توطئة
يسترعي انتباه المطلع على كتابات عبد العزيز المقالح النقدية والفكرية والوطنية، تبنيه لأسلوب في الكتابة يمكن وسمه بأسلوب الكتابة الحوارية؛ فوجود هذا الأسلوب في كثير مما كتبه من مؤلفات وأبحاث ومقالات، يجعل منه ظاهرة بارزة ولافتة تدعو إلى رصدها ودراستها ما دامت تسم كتابته بميسم خاص قلما نجد نظيراً له في كتابات غيره من النقاد والكتاب. ولعل من المفيد إثبات حضور ظاهرة الكتابة الحوارية في كتاباته كلها، ولكننا هنا -ومن باب الأمانة العلمية- سنقتصر على بعض كتاباته النقدية؛ لكي نحاول إيجاد إجابات عن أسئلة مرتبطة بأسباب وجودها وباختلاف تجلياتها وبتعدد صورها وأشكالها وبغايات تبنيه لها.
وقبل فعل أي شيء من ذلك، يجب أن ننبه إلى الفارق بين ما أطلقنا عليه في العنوان مصطلح “الحوار النقدي” وبين ما يسمى في كتب النقد بـ”ـالنقد الحواري”؛ فإذا كان الأول أسلوباً كتابياً لطرح العروض والآراء والافتراضات والتصورات والأحكام النقدية أو الدخول معها في جدل أو مطارحات أو مساءلة، فإن الثاني يعد منهجاً نقدياً تحلل به النصوص الأدبية، والروائية منها بالذات، وفق المقترحات التي قدمها الناقد الروسي ميخائيل باختين؛ أي إن الأسلوب الحواري أو التحاوري الذي كتب به الدكتور المقالح أجزاء من كتاباته، هو موضوع هذا البحث، بينما سيكون النقد الحواري مرجعية منهجية نستلهم منها بعضاً من آليات هذا المنهج وإجراءاته التحليلية، وإن لم نصرح بها أو نحدد مكان استعمالها وكيفيات اشتغالها؛ لأن الهم هو التعريف بالظاهرة ورصدها وتحليلها وبيان وظائفها وفق الآتي.
1- الحوار أسلوب حياة
إذا كان التواصل الإنساني يقوم، في أساسه، على تبادل الكلام بين الأفراد، فالحوار سيكون أبرز الوسائل المحققة للتواصل، ولكن الحوار قد لا يُكتفى فيه بتبادل الكلام أو تناقله فقط، وإنما قد تتخلله تضمينات لوجهات نظر أو إضافات إليها أو تعديد لها أو مخالفة لما طرح منها أو …إلخ؛ فإذا ما تخللته تلك الأمور، فالحوار سيرقى إلى مصاف التحاور والنقاش والنقد وصراع الأصوات، ولن يقف عند حدود التبادل الثنائي والجماعي التشعبي للكلام؛ لأن التحاور أو النقاش سيجعل تبادل الكلام يحمل أكثر من معنى الإخبار والتزويد بالمعلومات الخالية من احتدام الرؤى أو تحاورها.
وكل ما مضى يجده المرء حاضراً في مجالس الدكتور عبد العزيز المقالح الأسبوعية التي كانت تقام عصر كل لقاء به في مركز الدراسات والبحوث أو في بيته أو في اللقاءات المختلفة معه؛ فهل أثرت تلك الحوارات الشفاهية التي عرفتها مجالسه ولقاءاته في طريقة تفكيره، فوجدت طريقها إلى كتاباته؟
لا شك أن تلك الحوارات كانت من أهم الروافد التي اعتمد عليها في حياته الثقافية والعلمية؛ فقد كانت مصدراً من مصادر المتابعة الإبداعية والفكرية والنقدية لكل جديد في المشهدين العربي واليمني، ولكنه لم يكن يلقي بالاً في مؤلفاته إلا على ما وصل منها إلى مستوى تحاوري أو نقاشي. وقد تأكد لي ذلك حينما جمعتني وإياه قبل عامين أو ثلاثة جلسة عصرية، في بيته، حضرها لفيف من الأدباء والكتاب والأكاديميين والمثقفين؛ فبعد حوارات إخبارية متنوعة ومختلفة من الجميع، انتهى بي المطاف إلى الدخول مع الأخ مطيع دماج في حوار نقدي عميق وسجالي حول الرواية العربية والغربية الحداثية وما بعد الحداثية، قال عنه أستاذنا قبل انفضاض المجلس: إنه مر وقت طويل منذ سماعه لحوار كالذي دار بيننا جاد وعميق وثري ويستحق التسجيل والتدوين.
إن ما قاله الدكتور عبد العزيز المقالح يومها، لفت نظري بعمق وجعلني أؤمن بأن الحوار لديه ليس مصدراً للثقافة والعلم والمعرفة وحسب، بل إنه وسيلة للتفكير وأسلوب للكتابة أيضاً؛ وهو الأمر الذي جعلني أفترض وجوده في كتبه وفي كتاباته، ليس على أساس أن الحوار فيها يعد انعكاساً لما يدور في مجالسه من حوارات، ولكن على أساس أنه طريقة للتفكير والفهم والإفهام، ولمعرفة الآخر والتعريف به، ولتجاوز الإخبار إلى ما بعده حسب ما سيتبين لاحقاً.
- تجليات الحوار النقدي
يستطيع القارئ لكتابات الدكتور المقالح النقدية بالذات أن يرصد كماً كبيراً من المفردات الدالة على الحوار بنفسها أو بمرادفاتها. وبغض النظر عما سيلحق بكل منها من اشتقاقات، فلا يكاد يمر كتاب من كتبه النقدية دون أن يجده مليئاً بمفردات من قبيل: “حوار، نقاش، مشاركة، جدل، وجهة نظر، تعقيب، رد، سؤال، جواب، قراءة، ندوة، مؤتمر، لقاء، جلسة…إلخ”، وهو باستعماله لبعض هذه المفردات في كتبه، يسعى إلى تجنب وصف اشتغاله بالنقد في بعض المواطن التي ترد فيها بعض تلك المفردات، مؤكداً أن ما يقوم به ليس إلا حواراً مع أو قراءة لما يتناوله من موضوعات يرى أنهما لا يرقيان إلى مستوى النقد، وهو باستعماله لبعضها الآخر في مواطن أخرى، يسعى إلى تقديم أحكام وتقييمات وتحليلات لما يدخل معه في حوار يرى أنه يرقى إلى درجة النقد.
إن استعمال الدكتور المقالح لهذه المفردات في كتاباته، تكون أكثر تجلياً إذا ما تم إيرادها في سياقاتها التي وجدت فيها؛ حتى يتبين القارئ مدى أهمية الحوار في كتاباته النقدية ويتكشف الأبعاد التي قصد إليها من وراء استخدامه له أو لمرادفاته أو لمشتقاته أو لما يوحي به. ولتبيان ذلك الحضور الكثيف لتلك المفردات في سياقاتها سنكتفي بأخذ نماذج من كتاباته النقدية التي بمقدورها أن تقدم للقارئ صورة عامة لما قصدناه بالحوار النقدي في مجمل كتاباته النقدية ونشير إلى انسرابها في كتاباته الشعرية.
يمكن للقارئ أن يقف على هذه التجليات في سياقاتها حينما يدلف إلى كتابه: “أزمة القصيدة الجديدة”؛ فبعد أن بدأ بالحديث عن الأسئلة التي يرى أنها تختزل مشكلة الشعر العربي قديمه وحديثه وتحدد معالم أزمته الراهنة، عقب على ذلك قائلاً: “وعندما قررت الدخول في حوار مع هذه الأسئلة…إلخ”([1])، ولكن طبيعة الحوار هذه لم تتضح أبعادها إلا بتراكم السياقات التي تتالت في هذا الكتاب وفي غيره؛ ففي موطن آخر من الدراسة الطويلة التي وضعها قبل الحوار الطويل الذي أداره بين مجموعة كبيرة من النقاد العرب وأثبته في هذا الكتيب القصير والصغير، وجدناه يقول: “إن مشروع السؤال حول قضية أزمة القصيدة الجديدة أو أزمة الشعر الجديد، ليس سوى مشروع بحث أطرحه هنا للمناقشة والحوار، وقد يكون فيه قدر من الافتراضات الداعية إلى الجدل، ولكنه يحاول أن يبرأ من المسلمات” (نفسه، ص.7-2).
وما دام الدكتور المقالح، قد حول السؤال المطروح إلى مشروع بحث، فإنه -بكلامه السابق- يكون قد فرض على الآراء التي تولدها الحوارات والمناقشات الدائرة اشتراطات الموضوعية والعلمية، كما أكد أن صورة دراسته هذه لن تكتمل “إلا بعد الحوار الذي آمل أن يتضمن الإجابة عن موضوع التساؤل.. ومن حسن حظي أن الذين سوف يحضرون المؤتمر.. من نقاد كبار وشعراء كبار، ليس فيهم إلا من عانى في دراسة هذه الظاهرة الأدبية المسماة “بالقصيدة الجديدة” وما رافق ظهورها من صد وإقبال (…). وحتى لا يفتقر هذا التمهيد الأخير من إشارة جديرة بالنظر عند زاوية من زوايا أزمة الشعر، كان دليلي إليها شاعر كبير طالما حلمنا أن يكون لنا دليل في مثل حكمته وتألقه، إنه بابلو نيرودا الذي …إلخ”(نفسه، ص.44).
إن الحوارات في التنصيصات السابقة، ستحمل عنده معنى طرح الرأي من وجهة نظر ما أو توليد أسئلة جديدة حول القضية المطروحة، وهذا هو ما أكده زين السقاف بقوله: “وأمامنا الآن الزملاء الأساتذة الأفاضل الذين يرغبون في الإدلاء بآرائهم حول الإجابة عن هذه الأسئلة: إما بإضافة أسئلة جديدة أو بالإجابة عن هذه الأسئلة كما يشاؤون”(نفسه، ص.47). كما ستحمل عنده معنى التكامل وتغطية المشكلة المطروحة من جوانب متعددة، وهذا -أيضاً- هو ما أكده حسام الخطيب في حوار له أورده الدكتور المقالح في كتاب: “من البيت إلى القصيدة”، قال فيه: “الحقيقة أن الدكتور عبد العزيز المقالح طرح لغزاً، وها نحن نتناوله، إذ إن كل واحد منا يتناول جانباً من جوانب هذا اللغز، ولا يرى نفسه إلا وقد ترك جوانب عديدة.. وسأكون أنا من الذين تركوا جوانب كبرى، ولكن أحاول أن أجمع أفكاري حول ثلاث مسائل…”([2]).
وإذا كان الدكتور المقالح يؤكد ما مضى في أكثر من موطن من كتبه المختلفة، فإنه في دراسة له أقيمت حولها حوارات ونقاشات في ندوة حوارية أعطاها عنوان: “القصيدة: قضية للنقاش” في الكتاب الآنف ذكره، لم يهمل الإيحاء بفعل التحاور الذي تحترم من خلاله وجهات النظر المختلفة الطرح، كما أنه لم يعط أهمية للمتحاورين، بقدر ما أعطى ما طرحوه من آراء في حواراتهم، وذلك يلحظ من خلال قوله: “إننا لا نناقش الأشخاص، بل نناقش ظاهرة معادية للتجديد ومجافية لروح العصر”(نفسه، ص.229)؛ فتأكيده لهذه النقطة، يوحي بحرصه على الأبعاد الموضوعية لما يطرح من آراء في الحوارات.
وبغض النظر عما في كتاب: “الشعر بين الرؤيا والتشكيل” من أبعاد طرحت سلفاً توحي بها مفردة (حوار) ومرادفاتها واشتقاقاتها في مواطن كثيرة وردت في سياقاتها فيه، فإنها، إلى جانب إيحائها بوجهة النظر والتقليب والتنقيب والتوليد والإضافات والتكامل، توحي فيه وفي غيره بمعاني النقد المعياري والنقد الإسقاطي والقراءة ونقد النقد، إضافة إلى إيحائها بإجراءات كالعرض والتحليل والرد والنقض والاختلاف والتراجع عن الآراء وكسر المسلمات في مواطن أخرى كثيرة جداً من هذا الكتاب ومن كتب أخرى له.
ولعل الاكتفاء بما طرحه الدكتور المقالح في كتابه: “نقوش مأربية” يوحي ببعض ما أشرنا إليه؛ فالمطلع على الكتاب يجده في طرحه ذاك يوصف تجربة نقد النقد التي اضطلع بها محمود أمين العالم بقوله: “وهو [أي نقد النقد] تجربة نقدية شاقة وبالغة الصعوبة، وصعوبتها تأتي من كونها لا تعتمد نصوصاً إبداعية مباشرة أو غير مباشرة، وإنما تقوم على حوار مفتوح مع نظريات ووجهات نظر وثيقة الصلة بالأثر الأدبي، وفيها رؤى نقدية موضوعية ومتماسكة تستند إلى قيم ومعايير ذات مرجعيات، وأخرى متشظية خارجة وبعيدة عن كل مرجعية”([3]).
كما وسع الدكتور المقالح مفهوم الحوار إلى الدرجة التي نجده معها يربأ بنفسه عن تسمية “المعارك الأدبية” -بكل ما فيها من ذاتية وتفنيد وتحليل وتجريح- بهذا الاسم؛ لذلك وجدناه يستبدل تسميتها ويطلق على تلك المعركة التي قامت بين محمد خلف الله أحمد ومحمد مندور التي ثبتها الأخير في كتابه: “في الميزان الجديد” اسم “حوار قديم” بينهما([4])، وكأنه أراد أن يحمل الحوار معاني جديدة هي معاني التلطف في الطرح وعدم التجريح أو القول بالغلبة لأي طرف من الأطراف؛ لتضاف إلى المعاني السابقة.
أما إذا اكتفينا بما تقدم من إثبات لتردد هذه المفردة في كتاباته النقدية، وانتقلنا إلى تلمس حضور هذه المفردة ومرادفاتها ومشتاقاتها واستعمالاتها في شعره، فسنجد تجليات كثيرة لها تكشف عن انزياح معانيها إلى شعره، ولكن أبرز هذه التجليات وضوحاً واستثماراً للحوار كمفردة وكتقنية في شعره، يجدها القارئ في قصيدة: “حوارية عن الفقر” التي جسدت كثيراً من معاني الحوار بوصفها عبارة عن تبادلات كلامية بين متحاورين وبوصفها كاسرة لمسلمات المقولات الجاهزة عن الفقر والمناهضين له من خلال إعادة النظر فيها وفيهم بالشعر، ويجدها في قصيدة: “سيف بن ذي يزن وحوار مع (أبو الهول)” وقصيدة: “حوار مع الإمام علي” وقصيدة: “حوار مغلوط”، كما يجدها مضمنة في قصيدة: “الصوت والصدى”، وفي كل قصيدة تحمل كلمة: “قراءة، رسالة، خطاب، برقية، إلى…” إذا نظر في أعماله الشعرية الكاملة الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب بصنعاء عام 2004م. وهذا الأمر يجعل الشعر يوسع من دائرة الحوار؛ ليصبح مفهومه عنده أدخل في فكرة “الحوار الحضاري” مع الذات ومع الشعر ومع الموهبة ومع العالم أو بداية له، والرأي هذا هو ما يجده القارئ لديه وهو يستنطق مفهوم الشعر عند نزار قباني أثناء قراءته لديوانه: “قالت لي السمراء”([5])؛ فإذا لم تكن هذه التجليات كافية؛ لإيضاح هذه المعاني، ففي صور الحوارات النقدية التي سنعرض لها في التالي ما يؤكد كثيراً مما أشرنا إليه فيما سبق.
- صور الحوار النقدي
يمكن لقارئ كتابات الدكتور عبد العزيز المقالح أن يخرج بصور متعددة للحوارات التي أتى بها في بعض كتبه. ولأننا على وعي بتعددها الكبير، فإننا سنقتصر على تتبع الظاهر منها ونلمح إلى المضمر متى ما رأينا إمكانية للإشارة إليه فيما سيأتي منها:
- الحوار النقاشي:
تعد صورة الحوارات النقاشية من أكثف صور الحوار النقدي حضوراً في كتابات الدكتور المقالح النقدية؛ لأنها تتخذ طابع المداولة والنقاش وطرح وجهات النظر المختلفة من قبل عدد من المتحاورين حول قضية أو مشكلة ما من قضايا أو مشاكل الشعر والأدب والفكر. ولعل أبرز الكتب تمثيلاً لهذا النوع من الحوارات ما ورد في كتاب: “أزمة القصيدة الجديدة”؛ فقد اشترك في ندوة علمية مجموعة من النقاد والكتاب والأكاديميين لمناقشة ما طرحه الدكتور المقالح عن أزمة القصيدة وما أثاره من أسئلة تولدت عنها، وكأن ما استغرق أربعين صفحة ويزيد من الطرح قد احتاج إلى أربعين صفحة ويزيد من الدخول معه في حوار بناء لتغطية جوانب القصور، واستكمال ما نقص من أسئلة، واقتراح آفاق أرحب للإجابات المتنوعة التي تغطي الأزمة وأسئلتها من جوانب معرفية مختلفة ولا تقتصر على جانب منها فقط. وهذا هو ما يفسر تنوع الاختصاصات للمتحاورين الذين شملتهم الندوة كـ: زين السقاف، والدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي، والدكتور حسين مروة، والدكتور علي عقلة عرسان، والأستاذ شفيق الكمالي، والدكتور أحمد أبو سعد، والأستاذ زياد علي، والدكتور أبو بكر السقاف، والدكتور عبد العزيز المقالح؛ فالتنوع في الاختصاص كفيل بكسر الآفاق الضيقة للتصورات وإضافة ما يمكن أن يفوت المتحاورين من ذوي الاختصاص الواحد.
وقد أعاد الدكتور المقالح تكرار تجربة الحوار النقاشي في كتاب آخر له، وأشرك مجموعة أخرى من النقاد والكتاب والأكاديميين والأدباء الكبار لمناقشة القصيدة الجديدة في اليمن وأكد على تحويلها إلى “قضية للنقاش” العلمي، وجمع لها مجموعة أكبر من المتحاورين من تخصصات متعددة ومن بلدان عربية مختلفة؛ ليتحقق من مستوى تطور القصيدة في اليمن ومن وصولها إلى مجاراة التطورات التي حدثت للقصيدة في مختلف البلدان العربية على مستوى الشكل والمضمون، وكأنه بتوسيع عدد المتحاورين وتنوعهم المعرفي والمكاني يسعى إلى الخروج بنتائج أكثر معقولية وأعلى مقبولية لدى المهتمين بالقضية المطروحة للنقاش؛ فإشراك من كانت لهم يومئذ سلطة معرفية عالية في تلك المناقشة، يضمن للقارئ درجة عالية من الجدية في الطرح ومن الموثوقية في النتائج التي سيخرج بها أولئك المؤتمرون الذين أفرد لحواراتهم وتعقيباتهم ما يقارب الخمسين صفحة في كتابه: “من البيت إلى القصيدة”؛ فصفة الكبار التي أطلقها عليهم في أكثر من موطن([6])، لم يتوخ منها تصدير الوهم الزائف بسلطة المتحاورين المعرفية التي قد يقع في حبائلها الناشئون من القراء والمهتمين، ولكنه أراد بتجميع هذا الكم من المتحاورين المصنفين كباراً سلب “النزعة البابوية” عن كل من يرى نفسه كبيراً أو سباقاً أو رائداً منهم في الإبداع أو النقد أو المعرفة كما يؤكد ذلك في كتابه: “أزمة القصيدة الجديدة”(الكتاب، ص. 14)؛ حتى يقلص من طغيان سلطة الكبير بطغيان سلطة كبير غيره ويحجم من استبدادهم المعرفي بالمتطلعين من المثقفين الناشئين الذين قد يقعون في وهم الوثوقية ودوائر التسليم بما يطرحه الكبار؛ فمواجهة الكبار بالكبار سيولد جديداً في الطرح، وسيغلب الحوار الجاد على الحوار المملوء بنبرة الأستذة والإملاءات، وسيخفف من دوائر الشطط والتعميمات التي قد يشطح بها الكبار إذا لم يجدوا من يهذب طروحاتهم.
وهذه الطريقة الذكية هي التي وجدناها ملموسة النتائج فيما دار من نقاش حواري بين مجموعة من الكبار الذين يمكن للقارئ أن يتصور طبيعته الجدلية والخالية من الاستعلاء والتهويم والمحتفية بالضبط والتروي في الطرح والمراجعة للآراء إذا عرف أن من ناقشوا قضية تطور القصيدة في اليمن في كتاب: “من البيت إلى القصيدة”، هم: الدكتور حسين مروة، والشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، والدكتورة يمنى العيد، والأستاذ محمد دكروب، والأستاذ عباس بيضون، والدكتورة خالدة سعيد، والدكتور وهب رومية، والدكتور حسام الخطيب، والدكتور عبد العزيز المقالح، والأستاذ زيد مطيع دماج، والأستاذ عبد اللطيف الربيع، والأستاذ الناقد والشاعر عبد الودود سيف. وللقارئ أن يعود إلى تلك الحلقة النقاشية؛ حتى يتبين كيف أثر توازي السلط المعرفية في الطرح وكيف تحول إلى حوار مسؤول وهادئ وعلمي ذي جدوى وبعيد عن الوثوقية.
ولكن الحوارات النقاشية قد تكون لها أهمية أخرى غير ما طرح سلفاً؛ فقد استطاع الدكتور المقالح عن طريق إشراك مجموعة من الأدباء اليمنيين الدخول مع الشاعر الكبير “بلند الحيدري” في حوار حول تجربته الشعرية وحول كثير من قضايا الأدب بعامة والشعر بخاصة التي ثبتها وثبته في كتابه: “الشعر بين الرؤيا والتشكيل”. وقد انتهى الحوار الموجه من مجموعة إلى فرد يصنف في دوائر المبدعين الكبار باستكشاف تجربته الشعرية ومعرفة مغايرتها عن غيرها، ولولا استثمار طريقة الحوار النقاشي القائم على أسلوب السؤال والجواب لما أتيح لنا معرفة كثير عن التجربة الشعرية لهذا الشاعر؛ فمثل هذه الحوارات النقاشية التي حرص الدكتور المقالح على تسجيلها، قدمت خدمة جليلة للأدب العربي؛ لأنها استطاعت سبر أغوار تجربة شعرية رائدة وتقليبها من جوانب متعددة والقبض عليها بتوصيفات صاحبها الذي لم تتح له الكتابة عنها في كتاب كما فعل غيره من الشعراء الكبار كصلاح عبد الصبور أو عبد الوهاب البياتي أو نزار قباني وغيرهم. والأمر هذا ما كان له أن يتحقق ولا أن يصبح موجوداً لولا الحوار النقاشى الذي اضطلع بمهمة كشف التصورات الفكرية عن الشعر لصاحب التجربة الشعرية نفسه وإخراجها إلى حيز الوجود؛ حتى تصير لبنة في معمار النظرية الأدبية والشعرية العربية الحديثة.
ومما يندرج في دائرة الحوارات التي أعطاها الدكتور المقالح اسم: “الحوار بالمناقشة” في كتاب: “الشعر بين الرؤيا والتشكيل”(نفسه، ص. 174) ما جاء في الفصل الثاني من الكتاب نفسه؛ فكثير منه كان عبارة عن حوارات نقاشية مفتوحة أو لقاءات أدبية عميقة رغم تلقائيتها وخلوها من الافتعال والتصنع وقيامها على الأسئلة والإجابات والمداخلات والتعقيبات حسب توصيفاته لها (نفسه، ص.174). وبالرغم من أنها حوارات مقتصرة على قضية التشكيل في الأدب والشعر بالذات، فإن الهدف المعلن من تسجيلها في الكتاب هو: الاستعراض المختصر لـ”ـبعض القضايا التي تناولتها المناقشات؛ حتى يتمكن من لم يسعده الحظ من الأدباء بالحضور أن يلم بأطراف مما دار، وإن كان الصدى لا يجدي عن الصوت”(نفسه، ص. 175)، ولكن الهدف الأعمق منها هو: “استقراء بعض الظواهر في حياتنا العربية بعامة وفي حياتنا الأدبية في اليمن بخاصة”(نفسه، ص. 174)؛ فإذا كان تسجيل الحوار يقوم بوظيفة القبض على اللحظة الكلامية لحظة التفوه بها، فالحوار ذاته يصبح أداة لاستنبات قضايا أدبية وعلمية واستقرائها وتقديم تصور عنها.
إن حوارات كهذه لا تطرح قضايا خاصة بالأدب والشعر فحسب، وإنما هي في جوهرها تشرئب بأعناقها إلى العام في حياتنا وتسهم في تشخيص الواقع وتحريك راكده من خلال ما تضطلع به من معالجات لما هو خاص. وهذا يعني أنها لا يجب أن تقتصر على النخب ولا أن تدور في نطاقاتها الضيقة؛ لذا وجدنا الدكتور المقالح يسعى إلى إخراج هذه الحوارات من الدوائر الأكاديمية الضيقة إلى الفضاء الثقافي العام في اليمن والوطن العربي، لشعوره بأهميتها التي تنبع من كونها صادرة عمن يرى فيهم قيمة معرفية عالية وممن يرى أنهم “إخوة أحبة يشاركوننا أعباء الحرف، ويقاسموننا إيماننا العميق بوحدة الهم، والإحساس بقيمة الكلمة تجاه الإنسان العربي المحاصر في هذه الجزر العربية المسماة أوطاناً. ومن بين هؤلاء الإخوة الأحبة … الأستاذ الدكتور عز الذين إسماعيل، والأستاذ الدكتور جابر عصفور، والأستاذ فاروق خورشيد، وكانوا ثلاثتهم ضمن كوكبة علمية استقدمتها جامعة صنعاء لرفع مستوى طلابها في بعض الفروع الأدبية والعلمية. وكان لا بد أن تفيد الحركة الأدبية من هؤلاء الأساتذة الزوار، وأن يفيد الأدباء من هذه الفرصة التي لا تتكرر كثيراً “(نفسه، ص. 174).
ولإدراك الدكتور المقالح لما قد يسفر عن تلك الحورات النقاشية التي يكون فيها المتلقي مصغياً وواقعاً تحت سطوة قوة المعرفة التي تأتي في إجابات من أساتذة بحجم من ذكر على أسئلة مستفهمين باحثين عن إجابات قطعية ومستهلكين سلبيين لها، فقد وجدناه حريصاً على تبني استراتيجيات تدخل مع تلك الإجابات في حوار متجدد؛ لكي يكسر ما قد يرسخ في عقول المتلقين والمستفهمين من يقينيات قطعية، ولكي يعودهم على إعادة التفكير فيما طرح من إجابات والدخول معها في حوار يدرب العقل على عدم الاستسلام لسلطة ما يقال من الكبار.
ومما تبناه من استراتيجيات لتفادي ذلك، سعيه إلى تلخيص مجمل ما انتهت إليه الحوارات والدخول معها في حوار ثان أكثر جدية وأكبر جدوى، وتقديم رؤى وأفكار مختلفة عن الإجابات المتحاور معها؛ حتى يسرب إلى الأذهان فكرة أن الحقيقة لا تمتلك وجهاً واحداً وأن التسليم بالإجابات الجاهزة معناه إهدار لقدرات العقل في التفكير.
لإيضاح هذه الاستراتيجية من منطوق نصوصه، نقتبس منه قوله: “قلت في نهاية العرض…إن الحوار الذي دار مفتوحاً قد كشف أن الاتفاق على تحديد معنى أو مفهوم عام للشكل أو التشكيل في هذا الجنس من الأدب أو ذاك لم يحدث بعد. وقد أوضح ذلك الحوار أن لكل منا تصوره الخاص لمفهوم التشكيل في العمل الأدبي، وكانت الغالبية من الحاضرين ترى أن الشكل يعني القالب أو الصياغة أو شيئاً قريباً من ذلك، كما كادت معظم الأسئلة تنصب حول الأشكال الشعرية، وبخاصة الشعر البيتي وشعر التفعيلة باعتبار أن لكل من هذين النمطين شكلاً خاصاً وواضحاً يختلف عن الآخر في الظاهر. وهذا التصور، على ما قد يكون فيه من صحة، لا يدل على قصور في إدراك مفهوم التشكيل فحسب، بل يكاد يلغي التشكيل في الأعمال الأدبية الأخرى ومنها قصيدة النثر؛ حيث يأخذ التشكيل فيها حالة لا تقل عنها في أية قصيدة أخرى. وكل قصيدة نثرية جيدة … تختلف في تشكيلها من قصيدة نثرية إلى أخرى، وقد لا يستطيع القارئ إدراك ذلك لأسباب كثيرة…إلخ”(نفسه، ص. 191-192).
إذا كان الدكتور المقالح بهذه الاستراتيجية يعلمنا أن من كيفيات الحوار الاختلاف مع الكبار والدخول مع آرائهم في حوار آخر كما اتضح سابقاً وكما يتضح أكثر حينما نقرأ دخوله في حوار مع أستاذه عز الدين إسماعيل عن كيفية تناول العناصر الشكلية في الشعر العربي(نفسه، ص. 210)، فإنه في موطن آخر من الكتاب نفسه يعلمنا استراتيجية حوارية أخرى تتلخص في أن تعارض الرؤى بين المتحاورين، يجب أن تدفع أحد المتحاورين إلى كتابة دراسة أو بحث لإثبات وجهة نظره المعارضة لوجهات نظر زملاء الحوار، وهذا يعد طوراً ثانياً من أطوار تطوير الحوارات وانتقالها من دوائر الشفاهية وعدم إعمال الفكر بجدية عالية فيما طرح فيها بعفوية وتلقائية إلى دوائر الكتابة المسؤولة الناتجة عن تلك الحوارات وعد ما كتب منها داخلاً في الحوار أيضاً، بغض النظر عن الاشتراطات التي أكد أن الحوارات الشفاهية المشتركة تستوجبها(نفسه، (ص. 197، 204، 245)؛ فهذه الاستراتيجية الحوارية البعدية والمكتوبة تتيح للمحاور التقليب في القضية المتحاور فيها بأناة والبحث عما يمكن أن يكون قد فاته أو لم يخطر بباله أثناء الحوار الشفوي، كما أن الانتقال إلى الحوارية المكتوبة يخلص المعرفة الموجودة فيها من شوائب الارتجال الشفاهي والتفكير الآني، ويؤمن لها الاقتراب من شروط العلمية والموضوعية التي تتناسب مع مجالات العلوم الإنسانية، ويجعلها تؤكد إسهامها في ترقية قدرات الإنسان على التفكير والتغيير من خلالها بشكل أكثر إقناعاً وأشد التصاقاً بالمعقولية والمقبولية.
- الحوار مع الآراء والافتراضات والأحكام النقدية:
هذه الصورة من صور الحوار النقدي، تكثر في كتابات الدكتور المقالح النقدية؛ لأنه غالباً ما يسعى فيها إلى مساءلة آراء وافتراضات وأحكام مجموعة من النقاد والباحثين والكتاب حول قضايا إشكالية تتعلق بالشعر والأدب اليمنيين في الأغلب كريادة أديب يمني ما أو سبقه في مدرسة أدبية ما أو في نوع شعري ما، وكتأصيل قضية أدبية لها صلة باليمن من قريب أو بعيد، وكتحقيق مصطلحات أدبية متصلة بالأدب والثقافة في اليمن من أي وجه كان، ولكن هذه الصورة من الحوار لا يجد القارئ، غالباً، ما يؤكد فعل الحوار فيها بشكل مباشر وصريح، وإنما يدركها من خلال السياق الذي يؤكد تبنيه له.
والمتتبع لمؤلفات الدكتور المقالح يجده دوماً نزاعاً إلى الدخول في محاورة كثير مما تقدم؛ لأنه كان يشعر بحساسية كبيرة تجاه كل ما يمس اليمن وثقافته وأدبه وتراثه من حيف أو هضم أو تهميش أو إقصاء؛ الأمر الذي كان يحمله إلى البحث عن هذه القضايا الإشكالية والدخول معها في حوار علمي جاد يدفعه إليه البعد الاحتمالي أو ضعف الاحتجاج أو التأويل المفرط في تلك الآراء أو الافتراضات أو الأحكام المتعلقة بتلك القضايا، ولكنه لم يكن يتخل عن مسؤوليته العلمية في حواره معها رغم اتضاح روح المنافحة والذب عن اليمن أرضاً وإنساناً وحضارة وثقافة؛ فثقل الشعور بتلك المسؤولية، هو الذي كان يجعله يسلم بما يمليه عليه ضميره العلمي ويحيد عما كان يمكن أن يرضي ضميره الوطني وهواه الانتمائي.
لكي تتضح صورة هذا الحوار، سنقتصر على أخذ ثلاث قضايا إشكالية من مجمل القضايا التي كان له فيها حوار مع آراء وافتراضات وأحكام آخرين؛ ففي كتابه: “شعر العامية في اليمن” دخل في حوار مع من يزعم بأن “الموشح” يمني الأصل ولم يعرف في الأندلس إلا بعد وجوده في اليمن مستنداً في ذلك على ما بينهما من تشابه. ولأنه كان محكوماً بالعلمية في حواره هذا، وجدناه يصف هذا الرأي بـ”الحماسة المفتقرة إلى دليل”، بل وجدناه يقف موقف المراجعة والنقد الذاتيين، حينما وقع هو في شباك هذا التصور القائم على الهوى الوطني قائلاً عن نفسه: “وكنت قبل الشروع في دراستي هذه واقعاً تحت نوع من ذلك التصور الذي وصل في بعض الأوقات إلى حد اليقين عندما عثرت على أبيات لابن قزمان لم أكن أشك أنه تأثر فيها بأغنية أو موشحة يمنية قديمة…، ولكن هذا التصور سرعان ما تلاشى عندما بحثت له عن دليل”([7]).
وبعد أن تحدث عن المشابهة بين الموشحين، وعن عدم إنكار تقليد الوشاحين اليمنيين للأندلسيين، وعن إثبات زيارة وشاحين مغاربة لليمن في زمن شيوع كتابة اليمنيين للموشح، وعن تطوير الموشح اليمني للأندلسي؛ ليدحض ذلك الزعم، انتهى في حواره معه إلى الجزم برأي في هذا الأمر قائلاً: “وهو ما يجعل الاختلاف بين الموشح الأندلسي الفصيح والموشح اليمني الملحون أمراً غير قابل للجدل، بل يزكي وجهة النظر القائلة بأن الموشح في اليمن هو نتيجة تركيب المبيت اليمني مع الموشح الأندلسي”(نفسه، 249-250).
ولأنه عز عليه أن تفارق هذه القضية ما كان يمكن أن ينتصر به لهواه الوطني، وجدناه يعود بعد ذلك مباشرة إلى استخدام لغة احتمالية تبريرية محتمية بالاستئناس بآراء الآخرين ومخفية في طياتها ما كان يتمنى أن تنتهي إليه معالجة القضية من إثبات لأي شيء يبدي اليمن مسهماً في إنجاز أي شيء يذكر له؛ فالموشح اليمني لديه “إن لم يكن ابتكاراً –كما يرى البعض ذلك- فهو تطوير مقبول في قوالب التوشيح وإضافة في مجال النظام التشكيلي للقصيدة العامية”(نفسه، ص. 250).
لا شك أن أمانته العلمية في حواراته مع الآراء والافتراضات والأحكام كانت تقف حجر عثرة أمام ما كان يتمنى تحقيقه في القضايا التي يحاورها من نوازع إيديولوجية وطنية وقومية كان يؤمن بها آنذاك، ولكنه كان لا يدخر جهداً في تسريب هذه النوازع مضمرة أو متمناة باستخدامه للغة تعقيبية أو احتمالية أو تشكيكية أو استدراكية كما مر سلفاً، وكما يجده القارئ وهو يحاور آراء من عالج الأصل اللغوي الغريب لمصطلح “حميني” الذي عده التسمية الشائعة في اليمن لشعر العامية الموجود فيها؛ فبعد أن أكد -في البدء- أن البحث في الأصل اللغوي لهذا المصطلح لم يسفر عند مختلف الدارسين إلا عن “مجموعة من الاحتمالات والافتراضات المتناقضة”(نفسه، ص. 113)، وجدناه يقرر الدخول في حوار مع هذه الآراء لكي يزيد في ضبط ما يمكن تقبله منها ويستبعد ما لا يمكن تقبله، ولكي يرفع اللبس عما تم التوهم فيه منها وعما وقع في بعضها من تناقض أو ليضيف إليها ما لم يقل فيه من قبل.
ما سبق هو ما لمسناه حينما عرض لما جاء في ديوان “ترجيع الأطيار ومرقص الأشعار” وديوان “مبيتات وموشحات”؛ فقد أثبت تناقضات ما جاء به جامع ديوان الثاني من كلامه وأكد وجود المصطلح قبل ابن شرف الدين، ثم خلص إلى الحديث عن أصول لغوية أربعة لها هي: “حميري، وحميا، وحمن، وحماقي”، قال بها مجموعة من الدارسين وهو واحد منهم. وبعدها دخل مع آرائهم في حوار لغوي ولهجي وتاريخي ومكاني يغلب عليه وعليها التفكير بالتخمين أو بالتلازم أو بالمشابهة التي وقع عليها تصحيف وتحريف.
لقد خرج من حواره مع تلك الافتراضات إلى تدعيم رأي افتراضي بلغة تقريبية توحي بعدم الاقتناع أو الاطمئنان التام إليه([8])، ثم انتهى إلى تقديم رأيه الخاص الذي ربط فيه الحميني بشعر ملحون يسمى “الحماقي”، ولكنه رغم مقارنته الفنون العامية السبعة التي منها “الحماقي” عند صفي الدين الحلي والأبشيهي بالفنون السبعة التي جمعها ابن فليتة من شعره وجعل منها “الحميني”، لم يستطع الجزم كلياً بالقول إن أصل “الحميني” هو “الحماقي”؛ ولذلك استخدم لغة نافية احتمالية كـ “لا يستبعد”، كما استخدم لغة أخرى تشكيكية مؤملة غير جازمة كـ “وعندما يتم العثور على ديوان ابن فليته… ربما اتضح أن الحميني هو الحماقي نفسه”(نفسه، ص.120-121)؛ ففي لغته ما يؤكد حذره وتشككه وعدم وصوله إلى يقين بشأن هذه المسألة، وكأنه يؤسس للدخول معها في حوار تال بعد أن يتمكن من الحصول على أدلة أخرى، وهو ما قد كان كما سيتضح لاحقاً.
الملاحظ فيما تقدم أن حوار الدكتور المقالح كان كله مع دارسين يمنيين في قضايا تتصل باليمن وتؤصل لما هو يمني؛ فهو إن كان يشترك معهم في الهم الوطني والانتصار للهوية ومحاولة تأكيدهما بالحجج والبراهين، فإنه باتخاذه طريق العلمية كان أكثرهم موضوعية وبعداً عن الشطط بفكرة اليمنية التي كانت تمليها على كثير منهم أبعاد ذاتية أو فئوية أو هووية، وكأنه كان يرشدهم إلى طريق العلم الذي يجب أن يسيروا عليه وهم متخلون عن دوافعهم الخبيئة المسبقة والموجهة لآرائهم، حتى لو كلفهم الأمر الحيدة عن مقاصدهم الظاهرة أو الدفينة، وذاك هو ما سنؤكد عليه لاحقاً.
لم يكتف الدكتور المقالح بالحوار مع اليمنيين في قضايا يمنية، بل وجدناه في كتاب: “الشعر بين الرؤيا والتشكيل” يدخل في حوار طويل مع آراء دارسين وكتاب غير يمنيين في قضية يمنية دارت حولها معركة نقدية قديماً وحديثاً، هي قضية “وضاح اليمن”. ونظراً لاختلاف من دخل معهم في هذا الحوار حول هذه القضية، فقد وجدناه حريصاً على إثبات وجود هذه الشخصية من خلال الدخول مع تلك الآراء في حوار؛ لأنه كان يستشعر أن وراء تلك المعارك غايات مستترة تستهدف اليمن واليمنيين، وهذا الاستشعار يستوحى من قوله في الكتاب نفسه: “ويحتاج استقصاء تلك المعارك إلى تتبع كبير، وإلى قراءة كثير من الكتب التي جمعت أشتات تلك المعارك؛ حتى تكتمل الصورة، وتتضح أبعاد الغايات التي اختفت وراء تلك المعارك الأدبية”(الكتاب نفسه، ص. 265).
لقد اتخذ الدكتور المقالح استراتيجيتين للدخول مع آراء طه حسين في حوار حول شكه في وجود وضاح، الأولى تبنى فيها الدخول معه في حوار حول منهجه الشكي عموماً؛ لينتهي فيه إلى تقويض علمية تصوراته المنهجية، ومن تقويضه له قوض شكوكه حول وضاح(نفسه، ص. 268-270). أما الاستراتيجية الثانية، فقد استعان فيها بمن رد على طه حسين في قضية وضاح من الكتاب العرب وأدخل مقولات رأي طه حسين ومقولات الرد عليه في حوار جدلي يستطيع من خلاله القارئ أن يقف على الحجة التي تقنعه.
إنه بالاستراتيجية الأخيرة التي يتبدى فيها مديراً للحوار أو للمناظرة لا غير، ينتقى، بلا شك، مقولات الرد ويرتبها بصورة تجعلها أكثر إقناعاً وأقوى تأثيراً في المتلقي؛ حتى يصل بنفسه إلى عدم حجية إنكار وجود وضاح من قبل طه حسين أو من قبل غيره. ولكي يزيد من طاقة الدفع بدحض آراء الإنكار، نجده يدخل مجدداً في حوار مع مقولات الرد؛ ليضيف إليها ما فات من حجج أو ينبه إلى أهمية ما قيل(نفسه، ص. 274) أو إلى ما لم يتم الرد عليه من كلام الإنكار؛ لكي يقوم هو بالمهمة بدلاً عمن أورد لهم من ردود(نفسه، ص. 277).
إذا كانت قراءة مثل هذا الحوار حول وضاح تكشف عن سعي حثيث من قبل الدكتور المقالح؛ للبحث عن الحقيقة التاريخية، فإنها لا تمنع من القول بأن وراءها دوافع وطنية سعت بصاحبها إلى توظيف أدوات الحوار العلمي توظيفاً دفاعياً عن التراث الأدبي لليمن واليمنيين؛ حتى يجذر ما به تتعزز الهوية اليمنية التي يستشعر أنها تتعرض للتهميش والإقصاء بقصد أو بغير قصد. وهذه الدوافع تعد من الأمور التي كانت تتلبد بها أجواء تلك المرحلة التي كتب فيها عن وضاح اليمن؛ فالمسؤولية الأخلاقية تجاه وطنه كانت هي الموجه الخفي لإقامة ذلك الحوار، ولكنها تضافرت مع المسؤولية العلمية، فتبدت قضية علمية أكثر منها إيديولوجية.
- الحوار مسع التجارب:
يسعى الدكتور عبد العزيز في بعض كتاباته النقدية إلى الدخول فيما يسميه حواراً مع التجارب النقدية للشعراء ومع من تحدث منهم عن تجربته الشعرية. وهو في حواره مع تجاربهم النقدية، يسعى إلى إثبات أو نفي ما أقره الدكتور محمد مندور في حوار له مع الدكتور محمد خلف الله أحمد الذي كان يرى وجوب ابتعاد الشعراء عن الكتابة النقدية؛ لأسباب يفرق بموجبها بين ملكة الإنتاج وملكة النقد ويتخوف من أن يحول وجودُها النقدَ إلى توصيف إنشائي يغيب عنه التحليل العلمي، بينما يرى الدكتور مندور عكس ذلك ولا يمانع من ممارسة الشعراء للنقد؛ لأن مفهومه للنقد يغاير ما يسعى الدكتور خلف الله إلى تثبيته له([9]).
ونظراً لأن الحسم في تلك القضية لم ينته بعد، فقد قرر الدكتور المقالح استئناف الحوار فيها من زوايا جديدة ومن تجارب نقدية لبعض الشعراء النقاد الذين اختار منهم صلاح عبد الصبور وأدونيس وكمال أبو ديب، حتى يدلي بدلوه في المسألة ويخرج بنتائج ملموسة وموضوعية فيها؛ ولذلك وجدناه يقول في كتاب: “ثلاثيات نقدية”: “والآن، لنتساءل نحن كذلك، بعد أن قمنا باختزال جوانب من موضوعات الحوار الذي دار في أوائل الأربعينيات…، عن جدوى ذلك الحوار، وهل كان الأستاذ خلف الله مخطئاً في طرح هذه القضية، أو أن ظروف المرحلة وما اقتضته من تشابك في المناهج والمصطلحات، وما تميزت به من إكبار لدور العلم وحض على النزعة العقلية، قد كانت وراء ذلك؟ وفي تقديرنا أن الحوار حول هذه القضية التي ما تزال تطرح نفسها حتى اليوم، قد كان أكثر من مفيد، كما أن تلك العوامل مجتمعة قد كانت الدافع الحقيقي وراء طرح مثل تلك القضية للحوار”(نفسه، ص. 101).
وبغض النظر عن الكيفية التي أدار بها الدكتور المقالح حواره مع كتابات أولئك النقاد الشعراء، وعن النتائج التي توصل إليها فيه، فإن القارئ النافذ إلى ما وراء حواره هذا، يكتشف تبنيه لاستراتيجية دفاعية ضد كل محاولات التشكيك في ما يقوم به الشعراء النقاد من ممارسات نقدية؛ لأنه يرى نفسه واحداً منهم، وأي تشكيك في كتاباتهم، معناه التشكيك في ممارسته النقدية هو؛ ولذا حرص على اختيار نماذج نوعية من النقاد الشعراء الذين دخل في حوار مع تجاربهم النقدية، لكي يثبت من خلاله قدرته وقدرتهم على إمكانية الجمع بين الكتابة الأدبية الإبداعية والممارسة النقدية العلمية البعيدة عن “التوصيفات الإنشائية والبلاغية واللغوية” المجانية والهلامية والسائبة، وعن التذوق الفني غير المؤسس على “التحليل العلمي”([10]).
وكما أطلق مصطلح “حوار” على ما تقدم، وجدناه في كتاب آخر يطلق على تعرضه النقدي لما خلفه الشعراء الكبار عن تجاربهم الشعرية مصطلح (قراءة) حيناً ومصطلح (حوار) حيناً آخر([11]). هذه القراءة أو هذا الحوار، قد يأخذان بُعد السؤال والجواب عن تلك التجربة التي ينتهي دوره فيها بتوثيقها وتسجيلها وإخراجها للناس، وقد يأخذان بعد المساءلة لهذه التجربة أو تلك مما هو مكتوب منها، ولكن الحوار مع التجارب المكتوبة قد يتوقف عند معنى العرض والتلخيص لها فقط؛ لغايات يتطلبها منه، وهذا هو ما يتضح في حديثه عما كتبه كل من عبد الصبور والبياتي ونزار عن تجاربهم الشعرية؛ فقد وجدناه يقول في كتاب: “الشعر بين الرؤيا والتشكيل”: “وحين فرغت من التأمل في تجربة صلاح عبد الصبور، سألت نفسي لماذا لا أتوقف بين حين وآخر؛ لكي أقرأ بعض صفحات من هذه التجارب الشعرية قراءة عامة وبصوت عال؛ حتى يصل صوتها إلى شبابنا من محبي الشعر ومحاوليه، لعلها تكون قادرة على اختصار المسافة الزمنية لفهم الرؤية الشعرية الحديثة ومعرفة الأسباب التي أدت إلى التغيرات الأخيرة في القصيدة العربية المعاصرة”(نفسه، ص. 96).
وقد نجده في قراءته أو في حواره هذا يعرض ما للكاتب عرضاً أميناً وينتهي منه إلى الاتفاق معه(نفسه، ص. 31-33)، وقد يعرض عرضاً أميناً ما للكاتب من تصور في قضية ما ثم يرفض ما جاء فيه عند حواره معه أو قراءته له، أو يختلف معه(نفسه، ص. 122)، كما قد لا يقف عند حدود العرض والتتبع، وإنما يتوسع إلى التحليل العابر المبين لما غمض من المفاهيم النقدية المتعلقة بالتجربة الإبداعية (نفسه، ص. 113) أو المحدد لما تهتم به الكتابة عن التجارب الشعرية(نفسه، 96-97)، كما أنه قد يقدم آراءه التقويمية والتقييمية في ثنايا عرضه الحواري لكتابات الآخرين عن تجاربهم (نفسه، ص. 103).
وإذا كانت أشكال الحوار مع التجارب الآنفة الذكر تقترب من مفهوم القراءة النقدية أو نقد النقد، فإن أجلى اقتراب لهذه القراءات إلى الحوار النقدي السجالي تتبدى فيما قدمه عن تجربة نزار قباني؛ إذ نجده سعى فيها إلى تقديم حوار نزار مع آرائه فيه ثم عقب بحوار له مع آراء نزار التي قدمها له. وهذا هو ما يجده القارئ جلياً في قوله: “وعندما أشرت في السطور السابقة إلى تأثير طبقته البرجوازية، كنت أعرف سلفاً مدى ضيقه بمثل هذه الأحكام. وهو في قصته مع الشعر يحاول أن يتبرأ من طبقته البرجوازية، وأن ينفي عن نفسه تهمة الانتماء إليها؛ لكي يرد بذلك على الذين يجعلون من ذلك الانتماء وسيلة للتجريح والغض من قدر شاعر شاء قدره أن يولد في أسرة –قد لا تمت إلى السلالات المرفهة ذات الدم الأزرق- تتمتع بقدر غير قليل من الترف والنعمة. وليس عيباً أن ينتمي نزار أو غير نزار إلى أية طبقة ذات دم أزرق أو أخضر إذا لم يكن شعره انعكاساً لأفكارها وتطلعاتها …إلخ” (نفسه، ص. 136-137).
إن ما تقدم من الأشكال لا يجعل ما قام به الدكتور المقالح يقترب إلى القراءات النقدية أو نقد النقد ويبتعد عن الحوار، لأن الحوار إن لم يصرح به ولم يكن مباشراً، فهو غير مباشر ومتضمن ومتخف في ثنايا القراءة؛ فالقارئ يلمس من وجه خفي صراعات للرؤى أو تعدد للأصوات المتعارضة أو المتآزرة. وهذا الأمر يجعل الحوار مستكناً في عمق القراءة ويجعل المساءلة متوارية في ثنايا العرض والاعتراض والرفض والاختلاف التي تعد من أهم آليات الحوار ومن موجبات تحقيق فعل التحاور.
- الحوار مع الذات:
إذا كان الدكتور المقالح في الصور الماضية يدخل في حوار مع الآخرين ويناقش آراءهم وطروحاتهم وتجاربهم النقدية والشعرية، فإنه في هذه الصورة يدخل في حوار مع نفسه ويعيد النظر فيما طرحه من آراء وتصورات سابقة. وكل إعادة نظر يقوم بها، تأتي لأسباب دافعة إلى الدخول مع نفسه مجدداً في حوار؛ ليتراجع فيه عما قاله في السابق، نتيجة ظهور معطيات جديدة تبدت له، أو ليضيف فيه ما كان قد أغفله سابقاً، أو ليتخفف من حدة أحكامه القاسية التي كان قد أطلقها في قضية ما، أو لينطلق منه؛ لتقديم وجهة نظره في مسألة أخرى أعم مما يعيد فيه الحوار مع نفسه أو مع الآخرين.
لقد وجدنا الدكتور عبد الرحمن العمراني، وهو يتحدث عن تصنيف الشعر والشعراء الرومانسيين وبدايات الرومانسية اليمنية، يذكر أن الدكتور المقالح “تصدى منفرداً للخوض في هذين الموضوعين المعقدين ويعيد الكرة مراراً كلما استجد جديد عندما يصدر ديوان أو كتاب أو تكشف ظاهرة أو تتضح أي من ظواهر الأدب اليمني الذي كان المقالح من كبار رواد هذه الاكتشافات فيه”([12])، ولكنه حين يعرض لتصديه ذلك، يؤكد أن الدكتور المقالح لم يثبت على رأي واحد في تسمية المدارس ولا في من يندرج في كل منها من الشعراء ولا في تعيين الرائد الأول للرومانسية، ويؤكد، أيضاً، أنه بهذا التغير وقع في بعض الملابسات التي لم تجعله يستقر على رأي في ذلك([13])، ولكننا نرى أنه كان يدخل مع نفسه في حوار دائم ويعدل من آرائه التي سبق أن قال بها؛ لأن المستجدات وإعادة النظر الدائمة كانتا تفرضان عليه تغيير النتائج التي توصل إليها من قبل. وهذا لا يعني تناقضاً في الرأي كما قد يتصور، بقدر ما يعني استمرار بحثه في القضية المدروسة وعدم تصلبه أو توقفه عند رأي بعينه ما دام قد توفر ما به يتغير.
إن الاستراتيجية التي يتبناها الدكتور المقالح في حواراته الذاتية، تقوم على ترك القضية التي يعالجها مشرعة الأبواب وقابلة لمعاودة النظر فيها إذا ظهر ما يدعو إلى ذلك فيما بعد. وهذا الأمر نجده حينما عاد إلى معالجة قضية تسمية “الحميني” التي عرضنا لها سلفاً؛ ففي كتابه: “من أغوار الخفاء إلى مشارف التجلي”، يعود في قراءته لديوان: “موشحات ومطرَّحات” للرقيحي؛ ليلقي ضوءاً جديداً على مصطلح “الحميني” أتى به بعد أن عرض فكرة تولد أشعار العامية بعد الأشعار الفصيحة التي قتلها التقليد؛ لأن الأولى أتاحت للشعراء مساحة من التفلت من قيود اللغة والشعر الرسميين، ثم وجدناه –بعد ذلك- يُذكِّرُ بأنه أدرج في كتب سابقة له مختلف أشعار العامية اليمنية تحت مسمى “الحميني”، ولكنه بعد وجود ديوان الرقيحي عدل عما رآه سابقاً؛ لأنه أصبح يرى أن هذه التسمية ألصق بتسمية شكل واحد من أشكال شعر العامية في اليمن، وهذا الشكل هو الذي يخالف شكل الموشح وشكل القصيد، وهو نفسه الذي سماه الرقيحي بـ”ـالمطرَّح” ورادف هو والدكتور المقالح بينه وبين “الحميني”([14]).
لقد عرض الدكتور المقالح حواره الذاتي الذي أوصله إلى آراء جديدة حول القضية، وانتهى بعده إلى الدخول في حوار جديد منبثق عن الأول مع الذات الجمعية التي تسعى إلى تأصيل هذه القضايا ومحاولة نسبتها إلى اليمن واليمنيين؛ لأغراض مرتبطة بالهوية اليمنية وتجذيرها وإعادة الاستشعار بها، وكأنه بمثل هذا الحوار يحاسب ذاته إلى جوار من يتقصدهم به؛ لأنه –كما قدمنا- كان واقعاً تحت طائلة هذا الحماس لليمن واليمنيين، غير أن مراجعته الدائمة لتصوراته ومواقفه ورؤاه وأحكامه حتمت عليه –بعد تأكيده مغايرة الموشح اليمني للموشح الأندلسي وتأخره عنه واختلاف الحميني عنهما- محاورة كل مهووس بتعزيز الذات الجمعية بقوله في الكتاب نفسه: “وهذا لا بد أن يحد من الغلواء اليمانية عند بعض الدارسين اليمنيين الذين يأبون إلا أن تذهب اليمن بأمجاد الأولين، حتى وإن لم يكن لها من أمجاد المتأخرين أي شيء. وربما لأن بلادنا قد خلت من أمجاد المتأخرين، فإن بعض أبنائها يعتقدون أن أضعف الإيمان أن نذهب بكل مجد سابق؛ فالموشحات يمانية، والشعر يماني، والسيوف يمانية!! إن حب الوطن والإشفاق مما وصل إليه من فقر في المناحي الأدبية لا يستطيع أن يغير من أوضاعه أو يعوض عن تخلفه مهما استقطبنا له من أمجاد العالم القديم بأكمله”(نفسه، ص. 74).
إن ما تقدم من اقتباس، يؤكد حرص الدكتور المقالح على إضافة معنى نقد الذات الفردية أو الجمعية إلى مفهومه للحوار مع الذات؛ فكلما كان الحوار مع الذات وعنها “موضوعياً وبعيداً عن الكبرياء الجوفاء”؛ استطاع الشعب استعادة ثقته بنفسه وتفجير طاقات أبنائه من خلال “المشاركة الإيجابية” في الحاضر وليس بـ “ـاسترجاع أحلام الماضي البعيد”، وأدرك أن الحماس والتعصب والرغبة الجميلة في نسبة كل شيء إلينا لن تجدي في استعادة ذواتنا والشعور الجمعي بهويتنا؛ فحب الوطن رغبة جميلة، ولكنها غير كافية “لتغيير الحقائق وإيجاد المصادر والأدلة…، والحب وحده في هذه المجالات العلمية الشائكة، قد يكون كالنية الحسنة التي تعجل، جادة، بإيصال كثير من الناس إلى النار” (نفسه، ص.74).
وقد يأتي الحوار مع الآراء الذاتية لديه بفعل مراجعة ما بَعُدَ العهد به منها أو بفعل حدث شخصي ما؛ فمرور الزمن وتوسع التجارب وتراكم المعارف والخبرات كلها كفيلة بتغيير وجهة النظر السابقة أو بتعديلها أو بالتخفيف من حدتها. وقد حدث هذا مع الدكتور المقالح الذي أكد في كتاب: “الشعر بين الرؤيا والتشكيل” أن تعرفه الشخصي بنزار قباني واستماعه إليه جعلاه يعود إلى ما كان قد كتبه عنه منذ زمن ليس بالقريب؛ ليرى فيما كتبه عنه قسوة وحدة في حكمه على تجربته الشعرية (نفسه، ص. 114-115).
لقد كان تعرف الدكتور المقالح بشخصية نزار عن قرب وتغير صورته النمطية المرسومة له في تصوره، هما السبب وراء مراجعته لكتابته السابقة عنه ولنقده الذاتي لما جاء فيها، بل ولإتلافها (نفسه، ص. 115-116، 118)؛ لذلك وجدناه يقول عن دراسته تلك التي عنونها بـ: “نزار قباني.. شاعر الفسيفساء العربية” كلاماً جاء فيه: “أعترف أنني كتبت تلك الدراسة بروح تفتقد كثيراً أو كلية إلى الموضوعية، وتقترب من فن الهجاء والأحكام الانفعالية والمتسرعة، وأتذكر أنني استخدمت فيها أكثر من وصف جارح” (نفسه، ص. 114-115)، بل إن موقفه تجاه الشاعر الذي لم يكن معجباً به ولا بشعره رغم ما تقدم، تغير مرة أخرى إلى الإعجاب به؛ نتيجة لموقف نزار الذي اتخذه في حضرة رئيس جمهورية مصر في حفل تحول كرمة ابن هانئ التي كانت لشوقي إلى متحف أدبي، وكأنه دخل مرة أخرى في حوار مع رؤاه تجاه نزار؛ ليتحول بفعله من عدم الإعجاب إلى الإعجاب (نفسه، ص. 120-122)، ولكن لا بد أن نفرق بين تغير موقفه السياسي والإيديولوجي من شخص نزار وشعره وبين موقفه من تجربته الشعرية التي دخل معها في حوار مليء بالردود والرفض والنقد الجسور واللاذع لكثير مما طرحه نزار فيما كتبه عنها([15]).
5- غايات الحوار النقدي
لا يعدم القارئ لكتابات الدكتور عبد العزيز المقالح النثرية في المجالات المختلفة أن يجد تصريحاً هنا أو هناك عن الغايات التي جعلته يتبنى أسلوب الحوار النقدي فيها، كما لن يعدم وسيلة للوصول إلى غايات مضمرة أو منسربة في ثناياها تجاوز الغايات المصرح بها والمقتصرة على ما يرتبط منها بالقضايا والموضوعات المعالجة إلى غايات تربوية وتعليمية واجتماعية وثقافية وإيديولوجية ووطنية وحضارية وإنسانية يستهدف بها تكوين إنسان جديد وعصري ومنسجم مع الوضع الذي تفرضه التغيرات في مختلف مجالات الحياة التي يمكن أن يكون الحوار أنسب الأدوات لعيشها والتفاعل معها؛ فالغايات التي يمكن أن تلمس من وراء حواراته والتي يمكن أن تستلهم من مواطن مختلفة من كتبه، يمكن تلخيصها في الآتي:
أ- الحوار يكشف عن تغير في الرؤى واختلاف في التفكير وتطور في المجتمعات وقضاياها، وهذه جميعاً تدعو إلى مساءلتها ومحاورتها؛ من أجل إيضاحها أو تطويرها أو تمريرها أو إضافة المتغيرات إلى ما لم يتغير منها. وبمثل هذه الممارسة يكون للحوار جدوى كبيرة في تغيير حياتنا؛ لأنه يبتعد عن الجدل العقيم المفضي إلى اللاشيء.
ب- بما أن المعايير الفنية والأدبية أكثر من غيرها تعرضاً للتغير، وبما أن الشعر والأدب أكثر الظواهر الفنية استجابة واستيعاباً لما يحدث للمجتمعات من تحولات وتغيرات، فإنها جميعاً تحتاج إلى الدخول معها في حوار دائم من أجل كشفها ومفهمتها وفحصها وتثبيت وجودها.
ج- الحوار أقدر الأساليب على كسر المسلمات والثوابت المستقرة؛ لأنه يُفعِّل إمكانات مختلفة لمساءلتها وتقليب النظر فيها ويقترح تصورات للخلاص منها أو التحول عنها إلى غيرها أو توطين الجديد منها من خلال ما يسربه إلى الوعي من تقبل لذاك الجديد.
د- الحوار مهم جداً في تصوراته؛ لأنه يؤمن بأن نصيب الناس من المعارف والخبرات والمواهب غير متساو، وليس بمقدور رأي واحد تقديم الحقيقة كاملة أو مطلقة ولا امتلاكها امتلاكاً نهائياً؛ فبالحوار وحده يتمكن الإنسان من مصادرة الرؤى الأحادية النظرة والنهائية الحكم، ويتمكن -أيضاً- من صناعة نوع من التكامل في الرؤى التي قد يوصل تعددها وتكاملها إلى درجة عليا من الاطمئنان.
هـ- بما أن الحقيقة لديه ليس لها وجه واحد وإنما عدة وجوه، فهذه الوجوه لا يمكن لها أن تنجلي إلا بالحوار الذي يتمكن من كشف أكثرها بآليتي الأسئلة والإجابات التي تدار حول أزمة ما أو مشكلة ما.
و- الحوار عنده ليس نتاج ثقافة المجالس، ولكنه طريقة في التفكير ونتاج لسلوك ديمقراطي ونزوع تحرري من كل ما يعطل حركة الإنسان والمجتمع والثقافة والإبداع؛ فممارسته له يكشف عن إيمانه به وعن سعيه إلى ترسيخه كثقافة على مستوى الفكر وعلى مستوى الممارسة.
ز- الحوار لديه وسيلة من وسائل تحقيق الرقي الإبداعي في بلده؛ لذلك وجدناه يقول: “لا نتردد في الدخول في أي حوار من شأنه أن يرتقي بالحياة الأدبية في بلادنا ويضعها في مكانها الصحيح من التجربة الإبداعية المعاصرة”([16]).
ح- الحوار لديه يملكنا المران على قبول الآخر والاعتراف به والتفاعل معه، ويمكننا من كسر التقوقع حول الذات؛ لأن التقوقع حول الذات أو حول رأي مفرد لا يولد إلا تعصباً أو تطرفاً يؤدي إلى الجمود والتصلب والصدام والتناحر.
ط- ارتبطت معظم، إن لم أقل كل، حواراته بالشعر العربي الحديث، وهذا يعني أنه يتخذه منطلقاً لمحاورة قضايا أعم وأشمل تتعلق بالإنسان عموماً، والإنسان العربي المعاصر وأزماته في مختلف المجالات خصوصاً، كما تتعلق بالإنسان اليمني المعاصر على وجه أخص؛ بمعنى أن الحوار لديه يكشف عن حالة تفاعلية أعم تقوم بين القديم والجديد وبين الأنا والآخر وبين حضارتنا وثقافتنا وحضارة العصر وثقافته.
ي- إذا كان الحوار لديه يمكن من الوصول إلى تحديد أو تفتيق الأسئلة التي يجب أن تطرح عن القضايا الاستثنائية، فتفاوته بين السطحية والعمق، يكشف عن سطحية أو عمق وعينا بمشاكلنا وكيفيات معالجتها، ويكشف -أيضاً- عن الذي يزيد منها في تأزيم واقعنا أو يعمل على نقلنا إلى وضع مغاير.
ك – الحوار الذي تركز معظمه على الشعر العربي أو اليمني الجديد وقضاياهما، ينير الدروب للمبتدئين وللكبار من المبدعين؛ لكي يغيروا من مفاهيمهم له، ولكي يدركوا أهم خصائصه التي تتناسب مع مفاهيم العصر وأفكاره وتغيراته.
1- عبد العزيز المقالح، أزمة القصيدة الجديدة، دار الحداثة- بيروت، ط.1-1981م، ص. 6.
2- عبد العزيز المقالح، من البيت إلى القصيدة: دراسة في شعر اليمن الجديد، دار الآداب- بيروت، ط.1-1983م، ص. 240.
3- عبد العزيز المقالح، نقوش مأربية: دراسات في الإبداع والنقد الأدبي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع- بيروت، ط.1-2004م، ص. 92.
4- يراجع: عبد العزيز المقالح، ثلاثيات نقدية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع- بيروت، ط.1-2000م، ص. 95-96.
5- يراجع: عبد العزيز المقالح، الشعر بين الرؤيا والتشكيل، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر- دمشق، ط.2-1985م، ص. 150-153.
6- يقول الدكتور المقالح في ص (44) من كتاب: أزمة القصيدة الجديدة: “ومن حسن حظي أن الذين سيحضرون المؤتمر.. من نقاد كبار وشعراء كبار، ليس فيهم إلا من عانى من دراسة هذه الظاهرة الأدبية المسماة بالقصيدة الجديدة وما رافق ظهورها وانتشارها من صد وإقبال، ومن تشجيع وتعويق، ومن تخط وتراجع وانبعاث وجمود”؛ ويقول في ص (232) من كتاب: من البيت إلى القصيدة: “ذلك باختصار محور الدراسة في تساؤلات تبحث عن جواب، وحبذا لو استطاع المؤتمرون من الأدباء، وفيهم نقاد كبار وشعراء كبار، الإجابة عنها أو عن بعضها…إلخ”.
7- عبد العزيز المقالح، شعر العامية في اليمن: دراسة تاريخية ونقدية، دار العودة، بيروت، ط.1- 1978م، ص. 246.
8- يقول: “ومن الربط بين اللفظين (حمن وحميني)، بالإضافة إلى ما ذكره الزبيدي عن حداثة الحميني، يقترب هذا الافتراض من الصواب”. شعر العامية في اليمن، ص. 117.
9- يراجع كتابه: ثلاثيات نقدية، ص. 95، 100-102.
10- الكلمات المنصصة، هي مصطلحاته هو في توصيف هذا النوع من النقد.أنظر الكتاب نفسه، ص. 101-102.
11- يراجع كتابه: الشعر بين الرؤيا والتشكيل، ص. 31، 36-37، 96.
12- عبد الرحمن العمراني، محاضرات في الأدب اليمني الحديث (المعاصر)، د. دار- د. مكان، د. ط-2000م، ص. 105-106.
13-يراجع: الكتاب نفسه، ص. 105-113.
14-يراجع كتابه: من أغوار الخفاء إلى مشارف التجلي: دراسات ومتابعات نقدية، دار الكلمة- صنعاء، د. ط- 1990م، ص. 67-69.
15- يراجع: الشعر بين الرؤيا والتشكيل، ص. 155، 158، 160-161، 163، 166.