مقدمة:
يبدو أن الجميع يتكلم اليوم عن العقل، ولكن قضية العقل والعقلانية لا تتقدم في بلادنا، بل هي في تأخر مطرد لاسيما على المستويات العملية والثقافية والسياسية، في حين تنتشر ثقافة العداء للعقل بسرعة مذهلة حتى بين العلماء والجامعيين، بحيث صار القصور وتوكيل الآخر ليفكر في مكاننا ونيابة عنا طبيعة ثانية لنا. وأحد الشواهد على ذلك أن كل المشاريع العقلية الكبرى التي عُرف بها المغرب والعالم العربي باءت بالفشل: ابتداء من العقلانية الإيمانية لمحمد عزيز الحبابي، فإلى العقلانية التراثية لمحمد الجابري، والعقلانية الكونية لعبد الله العروي، فإلى العقلانية المركبة من العقلانية الإسلامية والعقلانية الحداثية والعقلانية ما بعد الحداثية لمحمد أركون الخ. لماذا فشلت كل هذه المجهودات الفكرية الجبارة في خلق رأي عام عربي أو إسلامي يؤمن بالعقلانية، وبالتالي بالإنسان والحرية والتاريخ والتقدم العلمي والتقني والأخلاقي والسياسي؟ لماذا تأبى المجتمعات العربية الإسلامية إلا أن ترجع إلى الوراء وتفرز لنا بين الحين والآخر أوكارا للاتجاهات المتشددة التي تُحرّض على الإرهاب الذي يشل إرادتنا عن الفعل، ويحبس عقلنا على الإبداع، ويبهدل سمعتنا أمام العالمين؟ قد يقال بأن فشل أصحاب هذه المشاريع راجع لكونهم لم يستطيعوا أن يلائموا عقلانياتهم مع التركيبة الثقافية لمجتمعاتهم، ولكننا نعلم أن وسواس تكييف عقلانياتهم مع بيئتهم الثقافية كان أحد الثوابت في فكرهم. قد يقال بأنه ليس من حقنا أن نتكلم عن الفشل، لأن زمن التقدم العقلي زمن بطيء بالقياس إلى أزمنة التقدم اللاعقلاني، ولكن الوقت لم يسعف لكثير من الانتظار.
نعم، لم تصدر عن هؤلاء المفكرين نبوءة متفائلة كالتي صدرت عن مفكر الأنوار الفرنسي كوندورسيه الذي قال جازما: »سيأتي يوم حيث لا تشرق الشمس فيه إلا على الإنسان الحر الذي لا يعرف سيدا آخر سوى العقل؛ حيث المستبدون والعبيد، الدهاة والبلداء… لا يوجدون إلا في التاريخ«. فقد كان طموح مفكرينا أدنى من ذلك بكثير، حيث لم يسمح لهم تاريخهم وواقعهم أن يحلموا بزمن يكون فيه الإنسان حرّا، وبعالم لا سيد فيه سوى العقل. ومع ذلك، لم يتحقق أي جزء من مشروعهم، إذ ما زال هناك أسياد كثر غير العقل، وما زال المشعوذون والمستبدون يتكاثرون كالفطريات يوميا في جُنح الليل، وما زالت الأمية تنهش عقول الناس وقلوبهم فتجعلهم كالقاصرين الذين تتحكم فيهم أفكار مسبقة تعميهم، وتسد حواسهم وعقولهم عن رؤية الأشياء كما هي.
وموازاة لهذه اللوحة السوداء، انتشرت في العالم المتقدم موجات حاقدة على العقل تكاد تكون قاسما مشتركا بين معظم الاتجاهات الفكرية والفلسفية والأدبية الغربية. فقد نسبت تيارات ما بعد الحداثة وما بعد التنوير كل الأخطاء والمجازر والإبادات والحروب التي وقعت في أزمنة الحداثة إلى العقل. فحمّلت العقل والتنوير المسؤولية المباشرة أو غير المباشرة عنفَ وبطشَ الأنظمة السياسية العاتية لبول بوت وستالين وموسيليني وهتلر، ومسؤولية انتشار أسلحة الدمار الشامل التي تهدد وجود الإنسان على الأرض، ونسبت له كل ما يتصل بتفشي التدهور الأخلاقي، إلى أن آل الأمر في آخر المطاف إلى الإعلان عن “نهاية العقل” وكل ما يتصل به من قيم الحرية والإنسية والتقدم والديمقراطية الخ.. لعل هذا الجو المشحون بكراهية العقل كان من بين العوامل التي عاقت انتشار العقلانية في العالم العربي، ولو أن هذه الاتهامات غير صحيحة. فالعقل ليس هو المسؤول عن هذه الكوارث، وإنما الأفكار الخاطئة، أو الاستعمال السيء للعقل. ذلك أن العقل سيبقى دائما صديق الإنسان والطبيعة، ومنبع العدل والإنصاف، ومعيار الحق والحقيقة، ومحك الأخلاق النبيلة.
هل هذا الفشل الذي أصاب أصحاب كتب العقل تنبيه لنا بأنه علينا التخلي عن مطلب العقلانية لأنه لا قِبَل لنا به نحن المنتمين للعالم الإسلامي والعربي؟ أبدا، لأننا لو فعلنا ذلك لاستثنينا أنفسنا من الانتماء إلى الإنسانية. ولذلك ستظل العقلانية مطلبا عزيزا في جدول أعمالنا باستمرار، لا يمكن تجنبه أو التغاضي عنه، لا فقط لأن العقلانية، أي محبة العقل، هي التي تجعل الإنسان إنساناً، ولكن أيضا لأنها هي القادرة على تأهيلنا لاستعادة المبادرة التاريخية، والقيام بالواجب الحضاري القيادي في العالم. الأمر بالنسبة لنا لا يتعلق فقط بالقيام بمرافعة في مدح العقل والعقلانية لمواجهة موجات هجائه وقدحه على كل لسان، وإنما بنزوع عميق لاستعادة الشرط الإنساني الضروري للمضي قدما في البناء الحضاري والثقافي. كما أن الأمر لا يتعلق بعناد أخرق، وإنما بالتشبث بالحق في أن ننتمي إلى الحداثة عن طريق العقلانية.
وهنا لابد من التنويه بأن إقامة هذه المحاضرات في رحاب هذا المسجد العظيم في الدار البيضاء يذكّرنا بمجامع بغداد وقرطبة، حيث كانت تقام في مساجدهما المناظرات التي تجمع بين العلم والإيمان، وبين الأصالة والانفتاح على الغير. إن هذه المجالس التي نحن فيها هي تحدٍّ للذات وللآخر، تحد يعبر عن رغبة المغاربة في المنافسة مع الآخر والرهان على صنع المستقبل. ونحن نعتقد أنه ما لم تخرج العقلانية من المسجد، ما لم يخرج مشعل النور والتنوير، مشعل العقل والعلم، مشعل الخلق والإبداع من المسجد، فإن العقلانية لن تجد طريقها إلى الجماهير.
إن الأزمة التي نعيشها ليست أزمة هوية، وإنما أزمة كونية، أي عجزنا على الانخراط كليا في معمعة الحداثة والتنوير الكوني. ولذلك كانت الأسئلة التي طرحها “أصحاب كتب العقل” تدور حول إمكانية تعايش العقلانيات التقليدية مع العقلانيات الحديثة، بل تعايش العقلانية المنشودة مع فضاءات اللاعقلانية المتعددة، مع طغيان البحث عن إمكانية تصور حالة وسطى تجمع بين العقلانية واللاعقلانية، وبين العقلانية التقليدية والعقلانية الحداثية، تخرجنا من الأزمة المزمنة التي نتخبط فيها.
لاشك في أن فعل العقلنة، أو التنوير، هو فعل جماعي تشارك فيها جهات ومجالات مختلفة كالعلم والفلسفة والسياسة والاقتصاد والتعليم والدين والثقافة الشعبية… كل من موقعه وزاويته الخاصة وقدرته في عملية خلق مواطن وإنسان مغربي عاقل وقادر على التفكير تفكيرا ذاتيا سديدا، وعلى الفعل الفاضل، وعلى الخلق الفني والإبداع الأدبي. إننا نعتقد أن وجود الأمم ومصيرها مرهونين بمدى تعلقها بالعقل وبكيفية وبمقدار استعمالِها له استعمالا علميا وأخلاقيا. وفي المقابل، متى تأججت نزعات النقد العدواني له وللعقلانية في ثقافة أمة من الأمم، كان ذلك إيذانا بأنها آيلة للسقوط. وهذا ما لوحظ بشكل لافت للنظر في ثقافتنا في العَقدين الأخيرين.
٭ ٭ ٭
ولا يمكن أن نتكلم عن مطلب العقلانية دون أن نربطها بالمجتمع المدني، أي بالسياسة والدولة. فالسياسة هي الشرط الذاتي والضروري لإخراج العقل من الإمكان إلى الوجود، كما أن السياسة خارجا عن العقلانية والمعقولية، أي خارجا عن النقاش والحوار العقلاني، لا معنى لها. ولذلك لم تعد استعارة الكهف الأفلاطونية صالحة اليوم لوصف السياسة، ولوصف فضائها العمومي القائم على الحوار الديمقراطي والنقاش العقلي الحر، اللهم إلا إذا تصورنا أن الكهف أصبح مضاءً بالمعقولية والعقلانية. ولذلك كان ريتشارد رورتي على صواب عندما أعطى الأسبقية للديمقراطية على الفلسفة، وليس كما فعل الفارابي، الذي جعل المدينة الفاضلة غاية الفلسفة.
ما يبرر هذا الربط السببي بين السياسة والعقلانية هو اشتراكهما على الأقل في مجالين، هما مجال الذات ومجال النظام. فالعقل هو ذات الإنسان المعرفية، والدولة هي ذاته السياسية والمدنية. وظيفة العقل هي بناء نظام نظري وعملي من المفاهيم والتصورات والأفكار والقيم التي تضفى المعنى على العالَم. ووظيفة السياسة بناء نظام المجتمع الذي هو الدولة، التي هي عبارة عن مجموعة من المؤسسات والقوانين والمساطر والحقوق والواجبات التي بموجبها تمارِس الدولة سلطتَها وهيبتَها على الفضاء العمومي. ولعل هذا الاشتراك في صفة النظام بين العقل والسياسة هو ما يبرر مساواة تعريف الإنسان بأنه “حيوان عاقل” لتعريفه بأنه “حيوان مدني أو سياسي بالطبع“. ويترتب عن هذه المساواة بين العاقل والمدني، أنه متى تعطل أحدهما أو أصابه نوع من الكلل والتراخي، تداعَى وتعطّل الآخر بالضرورة. فالدولة التي لا يكون العقل قوامها، دولة لا قيمة لها، وكأنها سفينة تدفعها ريح من خارجها لا من داخلها، والعقل الذي لا يلتزم بقضايا الدولة عقل أبله لا يُعوَّل عليه. ولا يخفى أن نظام العقل النظري، الذي يتجلى خاصة في العلم والتقنية، صار قوة الإنتاج الرئيسية، أي العمود الفقري لاقتصاد الدول المتقدمة؛ ونظام العقل العملي، بأخلاقياته وسياساته وقوانينه ومساطره أضحى هو المشرّع الأساسي لأنظمة الحكم الديمقراطية. هكذا غدا العقل في آن واحد أداة القوة والمناعة ووسيلة إقرار السيادة والكرامة والتحرر البشري من كل وصاية.
وقد ارتبط مطلب العقلانية في المغرب بمطلبإصلاح العقل توطئة لإصلاح السياسة. إذ لم يكن يهم الفلاسفة والمفكرين المغاربة البحث عن “ماهية” العقل، عن “العقل في ذاته”، وإنما عن “أي” العقول أصلح للقيام بالتغيير المنشود في الدولة. بعبارة أخرى، ما كان يعنيهم هو كيف يمكن القيام بالإصلاح الأصغر، إصلاح العقل، حتى يغدو مؤهلا للقيام بالإصلاح الأكبر، إصلاح الدولة، المدخل الرسمي للانخراط في فضاءات الحداثة. وبما أن سؤال العقل، ضمن هذه الحيثية، سؤال عملي، فلا يمكن الإجابة عليه إلا إذا تم البت في سؤال آخر: ماذا نفعل بالعقل العملي التراثي المتصل بالشريعة والعقيدة؟ هل نكتفي بترميمه، أم ينبغي الانفصال عنه بحكم استحالة إصلاحه؟ وإذا اتفقنا على ترميمه وإصلاحه، فهل علينا أن نصلح نظامه المعرفي من الداخل، أم علينا استبدال نظامه الإبستمولوجي التقليدي بنظام إبستمولوجي جديد وفعّال نستعيره من الخارج، من العقل الحداثي؟
واضح أن سؤال المدينة لم يكن سؤالا عرَضيا، بل كان هو المقصود من سؤال العقل والعقلانية. والسبب في ذلك هو شعور المفكرين المغاربة المعاصرين بفداحة الفشل التاريخي والحضاري لحُلمَ النهضة في القرنين الماضين. وقد فضّل هؤلاء البحث عن أسباب هذا الفشل المزدوج داخل العقل، توطئة لإصلاحه وصياغة استراتيجيات جديدة لتجاوز تلك الأسباب التي حالت دون اللحاق بقطار الحداثة. بيد أن التخلي عن البحث عن الأسباب الخارجية زاد من عواصة البحث عن استراتيجية الخروج من الأزمة، إذ من الصعب استخلاص وصفة شاملة للشفاء من الأزمة من داخل الأزمة نفسها، فليس من المعقول إصلاح المدينة بعقل ينتمي إليها.
واضح أن العلاقة بين العقل والمدينة ليست علاقة بين عقل نظري وعقل عملي، بل هي علاقة داخل العقل العملي بين عقل عملي ما بعد حداثي يقوم على ثقافة كمية رقمية وصورية، وعقل عملي تقليدي تسكنه ثقافة كيفية معيارية. نعم تطرح العلاقة بين العقلين النظري والعملي مشكلة عويصة وهي: لماذا لا يؤثر ما يستوعبه الطلاب في جامعاتنا ومعاهدنا العلمية من فتوحات علمية على سلوكهم وعلى رؤيتهم للعالم؟ لماذا لا يوجد تأثير متبادل بين الجامعة والسياسة؟ أو بكيفية أوضح لماذا لا يؤثر تطور العقلانية العلمية في تطور الثقافة الديمقراطية؟ وقد ازداد هذا السؤال حدة مع الربيع العربي، الذي استطاع أن يُحدث تغييرا في الأنظمة السياسة بأحدث وسائل مجتمع المعرفة الرقمية، دون أن يكون قادرا على إحداث أي تغيير في الثقافة السياسية للجماهير؟ من هنا يبقى السؤال الرئيسي للعقلانية المغربية هو كيف يمكن فتح مسالك التأثير والتفاعل المتبادل بين العقل بمؤسساته العلمية والأخلاقية والدولة بمؤسساته التدبيرية؟
هذه هي الأسئلة التي سأعمل على الإجابة على بعضها من خلال أربع عقلانيات مغربية بالمعنى التاريخي للمغرب: العقلانية الإيمانية لمحمد عزيز الحبابي، والعقلانية التراثية النهضوية لمحمد عابد الجابري، والعقلانية الحداثية الكونية لعبد الله العروي، ثم العقلاينة المركبة من العقلانيات الإسلامية والحداثية وما بعد الحداثية لمحمد أركون، مع محاولة للبحث عن السماتالمشتركة بينها.
عقلانيات التراث:
قبل أن استرسل في حديثي لابد من توضيح بصدد عنوان المحاضرة »مطلب العقلانية في الفكر المغربي«. فقد يثير هذا العنوان في نفس السامع شيئا من الالتباس بسبب وجود لفظة “المطلب”، لأنها قد توحي إلى أننا كأمة وكثقافة نفتقر في طبيعتنا الأصلية إلى العقلانية، فيعتقد المرء أننا أمة غير معقولة ولاعقلانية سواء من جهة استعمال العقل، أو من جهة عدم إيماننا به بوصفه أداة العلم الحق، والفضيلة العادلة. والحال أنه لم يخطر على بالنا عند استعمال لفظة “المطلب” أننا كنا نريد إثبات أننا غير مؤهلين لأن نكون عقلانيين في تفكيرنا وسلوكنا، لأننا نعرف جيدا غنى تراثنا بشتى العقلانيات، يمينها ويسارها:
1- فهناك عقلانية الفقهاء، التي تتفرع إلى عقلانيات عديدة تشترك في تصورها للعقل بوصفه أداةً استخلاص الفروع من الأصول، والقواعد من الوقائع بطريقة استقرائية أو تمثيلية؛ بل إن الوقوف على طريقة اشتغال هذه العقلانية دفعت كثيرا من الباحثين إلى إثبات بذور قوية من العلمانية بالرغم من أنها تعتبر النص الشرعي هو مرجعيتها الأولى ؛
2- وهناك عقلانيات المتكلمين التي تنقسم هي الأخرى إلى عقلانيات متصارعة أشهرها (أ) عقلانية المعتزلة التي دافعت عن التوافق بين العقل والشرع، وإن كانت تعطي العقل الأولوية على الشرع إن تخاصما، (ب) وعقلانية الأشاعرة التي تجعل الشرع هو الأصل الأول والعقل خادما له، وتعطي أهمية أكبر للتدخل الإلهي في مسار الطبيعة والإنسان ؛
3- وبخلاف العقلانيات السابقة، التي كانت تعتبر العقل مجرد عَرَض وأداة غريزية لتمييز الخير من الشر أو لإدراك عواقب الأفعال، نظرت عقلانية الفلاسفة إليه إما بوصفه جوهرا متعاليا، أو ذاتاً للإنسان، أو مبدأ ساريا في العالم. وهي تتفرع إلى عقلانيات متباينة بحسب الفلاسفة (الكندي والفارابي وابن سينا وابن باجة وابن رشد الخ)؛
4- ويمكننا أن نتكلم عن عقلانية العلماء، التي وإن كانت لا تختلف عن عقلانيات الفلاسفة، فإنها تلتزم بمعاينة الوقائع بدل إعطاء الأسبقية للمبادئ النظرية واستخلاص النتائج منها ؛
5- كما يمكننا أن نتكلم عن عقلانية الصوفية التي تستعمل العقل بمقدار وفي مجال معين لا تتعداه، لأنها تؤمن بطور فوق طور العقل هو الذي تُخبِر به الشريعة، بسبب عجز العقل عن إدراك حقائق عالم الغيب ؛ وفي هذا الطور تتحول العقول إلى ﴿قلوب يعقلون بها﴾؛ فسدرة المنتهى لا يستطيع أن يتخطاها حتى الملاك الذي يُمثّل العقل، وهو جبريل؛
6- وهناك عقلانية تكاد تكون جامعة لهذه العقلانيات كلها، تمثلها من جهة عقلانية الغزالي ومن جهة ثانية عقلانية ابن خلدون؛
7- فالعقلانية الأولى تجمع بين عقل العواقب، وعقل الكشف، وعقل النظر، أي تجمع بين العقل الكلامي والصوفي والعلمي والفلسفي؛
8- كما تجمع عقلانية ابن خلدون بين العقل الكسبي للأشعرية، والعقل السببي للفلاسفة والعلماء، والعقل الذوقي للمتصوفة والسحرة، ليصهرها في عقل واحد جديد هو “العقل العمراني”.
وإذا أردنا أن نتوج هذه الأدلة بدليل آخر ذي قيمة رمزية على رسوخ العقلانية في ثقافتنا، لأتينا بحديث العقل المشهور الذي يرد في أكثر من 40 صيغة في كتب المُحَدِّثين وغيرهم. فهذا الحديث وإن كان يشك المحدّثون في صحة نسبته، فإن استناد كثير من الفلاسفة والحكماء والمتصوفة والعلماء عليه لبناء أقوالهم حول العقل كإخوان الصفا والغزالي وابن باجة وابن هيدور وابن سبعين وابن عربي الخ.، يدل على مكانة العقل في الحضارة الإسلامية، يقول الحديث في إحدى صيغه: « أول ما خلق الله العقل. فقال له أَقبِل فأقبَل، ثم قال له أَدبِر فأدبَر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو احبُّ اليّ منك«.
عقلانيات الفكر المغربي:
اتخذت استراتيجيات إصلاح العقل العربي الإسلامي لتحويله إلى عقلانية حية وفعالة مسارات متباينة: فمنهم من تبنّى حداثة الأنوار الغربية للخروج من أزمة العقل النهضوي (العروي)، ومنهم من تبنى حداثة الأنوار مكيفة مع أنوار التراث (الجابري)، ومنهم من تبنى حداثة الأنوار مطعّمة بما بعد الحداثة، أي الحداثة المتصالحة مع التراث (أركون)، ومنهم من تبنى الحداثة مطعمة بالإيمان (الحبابي). بعض هذه الاستراتيجيات لم تكن مقتنعة بالإصلاح، أي بالتغيير عن طريق التراكم الكمي لتحقيق حلم النهضة الثانية، بل كانت تطمع في تحقيق قفزة نوعية في أسلوب التفكير والاستدلال العقلي عن طريق إحداث القطيعة مع التراث.
غالبا ما كانت العقلانيات المغربية تنطلق من عقل التدوين (الجابري)، أو العقل الإسلامي الكلاسيكي (أركون). وتنطلق منه كمعيار لقياس مدى ملاءمته أو مخالفته للمطالب التي تناط بالعقلانية اليوم. واعتُبر عقل التدوين معيارا لكونه نجح في تأسيس حضارة قوية بعلمها وثقافتها وسياستها وإشعاعها. غير أن العقل كأي كائن حي قابل للنمو والتطور، ومعرّض للتوقف عن العطاء في مجالات الإبداع المعرفية والأخلاقية والسياسية والجمالية والدينية. وتقف نزعات التقليد واللاعقلانية في الغالب وراء توقف عقل التدوين عن القيام بوظائف تحرير الإنسان من القيود الطبيعية والمجتمعية والثقافية. وهذا ما حصل لنا فعلا في الماضي، إذ منذ القرن12 رانت على حضارتنا نزعة التقليد واللاعقلانية بكيفية تكاد تكون شاملة، واستمرت تطوق فكرنا وتحبس سلوكنا وتدبيرنا الاجتماعي والسياسي والعمراني إلى أن وقع الاحتكاك مع الحداثة الغربية. ولا يمكن أن نعالج هذا التآكل العقلاني في ذاتنا إلا بعقلانية حديثة تبعث في الذات عنفونا حضاريا متألقا. فلا يمكن علاج اللاعقلانية إلا بالعقلانية مهما كان وزن الاتهامات التي تكال لهذه الأخيرة.
لكن قبل إصلاح العقل وجب تشخيص أمراضه الذاتية والعرضية. من أجل هذا اتخذ أغلب المفكرين الأربعة النقد والتفكيك أداة لإصلاحهم. وقد شمل نقدهم التفكيكي كلا من العقل التراثي بأسمائه المختلفة (العقل العربي، العقل الإسلامي، العقل الأصولي…)، والعقل أو الخطاب العربي المعاصر، ثم العقل الغربي بشقيه الحداثي وما بعد الحداثي.
ولم تكن لحظة نقد العقل العربي الإسلامي، أي تشخيص أعراضه وآفاته، منفصلة عن لحظة إصلاحه. ويمكن تلخيص عملية الإصلاح في العودة بالعقل إلى عقلانيته وإلى فعاليته المبدعة بتحريره من قيوده التراثية والحداثية معا، للانطلاق إلى عالم المبادرة والإبداع. وهذا يعني أنهم كانوا يتعاملون معه كذات للأمة، وليس فقط كأداة أو كموضوع. فحل أزمة العقل، باعتباره ذات الأمة، هو المدخل لحل أزمة الوجود التاريخي الحديث للعرب. وقد ردد المفكرون الأربعة كل بطريقته الخاصة مبدأ يقول بأنه لا يمكن إصلاح التاريخ والمجتمع بعقل غير صالح، أو لا يمكن القيام بالنهضة بعقل غير ناهض. وقد تم التركيز في إصلاحه على آليته ومفاهيمه، أي على الجانبين المنهجي والإبستمولوجي. كما تم الاهتمام بتطهير العقل من العوائق التراثية ومن الإملاءات الحداثية معا. وهذا معناه أن مطلب العقلانية كان يدور حول الصراع بين عقلانيتين متقابلتين، العقلانية التراثية والعقلانية الحديثة، أي كان يدور حول سؤالَيْ المشروعية والنموذج. وهذا ما سيؤكده الاستعراض السريع للعقلانيات الأربع:
1) العقلانية الإيمانية لمحمد عزيز الحبابي (1923-1993):
اعتبر الحبابي العقلانية التراثية أنها » مجرد علامة طريق، نتجه إليها لا لنستقر فيها مرتاحين، ولكن لنقوم بما يقوم به القافز الذي يتراجع للوراء لكي يقوم بوثبته إلى الأمام. إذ السير هو نحو المستقبل، والمستقبل كما قال فيكتورهيغو”ليس مِلكا لأحد” مِلكية شخصية، بالرغم مما قاله رينان «. وبصفة عامة لم يكن ينظر بعين الرضا للجانب الاستدلالي من العقل بسبب دلالته على الفكر الوسطوي بامتداداته اللاهوتية. ويبدوتعلقه بالعقلانية قويا عندما أسند إلى العقل القيام بدور إحداثالوحدةوالانسجام بين العناصر المكوِّنة للشخص البشري،ونقلالأنامنالكائنإلىالشخص. بل أكثر من ذلك عهد فيلسوف الشخصانية الإسلامية إلى العقل القيام بمهمة مناهضة الغرائز ومناوأة الأهواء والرغبات الدفينة، فكان عقله أشبه ما يكون بعقل المتكلمين، أي عقلا قامعا مناهضا للطبيعة والوجود. وهو وإن كان يدافع عن الوحدة بين الوجود والعقل، فإنه لم يجعل الذات مساوية للعقل، بل اعتبرها » أغنى من الفكر، إنها مبدأ الوحدة الفردية، “الشخص”، ومركز الرغبات والأفعال (الفكرية كلها وغير الفكرية)«. ولعل تقليصه من فضاء العقل هو الذي شجعه على سلب الحرية من سلطاته ووضعِها في يد الإيمان: »واضح أنه إذا كانت معادلة الله بالعدم لم تحرر الإنسان، فإن مطلقية الله تذيب أية مطلقية يمكن أن تُنسَب لأي بشر، لأنها تعطي شعورا بتساوي كل الأفراد أمام الله، وفيما بينهم، محررة الجميع من عبادة أي أحد. بهذا تفتح مسالك الحرية أمام الجميع«. وهذا ما أضفى على إنسية الحبابي سمة إيمانية: » فشهادة المؤمن بوجود الله شهادة منه على وجوده هو، وشهادة منه على الالتزام باحترام صفات الله الحسنى والعمل على اتباعها حتى تسود سلوك المجتمعات البشرية. فالإيمان بالإنسان ملازم للإيمان بخالقه، وكلا الإيمانين يتجذر في أعماق المؤمن«. ومع ذلك فالحبابي لا ينحاز لملة أو عرق، بل هو ينبهنا إلى أنه »ينبغي أن نعتز بنوعنا البشري وليس بعرقنا«.
2) العقلانية الحداثية والكونية لعبد الله العروي (1923-):
حمّل العروي العقل العربي التراثي مسؤولية الفشل والإحباط الشامل الذي نعاني منه. وأرجع ذلك أنه كان عقلا اسميا لا فعليا، وإلى أنه كان ينظر إلى الأمور من زاوية الانسجام والاتساق بين المقدمات والنتائج، لا من زاوية المصلحة والمنفعة، هذا علاوة على أنه في وقت متأخر اقترف خطيئة القطيعة مع تراثه التنويري. أما العقل النهضوي العربي فقد اتهمه بالعجز عن التخلص من مفارقة محمد عبده، وهي الاعتزاز بعقلانية العقيدة والعجز عن التفكير والسلوك بكيفية عقلانية (يمكن استبدال العقلانية بالأخلاق).
ومن أجل إصلاح العقل دافع العروي صراحة وعلانية عن القطيعة مع العقل التراثي بأنواعه المختلفة: العقل البرهاني والذوقي والفقهي-الأصولي والتاريخي الخ. رغبة منه في تصفية الحساب مع كل ما كان سببا في التأخر التاريخي، استعدادا للانخراط في حداثة حقيقية. وفي الحقيقة عندما اعتبر القطيعة مع التراث واجبا معرفيا وربما سياسيا للإنسان العربي المعاصر، فإنه كان يفعل ذلك من باب الوعي بها، وإلا فإن »رباطنا بالتراث الإسلامي في واقع الأمر قد انقطع نهائيا في جميع الميادين«.
في مقابل ذلك كان تبنّيه لنموذج العقل الحداثي الكوني بكل توابعه وعواقبه حاسما. وقد حمَلَه التزامُه الجازم هذا على التنديد »بالتردد وعدم الحسم« الذي يميز ثقافتنا دون غيرها، ورفض أي حل وسط بين العقلين الموروث والحداثي، كالذي اقترحه الجابري أو أركون، وبهذا يكون أقربهم إلى الحبابي. ومن أجل أن يبرهن على تهافت الحلول الوسطى بين التقليد والحداثة، ذهب إلى أن ما يوجد من نظائر لمفاهيم الحداثة في العقل التراثي، كمفهوم الحرية والدولة والعقل والتاريخ، هي “مفاهيم ناقصة” بالقياس إلى “المفاهيم المكتملة” أي الحقيقية التي ابتكرتها الحداثة الغربية. وبمقدار ما يكون إدراكنا لعدم تطابق المفاهيم الحداثية مع المفاهيم التراثية حادا وقويا، تتضح لنا الطريق السليم نحو الحداثة، وكأن إدراك النقص، إدراك العدم، هو القوة الدافعة نحو الحداثة. إذن نفس التقابل الأفلاطوني بين أشباح الكهف ونور الشمس الساطعة. ويكاد العروي يلخص أوجه التقابل بين العقلين الحداثي والموروث في التقابل بين الاسم والفعل وفي التقابل بين التعقل القائم على الإستدلال البرهاني والتعقل القائم على المنفعة والمصلحة. لذلك وجب الخروج من نطاق العقل الإسمي إلى مجال العقل الفعلي، ومن مجال العقل القياسي إلى مجال العقل النفعي توقا إلى تحويل العقل إلى عقلانية، وتجسيد العقل في سلوك عملي عقلاني.
بيد أنه بالرغم من تشبعه الكبير بالعقلانية في معناها القوي، فإنه لم يعلن حربا شاملة على اللاعقلانية كما سيفعل الجابري. حيث لم يستبعد من اللاعقلانية إلا ما اتخذ شكل السحر في العلوم، والإرهاب في السياسة، والجنون في التاريخ، أي أنه حارب اللاعقلانية فقط حينما تتجاهل مطلب تحقيق الخير للجميع. أما إذا كانت اللاعقلانية فردية وتُعنى بمجالات الفن والأدب والدين، فينبغي تشجيعها وتقديرها.
مسيرة الإصلاح لدى العروي، إذن، لا تنطلق من التراث إلى الحداثة، ولا حتى من الحداثة إلى التراث، وإنما يراها مستغرَقة في الحداثة الأنوارية من دون تردد أو توسط، مع وضع التراث والتراثيين بين قوسين.
(3 العقلانية الثقافية لمحمد عابد الجابري (1936-2010):
كما هو معلوم، ركز الجابري مشروعه العقلاني على نقد وتفكيك “العقل العربي“، توطئة لإصلاحه وتأهيله للقيام بالنهضة المطلوبة. وقد مارس ثلاثة أشكال من النقد هي: “النقد الإبستمولوجي-الإيديولوجي”، و”النقد السياسي-الإيديولوجي”، ثم “النقد المنهجي” لمناهجالاستشراق والماركسية والسلفية، التي قامت بإنجاز دراسات حول التراث العربي.بعد فحصهوتشخيصه لهذا العقل، وجد أن أعراضه تلتقي عند عرَض رئيسي هو اللاعقلانية، التي تتجلى خاصة في هيمنة مذهب لاسببية (الجواز) علم الكلام لأشعري، وفي سريان الفكر العرفاني الميتافيزيقي في الفكر الفلسفي المشرقي. غير أن نقده لم يكن متجها نحو عقل واحد منسجم، بل عمل على تفكيكه إلى ثلاثة أنظمة متصارعة ما لبث صراعها أن خف لتنصهر في نظام رابع. وكان عيب النظام البياني هو عدم قابليته للتطور في مضامينه وآلياته ورؤاه، وعيبالنظام العرفاني خضوعه لمنطق سحري غيبي ولاعقلاني، وعيب النظام البرهاني تبعيته للعقل اليوناني، أما ما سماه بالبنية المحصلة فقد جمعت عيوب الأنظمة الثلاثة، وهي الخضوع لسلطة اللفظ، وسلطة الأصل، وسلطة التجويز. هكذا أمسى العقل العربي عنده عقلا معياريا وذاتيا وحسيا وغير قادر على تجاوز عتبة المعاملات والألفاظ نحو المفاهيم، وغير قادر على تجاوز قياس الشاهد على الغائب الأصولي نحو القياس البرهاني، وغير قادر على تجاوز الجواز وخرق العادة نحو السببية في تعامله مع الطبيعة. وكانت الغاية من وراء كل هذا المجهود النقدي “للعقل العربي” إثبات أصالته بالنسبة للعقل اليوناني، والتي تتجلى خاصة في وظيفته الإيديولوجية، لا في وظيفته العلمية والفلسفية، أي في مواجهته للتيارات اللاعقلانية التي أدت إلى خراب الحضارة العربية، وإثبات إسهامه في الحضارة الغربية.
أما “العقل النهضوي العربي” فيمكن إرجاع أعراضه أساساً إلى تبعيته المزدوجة للعقلين التراثي والحداثي، مما جعله غير قادر على الاستقلال عنهما والاندفاع نحو تكوين عصر تدوين حديث.
ومن أجل إصلاح العقل العربي، دافع الجابري،في مقابل المفكرَيْن السابقين، عن استراتيجية ضرورة اندراج العقلانية الحداثية في منطق وروح العقلانية التراثية، وبخاصة تلك التي تتميز بالطابع البرهاني والنقدي، وهي العقلانية الأندلسية، ضمانا لمشروعية الحداثة في بيئتنا الثقافية التقليدية. بعبارة أخرى، كانت استراتيجة الجابري في الإصلاح تقوم على «التجديد من الداخل»، وعلى رفض أي حداثة لا تستمد مشروعيتها من التراث، وبخاصة من التراث العقلاني المتوافق مع العقلانية الحداثية. المشروعية تنطلق، إذن، من التراث نحو الحداثة، وليس العكس. ومع ذلك، فقد كان يعتبر أن الركن الأساسي في إصلاح العقل أو الخطاب العربي يتمثل في تحريره المنهجي من عوائقه الموروثة ورواسبه اللاعقلانية وبطانته الانفعالية، وتقابلاته المفتعلة، وأسئلته المغلوطة، تمهيدا لتعبئته »بمبادئ وقواعد جديدة تحل محل القديمة«، تجعله قادرا على القفز نحو عوالم الحداثة.
تقوم استراتيجية التجديد، إذن، على ثلاثة أركان تحيل كلها على التراث: النقد، والتأصيل، والرجوع إلى ابن رشد لتجديد أسئلة النهضة برؤية عقلانيةوتقدميةوواقعية وحتى ليبرالية، قادرة على إنتاج العلوم والتقنيات التي هي الوسائل الأساسية للحداثة والقوة والمناعة.بهذه الجهة كان الجابري، بلغة العروي، “مترددا” إزاء العلاقة المتقابلة والمتوترة بين التراث والحداثة، أي يقبل المفاهيم التراثية بعد تعديلها بما يتوافق وروح التراث، وإلا فإن استيرادها الميكانيكي سيكون كارثة على النهضة العربية. وقد عبر عن روح التأصيل بشيء من المفارقة قائلا بأن المشاركة في الحداثة لا يمكن أن تتحقق إلا إذا استطعنا أن نتمثل تراثنا دون أن يستولي علينا، وأن نستوعب الحداثة دون أن تستغرقنا، بأن نجعل التراث يمتد بجوانبه الإيجابية في الحداثة فعلا وتفاعلا، مع الحرص على عدم السقوط في الاعتقاد أن التراث هو الحداثة نفسها. ويبقى أن انحيازه الصريح للعقل البرهاني، أي للعقلانية الصلبة، دفعه إلى انتهاج استراتيجية مواجهة كلماهولاعقلاني وظلامي يسعى لتخريب حقنا في التحدي والحضور الحضاري مواجهة صارمة.
4) العقلانية المركبة لأركون (1928-2010):
كان محور مشروع محمد أركون يدور أيضا حول النقد، لكن لا نقد “العقل العربي”، وإنما نقد “العقل الإسلامي”. وقد فضّل هذه القراءة السلبية والنقدية لأنها تسمح باكتشاف حدود هذا العقل في الماضي والحاضر من جهة، وتؤهله من جهة ثانية »لإضاءة مشاكل الحاضر على ضوء الماضي«. وقد كان نقده شاملا لكل أنواع العقول الإسلامية (الشفهية والكتابية، الفقهية والأصولية والكلامية، الفلسفية والعلمية…)، ولكل تجليات الخيال سعيا منه لاستيعاب إسهامها في بناء الحضارة العربية الإسلامية في مرحلة أولى، وإعاقتها وتجميدها في مرحلة ثانية. وخلافا للجابري الذي اعتقد أركون أنه تبنى فكرة الفرقة الناجية المتمثلة في الفكر الرشدي، رفض أركون الانحياز إلى أية عقلانية ضد أخرى خوفا من السقوط في السياج الدوغمائي المغلق من جديد.
ولأنه انطلق لإصلاح العقل الإسلامي من الحداثة، وبخاصة من ما بعدها إلى التراث، وليس العكس، فقد سعى إلى توسيع مدى إصلاحه ليشمل المجال العقدي، حيث نادى إلى تأسيس علم كلام جديد، يكون على شكل لاهوت تحريري ينقل”العقل الإسلامي من المجال اللاهوتي إلى المجال الإنسي”!. وهذا هو ما يسميه بالتعريف الجديد للحداثة الإسلامية، الذي جعل من الإنسان غايتها، مما يشير إلى رغبة عميقة في علمنة العقيدةبنقل السلطة من السماء إلى الأرض، ومن الله إلى الإنسان. غير أنه كان واعيا بصعوبة هذا النقل، إذ يتطلب في نفس الوقت تجاوز عائق “السياج الدوغمائي المغلق” الذي ضربته الأرثوذوكسية حول الإسلام، وعائق النزعة العدمية لما بعد الحداثة التي أعلنت نهاية وموت القيم الدينية والأخلاقية والعقلية.
وحتى يتلافى الاستيراد الفج للنموذج الحداثي الغربي لبناء تصوره للإصلاح، عمل على تطعيمه بالنموذج القرآني لمرونته وانفتاحه على كل التأويلات، وقابليته للتكيف مع مقتضيات الفكر الديمقراطي الحديث من علمانية وإنسية وتنوير. فجاء إصلاحه توفيقا بين حدثين متقابلين:الحدث القرآني والحدث الحداثي بتفرعاتهما المتعددة. هكذا سيكون على “العقل الإسلامي الحديث” أن يستوعب لحظة الإبداع في “العقل الإسلامي الكلاسيكي”، ويستخدم أنظمة ومفاهيم ونماذج “العقل الحداثي” الفكرية والسياسية مع تكييفها مع الحاجيات المحلية، وتبني رُؤَى “العقل الاستكشافي المنبثق” القادر على إصلاح العقل التراثي بالعقل الحداثي، وإصلاح العقل الحداثي بالعقل التراثي. ويمكّننا هذا الانفتاحالمتعدد على هذه العقول من التحرر في نفس الوقت من مسلمات وعقائد العقل والمخيال التراثيين، ومزاعم العقل الغربي الخاطئة التي تدّعي بأن إنتاج مقولات الحداثة والإنسية والعقلانية والعلمانية هو حكر على الثقافة الغربية.
هكذا، وبالرغم من جرأته النقدية، لم يدع أركون إلى تبنِّي عقل حداثي تماما كما فعل العروي، وإنما إلى ترميم متبادل بين العقل التراثي والحداثي وما بعد الحداثي. والغرض من هذا الترميم هو جعل العقل الإسلامي »عقلا براغماتيا يعطي الأسبقية للفعل على التأمل، والتحقيق على الحقيقة، والمنهج على النسق، والمنطق على الخطابة، والمستقبل على الماضي، والمصير على الوجود«. وكان يعتقد أن هذا الإصلاح هو السبيل الوحيد للخروج حالاً من العصر الإيديولوجي العربي ذي البعد الواحد، والدخول إلى ما يسميه “بالعصر الإبستمولوجي العميق”.
من العقلانيةالفكرية إلى العقلانية السياسية أومن تحويلالفردإلىذات إلى تحويل الذات إلى مواطن:
بوسعنا أن نستخلص من استعراضنا السريع لهذه النماذج المحدودة من العقلانيات المغربية أن تَطَوّر هذه العقلانيات اتخذ منحنىً تراجعياً على مستوى التعبير الفلسفي. فبعد أن اتخذت عقلانية الحبابي طابعا فلسفيا كونيا بلغة أونطولوجية بيّنة، تحولت مع الجابري إلى عقلانية محلية تراثية وذات خلفية ثقافية تراثية. غير أن العقلانية عادت إلى الكلام بلغة كونية مع العروي، لكن ليس من منظور فلسفي خالص كما فعل الحبابي، وإنما من منظور تاريخاني معاد في الظاهر للخطاب الفلسفي التقليدي. ومع أركون راحت العقلانية تقطف من جنان العقلانيات التراثية والحداثية وما بعد الحداثية ما لذ لها وطاب، مع بعض الجرأة في نبش المسكوت عنه في التراث المقدس. كما يمكن أن نستخلص همّا مشتركا بين معظم هذه العقلانيات هو همّالهوية، الذي كان ذلك مشروعا في وقته، قبل أن يتضخم في السنين الأخير ويتحول إلى مرض يهدد بتفكيك وجود ووحدة كثير من الأمم. والخلاصة الثالثة التي بوسعنا أن نستخلصها مما قلناه هي أننا في الواقع نحتاج إلى أكثر من عقلانية واحدة، لكن لا لإشباع نهَمِنا من الهوية التي سئمنا من الكلام فيها، وإنما من أجل انفتاحنا على الكونية. على أن تكون هذه الكونية قادرة على استيعاب العقلانيات ما قبل الحداثية (البرهانية والكلامية والعرفانية) والعقلانيات الحداثية والعقلانيات ما بعد الحداثية، في إطار حوار جدلي مفتوح يسعى إلى إيجاد مجال مشترك بينها، على أن تكون العقلانية الحداثية هي المحك.
والدعوة إلى عقلانية حوارية هو نتيجة الأخذ بعين الاعتبار أنه في زمن ما بعد الحداثة وما بعد التنوير لم يعد العقلُ فقط نورا طبيعيا يضيء ذاتنا والعالم معا، بفضل مناهجه العلمية القادرة على قيادة تفكيرنا نحو العلم الحق وتسديد إرادتنا نحو الفعل الفاضل والعادل، بل أضحى أيضا نورا تاريخيا، تتعدد أنوارُه بحسب البيئات الثقافية والحضارية. فقد ولّى زمن العقل الواحدوالعقلانية الصارمة التي تسعى إلى فرض تصورها الوحيد على باقي الثقافات والشعوب، وصار للعقل مقامات ومراتب تسمح له بالتعايش مع الإيمان والوجدان وحتى مع ما بعض تجليات اللاعقلانية. لقد مضى ذلك الزمن الذي كان فيه ابن رشد يتهكم على ابن حزم قائلا إن »العقل لا يمكن أن يكون جائزا، فيُمكن ان يُخلَق على صفات مختلفة، كما توهم ذلك ابن حزم«، فالعقل اليوم، إن فهمناه بمعنى العقلانية، يمكن أن يكون على صفات مختلفة، على غرارالحق الذي يمكن أن يكون كذلك على صفات مختلفة لاسيما في أمور المعاملات، حسب الموازين التي تنطلق منها عقلانيات ثقافات الشعوب الأخرى.
نعم، إننا لا ننكر أنه مهما تعددت صفات العقل وتطورت آلياته وتجددت معاييره، فإنه يبقى عقلا واحدا في ذاته، ومن هنا تأتي كونية معاييره ومصداقية معارفه وشمولية قيمه الأخلاقية. وأنه مهما تحاملت عليه بعض التيارات التي تلصق به تهما لا شأن له بها، فإن موازينه وأحكامه وثمراته المعرفية ستظل هي الأكثر يقينا والأكثر جلبا لاطمئنان النفس. وأنه مهما بلغت درجة الحقد عليه وتأججت نار الحرب ضده، فإن الإنسان سيظل إنسانا بفضل انتسابه إلى العقل، وقدرته على استعماله على الوجه الصحيح لحل مشكلاته الفردية والجماعية. ولذلك، مهما أجرينا من تعديلات على مبادئ العقل وقواعده وطرائقه المنهجية، فإنها لن تكون سوى تنويعات للزيادة في قدرته وعطائه ورفع فعاليته ونزاهته، وإلا فإنه لا يمكن تكذيبها واستبعادها إذا أردنا الوصول إلى الحق.
بيّنٌ بنفسه أن التنوير الذي نطالب به ليس ذلك التنوير الكلاسيكي القوي، تنوير القرن الثامن عشر الأوروبي الذي لا يتسامح ولا يتفاوض ولا يتهادن مع أشكال الثقافات اللاتنويرية أو القبل تنويرية، ولكننا ندافع عن تنوير قام بمراجعة نفسه، فصار ليّنا يقبل التراضي والتوافق من أجل الوصول إلى أكبر قدر من العدالة والإنصاف. وهذا يعني أن التنوير الذي نطالب به ينطلق من التفكير في حدوده كيما يستطيع ان يتجاوزها إلى عوالم جديدة. بهذا النوع من العقلانية يصبح العقل متسامحا، يعترف بحق الاختلاف في المعتقدات والمناهج والأدوات المعرفية.
ولكن قبل هذا وذاك، العقلانية التي نميل إليها نريدها أن تقوم على مبدأ بسيط هو أنعلى الإنسان أن يكون هو نفسه، لا غيره، أو كما قال الشاعر محمود درويش »كن من أنت حيث تكون«، لا غيرَك، سواء كان هذا الغير ماضي الأمة أو حاضر الآخر. ولا يمكن للإنسان أن يكون هو نفسه إلا إذا آمن بالقاعدة الذهبية التي كانت وراء تأسيس الفلسفة نفسها، قاعدة “اعرف ذاتك بذاتك”، أي بعقلك الخاص، لا بعقل غيرك، إذ هو الذي يضيء الذات. وإضاءة الذات بالذات هو التنوير.
وهذه العقلانية تتفرع إلى عقلانيتين: عقلانية فكرية وعقلانية سياسية. العقلانية الفكرية تجعل الإنسان يتحول من فرد إلى ذات قادرة على إملاء مفاهيمها ومقولاتها على الموضوع، الذي هو الطبيعة، عبر التفكير بالمفاهيم وبالاستدلالات البرهانية الخاضعة لضوابط محددة. إلا أن الانضباط للضوابط لا يعني أن تفرّط الذات العاقلة في حريتها في تجديد وخلق مفاهيم جديدة. كما تعني الذات في هذا السياق قدرة العقل الخلاقة على الفعل، أي على تفعيل الإرادة لإبداع التاريخ والمعرفة والآداب والفنون، وهي قدرة تجعل من الإنسان قادرا على تغيير العالم. باختصار، التنوير الفكري يجعل “الذات العاقلة” تجمع بين فهم العالم وتغييره على مستوى النظر الذي يكون له انعكاس أيضا على مستوى العمل.
غير أن فعل التنوير لا يقتصر على فهم العالم وتغييره على مستوى التفكير النظري والبحث العلمي والإبداع الفني والأدبي، بل يمتد أيضا إلى ميدان العمل السياسي. إذ لا يكفي أن تحوّل العقلانية الفكرية الإنسانَ من فرد إلى ذات عاقلة، بل لا بد أن تتدخل العقلانية السياسية لتحوّل الذات من ذات عاقلة إلى ذات سياسية، أي إلى مواطن يقوم بواجبه وحقّه في المشاركة بجهة ما في تدبير الدولة وضمان استمرار تحديثها. والمواطن لن يكون مسئولا هذه المرة أمام مؤسسة العقل، وإنما أمام مؤسسة الدولة والمجتمع. ولا يكتمل التنوير إلا إذا طار بجناحَيْ التنوير الفكري والتنوير السياسي، توقاً للارتقاء بالإنسان والمجتمع والدولة.
ولا ينبغي أن تكتفي العقلانية السياسية بتحويل الذات الفردية إلى مواطن سياسي، بل تعمل أيضا على تحويل الذات الفردية إلى ذات جماعية، ذات الأمة، إلى ذات مواطنة. هنا تلتقي العقلانية مع المواطنة ومع الفضاء العمومي. فنكون أمام ثلاثة انتماءات: انتماء الفرد إلى ذاته لا إلى غيره، وانتماء المواطن لمجتمعه المدني لا لعشيرته أو قبيلته، وانتماء الأمة للدولة باعتبارها مجالا عموميا. بهذا النحو ينتقلالعقل من كونه عقلا مدنيا بالطبع إلى كونه عقلا مدنيا بالتاريخ، متخذا مختلف أبعاده ومعانيه عندما ينخرط في خدمة مشروع تاريخي عن طريق الفعل السياسي حواراً وتنظيماً وتدبيرا.
وسواء كانت هذه الذات ذات الفرد أو ذات الأمة، فينبغي أن تكون واعية بمكامن قوتها وضعفها. غير أن ما يهمنا الآن هو معرفتها بنقاط ضعفها، حتى تعرف أسباب هذا الضعف وتبحث عن وسائل علاجه. ولا ريب في أن ضعفنا ليس آت من كثرة استعمال العقل، أو منقلة استعمالنا له، وإنما هو آت من استعمالنا السيء له. والطريق إلى استعمالنا الجيد له هو ربط هذا الاستعمال بالحرية، بالإضافة إلى ما قلناه سابقا. فالأمة التي تعطي أبناءَها الحق في حرية التفكير لا خوف عليها، لأنها تؤمن بنفسها وبأبنائها، أما الأمة التي تقيّد هذا الحق وتلك الحرية، فالخوف كل الخوف عليها. ودور الحرية في مسلسل العقلنة هو إحداث فراغ في الذات يستدعي العقل لملئه باستمرار. ونعني بالفراغ التحرر من القيود الآتية من خارج الذات.
ومع ذلك، يجب أن تخرج الذات، في هذه العقلانية التي ندعو إليها، من ذاتها وتنفتح على الغير، لكن انطلاقا من وعيها بذاته. وبذلك نكون قد علمنا بالفكرة التي قدمها الفيلسوف الحبابي على الشكل الآتي: »بمقدار ما تكون ثقافة ما حية وغنية، بمقدار ما تنفتح على الإخصاب المتبادل، على التبادل مع الثقافات الأخرى«، هذه الفكرة التي عبّر جلال الدين الرومي بلغة صوفية قائلا: »عندما خرجت من نفسي وجدتُ نفسي«. إذ لا يكفي أن ننصت لذاتنا بذاتنا، بل علينا أن ننصت لذاتنا عبر غيرنا. ومن ثم لا تكتمل معرفة الذات بالذات، إلا بمعرفة الذات بالآخر، سواء كان هذا الآخر هو الأنوار الغربية بمشتقاتها المختلفة أو الأنوار غير الغربية بتلاوينها المحلية. وقبل هذا الانفتاح وذاك، على هذه الأنوار الجديدة أن تنفتح علىالوحي بكل عوالمه وعلومه وآفاقه وآماله وتخومهسعيا وراء تعبئة المجتمع برمته للانخراط في حوار شامل تستفيد منه العقلانية الجامعة. ولا يمكن أن يكتمل انفتاح هذه العقلانية الجديدة ما لم تنفتح على الوجدان وعلى اللاعقلانية. إلا أن الانفتاح على اللاعقلانية لا يصح إلا إذا كانت أداة للإبداع واكتشاف سبُل جديدة للإبحار نحو عوالم جديدة من العرفان والذوق وابتكار طرق جديدة للعيش المشترك.
ليس معنى هذا أننا نسعى لطبع العقلانية بالمرونة إلى درجة سلب قدرتها علىالمواجهة والصراع، مواجهة الفكر المحافظ الذي يحارب النور، نور العقل بكل تجلياته، ويهاجم الذات الصادقة مع نفسها في مقابل دفاعه المستميت على وصاية الآخرعليها. بل على العكس من ذلك، ندعو الذات أن يكون أول مبدإ يحركها هو رفض الوصاية، الذي لا يعني فقط البعد ما أمكن عن التقليد بممارسة النقد عليه، ولكن أيضا الإيمان بأن الذات، أي العقل، هو المنبع الأساسي للحق والفضيلة. على أن يشمل النقدُ العقلَ نفسه، من أجل تطوير أدوات فهمه ومناهج تفكيره وأساليب تدبيره. وبفضل النقد تصبح “عقلانية التنوير المرنة” أداةً للتغيير والتطوير وإضفاء النسبية والتاريخية على الحقائق والقيم، أي إضفاء الحياة عليها.
وأخيرا، تتميز “العقلانية الحوارية الجدلية” بمَلَكة التوفيق بين الكوني والمحلي، فلا تفرّط في المجال العمومي لكل الإنسانية، ولا في المجال العمومي الخاص بالذات. فأن تكون عقلانيا لا يعني فقط أن تنكفئ على ذاتك، وتفكر بينك وبين نفسك، أو ترتمي في ذات الآخر وتفكر به، بل يعني أن تفكر في إطار تفكير جدلي حواري موجه لجمهور الثقافة الخاصة وللجمهور العالمي حثا على مناقشة شاملة، طالما أن لا شيء محسوم بصفة نهائية. وبهذا النحو تكونالعقلانية الحوارية قادرة على الجمع بين الملكة التاريخية والملكة الكونية، بين التنوير التراثي (المحلي) والتنوير الكوني.
خاتمة:
هل يمكن تحويل عقل لاتاريخي برهاني ميتافيزيقي إلى عقل تاريخي نسبي وإنساني، أي حداثي، أم ينبغي تبنِّي عقل حداثي يعفينا من عوائق عقلنا غير القابلة للعلاج؟ هذا السؤال الذي يحمل همّ العقل والمدينة معا، هو الذي حرّك المفكرين الأربعة لبناء مشاريعهم العقلانية.
وفي أفق هذا السؤال تصبح التاريخية ترياقا لأزمة العقلانية في جانبيها الفكري والسياسي، لأنها تمدنا بعدة وسائل ناجعة من بينها وسيلة القطيعة. وبالفعل، تحتاج أزمتنا إلى أكثر من قطيعة واحدة (إبستمولوجية، ومنهجية وسياسية وأخلاقية) حتى يكون التغيير عميقا وشاملا لكل المجالات، على أن نأخذ القطيعة بمعناها الإيجابي وهو احتواء القديم في جوف الحديث على نحو جديد.
ويبقى الاعتراف بالمدينة، بالسياسة، مجالا مستقلا بذاته، أي مجالا لممارسة العقلانية الفعلية، مشكلة أساسية لبناء مجتمع ودولة مدنية جديدة. ونعتقد أن السبيل إلى الاعتراف بهذه الاستقلالية هو ربط العقلانية الفكرية بالعقلانية السياسية، لأنه عندما تصبح السياسة عاقلة ومتسائلة ومتحاورة وقابلة للنقد والنقد الذاتي في فضاء عمومي وعلني، ويغدو العقل سياسيا، أي قادرا على مراعاة آراء الآخر والاعتراف باختلافه، تصبح السياسة غنية عن أي وصاية قبْلية من لدن التراث أو من لدن عقل متغطرس. لكن ليس معنى هذا القطع مع التراث أو استبعاده كليا من مجال السياسة، وإنما معناه أن يؤخذ بعين الاعتبار في حدوده التراثية، وفي حيزه التاريخي. ولذلك متى أُبعدت العقلانية عن مضمونها الاجتماعي السياسي التاريخي، أضحت بدون معنى، ومتى أُقصي البعد العقلاني من الممارسة الديمقراطية الحرة أمست مجرد جعجعة لفظية لا طائل من ورائها. وبالتالي يكون الجمع بين “العقل المدني” و”الدولة العاقلة” هو أساس السياسة بمعناها الديمقراطي، هو الحل الصحيح لأزمة التنوير في العالم العربي الإسلامي. لكن دون أن تصبح الثقة في العقل وبالعقل إيمانا ساذجا أو أعمى فيصبح سندا لتبرير أنظمة الاستبداد.
كل هذا الاحتياط خشية منّا أن يكون مآل عقلانيتنا اليوم هو نفس المآل الذي آلت إليه عقلانية ابن خلدون العمرانية الذي بعد أن أبدع علما للعمران، وجد نفسه يتحدث عن الخراب بدون أفق لترميمه أو طموح لإصلاحه، أو يكون مآل عقلانيتنا كمآل عقلانية ابن رشد، الذي بعد أن بناها على أنقاض عقلانية الغزالي غير المعترفة بضرورة العقل العلمي ولا بحتمية الطبيعة، وجدت نفسها وقد انتصرت عليها تلك الأنقاض والأشلاء، وكأن النقد توقف عن أن يكون أداة للتقدم والحياة. إن الزمن الذي نعيشه اليوم هو بالفعل زمن غزالي بكل المقاييس، حيث يتم إحياء علوم الدين في اتجاه معاداة علوم الطبيعة والإنسان. والحال أن مهمة المنظومتين العلميتين مختلفتان، إذ مهمة علوم الدين هي تأويل النصوص المنزلة، بينما مهمة علوم الطبيعة والإنسان هي تفسير الظواهر الطبيعية والإنسانية. والوعي بهذا الاختلاف (في السياسة يسمى علمانية، وفي المعرفة موضوعية ونزاهة) هو سر تقدُّم مَن تَقَدَّم من الأمم في هذا الزمان غربا وشرقا.
ملحوظة: ألقيت هذه المحاضرة مساء يوم الأربعاء 23يناير 2013، بالمكتبة الوسائطية لمؤسسة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وذلك في إطار برنامج شراكة بينها وبين جمعية رباط الكتب