بين الأدب والتاريخ: شهادة

مصطفى لغتيري، مظلة في قبر، قصص قصيرة جدا، منشورات القلم المغربي، الدار البيضاء 2006.

 

رغم ما يبدو ظاهريا من اختلاف بين الأدب والتاريخ، نتيجة لاختلاف مجالي اشتغالهما، فإن هناك علاقة خفية تحيك وشائج متشابكة فيما بينهما، حتى أن المدقق في هذه العلاقة سيكتشف -لا محالة- نوعا من التكامل غير المعلن يربط بعضهما ببعض قد يبدو جليا حينا، لكنه يأبى الإعلان عن نفسه أحيانا أخرى.

فإذا كان التاريخ بحكم ماهيته وموضوعاته ومناهجه، ينطلق من معطيات تاريخية واقعية، من أجل التأريخ للمسار البشري، محاولا البلوغ إلى أكبر قدر من الموضوعية والحياد، فإنه اتخذ في كثير من الأحيان من النص الأدبي وسيلة لاشتغاله، باعتباره وثيقة تكشف عن بعض التفاصيل، التي تسعفه –حتما – في بناء صورة متكاملة حول فترة زمنية معينة.  فبفضل أساطير بابل-مثلا- ذات الصوغ الأدبي التخييلي، استطاع المؤرخون الكشف عن بعض مظاهر الحياة الواقعية لحضارة بلاد الرافدين.  كما لا تخفى أهمية شعر ما قبل الإسلام في رسم بعض ملامح الحياة في تلك الفترة من الزمن.

والأدب، رغم الطابع التخييلي المهيمن على مجال اشتغاله، فإنه كثيرا ما التجأ إلى التاريخ ليرفده ببعض معطياته، من أجل توظيفها في نسج بعض الآثار الأدبية الخالدة. نذكر – في هذا الصدد – على سبيل المثال لا الحصر، الإلياذة والأوديسا اللتين ارتكزتا على أحداث واقعية، كانت بلاد الإغريق مسرحا لها.

ولم يكن الأدب العربي بدعا في هذا المجال، إذ استلهم بعض الأدباء التاريخ لكتابة نصوص أدبية، سواء كانت هذه النصوص رواية أو شعرا أو قصة قصيرة أو مسرحية. وقد لمع نجم جورجي زيدان في هذا النهج حتى ارتبط اسمه بالرواية التاريخية، كما خلف لنا نجيب محفوظ، في بداية حياته الأدبية، روايات سارت على نفس المنوال، نذكر منها كفاح طيبة التي تستلهم التاريخ الفرعوني الموغل في القدم، والكرنك ويوم قتل الزعيم اللتين تستلهمان تاريخ مصر الحديث.

وقد أدلى الأدب المغربي بدلوه في هذا المجال، وكانت الرواية أكثر جرأة في اقتحام هذا المضمار من باقي الأجناس الأدبية الأخرى، وهكذا اشتهرت بعض النصوص الروائية باستثمارها لمعطيات التاريخ القديم والحديث، ويمكن أن نستدل على ذلك برواية العلامة التي استدعى فيها بنسالم حميش شخصية ابن خلدون ووظفها من أجل خلق أثر أدبي مميز، استحق عليه جائزة نجيب محفوظ الأدبية. كما يمكن ذكر عدد من الروايات التي انكب اهتمامها على تاريخ المغرب الحديث وخاصة فترة الاستعمار، ومنها روايتي دفنا الماضي والمعلم علي لعبد الكريم غلاب.

وفي الآونة الأخيرة اتخذ هذا الميسم طابعا أكثر عمقا، إذ لم يعد الأديب مكتفيا بالتوظيف الخارجي للمعطى التاريخي، حدثا كان أو شخصية، بل عمد إلى جعله جزءا من بنية النص، وذلك لتحقيق أهداف فنية ودلالية، هي بالتأكيد تضفي على الإبداع قيمة مضافة.

وفي مجموعتي القصصية الأخيرة مظلة في قبر[1]  كان هاجس توظيف المعطى التاريخي مهيمنا على ذهني ووجداني، محاولا -بذلك- الاستفادة من النبع الثري للتاريخ، قصد توظيفه في بعض النصوص.  لكل ذلك حفلت المجموعة القصصية بجملة من الأحداث التاريخية والشخصيات، التي وسمت المسار الإنساني ببصماتها الواضح، من أمثال نيرون وهنيبعل وكليوباترا وبلقيس وغيرهم.

وقد اتخذ توظيف الرموز التاريخية في المجموعة أشكالا متعددة، منها ما يحيل على التاريخ بشكل عام بنوعيه الواقعي والأسطوري. ففي قصة “منطق” مثلا، نقف على تلك المفارقة الساخرة التي يوحي بها الاستنتاج المنطقي من قراءة التاريخ، باعتباره مجالا خصبا لاستخلاص الدروس والعبر، تقول القصة:

بعد قراءته لسير العظماء

لاحظ الرجل أن أكثرهم مات منتحرا

بكثير من الرهبة استعرض أسماءهم

هرقل… كليوباترا… هنيبعل… نيرون…

أخيرا استنتج ما يلي…

لكي يكون الرجل عظيما،

لزاما عليه أن يموت منتحرا.

ومما لا شك فيه أن توظيف المعطيات التاريخية يخدم كثيرا نصوص القصة القصيرة جدا، خاصة من الناحية الفنية، أعني بها تقنية الكتابة، فالقصة القصيرة نظرا لقصر الحيز الذي تشغله كتابيا، لا يسعفها ذلك في بناء الشخصية مثلا، فتلجأ إلى التاريخ لإخراجها من هذه الورطة، وذلك من خلال اقتباسها لشخصيات محددة الملامح والأبعاد، فلا يحتاج بعد ذلك الأديب سوى الاشتغال على الجوانب، التي تهمه في القصة. نقرأ مثلا في قصة “الخطيئة”:

بخطى واثقة، توجه نيوتن نحو شجرة.

توقف تحتها، وطفق يتأمل ثمارها…

أحست تفاحة بوجوده، فارتعبت…

ألقي في روعها أنه آدم يوشك ثانية أن يرتكب فعل الخطيئة…

حين طال مكوثه انتفضت فزعة، فانكسر سويقها…

هوت على الأرض، واستقرت هامدة بالقرب من قدميه.

كما يسعى هذا التوظيف إلى تعميق الدلالة، والكشف عن أبعاد وجودية ونفسية وفلسفية عميقة، يتغيا الكاتب إبرازها بطريقة فنية، بعيدا عن صرامة النسق الفلسفي، وواقعية المعطى التاريخي. نقرأ في قصة “المومياء”:

في كل خطوة خطاها نابليون نحو مصر، ظل يداعب خياله حلم، بأن يعثر هنالك على كليوباترا أخرى، ينسج صحبتها قصة حب، تخلد ذكراها في وجدان البشر.

جدّ نابليون في البحث، ونصب عينيه ما حدث منذ زمن سحيق بين ” أنطونيو ” ومعشوقته ” كليوباترا ”.

لم يأل جهدا في سبيل تحقيق مبتغاه، لكن بعد مدة طويلة من التقصي، اقتنع أخيرا، أن المرء ليس بوسعه السباحة في نفس النهر مرتين. حينذاك حمل معه مومياء، وعاد قانعا بغنيمته إلى فرنسا.

وقد يفاجأ الكاتب أن التاريخ كاتب بارع يخط بأنامله الرفيعة أجمل القصص وأروعها، حينذاك يكتفي بأن يكون ناقلا أمينا، وهذا ما حدث في قصة ثورة ذات المرجعية الواقعية الحقيقية:

أطلت زوجة الحاكم من شرفة قصرها…

رأت جحافل الشعب ثائرة…

سألت وصيفتها قائلة…

– لم يفعلون ذلك؟

أجابت الوصيفة…

– إنهم يطالبون بالخبز، لقد أنهكهم الجوع.

مستغربة تساءلت زوجة الحاكم…

– لم لا يأكلون الحلوى؟

وقد يركز الكاتب على تفصيل صغير في الحكاية التاريخية، لم يسبق الاهتمام به، هدفه خلق الدهشة لدى المتلقي ومن ثمة المتعة، ضالة قارئ الأدب. جاء في قصة بلقيس:

في قصر سليمان، حينما كشفت بلقيس عن ساقيها المرمريتين، كان هناك في مكان ما عين تختلس النظر، وترتشف بالتذاذ تفاصيل القوام البهي.

من مكانه في إحدى شرفات القصر، رأى الهدهد ما حدث، فاعتصر قلبه الندم.

منذ ذلك الحين أقسم الهدهد بأن لا ينقل مطلقا الأخبار بين البشر،

وأن يلزم الصمت إلى أبد الآبدين.

أما في الكتابة الروائية، فقد كان تقاطعي مع التاريخ من الأمور الجميلة التي تحدث لي خلال هذه الكتابة، فأجدني مضطرا لتدقيق المعلومة التاريخية، فتكون المناسبة سانحة للتعلم. حدث لي ذلك حين كتبت رواية تراتيل امازيغية[2] التي استحضرت فيها فترة موغلة في القدم، وتتعلق بتاريخ المغرب القديم حين كان الرومان يحتلون البلاد، وكانت القبائل وممالك الأمازيغية متفرقة، تناضل من أجل البقاء، فتخيلت مملكة تسعى لتوحيد الأمازيغ وطرد المحتل من الثغور المستعمرة، وكذلك الشأن بالنسبة لرواية ابن السماء[3] التي تطرقت فيها لفترة الاستعمار الفرنسي للمغرب، وتوظيفه الأضرحة من أجل بسط هيمنته على البلاد، مستغلا الجهل وجشع بعض المتواطئين معه، من أجل تحقيق أهدافه.

في رواية الأطلسي التائه[4] التي حاولت فيها إعادة تشكيل حياة شخصية المتصوف المغربي أبي يعزى الهسكوري، كانت الخلفية التاريخية حاضرة بقوة، ممثلة في القرن الثاني عشر الميلادي وتحديدا الفترة الانتقالية المتميزة بمرور السلطة من الدولة المرابطية إلى الدولة الموحدية، والظروف الصعبة التي رافقت هذا للتحول، والتي أثرت بعمق على الشخصية الرئيسية في الرواية.

أما في رواية أحلام المسيسيبي على ضفاف سبو[5] فكانت الفرصة سانحة لتناول تاريخ المغرب الحديث، وخاصة الإنزال العسكري الأمريكي في الدار البيضاء ومن ثمة التوجه إلى القنيطرة، وبناء الثكنة العسكرية ذائعة الصيت، وكان يشغلني في ذلك أمر أتاحت لي كتابة هذه الرواية فهمه، ويتعلق بسؤال ظل عالقا في ذهني، مفاده، كيف أباحت الولايات المتحدة الأمريكية لنفسها غزو إحدى مستعمرات حليفتها فرنسا، فكانت كتابة هذه الرواية مفتاحا لفهم هذا الأمر، الذي حيرني مدة طويلة.

فيما بعد رجعت لفترة المرابطين من خلال رواية زوجة الملوك الثلاثة[6]، التي أعدت فيها صياغة شخصية زينب النفزاوية، تلك المرأة التي تستحق أن تسلط عليها الأضواء الكاشفة، نظرا للدور المحوري الذي لعبته في تسيير دفة الحكم، وبسبب كونها امرأة، مما يعطي صورة إيجابية عن المرأة وقدرتها على المساهمة الفعالة في أحداث التاريخ الجسام.

وخلاصة القول إن استثمار التاريخ في الكتابة الأدبية له فوائد عدة منها ما هو فني جمالي لأن حكايات التاريخ تستهوي الناس وتحفزهم على الإقبال على قراءة الروايات، ومنها ما هو تعلمي وتنويري، بالسعي إلى الفهم والاستيعاب وأخذ العبرة. كما أنه فرصة مناسبة للأديب للتعلم وتدقيق المعلومة، والتواضع تجاه عظمة التاريخ والاستفادة من دروسه التي لا تنتهي.

 

————————————————

[1] مصطفى لغتيري، مظلة في قبر، قصص قصيرة جدا، منشورات القلم المغربي، الدار البيضاء 2006.

[2] مصطفى لغتيري، تراتيل امازيغية، دار لنايا، سوريا 2013

[3] مصطفى لغتيري، ابن السماء، دار النايا، دمشق 2013.

[4]  مصطفى لغتيري، الاطلسي التائه، دار الآداب، بيروت 2015.

[5]مصطفى لغتيري وأحلام المسيسيبي، على ضفاف سبو، دار الرفاعي، القاهرة 2018.

[6] نفس الملاحظة أعلاه

عن مصطفى لغتيري

قاص وروائي

شاهد أيضاً

حرب الكَوم: الألم في عرين البطولات

محمد المعزوز، حرب الكوم (رواية)، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء وبيروت، 2022         يقر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.