الفينة نبيلة، السياسة الصحية بالمغرب زمن الحماية وبعد الاستقلال، مساهمة في فهم المنظومة الصحية الحالي، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في التاريخ، تحت إشراف الأستاذين: عبد الرحمان المودن ولطفي بوشنتوف، نوقشت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية-جامعة محمد الخامس بالرباط، بتاريخ 14 يوليوز 2021.
إن الغاية من دراسة موضوع “السياسة الصحية بالمغرب زمن الحماية وبعد الاستقلال”، وبالضبط إلى أواخر سنوات التسعينات حيث انتهى العمل بالتخطيط والمخططات، هو البحث في المنظومة الصحية المغربية والتحول الذي طرأ عليها منذ ما قبل الحماية والدور الذي قامت به الحماية الفرنسية في هذا الباب، وذلك في محاولة لفهم الوضع الصحي الحالي الذي يعاني من مشاكل أصبحت ترهق القطاع الصحي مع توالي الحكومات منذ الاستقلال إلى أواخر التسعينات. ويتعلق الأمر بالتناقضات أو المفارقات التي ميزت المنظومة الصحية الحالية ومشكل تعامل المجتمع المغربي مع قضايا الصحة والمرض، والمتمثل في استمرار اعتماد شرائح كبيرة من المجتمع على الطب الشعبي رغم تقدم الطب الحديث.
يعاني القطاع الصحي الحالي من مجموعة من النقائص الكبرى، ترتبت عنها مفارقات كبيرة، إذ يتوفر على رصيد بنيوي مهم يتكون من شبكات العلاجات الصحية؛ وعلى رصيد بشري طبي وتمريضي وإداري مؤهل، وعلى مؤسسات جامعية لتكوين الأطباء والممرضين، وعلى مراكز استشفائية جامعية مؤهلة، ومع ذلك لا ترقى النتائج المحصلة إلى المبتغى المطلوب رغم المجهودات الكبرى التي وجهت لهذا القطاع قصد الاضطلاع بوضع صحي في مستوى الرهانات المعاصرة.
لا يزال القطاع الصحي يعاني من اختلالات بنيوية، وعلى رأسها ضعف العرض الصحي والتوزيع الترابي غير المتوازن له خصوصا في الوسط القروي، مشكل التفاوت في إمكانية الولوج للعلاج بين الوسط الحضري والقروي. بالإضافة إلى الاختلال الموجود على مستوى التوزيع المجالي للموارد البشرية العاملة في القطاع، فضلا عن تمركز العرض الصحي بشكل مكثف بكبريات التجمعات السكانية الحضرية (الدار البيضاء والرباط)، وغيرها من الاختلالات الأخرى.
وبالموازاة مع هذه الاختلالات، شهد القطاع الصحي الحالي وجود متغيرات عميقة خلال السنوات الأخيرة، ومن بينها الإقرار بالحق الدستوري للصحة سنة 2011، بعد تنظيم التشريع المغربي لمجالات واسعة الارتباط بضمان الحق في الصحة كما نص على ذلك الفصل 31 من الدستور.
وقد أفضت هذه المتغيرات والمفارقات السابقة إلى التساؤل حول المنظومة الصحية الحالية التي لم تعد ملائمة أمام التحديات الراهنة والمستقبلية، والرجوع إلى الماضي للبحث في جذور الاختلالات التي يعانيها القطاع الصحي الحالي، وتفكيك الآليات والميكانيزمات المتحكمة في القرارات السياسية والاقتصادية والثقافية التي أفرزت هذا الواقع الصحي.
وقد أفضت هذه الدراسة التاريخية للسياسة الصحية بالمغرب إلى الخلاصات التالية:
- اتضح من خلال تتبع مراحل التطور التاريخي للطب في المغرب وفي أوروبا إلى حدود مطلع القرن العشرين أن الطب في المغرب وقع له انحطاط بعد مروره بمرحلة الأوج، وأن حدة الكوارث الطبيعية التي عرفها المغرب خلال القرن 19 لم تفض إلى التساؤل عن أسباب العلاج وتشكيل فكر إصلاحي في الميدان الصحي. في حين عرف تطور الطب في أوروبا توجها مخالفا وتم بشكل تدريجي، بحيث كان مواكبا للتطورات التي عرفها المجتمع، لأن ولادة الحداثة الطبية في الغرب تكاد تكون طبيعية، وهو أمر لم تعرفه الدول العربية.
- وبينت دراسة السياسة الصحية خلال فترة الحماية أن القطاع الصحي بالمغرب لم يخضع للتنظيم والتحديث إلا مع سلطات الحماية الفرنسية، التي وضعت له سياسة ذات أهداف وتصورات واستراتيجية خاصة ووجهته لخدمة مصالحها. فقد استهدفت السياسة الصحية الفرنسية في مرحلتها الأولى (1912-1925) محاربة الأمراض والأوبئة التي كانت تجتاح المغرب لتأمين الجو المناسب لاستقرار الجالية الأوروبية تمهيدا للاستفادة من خيراته. وركزت المرحلة الثانية (1926-1956) على التنظيم المؤسساتي للقطاع الصحي.
والملاحظ أن المنظومة الصحية التي وضعت أسسها الحماية الفرنسية، كانت مستلهمة من المنظومة الصحية الفرنسية، حيث استند واضعوها على توجيهات المتروبول الفرنسي؛ وبالتالي فهي منظومة مستوردة، كانت تستجيب فقط لحاجيات الجالية الأوروبية المستقرة بالمغرب، ولا تتكيف مع الحاجيات الصحية للمغاربة ولا مع واقع البلاد. ومع ذلك فإن التدابير الصحية التي وضعت أسسها الحماية ساهمت في تدعيم البنية التحتية الصحية المغربية بتجهيزات متطورة، كما حسنت التغطية الصحية للسكان، الأمر الذي ساعد على تراجع نسبي للأمراض والأوبئة، والتي تراجعت معها نسبة الوفيات.
- ويظهر من خلال دراسة السياسة الصحية بالمغرب منذ الاستقلال إلى أواخر التسعينات أن استقلال المغرب لم يدشن قطيعة مع فرنسا، إذ لم يتمكن النظام الصحي المغربي من تغيير تركيبته بعد حصوله على الاستقلال بل ظل يخضع لقوانين التراكم الرأسمالي، ويعكس الاستمرارية السياسية والاجتماعية للتوجهات الدولية. ويتجلى ذلك في تبني الدولة لبرامج واستراتيجيات صحية غربية غير مطابقة لاحتياجات المجتمع. وقد عرفت سنوات الستينات والسبعينات اعتماد سياسة “التنمية الطبية” التي تقوم على الخيار الاستشفائي، وهو نموذج مستورد من الدول الأوروبية المتقدمة، رغم أن المناظرة الوطنية الأولى حول الصحة سنة 1959 أقرت بضرورة تصميم استراتيجية وقائية للقضاء على الأمراض الجماعية المتنقلة التي كانت متفشية في ذلك الوقت. كما عرفت فترة الثمانينيات تطبيق المرحلة الثانية من السياسة الصحية، والمتميزة بهيمنة “سياسة الخدمات الصحية الأساسية”، التي تحكمت فيها أطروحة “إيديولوجية التقويم الهيكلي”، وهي بدورها استيراد وتطبيق لتوصيات المراكز المالية الدولية.
وتماشيا مع التوجهات الدولية، ميزت السياسة الصحية في مرحلتها الثالثة، أي خلال عقد التسعينيات، ما يسمى بـ “سياسة السوق الصحي”، التي تعتقد أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية تتحقق في إطار معادلة العرض والطلب وقوى السوق والجودة والمنافسة. لهذا، يُؤاخذ المغربُ على استيراده لنماذج اقتصادية جاهزة صالحة لاقتصاديات معينة وفي ظروف معينة، ومحاولة تطبيقها كما هي دون تعديلها وفق ظروف وخصائص البلد. وهذا يعني أن استقلال المغرب تم في إطار الاستمرارية للتوجهات الأوربية الغربية. وهذا ما يفسر مشاكل النظام الصحي الحالي. وبما أن الاستراتيجيات التي يضعها هذا النظام لا تتلاءم مع عقلية فئات معينة من المجتمع المغربي، فإن هذه الأخيرة تواصل اعتمادها على النظام التقليدي الشعبي في العلاج، مما يفسر امتداد واستمرار الاعتماد على الطب الشعبي كبديل للطب الحديث.
- ومكنت هذه الدراسة في شقها الثقافي من فهم الأسباب الأخرى المتعلقة باستمرار اعتماد شريحة كبيرة من المجتمع المغربي على العلاج الشعبي كبديل للطب الحديث، والمرتبطة من جهة بكون السلطات الاستعمارية الفرنسية لم تحارب ما وجدته منتشرا بين المغاربة من طرق علاج تقليدية، بل غضت الطرف عنه، لهذا ظل الناس يعتمدون الطب الشعبي نظرا لسهولة الولوج إليه أمام ضعف الإمكانيات المادية التي يتطلبها العلاج، فضلا عن كون الإقبال عليه يغني المريض عن “طب النصارى” وما يرتبط به من إجراءات دخيلة على ثقافتهم العلاجية.
ويرتبط استمرار الاعتماد على الطب الشعبي من جهة أخرى بالعوامل الثقافية والظروف السوسيو-اقتصادية (مستوى المعيشة والدخل والوضع الاجتماعي والمستوى التعليمي)، إلى جانب المشاكل المرتبطة بالعرض الصحي مثل صعوبة الولوج للمرافق الصحية بسبب بعد المسافة، وعدم كفاية الطاقم الطبي المشرف على العلاج وغلاء الأدوية. ينضاف إلى ذلك مساهمة وسائل التواصل السمعية البصرية وشبكات التواصل الاجتماعي وظهور مراكز خاصة بالعلاج الشعبي، في الترويج لهذا الطب، لما تقدمه من وصفات علاجية شعبية لأمراض مستعصية. وفي غياب “تأطير رسمي” من الدولة للطب التقليدي الشعبي، استحوذ العديد من الفاعلين على هذا المجال للعب دور المعالج لحالات مرضية متنوعة. لهذا تطرح هذه الدراسة السؤال: هل من الضروري أن تعمل الدولة على التنسيق بين الطب التقليدي والطب الحديث في محاولة لحل الإشكالية الثقافية المرتبطة بالصحة، وذلك عن طريق إدماج الطب التقليدي في صلب النظام الصحي المغربي الحالي بالاستفادة من التجارب العالمية التي أُنجزت في هذا الشأن. كما تطرح هذه الدراسة أيضا قضية دمج البعد الصحي في مجموع السياسات العمومية عن طريق بلورة سياسة وطنية للصحة تندمج في إطار سياسة وطنية للتنمية البشرية، ونهج مقاربة أفقية شمولية تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات المحلية والثقافية والبيئية. وهي مسألة تدخل في إطار ما يسمى اليوم ب “المحددات الاجتماعية والثقافية للصحة”.
وفي الختام، تدعو هذه الدراسة إلى إعادة النظر في المنظومة الصحية الحالية للبلاد بطريقة جذرية، بحيث يمكن أن تشكل جائحة كورونا فرصة تاريخية للتنفيذ الأمثل للنموذج التنموي الذي ستنخرط فيه البلاد.
اريد نسخة من الاطروحة لو سمحت