رشيد بنحدو، جمالية البين- بين في الرواية العربية، منشورات مؤسسة نادي الكتاب بالمغرب،2011
يندرج كتاب جمالية البين- بين في الرواية العربية للناقد المغربي رشيد بنحدو ضمن اهتمام قديم يعرفه، ويتابعه جيداً، قراء هذا الناقد والمترجم المُجيد، الذي التصق اسمه بترجمة ودراسة الرواية المغربية المكتوبة باللغة الفرنسية، وخاصة روايات الطاهر بنجلون، التي ترجم بنحدو معظمها، واستحق عليها متابعة جيدة وسمعة لائقة بباحث يتابع الإنتاج الأدبي والنقدي بمناهج علمية حديثة. وبذلك ارتأت “جائزة المغرب” في حقل الدراسات الأدبية والفنية، لموسم2011، مكافأة هذا الناقد المثابر على زبدة مجهوداته النقدية الراسخة بوضوح في كتاب جمالية البين- بين في الرواية العربية.
منذ مدة طويلة وبنحدو يعمل، سواء في الندوات أو في الدراسات المنشورة، على إبراز تجليات هذه النزعة المابينية في النصوص الروائية التي درسها وفحص آثارها بطريقة يلتقي فيها التحليل النصي بالتنظير والمَفْهَمَة؛ ليخلص في النهاية إلى أن تلك المنطقة التخومية (المابينية) هي ملاذ الأدب. وفي هذا السياق يعطي مثالاً بفيلم للمخرج الألماني “رينار هوف”، عنوانه “رجل الحائط”. يحكي الفيلم قصة الجدار الأسطوري الذي كان، إبان الحرب الباردة، يقسم برلين إلى منطقتين: اشتراكية وليبرالية، وحكاية رجل كان ينتقل كل يوم بين برلين الشرقية وبرلين الغربية. فما كاد يصل إلى إحداهما حتى يحدوه الشوق إلى الأخرى، فيعود إليها. وحين يشرف الفيلم على النهاية يجد الرجل الشقي نفسه مدفوعاً بجسده إلى الجدار الفاصل، إيماناً منه أنها المنطقة المابينية المحايدة التي لا يملكها أحد. يرى “بنحدو” أن هذا أبرز مثال على نداء الغوايتين الذي ينطبق على مجموعة من الروائيين العرب وعلى نصوصهم الروائية (بلغ عددها المدروس في الكتاب 24 رواية مشرقية ومغربية) التي لم يجد الناقد أفضل من سيميائية “رولان بارث” منهجاً لمقاربة جمالية البين-بين الراسخة فيها. دون نسيان منهجية “بنحدو” نفسه الذي يعمل على تكريس وجهة نظر في غاية الأهمية؛ مفادها أنه إذا كان للروائي متخيله، فَلِمَ لا يكون للناقد أيضاً متخيله؟” فبهذا المعنى فقط، يمكن للنصوص أن تعيش حياة أخرى مختلفة عن تلك التي تصورها لها مؤلفوها”(ص.17).
يرى “بنحدو” أن مصطلح “البين-بين“ ليس وقفاً على حقل الأدب فقط، بل هو استعارة يومية تمرس عليها الإنسان كثيراً. إنه مفهوم لا شعوري: بين السماء والأرض، بين المطرقة و السندان، بين الموت والحياة إلخ… . كما أنه مفهوم ترجمي أيضاً؛ ألا يراوح المترجمون بمتعة وقسوة بين اللغات والثقافات، وبين الرؤى والاختيارات؟ كما أنه مفهوم من مفاهيم الاغتراب. وهنا يستشهد الناقد بعبد الكبير الخطيبي، أكبر “محترفي الاغتراب”، الذي قال إنه “كائن خارق لحدود اللغات”. وبذلك يبدو أن “البين- بين” مفهوم يتسم بقوة تداولية كبرى سائدة وراسخة في حياة كل إنسان، وكل كاتب، مادام هذا “المركب” يحتل موقعاً وسطياً بين أنواع شتى من الثنائيات المتعارضة.
و لهذا المفهوم المابيني أهمية خاصة في التحليل النفسي أيضاً، فـ “دانييل سيبوني” يرى أن “البين-بين دينامية يجتاز الإنسان من خلالها أصلاً متوهماً، أي: طاقة كامنة تحتمل اختلافات مع ما هو في ذاته”. أما في مجال اللسانيات فيشتغل المفهوم عبر مصطلح “البَيْلُغَة”L’interlangue ، أي: كل لغة ثانية يتعلمها غير الناطقين بها بما هي نسق وسيط. ويتسع النطاق الدلالي لهذا “البين-بين اللغوي”، ليمتد إلى مجال الكتابة الأدبية نفسها. “فكل كاتب حَقٍّ يطمح إلى تحصيل لغة نموذجية تبدو مستحيلة، مما يجعله يتقلب باستمرار بين اللغات والأساليب. فالتمكن من تلك اللغة هو، إذن، مواجهة قدرية مع الغيرية”. وفي نظرية النقد والأدب فالمفهوم واسع الحضور والتجلي. ففي المجال الأول، اهتمت النظرية الأدبية في البداية بالنص في ذاته و بذاته، وفي السنين الأخيرة عمدت إلى الالتفات إلى تخومه، “إلى درجة يمكن الحديث معها عن نظرية للأدب من حيث هي بلاغة خاصة بهوامش النص. يتجلى هذا التحول النوعي في كون الخطاب النقدي والتنظيري صار يلتمس نصية النص في ما حول النص (عتباته وحواشيه وتعلقه التناصي بنصوص أخرى)”. وهذا التحول جعل “البين-بين” يدخل جمهورية الأدب من بابها الواسع.
وقد ناقش “بنحدو” بشكل موسع الأنساق المنهجية وأجهزتها المصطلحية بحثاً عن الـ”بين-بين”. ليقف عند مصطلح “الكرنفال“ الذي اعتمده “ميخائيل باختين”في تنظيره للجنس الروائي الذي ينطبق على كل نص ينفتح على ما بين اللغات والأصوات والموضوعات والصور. وكذلك مصطلح “الحوارية” الذي وضعه “باختين” للإشارة إلى العلاقة المابينية التي يعقدها النص الروائي مع نصوص أخرى. ومعروف أيضاً أن “جوليا كريستيفا” قد نحتت مصطلح “التناص” باستيحاء من مصطلح “الحوارية” الباختيني للإشارة أيضاً إلى الحضور الراسخ للمابين.
أما المتن الروائي الذي اعتمده “رشيد بنحدو” لرصد تجليان “البين-بين” فقد تنوع بين نصوص مغربية ومشرقية، باللغتين العربية والفرنسية، ومن أجيال مختلفة: عبد الكريم غلاب، محمد برادة، محمد شكري، الطاهر بنجلون، محمد عز الدين التازي، إدمون عمران المليح، يوسف القعيد، أحمد المديني، فاضل العزاوي، محمد خير الدين، إدوار الخراط؛ ليستخلص أن “البين-بين” قبل أن يكون جمالية أدبية، فهو قدر الرواية المحتوم. لكنه يعود من جديد لينهي كتابهl’entre deux بالحديث عن جدار برلين الذي كان يقسم عاصمة ألمانيا إلى هويتين، وبمسرحية “البين-بين” للمؤلفة الدرامية الفرنسية “مادونا ديبازيل” التي تتحدث عن شخصيات تعيش ببرلين الشرقية، وأخرى ببرلين الغربية. وبعد انهيار الجدار الفارق، عزمت “إيلغا” على الذهاب لترى ماذا يحدث في “الجهة الأخرى”. وهناك تعرفت على “ماتيسا” الذي ارتبطت به عبر علاقة حب كبير. لكن هل يمكن لهما تحدي الجدار الزائل؟ ذلك التخم العازل؟ هذه هي الوضعية الارتجاجية التي تعيشها نصوص المتن التطبيقي لكتاب جمالية البين-بين في الرواية العربية