعث والمتزايد برغم الحضور المتفوق للعلم والتكنولوجيا كأساس الحياة الحديثة[33] في دفع الناس داخل المجتمعات الغربية نحو التفكير في الدين.
خلاصة :
صحيح أن التعريف الأنثروبولوجي للدين لدى كليفور غيرتز نتاج لظروف تاريخية ونظرية، إذ لا عقل فوق التاريخ ولا إنتاج نظري خارج الممارسة الإنسانية كما عبر عن ذلك أنطونيو غرامشي، لكن إحدى عناصر كونية هذا التعريف هو البحث عن المشترك الإنساني من جهة، وكونية الخطاب البيولوجي من جهة أخرى، والمتمثل في برنامج يسهر على نقل المعلومات وتوارثها بيولوجيا والتي هي رموز ثقافية إنسانيا. من هذا المنطلق لم يكن غيرتز معنيا بخطاب متفرد للدين أو لمستويات عقلنته.
[1] كليفورد غيرتز، تأويل الثقافات، ترجمة محمد بدوي، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2006، ص 149.
[4] نفسه، ص 227. بتصرف بالمقارنة مع النص الأصلي:
Clifford Geertz, The Interpretation of Cultures: Selected Essays, New York, Basic Books, 1973, p. 90.
[5] Peter Van Der Veer, The modernity of religion in Research center for Study Religion and Society, University of Amsterdam, October 1995, p. 367.
[6] Talal Asad, Genealogies of Religion: Discipline and Reasons of power in Christianity and Islam,Baltimore/London, The John Hopkins University Press, 1993, p. 53.
[25] Bennion Lowell, Max Weber’s Methodology, thèse de doctorat de l’université de Paris, la Presse Moderne, 1993, p. 167.
[26] Tarrot Camil, « symbolisme et définition de la religion selon Geertz », in Clifford Geertz,Interprétation et culture, sous la direction de Lahouari Addi et Lionel Obadia, Editions des archives contemporaines, 2010, p. 112.
[28] Max Weber, Economy and society. An Outline Interpretive sociology, Edited by Guenther Roth and Claud Wittich, University of California, London, 1978, p. 523.
[29] Max Weber, « Morales économiques des grandes religions. Essais de sociologie religieuse comparée », in Archives de sociologie des religions, Janvier-Juin 1960, p. 15.