إِنْ تجاوز اللفظ حدود المعجم، وخلق توجيهات لأشكال الدلالة، ولأنماط تحولاتها، هل يكون بذلك قَدْ استجاب لثوابته الجوهرية، وقَدَّم جوابًا إجرائيًا عن طبيعته المتغيرة؟ أم أنه في الحقيقة يكون قد ضل وغوى؟ وبتعبير آخر، هل حصيلة اللفظ مرتبطة بإسنادات معجمية واضحة، وبحدود دلالية جلية؟ أم حُق لها خرق هذه الحدود، واستبدالها بمعايير لصناعة المعنى؟
هي رؤية يمكن أن تتعالى تباعًا، حينما نتجاوز محدودية التعاطي الحسي مع حالات اللفظ، ليَتِمَّ في المقابل، التصادي مع سيرورة متواصلة، ضمن رحلة سرمدية لامتناهية، لخلق منافذ المعنى وتصريف الدلالة؛ إذ للظاهرة حالات متعددة استندت إلى خصائص لفظية، لها تَفَرُّد خاص في رسم حدود العبارة، بفضل استبدالات، وتماثلات، واستعارات، منحت فائض المعنى، لأن الأمر في صميمه متعلق برؤى مختلفة، وبطرائق جديدة لتقييم الوجود، وظواهر العالم.
هو تقييم ذو طابع معرفي، قاد بشكل متلاحق، إلى ترتيب الأولويات لمعرفة حقيقة الذات، لأن هذا الكشف صُنف ضمن بداهة عمليات رصد عميقة، اضطلعت بها مختلف المجالات المعرفية لتقديم تمثلات موضوعية عن الكون. فَجُل حقائق الذات، أو تلك النابعة منها، لا تتم إلا في إطار حدود تقييم مظاهره، إذ لا يمكن لأي حقيقة أن تجد مستندًا لها دون غوص في عمق ظواهر الكون، وفي أبرز تجليات مظاهره. وثمة تنبثق من حولنا الحقائق، عن ماهية الوجود، ما حذا بفيلهلم دلثاي Wilhelm Dilthey إلى التأكيد على توجه مزدَوَج، بقوله: “إننا نفسر الطبيعة، في حين أننا نفهم الحياة النفسية”1. إنه انتقاء مزدوج، يشتغل ضمن نطاق متماثل، ولدته قدرة الإحالات، وطاقات إسنادها، إذ الأمر في عمقه يحيل على أنساق ثقافية، لها ظاهر ومضمر، كما أنها ذات رمزية مكثفة، تباينت إمكانية تفكيك تسنيناتها الثقافية من مكان إلى آخر، وعبر غايات زمنية، ينبغي مراعاة تحديداتها. وهكذا تتجدد المضامين باستمرار، وتتوالى قدرات اللفظ في توليد المعنى، بإحالات مرجعية متجددة، تلائم سيرورة الزمن، وطبيعة المكان، في توجيه الدلالة.
وعلى هذا الأساس، ميز بول ريكور بين السيمياء، باعتباره علمًا يدرس العلامة، وصياغةً للفعل الإنساني، في نطاقات لغوية، أو رمزية معينة، بناء على إسنادات ثقافية، وعلى رؤية تسلسلية، لشكل من التمثلات المختلفة، عند مجموعة بشرية ما. وفي المقابل، ميز بين علم الدلالة، الذي هو موقف مباشر، يبيح استكشاف عوالم الجملة، بحثًا عن المعنى، إذ انصرافه المباشر هو البحث عن المغزى، أو المعنى Sens، في نطاق عمليات متكاملة للغة، عبر تداخلها في مستويات عضوية لها أنظمة دقيقة تفرز الدلالة، كما هو شأن الفن والإبداع بصفة عامة، والنصوص الشعرية على وجه الخصوص. واستنادًا إلى ما سبق، تنامت اقتناعات بول ريكور، حينما قال: إنه “في تقديري أن التمييز بين علم الدلالة والسيمياء يشكل مفتاح مشكلة اللغة بأسرها”2 . إنها معضلة تحديد الكون، وتحييد ظواهره، لإعادة قراءتها وفق معطيات الزمن والمكان، وفي ذلك تنميط متجدد لمظاهر مواكبة هذا المعطى، إذ هي في طياتها تحمل إشكالات جنينية، تبشر بميلاد ظواهر أخرى.
فورة اللفظ ووفرة المعنى في القصيدة
تحيل ممارسة تحليل نص شعري، على بنية غنية، تغري باستئناف اكتشاف علاقاتها، لأن أي تحليل نصي، لا بد أن يقف عند لجة هذه الصياغة بكثافة شكلية ذات قدرة على منح كثافة دلالية مضاهية. ولن يتأتى ذلك دون وعي بمسارات اللغة، وبمناهجها، سيما وأن تتبع فن التعبير، المسنود بذوق رفيع، وبتطريز ثقافي، عبر تعاقب المراحل التاريخية، يشي بأن الأمر يتعلق بطرائق علمية صرفه، وإن تَبَدى أنها تأخذ طرائق قددا، إلا أنها تجتمع حول فرادة النص عمومًا، والشعري منه على وجه التخصيص، بقدرته على توسيع سياقاته الفنية والمعنوية. وهذا يعني أن اللغة في خضمه، تغدو ذات تقطيع مختلف عن طبيعتها العادية، بكشف سلسلة إسناداتها، القادرة على تحييد القريب المعهود، وتطعيم البعيد المفقود بأقصى مؤشرات التدليل عن الرغبة، والواقع المشتهى المنشود. فالظاهرة لا تتعلق بمراوغة لغوية، بل بتصفيف رفيع ذي وحدات بنائية، خاصة وعامة، تصب كلها لصالح بناء مطرز، ومُطَّرد، يُعَد هدفصا كبيرًا، لكل متدخل أراد الإمساك بمستويات هذا التركيب الفني التليد.
بناء على ما سلف، اعتمد لوتمان Lotman منهجًا بنائيًا في الرؤية والممارسة، لأن فلسفتَه اقتربت من فلسفة ليفي ستراوس، الذي لم يفهم البنية فهمًا سكونيًا جامدًا، بل ركز على خاصيتها العضوية، لأن أي عنصر فيها لم يأت اعتباطًا، بل نتيجة تفكير مسبق لخلق نوع من التكامل فيما بين أجزائها، فالنص “ليس مجرد مادة ثانوية للدراسات التاريخية والنفسية، بل إن له ذاتيته الجديرة بأن تكون موضوعًا للبحث”3، إنه فن اللغة بامتياز، وصيغة عليا للتأليف بين الأصوات والألفاظ، اعتمادًا على بنى نحوية، وصور فنية، تنسج جميعها مراتب الدلالة. ولأن الكلمات تتكثف بإيقاع القصيدة وتحيا، فإن الشكلانيين الروس، عينوا لغة الشعر المختلفة تمامًا عن اللغة الوظيفية النثرية، إذ الكلمات متحجرة في الواقع اللاشعري وجامدة، حتى وإن بدت في الواقع الأول، مخلة بالأعراف اللغوية تصريفًا ونحوًا، إلا أن الأمر يتعلق بطابع مجازي، تماوجت فيه الكلمات بين الحذف والإضمار، والدلالات العامة والفرعية، إنها خصوصية الأسلوب الشعري المكثف، بقيم تدرجت تباعًا في بناء القصيدة، أو العمل الأدبي بصفة عامة. وأول ما يمكن التنبيه إليه، هو الملامح الفارقة بين الكتابة الشعرية والنثرية. فما علاقة الشعر بالنثر؟ وأيهما أسبق؟ وما إمكانيات كل واحد منهما؟
هناك أطراف اعتبرت سمة الكلام الطبييعة ما انتظم نثرًا، لكن في المقابل، نجد مواقف قوية أسْنَدت أسبقية الشعر على النثر. أما المواقف التي ادعت عكس ذلك، ربما اعتبرت الكلام اليومي الدارج نثرًا، بعدما أدخلته في خانته، بما ينهض به الكلام الوظيفي احتواءً للتواصل الاجتماعي، أما في الحقيقة “فالنثر الفني لا يعتبر من الوجهة التاريخية صيغة الانطلاق للغة الفن الأدبي، بل إن الشعر هو صيغة الانطلاق الوحيدة الممكنة لما يدعى بفن القول”4، فيصبح النثر زمنيًا ظاهرة متأخرة، قياسًا بصنوتها الشعرية، فلم تأخذ قسطًا من الانتشار، إلا حينما تقوى الوعي الجمالي وتراكم. وهكذا فإن أمر الممارسة الشعرية اتصل بهُوية هذا النمط من الكتابة، الذي احتاج عناية خاصة، اتصلت بطبيعته البنائية الممتدة في نطاق من العلاقات الجمالية، ودقة ترتيب لفظي وأسلوبي، بمنأى عن أي توزيع اعتباطي لا يقيم جدوى لأبعاد الدلالة والتركيب والإيقاع. وثمة فرق شاسع بين الكتابة المعجمية، المعتمدة على الإملاء، بتحويل مفردات المعجم إلى رموز، وبين الكتابة الإيقاعية المحددة لهوية النص الفني، بدلالات شعرية تنطلق من العام إلى الخاص، ومن الخاص إلى العام، ترصيصًا لعالم الدلالة القائم على وحدات، تراعي الظاهر والمضمر، وطبيعة الواقع والاحتمال.
فلا غرو، إذن، أن تبقى الكثير من إمكانيات الشعر وأسراره، خارج نطاق الرصد العلمي، إذ فاقت طاقاته حدود الممارسة العلمية وصرامتها، دون أن يعني ذلك تطلعنا أن نكون إزاء شعر آلي، تتحدد ضوابطه بشكل علمي صارم، لأن من طبيعة بعض الظواهر أن تتأبى عن التحديد العلمي الدقيق، وكأنها سابقة عن المعرفة العلمية، تتخطاها بخطوات هائلة؛ فالعلم لا يقتصر فقط على “مجرد استرفاد المادة الغفل من حقل التجربة اليومية، بل إنه يحتاج إلى نوع من التوافق المضبوط بين حركة المادة، وبين ما يسمى بعالم المفهوم السليم، ما دام هذا العالم في صورته الساذجة هو العالم الوحيد الذي يحيا الإنسان من خلاله”5. لذا تعذر أحيانًا التعويل الكلي على العلم لفحص ظواهر ليست أجزاؤها كلها علمية، بل بقدر ما تعتمد الدقة، والمنهجية، والتصفيف المنسجم، تتعالى أحيانًا عن الوصف الموضوعي الدقيق، لأنها تتفتق عن مقومات تتجاوز الوصف المجرد، وتتخطى النظرة العلمية الدقيقة، لأنها تتسرب إلى مناطق الانفعال الداخلي والخارجي، وتترجم معطيات فريدة تستعصي على الضبط النهائي، لما تحبل به من تمثلات شعورية وجمالية وفنية، تقدح فاعلية الرمز والإيحاء بشكل يتعذر عن حالات التحديد المباشر، إنه النص الشعري، ببناء شمولي متفرد “ومستقل بذاته وبنيته الداخلية. فكيف ندرس هذا الكل من حيث ما يتمتع به من وحدة فنية وفكرية؟ هل ثمة من المناهج العلمية ما يسمح بجعل الفن موضوعًا له، دون أن تغتاله هذه المنهجية؟ كيف يبنى نص ما؟ ولماذا بني بالذات على هذا النحو؟”6، مع ما يقدمه منهج البحث، وشخصية الباحث المتمرس، إن توفر على تجربة غنية في التعاطي مع النصوص، من تسهيل هذه العملية وتيسيرها، وحل المشاكل بسلاسة، تفضي في نهاية المطاف إلى تطويع العلمي لخدمة الفني، لأن الحدس السليم، غالبًا ما يتوفق في خلق انسجام بينهما، اعتبارا لدرجات العبقرية الفردية، وطبيعة النص الإبداعي، الذي يسمح بتعدد المداخل بغية مقاربته، واستطلاع جوهره، وملامسة قيمه وأعرافه على مستوى الشكل والمضمون. لذا حاز تطور حقل اللغويات قيمة كبرى، في رصد بناء النص الشعري، لأن اللغة نظام، بل أرقى ما وصل إليه الإنسان من علاقات ذات انتظام خاص، فرصدت الإنتاج الأدبي كلًا عضويًا متكاملًا”7، لأن تفتيت عناصر النص، لا يستجيب للمقاربة المنشودة، فكل عنصر لا يتحقق إلا في علاقته مع باقي العناصر الأخرى، ومن ثَم تتضح صيغته الكلية عن طريق بنائه الشمولي.
فليس من باب المصادفة تكييف النص الشعري مع المناهج الإحصائية بنزعتها الرياضية، لتوفره على أقصى ضوابط الاتساق المشار إليه، بما يقوم عليه من نظام واضح من الوحدات. وما ظاهرة الوزن، أو الأوزان الخاصة بالشعر في مختلف اللغات، بثنائيته المقطعية، إلا أبرز دليل على ما نقول. فإلى جانب نظام اللغة، فإن الأساس المقطعي للشعر وفق نظام الأوزان، بأبعاده الإيقاعية، تزداد ضوابطه في القصيدة، فتنمي أبعاد الدلالة فيها، بذلك تتكثف العناصر البنائية المرتبطة باللغة عبر مستويات تربط اللغة بما يقع خارجها، وبمستويات شكلية أخرى، تبرز خاصيتها في التعبير عن ذاتها، في سلسلة تركيبية من المماثلات والمفارقات، كلها خاضعة لمبدأ التوازن، بقواعد نحوية ونظمية ينطبع بها الشعر عما سواه، دون أن يعني ذلك إطلاقًا أنه بنية معقدة، لأن أي تركيب فيه لا يؤدي وظيفة دلالية، فهو بشكل بديهي مناقض لصيغة الفن المعهودة المنبنية بالأساس على دقة النظام وتكامله. وثمة يغدو كيانًا متلاشيًا، لا يمت للفن بصلة، إن حاد عن نسقه المنظم، فالأمر “يتعلق بسلسلة من الإشارات تتجه وجهة واحدة في تعاقب زمني، يتعلق بما يقع خارج الزمن من أنظمة وقواعد لغوية، وهذه العلاقة تحدد طبيعة اللغة باعتبارها حاملًا للمعنى، أو بالأحرى باعتبارها سلسلة من المعاني تتكشف في تعاقب زمني”، وعليه فإن النص الشعري خاصة، والنص الأدبي عمومًا، على درجة كبيرة من النظام، يتحقق نسقيًا وسياقيًا على أساس مبدأ التكافؤ والتسلسل، في توزيع مُنَظَّم العناصر، بحيث تأخذ بنيته موقعية تلائم بين هذه العناصر، وتماثل فيما بينها تفرعات أساسية ربطت النص بالثقافة، ثم واكبتها معرفة فيلولوجية، ولسانية، وعلمية، وفكرية، قادت لوتمان إلى تعميق آرائه بشأن الوحدة الأساسية للتحليل، أي النص في تمثله اللغوي، بعناصره المستمدة من اللغة، ما أتاح الانفتاح على لغات متعددة، باستطاعتها تقوية إطاره الوصفي والموضوعي، وتصنيف إحالاته بناءً على الظواهر التي يتعاطى معها، وبناء كذلك على الوعي الحضاري المتمثل في ما تنقله لغة بعينها، سواء أ كانت في الماضي، أم في الحاضر، ما يفضي بالنص أن يكون مستقر اللغة، يستلهم قواعدها في إطار تقطيع زمني، يخضع للتزامن والتعاقب اللغوي، ولمحددات الظاهرة اللغوية باختلاف ألسنها من شعب إلى آخر، ومن نطاق حضاري إلى آخر. لأنها ذات بعد تواصلي خارق، من شأنه تقوية الوعي بما تمثله النصوص، من جسر توافقي يكثف ظاهرة التواصل، ويفتح فسحًا تأملية تأويلية انطلاقًا من منبعه الأصلي، تطلعًا إلى المبلغ الذي يمكن أن يصله في نطاق الحوار بين الشعوب والحضارات، والتواصل فيما بينها. إنه فِعْل تقابلي جَمَع السابق باللاحق، عبر سلسلة تقييمات مواكبة للتطور الإنساني، ولأبرز مراحل القوة والألفة، لمنح توالد فعال بين بني البشر. هو توالدٌ لا يتم إلا بتوسيع دوائر الاهتمام، وفتح مرجعياتنا الفكرية على كثير من العلوم، تجدد روابطنا في تقييم نجاعة حركيتنا في الكون. لذا جاء مفهوم سيمياء الكون La sémiosphère عند لوتمان فضاء ممكنًا لاستيعاب الذوات.
مراتب الدال والمدلول ومراكب الدلالة
صدر موقف يوري لوتمان عن وعي، واستثمره في نسق متكامل لم يقف عند حدود الدال والمدلول، بل تجاوزه إلى مجال العلامة، لتحصيل المعنى، والوقوف على الدلالة في ازدواجيتها الظاهرة والمضمرة، قياسًا إلى نظام الفعل الذي يتخذ صورًا شمولية متعددة، انطلاقًا من الذات وتطلعاتها الفكرية والوجدانية، إلى الواقع ومنظومته المتناسقة، من أدق التفاصيل إلى أعمقها وأعقدها، إنها أنظمة الثقافة بملامح خاصة وعامة، ملامح تبدأ مع الفرد، فتتحول كونية إنسانيةً، بمنظومات إشارية، وعلامات لغوية وبصرية، حبلى دلاليًا. هي منظومة إشارية يتدخل في قراءتها وفك إحالاتها، علم العلامات، ما يعرف بالسيميائيات المهتم بتحديد الخصوصية الثقافية حسب أبعادها الحضارية. وعي قاد لوتمان باعتباره شكلانيًا معروفًا، إلى الاهتمام بالإحالات الثقافية، وبالنص الفني، على أساس أنه منظومة نسقية، دالة على التحول الثقافي، والتغير الحضاري. فكما يتم تناول النصوص على أساس أبعاد دلالية، يمكن تناول الثقافة بدورها من هذا المنظار، حتى إذا كان النص مظهرًا ثقافيًا، فإنه قناة أساسية تتجلى فيه مكونات ثقافية متعددة، لها خصوصياتها ومميزاتها. هكذا أمكن النظر إليه سيميائيًا بما وفره الفكر العلمي من تحديدات خَدَمت المجال، على أنه جوهر فني تستتر أهم إحالاته في بنية عضوية عميقة، وعليه ارتكزت العناية بقوانينه الداخلية المتمثلة في معماره. وأمكن أن يكون جزءً من كل، في إطار وظيفته التعبيرية، واعتبارًا لشخصية صاحبه، ولطبيعته النفسية، ثم كذلك، المواقف الاجتماعية والتاريخية التي خضع لها، ليصبح حالة غير مكتفية بذاتها، بل بما يقدمه من إشارات تحيل على الجوانب المرتبط بها، لذا كان هم الشكلانيين التأكيد على أن “الفن ليس مجرد مادة ثانوية للدراسات التاريخية أو النفسية، بل إن للفن ذاتيته الجديرة بأن تكون موضوعًا للبحث”8 بمجموع علاماتها المولدة للمعنى، ليكونوا سباقين إلى وضع الصُّوى الأولى لعلم اللغة البنائي، وحقول السيميولوجيا، ونظرية المعلومات، بما يعد تأثيرًا مباشرًا في مجال العلوم الإنسانية.
ورغم ما أثارته مقولاتهم من استنكار لدى بعض التيارات الفنية، مثل الرمزية، والكلاسيكية، لأنها اعتادت على تقييم النص، بناء على قيمه الرمزية المرتبطة بالخارج، أي ما يشير إليه النص من وقائع خارجية، إلا أن طموحَهم الفطري، بالنظر إلى التحليل الداخلي للنص، مكنهم من تجاوز أغلب التحديات، باستبدال المفهوم الجدلي للنصوص الإبداعية، إلى تصورات شكلية وظيفية، نابعة من عمق النصوص، ومن بنيتها الطبيعية، فأضحت الشكلية بناء على ذلك، إطارًا أساسيًا للبنيوية، بتطابقهما في جملة من التفاصيل، تتفق في عمومها على المنظومة الإشارية للغة، كونها مادةَ النص، يتوسل بها لإعادة تشكيل الواقع المحيط بها، ولا يعني ذلك أنها مجرد تراكم متتابع لهذه الوقائع، بل على أساس نسقيتها، ونظاميتها المحكومة بقواعد واضحة، طبعت مجال اشتغالها وحركيتها.
إن النص بناء على ذلك، بنيةٌ تدرجية مستوياتها متعددة، انطلاقَا من الصوتي، واللفظي، والصرفي، والنحوي، والتركيبي، والإيقاعي. مستويات مقطعية، وتنغيمية، تنهض بوظائف بناء الجمل، في محاور سياقية، وتركيبية، وإيحائية. فالنص في جوهره، عُدّ من أبرز تجليات الكون بصيغته الفيزيائية، كما أنه لا يؤول إلى تقييم جوهري بمعزل عن تكييفه مع الكينونة الإنسانية، بما اتصل بها من أنساق مختلفة، أضاءت الكون، وفعَّلت إمكانياته الطبيعية، كونه فضاء دلاليًا بامتياز، تشتغل داخله جل الأنظمة الإشارية التي تمنحها اللغات، بمعنى أن سيمياء الكون “فضاء سيميوطيقي ضروري لوجود اللغات المختلفة ولاشتغالها، وليس بمثابة جماع للغات الموجودة، بمعنى واحد، سيمياء الكون لها وجود سابق على هذه اللغات، وتوجد في حالة تفاعل دائم معها”9، بدونها ينتفي فعل التواصل، وتنتفي اللغة كذلك، إذ إنها –أي سيمياء الكون- استقلالية تامة وتداخل في الآن ذاته، بدون هاتين الخاصيتين لا تتفاعل الأنظمة الثقافية داخل منظومة الكون، ولا تتلاقح، ما يعني أن نقل التراث الثقافي يتسم بالتداخل والاستقلالية، في محيط مادي أولًا، وفي فضاء ثقافي ثانيًا، لأن النص باعتباره خزانًا حصينًا للتراث الثقافي، يتميز بلغته، وخصائص محيطه. ولهذاا رصدت السيميائيات المجالية، أو الكونية La sémiosphère، بنظامها التفاعلي، اللغات والثقافات، وفضاءاتها المحيطة بها، زمنيا ومكانيا، نظرا لقيمة هذين العنصرين، في توضيب الحياة الثقافية، سيما وأن اللغات تخضع لمحاور زمنية أفقية وعمودية، من الماضي والحاضر والمستقبل، وإلى خصوصيات داخلية وانفتاح خارجي، لتتداخل فيما بينها بأنواع الحوار الممكنة، إذ تفاعل اللغات وتواصلها، من أكبر حوامل تطورها. فرغم استقلالية اللغات، إلا أنها تتكامل فيما بينها، في نطاق التأثر والتأثير، بما يبرز خصوصية كل واحدة منها، وأهم مؤشرات التطور التي تحملها.
فالمجال اللغوي، بمجمل ملفوظاته ومعانيه، عُدَّ حيزًا ملائمًا تنمو فيه الثقافة، وتتطور فيه طاقاتها، نتيجة عوامل التأثير المستمر بين الماضي والحاضر والمستقبل، ما يعني انتفاء الحدود في سيمياء الكون، بين المؤثر اللغوي والثقافي، إذ الخصوصية لا يمكن بأي حال من الأحوال، أن تطمس آليات التفاعل فيما بينها، نتيجة أواصر الترابط بين مجالات الثقافة أينما وجدت، فيستحيل على الإنسان أن يعيش متقوقعًا، في معزل عما يجري حوله في الكون دون التقاط أهم الإشارات الإنسانية التي تذلل سبل عيشه. وثمة يعاد النظر في التقييم الداخلي الخاص بالأنا، والتقييم الخارجي المتعلق بالآخر، ما يستوجب إعادة النظر في حصيلة ضوابط الحدود وآلياتها، مع منطق الفردانية الخالصة، لأن “التقسيم الحقيقي هو الذي ينبع من الكليات الثقافية البشرية”10، التي تجعل الكائن الإنساني سابحًا في فضاء منفتح، استجابة لبنائه الجسمي الفيزيولوجي، ولدورة الأرض والفصول، اعتبارًا لأهم خصائص الفضاء الكوني، الذي لا يُفهم إلا بطرائق نظرية متكاملة، ومتناسقة، تقابل بين الأعلى والأسفل، عبر نظام تأويلي لنسقية التقابل الشامل، بدءًا من الطبيعي، إلى الديني، والسياسي، والاجتماعي، والخلقي، والأخلاقي…، فما تجدر الإشارة إليه، أن سيرورة “العملية السيميائية هو حدود سيمياء الكون، مفهوم الحدود يتسم بالازدواجية، إنه يفرق ويوحد في الآن ذاته”11، يوحد تقابلات ثقافية، ما كانت لتوجد خارج نطاق كوني، وخارج نظرة تأملية تأويلية مسايرة لهذا الانفتاح، بتكثيف دلالي مبني في الأساس على التناقض والتقابل، بين مذكر ومؤنث، وحياة وموت، وأسفل وأعلى، واختلاف عام يطبع اللغات، والفضاءات، والخطابات، والنصوص، والثقافات، ما يؤشر على مبدأ تواصلي مختلف، لكن نجاعته ملحوظة على مستوى المقاربة التوليدية، لملاحقة أنواع الدلالة، نعتقد أنها أساسية لفهم مرتكزات الكون، وما يحتاجه من وعي خاص لمعرفة نسقيته الدقيقة، استعارة لأهم المداخل العلمية والفكرية لملاحقة التطورات، الممكن استثمارها للإحاطة بهذه الظاهرة المتعددة الجوانب.
حوامل الترجمة وبوادر ارتحال المعنى
هذا التعدد، على قدر اختلاف ملامحه، يقدم خدمات ذات أوجه متباينة، مثلما هو شأن الترجمة، بما تضطلع به من أدوار، في تجسير الهوة بين جغرافيات الكون، ونقل المعاني والمفاهيم من لغة إلى أخرى، رغم تباين بنيات هذه اللغة عن تلك، وتَنَائي المفاهيم والمصطلحات بينها، والمعاني كذلك، إلا أن التقييم الوظيفي لارتحال المعنى، يتصف بنجاعة قصوى على مردودية الفعل الإنساني الذي لا يمكن وصفه إلا بفهم سيميائي، يستوعب البعد الإشاري الممتد بين وجهات الكون برمتها.
لذا يمكن أن تكون الترجمة حوارًا بناء، يدرك التفاوت الحاصل بين لغة وأخرى، بفهم البنيات الضرورية، والأبعاد الإشارية الثاوية فيهما. وهو ما يمثل وجهات رأي تناوبية تنقل الرسائل المتوخاة، فتُغنى منظومة الثقافة بمبرر الاختلاف، حين ينخرط الجميع في احترام ضوابط التواصل الفعال، الذي وإن بُني على التنوع، إلا أنه يقود إلى تجاوز الحواجز، التي هي في عمقها خصوصية سيميائية، تجدر مراعاة حدودها وطاقاتها، وثمة يحصل المطلوب باستيعاب آليات الحوار، فينعكس ذلك مباشرة على السيرورة الحيوية للثقافة التي تؤدي إلى تطويرها بشكل مطرد، لأن الأمر يعتمد قيما ثابتة ومتغيرة، كلما تم احترامها في ثنائية الباث والمتلقي، إلا وتوفرت أسباب نجاح العملية برمتها. ذلك أن هناك هناك نسقًا صوريًا لا بد أن تحترم فيه بعض التفاصيل البسيطة، هي بمثابة مشترك جوهري، يوحد أقطاب العملية، لتبلغ الترجمة مبتغاها، دون توتر ينسف نتائجها.
استوجبت بعض المظاهر العامة المتعلقة بالثقافات، فهم النصوص الأدبية على مختلف أنواعها، إذ مهما اختلف نص من جنس أدبي لآخر، ومن ثقافة إلى أخرى، ظل هناك خط رمزي غير مرئي، ينتظم المتواري، والثقافات والنصوص فيما بينها، ليصبح النص ذا تناوب مرحلي ينبني على مبدأ التوتر والهدوء، لكن المغزى أن هناك تطورًا محايثًا يصاحب العملية دون ضجيج، وهو فعل الترجمة، والمثاقفة، والحوار بين النصوص والثقافات، الذي يحتوي النشاط الحقيقي القادم من وجهات متعددة، انسجامًا مع قاعدة عامة تثمن دور اللغة في توليد النصوص، داخل إطار كوني غني بالإشارات، وفاعلية العلامات. ولذلك لا تتم عملية المثاقفة، والترجمة الجيدة للنصوص إلا في ظل وضع اعتباري يهتم بمنظومة اللغة وأنساقها. لتُطعم النصوص الواردة بنية الثقافات المحلية، فيعيد أحدهما تشكيل قيم الآخر، بالتعدد والتكييف، فتُغني أنواع السَّنَن المتعددة والمضمنة في النصوص، الدوائر الثقافية بشكل ينفي القطائع، ويمنح تصورًا مغايرًا يجدد رؤيتنا للعالم. إنها نزعة التجديد الطبيعي التي لا تقطع مع روابط الماضي، لكنها تسير بها تصاعديا إلى الأمام، فدون النصوص “المستوردة كلية داخل الثقافة المتلقية، هذه الثقافة نفسها، تتطور نحو حالة من الاشتغال، وتبدأ في إنتاج وبوتيرة حية نصوصا جديدة”12 تؤدي إلى انسيابية هائلة في تجديد الأنساق السيميائية، وهو نفسه منطق سيمياء الكون المتغير بطريقة جزئية وكلية، تلائم عناصر الثبات والتغير فيه، لأن تجاوز جملة من العناصر، لا يمكن أن يتم بصيغة موحدة، خصوصًا بوجود مفاصل بنيوية مختلفة، تتطلب نوعًا من الحرية في تناول تفاصيلها، تجنبًا لأي ممارسة قسرية، قد تنعكس وبالا على سلسلة التطوير النصية، والثقافية، والكونية.
وعليه، ينبغي مراعاة خصوصية الثقافات، وأشكال الزمن فيها، بنمطيه الدائري والأفقي، لأن النصوص الكلاسيكية غالبًا ما تكون بنيتها الزمنية دائرية، إذ تغيب عنها الحبكة، ومحورية البداية والنهاية، لأنها في الغالب تمثل نسقًا متكررًا باستمرار، مراعاة للسيرورات الطبيعية الدائرية، أي تستجيب لتوالي الفصول، وتعاقب الليل والنهار، كما أن الشخصيات فيها تتطابق، لتعبر عن مضمون واحد، وتصور أحادي يتكرر مع الوقت. في حين أن التصور الأفقي يعمد إلى تشكيل النصوص وفق مركزية إبداعية، تقوم على تمثيل العالم فضاء كونيًا متعدد الوظائف، بتعدد سياقاته الطبيعية والثقافية، فلا يسمح أبدًا اعتماد صور ثابتة، وتحويلها إلى نمط مركزي، بل عليها مراعاة نسق الثقافات المتعدد، حسب وظائفها الممكنة لتختزل العيوب والنواقص، لصالح بناء بشري منظم بإحكام. هذا التنظيم بلغ شأوًا داخل اللغة، باعتبارها مادة أساسيةً للنصوص، لتتم بلورة هذه الأنساق المنظمة لمعالجة الظواهر المختلفة داخل الزمن وخارجه، عبر بعد واقعي ثابت، وآخر متخيل متغير، حسب التغيرات الأسطورية، لتكتمل حصيلة التفاعل بين نمطين من النصوص، على اختلاف بنائها الزمني والمضموني، وبوقائعها الجوهرية والعرضية.
هذا الوعي المتعدد، تغلغل بشكل أكثر فاعلية إلى مفهوم النص، باستيعاب مبادئ التقابل واللاتجانس، التي ترسخت بشكل واضح فيها، باعتباره استعارةً كبرى، تروم التأسيس لمرتكز محوري، لا يتم ويستوي، إلا بفهم منطق الكون، بجل اختلافاته وتمظهراته، إذ يبدو للوهلة الأولى وكأن فيه ملامح نشاز وتناقض، إلا أنه في حقيقته منتظم بنسقية خاصة، تشي بنظام محكم يقوم عليه، ما ينسحب بشكل مماثل على النص، الذي يبدو بدوره في أول الأمر فضاء منطبعًا بالاختلاف، إلا أن محوريته تنبني على منطق خاص، يجمع المركزي والهامشي، والثابت والمتحرك، والجوهري والعرضي، والشفوي والمكتوب، والمجرد والمحسوس، في أفق نظام ذي سيرورة فنية وجمالية، تتواتر طاقاتها بأنساقها اللغوية، بما يبرزه التطور اللسني والبنيوي. تحقُّق يتم وفق منظومة جمعت المؤلف والمتلقي، بعلاقات متبادلة، نتج عنها تساؤلات صَنَّفت النصوص وفق اعتباريتها التعبيرية، سيما وأن النص مرتب بشكل يستجيب لنظام اللغة، المرتكز أساسًا على علاقات أفقية وتركيبية، باستطاعتها تصريف الظاهر والمضمر، والحسي والمجرد، كما تعكسها ظواهر الكون، ومظاهره.
هكذا، إلى قَدّ الاكتمال، وإلى حَدِّ الاحتمال، لطالما استكمل اللفظ شرط انبعاث المعنى، ضمن سلسلة من البداهات النصية، استجابت بدقة عالية لشرط انتظام الكون. ما شكل حالة نوعية لتمثلات مختلفة، أظهرت طاقات الكائن البشري، في خلق حالات لغوية، ورمزية، ضمن تأطير حسي ومجرد، استخلصه من معيشه اليومي، ومن حالات التجلي التي ترسخت لديه، من خلال مضافات ثقافية، تسربت إليه عبر امتداد الوجود، وعبر توارد المعطيات الثقافية، واختلافها.
نحن، إذن، إزاء نمط من الذاكرة والأنساق، وحوامل ثقافية متعددة، تروم في حقيقتها وضع تأسيسات منطقية، لفهم طبيعة الوجود الإنساني، بمختلف ظواهره وامتداداته. إنها حالة ثقافية تتعالى عن التصنيف السطحي، والتحديد الصوري، أو التسمية العابرة، لأن الأمر يتعلق بنمط خاص من متعة “اللعب بالمعاني والانفعالات، والتقاط اللحظة العابرة في حياة الناس، وتحويلها إلى طاقة استيهامية تتجاوز حدود الزمن لتستوطن الوجدان”13 لحظات عابرة ومستوطنة، تشي بارتحال المعنى بين كون حيوي، وآخر سيميائي، وصعوبة القبض عليه، دون إمكانية مد الجسور، بين مختلف العلوم الحقة والإنسانية، إدراكًا منا بقيمة الألفاظ، وأحجام المعاني، ومدى نطاق حركية الأنساق الثقافية، الممتدة في الفضاء الكوني.
في الحقيقة هي صور متعددة، لا تقف عند حدود الظاهر، بل تتجاوزه لفحص مكنونات الظواهر، وصولًا إلى المضمر، وفق سيرورة تأويلية، قمينة بفك التشابهات، وفحص الأشكال، وتمحيص الوقائع الاستعارية14 القصوى. إنها غاية التفكير في مظاهر الكون، وفي حالات النفس، وأهوائها، ضمن نسقية تغطي الحاجيات المعرفية، من خلال فحص الثنائيات، ومستويات المشترك والمختلف بينها لخلق أكبر قدر من الفُرص، لاستنبات المعاني، وتيسير السبيل أمام مكونات الدلالة وممكناتها. وثمة يتضح المرئي الكوني، على شسع امتداد، وعلى عمق قيم، لا تتحدد بذاتها، إنما من خلال إمكانية قراءتها ضمن التجلي المعرفي، والثقافي، وتفاصيل المحكي الإنساني.
هوامش
1- بول ريكور، الذات عينها كآخر، تر. جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1/ 2005، ص. 45.
2- بول ريكور، نظرية التأويل، الخطاب وفائض المعنى، تر. سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، ط2/ 2006، ص. 12.
3 – يوري لوتمان، تحليل النص الشعري، بنية القصيدة، تر. محمد فتوح أحمد، دار المعارف، القاهرة، 1995، ص. 6.
4- نفسه، ص: 9.
5 – نفسه، ص. 19.
6 – نفسه، ص: 20.
7 – نفسه، ص. 27.
8- نفسه، ص. 32.
9- يوري لوتمان، سيمياء الكون، تر. عبد المجيد نوسي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1/ 2011، ص. 15.
10- نفسه، ص. 35.
11- نفسه، ص: 49.
12- نفسه. ص. 73.
13- سعيد بنكراد، البحث عن المعنى، دار الحوار، سوريا، ط1/ 2017، ص. 130.
14- نفسه، ص. 31.
مقال ثقيل يُلزم القارئ بالتسلّح بنعرفة مسبقة بعوالم اللغة وتحوّلاتها في عوالم المعنى والدلالة، هنيئا للكاتب والقارئ معا.