بين 1990 تاريخ كتابة النص- الشهادة حول عبد الله راجع، و2006 تاريخ كتابة النصين حول برنار نويل وعباس بيضون، أكثر من عقد من الزمن يحتفي فيه الشاعر بالحياة وبالموت معا. يودع أصدقاء ويضع آخرين في ذاكرة الحياة المشتركة.
تروم هذه الورقة إلى تبيان كيف يكون هذا الكتاب احتفاء بالوفاء وبالاختلاف، احتفاء بالمعرفة في أشكالها الأكثر نبلا وعمقا.
من الصعب وأنت تقرأ كتاب مع أصدقاء أن تفصل بين محمد بنيس الشاعر ومحمد بنيس المثقف المسكون بأسئلة زمنه الثقافي والسياسي. من هنا كانت نصوص هذا الكتاب محاولة للإجابة عن أسئلة مؤرقة أو طرح أسئلة جديدة بغير قليل من البوح والقلق.
خلال اشتغال طويل على تجربة محمد بنيس الشعرية والنظرية، كان سؤال دقيق يلازمني:
– شعريا كيف يمكن مقاربة حدود وآفاق المغامرة الشعرية عند محمد بنيس في اللغة والمعنى والوجود؟
– إنسانيا: كيف يحضر الآخر الكوني المتعدد في شعر بنيس وفي تجربته وحياته؟
على نحو ما، تحاول هذه الورقة أن تقدم مدخلا لقراءة جديدة لتجربة بنيس الشعرية والثقافية وهي تسائل وتحاور هذا الكتاب ضمن مشروع أوسع وأشمل لا تنفصل فيه الرؤيا الشعرية عن الرؤيا الإنسانية. مع أصدقاء يقدم إجابات لكنه يضع أسئلة جديدة حول مصير الفعل الثقافي في عالم يتحول نحو المجهول.
- الصداقة والوفاء
كتب محمد بنيس وهو يحتفي بصداقة محمود درويش الشاعر والإنسان:
“الشعري والإنساني لا تنازل عنهما لدى محمود درويش. والصداقة هي الوفاء للصداقة. بهذا يعلمني محمود درويش دائما أنه شاعر القلق وإنسان الوفاء، في زمن نفتقد فيه الشعري والإنساني في آن” (ص49)
اعتنى بنيس بقوة بقيمة الوفاء كجزء لصيق بالصداقة. الوفاء ضرورة للاعتراف بفضل الآخر عليك. نجد الصورة قوية في استحضاره لقمم شامخة حققت جدلية التعلم والتفاعل والتكامل (أدونيس، محمود درويش، جمال الدين بن الشيخ، محمد الخمار الكنوني، عبد الكبير الخطيبي، أمجد الطرابلسي…).
وقد وقف محمد بنيس مليا عند قيمة الوفاء هذه وهو يكتب عن محمد شكري الإنسان الذي كان معروفا بما يقال عنه أكثر مما كان معروفا بما هو عليه فعلا:
“أول ما تأكد لي من خلال الصداقة الطويلة هو الوفاء. فشكري لا يلقي بصداقاته إلى الجحيم. الوفاء كان يتكامل لديه مع المقاومة (…)
يكفيني أن اذكر هاتين الخصلتين. محمد شكري، الذ تعلم كيف يقاوم عوالم بأكملها، علمني كيف أتحرر من قيم فاسدة. علمني، لأنه كان يبادلني الصداقة. وهو يعلم أن علاقاتي الثقافية في المغرب ليست مستحبة. في جميع المراحل كان شكري يذكرني في مواربة، بقيمة المقاومة والوفاء” (ص125)
أعتقد أن كتابة نصوص هذا الكتاب كانت – مع اختلاف السياقات والمناسبات والدوافع – شكلا من أشكال الوفاء لذكرى أو لأثر، لصداقة ممتدة في الزمن قبل أن يقتنصها هازم اللذات.
- الصداقة والموت
أود أن أشير وأنا أحاول رصد حوافز استحضار الأصدقاء حين يكون الموت سيد الموقف، إلى أن الاحتفاء بالصداقة في هذا الكتاب سبقته وضعيات تخلق حين جعل محمد بنيس الكثير من نصوصه الشعرية مسبوقة بإهداء إلى أحياء أو أموات.
الإهداء الوحيد الذي تضمن إضافة نصية هو الذي جعله بنيس مدخل ديوانه الأول ما قبل الكلام:
إلى صديقي الكبير
الشاعر محمد الخمار الكنوني
أول من قال اكتب فكتبت
وقد تكررت هذه الإشارة في متن هذا الكتاب، (ص.97):
“كل لحظة قضيتها معك في تلك السنة كانت رحما لذهول مركزه فيض الشعر وانفجار حساسية بها استسلمت لمجهول وشومُه انحفرت على جسدي. هكذا رفضت توجيهي إلى شعبة الرياضيات، وهكطا قلت لي اكتب فكتبت”
لقد توجهت إهداءات الشاعر إلى أدباء وشعراء وفنانين ومفكرين. نجد ذلك في مختلف الدواوين:
– إلى عبد اللطيف اللعبي
– إلى إلياس خوري – موسم الموت
– إلى عبد القادر الشاوي – موسم المشاهدة
– إلى محمد الخمار الكنوني وعبد الله راجع – قصيدة مستحيل
– إلى أدونيس – صحراء على حافة الضوء
– إلى محمد ديب – نوافذ من تلمسان
– إلى سمير العيادي – هواء قرطاج
– إلى محمود درويش – سبعة طيور
– إلى برنار نويل – أحجار وحدها
– إلى محمد القاسمي – شعرية
– إلى قاسم حداد – لك الأحجار
– إلى عبد الإلاه الصالحي – مضايق
– إلى ضياء العزاوي – حديقة الألواح
– إلى أحمد التيفاشي – ليلة الياقوت
– إلى محمد شكري – المغارة
– إلى جاك لا كاريير – نفس المكان
– إلى عبد الوهاب المؤدب والمهدي أخريف – هناك تبقى
كثير من المهدى إليهم يحضرون من جديد في هذا الكتاب محتفى بهم أحياء أو أموات، غير أن اللافت للنظر أن الاحتفاء بالصداقة في سياق النعي يكون له طعم المرارة والأم فيما هو يستعيد اللحظات الهاربة في الزمن وتأبيد لعلاقة في ذاكرة يقظة على الدوام. تصير بذلك الاستعادة شهادة على زمن ثقافي لم يكتمل.
ذاكرة أجدني جزء منها، ففي قراءتي ل نص الشرق حول لوكينات باتاشاريا عادت بي السنون إلى شتنبر 1998، وأذكر أني رافقتك إلى مطار محمد الخامس لاستقبال واحد من القامات الشامخة في الشعر الهندي الحديث. قامة مديدة ونظرة ثاقبة وهادئة يتحقق فيها التواصل رغم فروق اللغة والثقافة والجغرافيا.
لم يكن مدهشا أن تغص أن القاعة – كما كتبتَ – بمئات محبي الشعر للإنصات إلى شعر باتاشاريا. لم نكن نفهم الكلمات لكننا كنا نفهم هسيسها، وكان أثر الشعر قويا بلغة لا تعرف الحدود.
النص الذي كتبه بنيس عن محمد الخمار الكنوني يمثل بالنسبة إلى أمثالي ممن عرفوه عن قرب نص مزلزلا. قرأت النص أول مرة حين نشر بجريدة القدس بعيد الوفاة، ثم قرأته حين تضمنته صفحات هذا الكتاب. وفي كل قراءة أكتشف الرجلين معا وأكتشف أكثر ما ربطني ويربطني بهما لفترة طويلة. العبارة في النص شديدة البلاغة:
“ولا انسى الفرح الذي وشمت به جسدي لأنك قربتني من بحثك عن الشعر وعلمتني، بكلماتك الأولى أن الكتابة مقاومة، مقاومة الغربة والموت معا” (ص96).
- الصداقة والمعرفة
في نصوص الكتاب –كما ذكرت- أشكال من الاحتفاء بالعلاقة الممتدة في الزمن، بالقصيدة ومضايقها، بالصداقة والوفاء، نصوص نعي عميقة الغور تقتطع من الزمن المنفلت لحظات للخلود. في الكتاب أيضا عرفان واعتراف. لكن الحديث عن الصداقة والأصدقاء هو في أحد أشكاله حفر في الزمن الثقافي الحديث الذي تقاسمه محمد بنيس مع كل هؤلاء. قامات شامخة في الشعر والفكر.
عباس بيضون على سبيل المثال، كان الاحتفاء بصداقته احتفاء بالشعر وبالحياة. وقد قالها بنيس بوضوح:
“كما لو كانت الكتابة هي الحياة التي تمتزج بالقصيدة. لا نعثر بعد على الفرق بين القصيدة والحياة كلما أقدمنا على إخراج القصيدة من خنق يكاد يطبق عليها” (ص40).
وصف بنيس قصيدة بيضون بقصيدة المغامرة، كما وصف أسلوبه بقسوة اللغة على نفسها. كان بيضون نفسه يصرح بذلك حين يكون بصدد الحديث عن تجربته الفريدة في كتابة الشعر:
“قسوة اللغة على نفسها كي لا تزيغ عن المسالك المتوعرة، التي انتهجها عباس بيون بدون ندم على ما يمكن أن تؤول إليه في ثقافة لن تزداد إلا تقليدية ولن تقبل بعد بالشاعر الذي وضع يده على قصيدة المغاملرة، غير عابئ بالعزلة التي ننتظرها” (ص39).
أسماء استثنائية في الثقافة العربية الحديثة، حظيت في كتاب بنيس بأكثر من قراءة وأكثر من زاوية نظر – لكل واحدة سياقها ومساقها – تم الاحتفاء بها حية وتم نعيها بعد الرحيل. وفي كل مرة نكتشف الجوانب العميقة التي تخص لا فقط طبيعة العلاقة الحميمة التي جمعت بيها وبين الكاتب، بل نكتشف كذلك وأساسا داخل نسغ هذه المحبة الخاصة، تاريخ تشكل خطاب المعرفي أو الشعري وحتى السياسي في أعمالها (أدونيس، محمود درويش، إميل حبيبي، عبد الكبير الخطيبي..). في كل نص تتسع الرؤيا الخاصة بتجربة كل واحد من هؤلاء. وأجدني مدفوعا إلى الاعتقاد بأن الكتابة عن محمود درويش (ثلاثة نصوص) وعن عبد الكبير الخطيبي (نصان) كانت الأقوى غوصا في التركيب الشعري والمعرفي الدقيق الذي انتجه كل منهما في مساره مع اختلاف الشروط التاريخية والثقافية والروافد المعرفية التي أثرت في كل منهما.
سيتعرف القارئ من ما كتبه بنيس عن محمود درويش على أشد التفاصيل أهمية، تلك التي وسمت شخصيته الإنسانية ووعيه الشعري، كما يتعرف في ما كتبه بنيس الخطيبي (نصان استثنائيان في الاحتفاء والتعبير عن الفجيعة)، عن شخصية فريدة في التاريخ الثقافي للمغرب المعاصر. الخطيبي الذي نظر إليه أبناء جيلي نظرة المخلخل لكل قيم الثقافة التقليدية التي تعلمناها في المدارس. يقول بنيس:
“كان صدور الكتب الثلاثة النقد المزدوج وفي الكتابة والتجربة، والاسم العربي الجريح احتفالا ثقافيا عربيا. من خلال هذه الأعمال أصبحت الثقافة العربية متوفرة على رؤية إلى قضاياها الإبداعية والاجتماعية والفكرية، من مكان يستعصي على التبسيط والاختزال. لم تكن هذه الأعمال نداء مرنانا لاهتمام العرب بفلسفة نيتشه وهيدجر ودريدا، وبالمناهج والمعارف الجديدة، ولكنها كانت مساهمة مبتهجة في تناول إشكالياتها. بذلك استحق الخطيبي أن يكون مبدعا ومفكرا عربيا، يستقصي المنسي والمكبوت والمسكوت عنه، يختار الهامش لبناء خطاب لا يخشى العزلة” (ص88-89).
- هذا الكتاب
من الوجهة المعرفية الخالصة يمكن اعتبار هذا الكتاب تأملا هادئا في وظيفة الكتابة ووظيفة الأدب. الكتاب بهذا المعنى حفر تاريخي في المسار الصعب الذي قطعته الثقافتان، العربية عموما والمغربية على وجه الخصوص، وأسست من خلاله صوتها الخاص وروابطها العميقة مع مثقفين من الشرق والغرب، ومع أنماط من التطور السريع للمعارف والنظريات التي تؤرخ لحركة المعرفة في الزمن المعاصر.
النصوص التي كتبها بنيس حول دريدا أو الخطيبي وأدونيس وجمال الدين بن الشيخ وهنري ميشونيك وحسين مروة تعكس هذا التوجه الذي يجعل من الاحتفاء بالصداقة احتفاء بالمعرفة في أبهى صورها وأعقدها في آن. احتفاء بتاريخ الإنجازات التي يندر توفرها في أعمال كتاب القرن العشرين عدا بعض الشهادات أو السير الذاتية.
توحي القراءة السريعة للكتاب أنه مجرد شهادة شاعر مثقف على عصره وزمنه، احتفى فيها بخلفية الوفاء والمحبة والعرفان والحق في الاختلاف، بشعراء ومثقفين عاصرهم وآخاهم وقاسمهم نسغ الفكر.
غير أن القارئ الحصيف، القارئ بين السطور، سيجد في الكتاب أكثر من شهادة على زمن. إنها قراءة حفرية عميقة بالواضح وبالرمز لحقبة قلقة من الزمن الحديث، حقبة تأسيس وعي ثقافي وسياسي لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حقبة تأسيس وعي شعري كان فيه التفاعل بين المشرق والمغرب والغرب الجغرافي أساسا لإنتاج معرفة شعرية جديدة وخطاب شعري مختلف. هي أيضا حقبة تأسيس لغة جديدة للفكر الفلسفي الحديث، فكر الاختلاف ومساءلة اللغة واللسان والإنصات للغة الهامش والمكبوت ومقاومة كل أشكال العنصرية المقيتة في ظل نموذج قوي للسلطة بكل معانيها وتجلياتها.
هي حقبة لترسيخ نهضة سياسية مضادة لكل عوائق التقدم من داخل الزمن العربي ومن خارجه. يذكر محمد بنيس أن جمال الدين بن الشيخ كتب نصا- مرافعة في تسعينيات القرن الماضي ردا على حركة المعادين للوجود المغاربي في فرنسا:
“دفاع فكري وسياسي في آن. ولكنه دفاع ارتفع إلى مستوى الثقافي والحضاري، عندما أصر على إثبات الحق في الاختلاف والحق في بناء صداقة لا تتكئ على نفعية كيفما كانت نوعيتها. إنه معنى جمع فيه جمال الدين بن الشيخ بين الشخصي والجماعي، بين المغاربي-العربي المسلم وبين الفرنسي، بين التعلم من الآخر وبين الحرية تجاه الآخر كما مع الذات، بين الحضاري والسياسي. وهو في كل ذلك يبني لوعي جديد ينشأ بين طرفين وبين ثقافتين وحضارتين، أساسه الصداقة“. (ص130)
وبعد،
قرأت نصوص هذا الكتاب أو بعضها متفرقة، ثم أعدت قراءتها وهي تؤثث فضاء جديدا يحتفي بالصداقة والصديق. وغنني لأدعي معتقدا لا مفترضا، أنها تؤسس مدخلا جديدا لقراءة وإعادة قراءة كل تجربته في الشعر والمعرفة والحياة.
أقول ذلك لأنها تصوغ من خلال عمق العلاقة بالآخر هنا وهناك، ومن خلال عمق الاختلاف في وجهات النظر (إميل حبيبي وأحمد المجاطي على سبيل المثال)، أبجدية جديدة لفهم حركة الثقافة والمثاقفة في الزمن المعاصر.
في هذه النصوص تأمل لما كان وما عليه أن يكون شأن المعرفة في زمن اختلطت أوراقه، وعلينا كمعنيين بالمسألة الثقافية في شموليتها المعرفية والسياسية والإنسانية وفي كافة تجلياتها، أن نستخلص مهنا العبر.