محمد أعفيف، أصول التحديث في اليابان 1568-1868، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2010.
صدر في2010 عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، مؤلف لمحمد أعفيف وعنوانه أصول التحديث في اليابان 1568-1868. وقد اختار الباحث أصعب الطرق، لأنه لم يعالج التحديث كظاهرة في خصوصياتها اليابانية والتي تناولها عدد من الباحثين العرب وغير العرب، والذين أجمعوا على أن اليابان استطاع في وقت قصير لا يتعدى نصف قرن من الزمان أن يستوعب مقومات النموذج الأوربي المتقدم، وأن يحقق “المعجزة” على يد أسرة ميجى في 1868؛ بل انطلق من منطق المؤرخ ليغوص في أعماق تاريخ وحضارة اليابان، قصد استخراج الشروط والأسباب القريبة والبعيدة التي هيأت اليابان في نهاية القرن 19 للانخراط في حركة تحديث عجز غيرهم عن تحقيقها. وكان المؤلف مقتنعاً أن دراسة التجربة اليابانية، لا يجب أن تدرس من منظور أوربي ولا أن تحلل بمعايير التاريخ الغربي، بل يجب أن تدرس في إطارها التاريخي الخاص، وأن تحلل من خلال المفاهيم التي طورها اليابانيون أنفسهم.
يقع الكتاب في 574 صفحة، وينقسم إلى قسمين رئيسين يضمان ثلاثة عشر فصلاً: خصص الباحث القسم الأول لعصر توكوغاوا، المجتمع ومؤسسات السلطة، وتناول في القسم الثاني، بوادر التحديث. وصدر مؤلفه بخلاصة ومقدمة وبفصل تمهيدي بعنوان: أرخبيل اليابان، المجال والإنسان والمسار التاريخي. والملاحظة التي تسترعي باهتمام القارئ، كثرة المعلومات التي تتعبه وقد تبعده أحياناً عن تتبع الإشكالية المركزية. لاشك أن الباحث كان يهدف من ذلك، تقريب القارئ العربي عموماً والمغربي على الخصوص من تاريخ بعيد عنه نسبياً، لأجل ذلك نجده يطيل أحياناً في قضايا تتعلق بالمؤسسات أو بالمجتمع الياباني(1) ، أو بثقافته، فيرجع بالنسبة لكل مستوى من مستوياتها إلى عصورها المؤسسة والتي لا تنتمي بالضرورة إلى الحقبة نفسها أو المجال نفسه، ويقوم بتركيب ما حلله على شكل قضايا وأطروحات، شكلت الإطار الأساسي لفهم الوقائع التاريخية، ومن ضمنها عصر الميجي.
الأطروحة التي يدافع عنها الباحث هي أن إصلاحات الميجي لم تشكل طفرة أو تطوراً مفاجئاً منقطع الصلة مع العهود السابقة، بل جاء نتيجة تطورات عرفتها اليابان على الأقل منذ ثلاثة قرون كاملة سبقت عهد الميجي أي منذ منتصف القرن 16، وهو عصر توكوغاوا(2) والذي يشكل موضوع الدراسة، ويعتبره المؤلف القاعدة الأساس للتحديث. غير أن دراسة عصر توكوغاوا، لم تمنع المؤلف من الوقوف عند المجال، والمرجعيات الثقافية، والتطورات التي عرفتها اليابان قبل القرن السادس عشر، وقد شكلت التمهيد الذي اعتبره الباحث ضرورياً لفهم تاريخ الفترة المدروسة، ولكن انطلاقاً دائماً من سؤال التحديث.
توقف المؤلف في هذا التمهيد عند المحدد الإيكولوجي الذي أكسب اليابانيين تفرداً وارتباطاً قوياً بالمجال وصل إلى حد التقديس، وساهم في خلق ملامح الشخصية اليابانية التي تتميز بالانضباط والصرامة وبالحس المرهف. كما أن المجال الإيكولوجي الصعب الاختراق بسبب الجبال، جعلها لا تخضع لنظام مركزي قوي، وتنفرد بنسق فيودالي اعتبره الكثير عاملاً مساعداً على انتقال اليابان إلى الرأسمالية بسرعة أكثر من الدول التي لم تعرف هذا النظام. إلى جانب المحدد الإيكولوجي، هناك العامل الديني، حيث لم تخضع اليابان لديانة صارمة تقيد حرية الإنسان، وتشكل عائقاً أمام الإصلاح. والعامل الثالث الذي توقف عنده الباحث، هو الانفتاح على الحضارة الصينية، وذلك منذ عصور ما قبل التاريخ. وعنها أخذ اليابانيون الكثير (الديانة البوذية والكنفوشية، ونظم الإدارة والحكم، ورموز الكتابة وفنون الشعر، والعمارة…) وطبعوه بصبغة محلية.
عالج المؤلف في القسم الأول من دراسته، العناصر الفكرية والاجتماعية والمؤسسية لعصر توكوغاوا، وتناول فيه المعتقدات والأفكار الكنفوشية والمجتمع، مركزاً فيه على دور الأسرة وعلى التراتبية في أصولها العقيدية، وعلى مختلف فئات المجتمع من نبلاء البلاط والساموراي والفلاحين وسكان المدن. ثم انتقل إلى مؤسسات السلطة والإدارة بجميع مستوياتها من المؤسسة الإمبراطورية إلى الأجهزة الإدارية. وتناول في الأخير سياسة العزلة التي تبنتها اليابان منذ العقد الرابع من القرن السابع عشر تمثلت أساساً في حظر الديانة المسيحية وطرد المبشرين والتجار البرتغاليين والإسبان، وإغلاق الأبواب في وجه الغربيين باستثناء الهولنديين الذين كانوا يهتمون أساساً بالتجارة. غير أن هذه العزلة لم تكن تامة، وكما أنها شكلت عاملاً مساعداً على تحصين الذات.
والمثير في هذا القسم، الأدوار التي لعبتها الكنفوشية في الانضباط، فمن الكنفوشية يستمد الإمبراطور قُدْسيته، وبالتالي بقاءه قرابة ألفي سنة. ومبادئ هذه الديانة هي التي تبناها الحكام كإيديولوجية وكوسيلة للحكم بطريقة سلمية، وهي التي تضبط العلاقات الاجتماعية والأسرية والتي تعزز على أساسها مبدأ التراتب وتصنيف المجتمع إلى فئات.
والنقطة الثانية التي استوقفتني، تتعلق بالوضعية المتدنية للمرأة، وذلك على الرغم من توليها للعرش الأمبراطوري 8 مرات من أصل 125 أمبراطور. وهذه الوضعية الدونية تكرست مع عصر التوكوغاوا، على الرغم من أنه كان يوصف ب”Kinsei”(3). حرمت المرأة منه الإرث، واستغلت في تعزيز الأحلاف بين أسر الساموراي، واستغلت كذلك في بيوت الدعارة، ووضعت في أسفل تراتب الأسرة، وكان عليها طاعة الزوج والإخلاص له، وذلك استناداً للتعاليم الكنفوشية. ومع ذلك لم تكن محرومة من التعليم، حيث كانت تحصل على قدر من القراءة والكتابة والحساب وذلك في مدارس خاصة “مدرسة المعبد”، وكما وُفِّرت لها كتب مدرسية، ولكنها كانت تركز على التربية النسوية. وقد ظل هذا الحيف يلحق بالمرأة حتى الحرب العالمية الثانية، ولم تحصل على كامل حقوقها إلا في دستور 1947 والذي وضعها على قدم المساواة مع الرجل، غير أن هناك فرق بين الجانب القانوني والواقع، حيث ظل الحيف يلاحقها.
تطرق المؤلف من القسم الثاني إلى بوادر التحديث في عصر توكوغاوا، فأين تتجلى؟
تميز هذا العصر بالأمن والاستقرار وذلك بعد قرن من الحروب الأهلية، وقد واكب هذا الأمن تطورا اقتصاديا في القطاعات الاقتصادية الحيوية وخاصة في قطاع الزراعة الذي ظل عماد الاقتصاد الياباني قبل عصر الميجي، حيث جرى استصلاح الأراضي واستعملت عدة تقنيات للري تتلاءم وطبيعة البلد، وأدخلت أنواع من الأسمدة الطبيعية كدقيق السردين المجفف، فتضاعفت المساحات المزروعة، وتنوعت المنتوجات وزاد الإنتاج ولا سيما إنتاج الأرز، وكما تطور قطاع التعدين الذي كان يشكل المصدر الأساسي في المبادلات الخارجية وفي حجم التجارة الداخلية، وكما ازدهرت صناعة الأنسجة الحريرية، ومما تحقق في هذا المجال، احتكار السلطة المركزية لضرب العملة، والعمل على توحيدها في كل أنحاء اليابان.
وكان أهم مؤشر على النمو الاقتصادي، تزايد عدد السكان بطريقة سريعة وغير مألوفة في تاريخ اليابان. فخلال عصر توكوغاوا انتقل عدد السكان من 12 مليون في مطلع القرن السابع عشر إلى حوالي 32 مليون في منتصف القرن التاسع عشر. وقد ركز المؤلف – اعتماداً على دراسات حالية ولا سيما يابانية – على عامل “ثقافة الطعام أو المائدة” والتوازن في الغذاء اليومي لدى الفرد الياباني والذي يرتكز على الأرز والسمك وحبوب الصويا والخضر المسلوقة وتقل فيه نسبة الذهنيات (ص 350). وهناك ظاهرة مثيرة في تاريخ اليابان الديموغرافي في عصر التوكوغاوا، وتتجلى في الممارسة الطوعية لتحديد النسل بطرق مختلفة، منها وأد الأطفال من قبل بعض أسر الفلاحين.
ومن الظواهر البارزة في المجتمع الياباني، ظاهرة التمدن وتنامي سكان الحضر بطريقة سريعة وغير مسبوقة في تاريخ اليابان، وهي ظاهرة انفردت بها اليابان عن باقي المجتمعات الآسيوية والشرقية. وتعتبر مدينة إيدو عاصمة الشجون أول مدينة في العالم تتخطى عتبة المليون في العصر الحديث.
ومن أهم العوامل التي ساعدت على التحديث، توافر بنية تحتية من خلال المواصلات ولا سيما شبكات الطرق التي ساهمت في الإسراع بإصلاحات الميجي، خاصة وأن مسارات الطرق كانت الأساس في وضع خطوط السكك الحديدية في اليابان في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. وقد حظيت هذه الطرق بعناية خاصة في عهد توكوغاوا من حيث النظافة والصيانة، وهي طرق واسعة ومعبدة ومرصفة ومجهزة بقنوات صرف المياه، وتعتبر القناطر من المنشآت الرئيسية المقامة على شبكة الطرق. وأهم ما ميز هذه الطرق كثرة المحطات التي كانت تقوم بعدة أدوار منها تأمين النقل، والمراقبة إلى غير ذلك. وقد وضعت تحت الإدارة المباشرة للسلطة المركزية، وبذلك شكلت أداة إضافية لتعزيز الحكم المركزي.
ويبقى التعليم أهم عامل لركوب الحداثة. وقد لعب عصر التوكوغاوا دوراً أساسياً في وضع الأسس والبنية التحتية التي استغلتها النهضة التعليمية في عصر الميجي وما بعده، حيث حظي هذا القطاع برعاية السلطة سواء على الصعيد المركزي (الشجون) أو المحلي (الهانات)، ولكنه ظل تعليماً نخبوياً، موجهاً أساساً إلى فئة الساموراي. لذلك ظهر تعليم مواز للعامة كانت انطلاقته بمبادرات خاصة وأعمال تطوعية وخيرية لأبناء التجار والصناع والفلاحين.
ومن مظاهر التغيير في المجال العلمي، التطور النوعي والكمي للمناهج التعليمية ومسايرتها للحاجيات والمستجدات. ولقد وصلت نسبة العارفين بالقراءة والكتابة في 1864 إلى 40% بالنسبة للذكور و10% بالنسبة للإناث. وكما تميز عصر التوكوغاوا بميزتين أساسيتين هما فصل التعليم عن المؤسسات الدينية، والأخذ بمبدإ الاستحقاق.
وفيما يخص تعامل اليابانيين مع ثقافة الآخر، فقد تميزت بالبراغماتية، حيث سعوا إلى اكتساب المعارف الصينية ابتداء من القرن الخامس، وفي القرن 18 تبين لهم أن الثقافة الغربية أفيد، لذلك عملوا على اكتسابها، وتأقلمها مع الذات اليابانية. ولعل ما يمكن استخلاصه يؤكد المؤلف هو عدم شعور اليابانيين بالاستعلاء تجاه ثقافة الغير، وفي ذلك يختلف عما ساد لدى العرب المسلمين في القرن 19 والذين اعتبروا أنفسهم أصحاب حضارة عريقة، وينظرون نظرة استعلاء إلى ثقافة الغرب.
ومن الأمور المجددة التي جاء بها الباحث، هو إبرازه لأهمية الكتاب عند اليابانيين وسعيهم إلى المعرفة. ومما يدل على ذلك تزايد عدد دور النشر التي وصل عددها إلى 2000 دار في نهاية عصر التوكوغاوا. هذا بالإضافة إلى تطور الطباعة التي لم تبق حكراً على المعابد، بل اتخذت أبعاداً تجارية، وأصبحت تهتم بجميع أصناف المعرفة.
وواكب الرخاء والازدهار والتوسع الحضاري ازدهار الأدب والشعر والرسم والمسرح والموسيقى ومختلف فنون الفرجة بين سكان المدن الكبرى، ولم تبق هذه الحركة الثقافة مقتصرة على الساموراي والشجون والدايميو، بل شملت فئات كانت مغيبة عن المجال الثقافي، وبذلك ظهرت ثقافة شعبية “ثقافة تشونين” (ص. 456) وتعددت مجالات إبداعاتها.
وكما تميز عصر توكاغاوا بظهور أحياء المتعة “حي اللهو أو مدينة الحب”(ص. 460)، وقد أصبحت معترفاً بها ومرخصاً لها منذ القرن 16. ولم تكن هذه الأحياء مجمعاً لبيوت الدعارة بل شكلت أحياء تستعرض فيها جميع ضروب الترفيه ومستجدات الغناء، ومستحدثات الأزياء وتصفيف الشعر والماكياج. وكما كانت تدور حولها مستجدات إبداعات الشعراء والقصاصين والمسرحيين. وكانت العاملات في هذه الأحياء تتمتعن بثقافة راقية تشمل الشعر والعزف على الآلات الموسيقية.
في ختام هذه القراءة يمكن استجلاء الملاحظات التالية:
يتميز الكتاب بالجدة والجدية، وقد نحا المؤلف نحواً يخالف الدراسات العربية التي ركزت على عصر الميجي، حيث اهتم بالثلاثة قرون السابقة لهذا العصر، والتي هيأت اليابانيين لينخرطوا في التحديث. هل كان المؤلف سباقاً إلى هذا الطرح أم أنه استقاه من دراساته المتنوعة ولا سيما الدراسات الأنجلوسكسونية؟
ويمكن اعتبار أصول التحديث في اليابان كتاب تاريخ عام عن اليابان حتى عصر الميجي. ولكن المؤلف ركز على إيجابيات عصر التوكوغاوا، وأهمل سلبيات الفترة، منها قمع الفرد وإخضاعه لنظام أبوي صارم، والتنقيص من وضع المرأة…
والملاحظة الأخيرة، تتعلق بالمقارنة. حاول المؤلف أن يقيم مقارنة مع أوربا وبعض بلدان آسيا ليقرب القارئ من الأحداث، ولكن هذه المقارنة قد تفضي إلى انزلاقات لأنها تتطلب من الباحث الإحاطة بتاريخ البلد المعني وبتاريخ الفضاءات الجغرافية الأخرى، وقد حاول المؤلف أن يتخذ كل الاحتياطات حتى لا يسقط في الفخ.
لقد بذل أعفيف مجهودات جبارة قصْد تقريبنا من عالم نسمع عنه الكثير، ونجهل الكل، وبالتالي يكون قد فتح ورشاً عن تاريخ آسيا، ونتمنى أن يهتم الباحثون الشباب بتجارب أقطار آسيوية أخرى.
الهوامش
1) – خصص المؤلف ما يزيد على 50 صفحة (من ص. 165 إلى 208) لتناول الفئات في عصر التوكوغاوا.
2) – نسبة إلى أسرة الساموراي التي حكمت طيلة هذه القرون الثلاثة ويُعرف عصر التوكوغاوا كذلك بعصر إيدو، نسبة إلى العاصمة التي اتخذتها شجونة التوكوغاوا عاصمة لها، سيراً على النهج التقليدي الياباني في التحقيب بنسبة العصور التاريخية إلى العواصم. راجع ص. 20 من مؤلف أصول التحديث في اليابان.
3) – ترجم هذا المصطلح في الكتابات الموضوعة عن اليابان باللغة الأنجليزية بـ Early modern أي التحديث المبكر
المشكل العويص الذي يجعل المغرب يحتل مراتب متدنية في مجال البحث العالمي هو قلة الإبداع، في الغرب يدشّن الباحث الشاب مستقبله العلمي بعد حصوله على الدكتوراه إنطلاقة جديدة وقوية في مسار بحثه الجامعي في المقابل نجد في المغرب أن الباحث لايحصل على الدكتوراه إلا بعد أن يقترب من سن التقاعد ويكثر على عمله المزيد المزيد من الكلام وهو في الأصل لاينتج شيئا