Giuliano Da Empoli, Le mage du Kremlin. Paris, Gallimard, 2022.
ما الذي يدور في ذهن رجل يحكم منذ أكثر من عشرين سنة إحدى أكبر وأقوى دول العالم، وبدون أي معارض أو منازع؟ كيف يمارس ذلك الشخص سلطة مطلقة تسمح له أن يتخذ لوحده كل القرارات المصيرية والكبرى بدون أن يستشير مع أحد؟ وهل ما زالت الديموقراطية الليبرالية أفقًا للبشرية ونموذجا فريدا لتدبير المجتمعات كما اعتقد ذلك بعض المنظرين السياسيين كفرانسيس فوكوياما، بعد سقوط جدار برلين والانهيار التاريخي للأنظمة الشيوعية ؟
هذه بعض الأسئلة والمواضيع التي يحاول الكاتب الايطالي جيوليانو داإمبولي التطرق إليها في روايته “ساحر الكرملين”، والتي حققت نجاحا شعبيا وأدبيًا باهرا في فرنسا مباشرة بعد صدورها السنة الماضية، حيث حازت على جائزة الأكاديمية الفرنسية، وكانت مرشحة بقوة للظفر بجائزة الكونكور، وتربعت لشهور على عرش المبيعات في فئة الرواية، كما ترجمت بسرعة الى عدة لغات من بينها اللغة العربية[1] . بل وصل الأمر الى أن يومية نيويورك تايمز الأمريكية خصصت لها تحقيقا في صفحتها الأولى (عدد يوم الأحد 22 يناير 2023) للحديث عن مدى تأثير الرواية على الرأي العام الفرنسي وصناعة القرار السياسي بباريس اتجاه النظام الروسي وزعيمه فلاديمير بوتين.
تستوحي الرواية شخصياتها وأحداثها من الواقع ومن الحياة السياسية الروسية، عبر وقائع يحكيها فاديم بارانوف، كاتب مسرحي روسي ومنتج برامج تلفزية، سيضع موهبته وخياله في خدمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. شخصية بارانوف مستوحاة من شخصية حقيقية وبارزة في روسيا وهو فلاديسلاف سوروكوف، المستشار السابق لبوتين والذي ساهم بشكلٍ كبير في التسويق لأفكار وشخصية رئيسه لمدة سنوات، وكان من المنظرين للنظام الروسي بشكله الحالي قبل أن يتوارى عن الأنظار مؤخرا. من خلال الرواية، نتابع التحولات الكبرى التي عرفتها روسيا منذ تفكك الاتحاد السوفياتي، وما تبعه من فوضى سياسية وأمنية وتدهور اقتصادي في روسيا، وكيف صعد نجم بوتين وتدرج من ضابط صغير للمخابرات السوفياتية الى قيصر جديد للفيدرالية الروسية، يحكم بيد من حديد بلدا بحجم قارة ويستطيع بقرار فردي منه أن يغير مجرى التاريخ ويدخل العالم لحرب عالمية جديدة.
من بين مميزات الرواية، والتي تضفي عليها طابعا من الواقعية، تكاد تشبه أحيانا التقرير الصحفي أو السيرة الذاتية، هي جودة الحوارات بين الشخصيات حتى يكاد يشك القارئ أحيانا بأنها حوارات حقيقية وموجودة في وثائق، وليست من صنع الكاتب ومن خياله، متخذا كخلفية لها أحداثا تاريخية وسياسية وقعت فعلا في التاريخ الروسي المعاصر. ففي أحد الفصول الأكثر تشويقا وأهمية في الرواية، يحكي الراوي عن التفجيرات الارهابية التي ضربت موسكو صيف 1999 والتي تزامنت مع تعيين فلاديمير بوتين رئيسا بالنيابة لروسيا، وكيف أجاب عنها هذا الأخير بعنف وبصرامة أعادت الثقة للمجتمع الروسي إزاء الدولة، بعد سنوات من الفوضى والتسيب. ” عندما يتحدث القيصر عن السياسة، فإنه لا يعطي أرقاما أبدًا: إنه يتحدث لغة الحياة، والموت، والشرف، والوطن. حكومة الرجال ليست نشاطا عاديا يمكن تركه لحفنة من الجبناء، كسالى جدا عندما يتعلق الأمر بكسب الأموال، وخجولون جدا إن فكروا في أن يصبحوا نجوما لموسيقى الروك، محاسبون يبحثون عن المجد، أو أنصاف رجال يعتقدون أن السياسة أقرب لتسيير مبنى. الأمور ليست هكذا على الإطلاق. السياسة لها هدف واحد: الاستجابة لمخاوف الناس. لهذا السبب، عندما تعجز الدولة عن حماية المواطنين من الخوف، يصبح أساس وجودها موضوع شك وتساؤل“. هكذا يصف الراوي تصور بوتين للسياسة ولممارستها في روسيا.
كان لتزامن صدور الرواية مع اجتياح روسيا لأوكرانيا أثر جانبي في نجاحها وتصدرها للمشهد الأدبي بفرنسا، رغم أنه سيكون من الظلم للرواية ولقيمتها ربطها بالأحداث الحالية وما يدور من حرب في شرق أوروبا، إذ إن عمقها يتجاوز الإطار الجغرافي لروسيا وشخصية فلاديمير بوتين. فهي رواية سياسية بامتياز تدفع القارئ للتفكير والتمعن في مواضيع من قبيل حدود ومخاطر التفرد بالسلطة وصعود الحركات والاحزاب الشعبوية والقومية، وانحسار جاذبية النموذج الديموقراطي، ولجوء الأنظمة السلطوية والشعبوية لتضليل الرأي العام عبر إغراق منصات التواصل الاجتماعي بسيل من الأخبار الزائفة والنقاشات الهيستيرية.
إستفاد جيوليانو دي إمبولي في كتابة روايته من تجربته الشخصية، حيث كان مستشارا سياسيا للوزير الأول الايطالي السابق ماتيو رينزي، إضافة أيضا الى تكوينه الأكاديمي، إذ يشتغل كأستاذ بمعهد العلوم السياسية بباريس، وصدرت له عدة مؤلفات حول السياسة الداخلية بإيطاليا، وأيضا حول ” مستشاري الظل”، أي خبراء التواصل، وخصوصا في الحكومات والأنظمة ذات التوجه الشعبوي، والذين يساهمون في وضع استراتيجيات لصناعة الرأي العام والتأثير عليه، وهذا ما يفسر ربما طبيعة الشخصية الرئيسية في الرواية واختيارها من قبل الكاتب.
قوة اسلوب الرواية وجاذبية السرد فيها وقدرتها على فتح أبواب للقارئ من أجل التفكير والتأمل في التحولات السياسية الكبرى لعالمنا، مكونات تفسر نجاح “ساحر الكرملين”، والتقدير الذي حظيت به منذ صدورها، رغم أنها الرواية الأولى لجوليانو دي إمبولي، وبلغة ليست بلغته الأم وعن بلد غامض كروسيا وعن شخصية أغمض مثل شخصية فلاديمير بوتين!.
———–
[1] جوليانو دا إمبولي، ساحر الكرملين. ترجمة عبد المجيد سباطة، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2022.