حسن أوريد، الفقيه، رواية، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، المغرب، ٢٠٢٥، ٣٠٠ ص.
تعد رواية الفقيه لحسن أوريد، الصادرة عن المركز الثقافي للكتاب سنة 2024 في 300 صفحة من الحجم المتوسط، رواية تاريخية بامتياز، حيث تنصهر في حبكتها أحداث تاريخية مثل: سقوط الأندلس، حملات التطهير الديني، حكم الخليفة السعدي المنصور الذهبي والصراع على الحكم بين أبنائه، القرصنة والجهاد، في تداخل مع أنماط الحياة بمدن وقرى معلومة بالأندلس والمغرب (غرناطة، جبل البوشارت وقرية الحجر، ألميريا، الجديدة، أزمور، مراكش، سلا، ليون، أمستردام، توزر، مكة، الاسكندرية…) من جهة، ومع أعلام الفكر والسياسة الذين عاشوا في الضفتين أو بينهما في القرنين 16 و17 م، وقراصنة وأناس عاديين وصعاليك ومهمشين حتى من جهة ثانية. تنصهر هذه العناصر مع حيوات ومسارات وحالات إنسانية، فردية وجماعية، هي من صميم الخيال المبدع، حيث أفلح الكاتب في بناء سردية تشد القارئ إلى عوالم مفعمة بالحياة، مشحونة بالعواطف والمشاعر الموزعة بين اليأس والأمل، والحب والكراهية، والسعادة والغمة، والشك واليقين، والإيمان والكفر، والموت والحياة. هي رواية يصدق عليها تعريف الناقد المغربي سعيد يقطين للرواية التاريخية باعتبارها ” عملا سرديا يرمي إلى إعادة بناء حقبة من الماضي بطريقة تخيلية حيث تتداخل شخصيات تاريخية مع شخصيات متخيلة”، وبذلك فإن الرواية التاريخية، وبغض النظر عن أغراضها وتلويناتها تشترط في الآن ذاته معرفة تاريخية عميقة وحسا تخيليا أصيلا.
إن رواية “الفقيه” عبارة عن رحلة عبر زمن يقدر بسبعة عقود (1569- 1642)، بدأت من جبال بوشارت الواقعة بمقدمة سييرا نيفادا، بين غرناطة وألميريا، وانتهت بتونس. ويمكن تلخيص أحداث الرواية ووقائعها فيما يلي.
حين كان الطفل بيدرو وأبوه قاسم منهمكين في أشغال الحقل جاءهما على حين غرة جندي من النخبة ينبئهما بالعثور على جثة رجل حر، أي مسيحي حقيقي، لا شك أن أحد المجرمين الموريسكيين قتله. كان النبأ نذر شؤم بالنسبة لأسرة قاسم المسلم التقي المتخفي في ثوب مزارع بسيط ومسيحي جديد، ومسلمي قرية الحجر التي خيم على أجوائها الهادئة خوف وهلع وتوجس من الأسوأ القادم لا محالة. ولعل أسوأ ما عاشه الطفل بيدرو/ أحمد، على غرار مسلمي القرية، تلك الازدواجية القاسية التي فرضت على المورسكيين الذين عاشوا مسلمين داخل بيوتهم، مسيحيين خارجها، فهو في البيت أحمد وفي الفضاء العام بيدرو.
تربى أحمد أو بيدرو بين يدي أبيه الفقيه تربية دينية قوت إيمانه بالإسلام رغم ما اكتنف حياته الاجتماعية من تناقض صعب على أي إنسان فبالأحرى إن كان متفقها بالدين عميق الإيمان، تناقض بين الجوهر والمظهر، بين المعتقد والطقس، بين أن تكون مسلما محمديا في سرك وسريرتك، وتقيم القداس في الكنيسة وترسم علامة الصليب على باب دارك.
كان إحراق حمّار وبناء، وهما مسيحيان جديدان، لاتهامهما بقتل المسيحي الحر، لحظة صعبة وحاسمة في حياة قاسم الذي سكنته هواجس مقلقة عن مآل الأبناء دون أن يثنيه ذلك عن الإمعان في تربية ولده أحمد تربية دينية صلبة، فضلا عن جعله واعيا بمأساة أهل الأندلس من خلال استعادة سقوط غرناطة وما تلاه من مظالم يشيب لها الولدان بعد أن نكث المسيحيون العهد الذي وقعوه مع أبي عبد الله آخر أمراء قصر الحمراء. ضاقت الحياة بأسرة قاسم،” اختارت” أم أحمد المسيحية دينا، وقتلت أخته زهرة/ إيناس، ومات الأب كمدا، فلم يبق لأحمد من مفر بدينه وحياته سوى الرحيل إلى العدوة الأخرى حيث الإسلام الحق والإيمان الصافي، في ما كان يعتقد.
صادف وصوله، رفقة خايمي، إلى عاصمة السعديين مراكش أيام المنصور الذهبي. وقد تفشّى الطاعون بالمدينة، مما اضطر معه السلطان إلى مغادرتها وإقامة معسكر على ضفاف واد تانسيفت. أحيط أحمد الفقيه في هذه المدينة بعناية خاصة ورعاية فائقة بعدما حظي بمقابلة السلطان ورضاه، فصار واحدا من كتّاب البلاط، وتمكّن بفضل معرفته وما تميّز به من خلق حسن من تبوّئ مكانة مرموقة بين رجالات القصر من علماء وأدباء وقادة الجيش، وغيرهم من رجالات الدولة وأركان البلاط، فخبر أحمد، الذي صار شهاب الدّين، شؤون الدولة وأسرار القصور بما تحبل به من صراعات ومؤامرات وأحابيل السياسة وتقلباتها، فضلا عن مظاهر البذخ والترف المقرون أحيانا بكل أشكال الاستبداد والعبودية، وبفساد أخلاقي مناف لمكارم الأخلاق الإسلامية كما تربّى عليها أحمد شهاب الدين بقرية الحجر.
تمرّد المامون، وارث المنصور وخليفته على فاس، مدشنا لفترة سادها الاقتتال والفتن الداخلية والحركات مبشرة بنهاية العهد السعدي جرّاء ما أصاب المنصور من جنون العظمة الذي أنهك الناس بالضرائب والغرائم ليعيش حياة بذخ وترف. بعد القضاء على ثورة المامون، وفي وقت ضرب الطاعون بلاد المغرب ثانية، مات السلطان وبموته تبخر أمل الفقيه في استعادة الأندلس التي ظل متعلقا بذكراها، يمنّي النفس بمعانقة قرية الحجر وأعالي بوتشارت، ” وضعت الخبز وبكيت في صمت دون أن أذرف دمعة، أدركت لم جعل منّا القشتاليون لقمة سائغة ” (ص 150). بعد وفاة المنصور آل الحكم لزيدان الذي أوفد الفقيه وكاتب البلاط أحمد شهاب الدين إلى بلدان أوربية لعل قادتها يساعدونه على كبح جماع القراصنة الذين حوّلوا غرب البحر الأبيض المتوسط إلى ساحة حرب بين المسلمين والمسيحيين. على ظهر السفينة تعرّف أحمد على موريسكيين أمثاله، نالهم ما ناله من اضطهاد: رودريغز وبلانكو وبلامينو، قشتاليون من أصول مسلمة، تنصّروا ولم يشفع لهم تنصّرهم لدى الحكم الكنيسي بالأندلس، فهجروا كما هجر غيرهم من أهل الأندلس. لما وصل أحمد أمستردام، مدينة البرد والثلج والحرية، أجرى لقاءات مع المسؤولين والعلماء ورجال الدّين ثم عاد إلى مراكش.
حينما عاد أحمد شهاب الدين إلى مراكش كان الصراع بين مولاي زيدان وأخيه المامون قد بلغ أوجه لدرجة ان هذا الأخير اختار التحالف مع الاسبان وسلّمهم مقابل دعمهم له مدينة العرائش، غصبا على أهلها، وضدا على فتاوي الفقهاء. قامت إثرها دعوات للجهاد وثورات ضد السلطان، من أشهرها دعوة أبي محلي الذي استطاع حشد كثير من الأنصار والزحف على مراكش والسيطرة على الحكم بها. في خضم هذا الصراع لزم شهاب الدّين الحيّاد واختلى للعبادة بزاوية سيدي سليمان الجزولي. لكن سرعان ما استعاد زيدان سلطانه بعد مقتل أبي محلي، وعاد شهاب الدّين إلى البلاط. لم تسعف الاضطرابات الداخلية مولاي زيدان على مواجهة الأطماع الأجنبية في احتلال المدن والمرافئ الشاطئية المغربية من قبل الافرنج والاسبان والبرتغاليين. أضاع المغرب مناعته وبعضا من سيادته فضيّع على شهاب الدين كل أمل في العودة إلى الأندلس. غير أن جذوة الأمل لم تنطفئ قبل أن يلوح في الأفق مسلك آخر: بدعوة من رودريغز، التحق شهاب الدّين بسلا الجديدة، سعيا إلى تطويق التوتّر بين الأندلسيين الأوائل (الهوناشيروس) وآل الأندلس. أقام بادئ الأمر لدى رودريغز ( رودييس أو المهدي) بسلا الجديدة التي كانت تعج بخليط من الأقوام ومزيجا من الألسن، وبتعاون مع مضيفه وعبد الرحيم فنيش جرت محاولات عدة لتقوية وحدة الجماعة وتنمية وحدة الانتماء المشترك بين مكونات المدينة والتعبئة للجهاد على أساس الدّين ولو لأغراض سياسية.
في غمار ذلك، التقى بلامينو، رفيقه الآخر في رحلته إلى أمستردام، وقد جنّ لما ألمّ به من جرح الرحيل وألم المنفى وحرقة الحنين، كما أعاد الصلة ببلانكو البناّء الذي غير الزّمن من ملامحه وصار من عباد الله الصالحين، ثم التقى بدوكا الذي سمي بالمهدي، وانخرط طوعا في جند الإسلام وأنذر حياته لمحاربة الاسبان. كانت سلا قد فكت ارتباطها السياسي بالسلطان وممثله المحلي حماية للأندلسيين من الزّج بهم في حروب أودت بحياة الكثير منهم وشردت بعضهم الآخر، وأصبحت عاصمة القراصنة بامتياز.
ضاقت الدنيا بالفقيه أحمد شهاب الدّين، فصارت نظرته للحياة، وقد جاور الخمسين من عمره، مخالفة تماما لما كانت عليه حين الشباب: الأحباء رحلوا حتى دوكا/ المهدي ألقى به الانجليز في البحر، الأبناء شبوا عن الطوق وصار كل لغايته، الغاية التي جاءت به لسلا لم يكتب لها النجاح، فكان الرحيل مرة أخرى. إلى أين؟ إلى توزر بشط الجريد بتونس، حيث استقر به المقام بعد أن كتب الله له حج بيت الله الحرام، فكان الحج تجربة روحانية عميقة ساعدته بلا شك على أن يعيش ما تبقى من العمر زاهدا في الحياة قريبا إلى الله يغرس النخيل ويستمتع بأجواء الواحة الوديعة…
يخفي هذا المختصر من ورائه تفاصيل كثيرة تهم شخصيات الرواية من حيث سحناتهم وأمزجتهم وثقافاتهم على اختلاف أنسابهم ومواقعهم الاجتماعية ومراتبهم السياسية، وتهم الأمكنة من قرى ومدن وبحار وفيافي وما تزخر به من مشاهد متناقضة، كما تهم أحداثا تاريخية كبرى من حروب ومعارك وحركات وقرصنة، وتهم أيضا حياة الناس العاديين وما يعانوه من ضنك العيش ومن بطش الحاكمين، هي تفاصيل حيكت في قالب روائي ممتع، يجمع بين التاريخ الواقعي والمتخيل الذي يصبغ على الحدث التاريخي طابعا إنسانيا يتجاوز الماضي إلى الحاضر ويرنو إلى الخلود. فالرواية التاريخية المبدعة، حسب جورج لوكاتش، هي التي “تثير الحاضر ويعيشها المعاصرون بوصفها تاريخهم السابق”. ولذلك فإن هذا الموجز لا يغني ولا يجب أن يغني عن قراءة الرواية.
تمثل رواية الفقيه سردية متعددة الأبعاد، تتعدى البعد التاريخي الصرف والغرض المعلن من كتابتها المتمثل في “تقديم شهادة عن فترة مضطربة بين العدوتين… والوقوف على الهوة التي تفصل بينهما وما يتوزعها من خلاف… وفهم هذه الحرب التي تحول دون تبادل الأفكار والأشياء…” (ص 299) إلى إفادات أخرى فلسفية، وسوسيولوجية. وهكذا يخوض الكاتب أحيانا في تأملات فلسفية تتصل بالموت والحياة، بالدين والأخلاق، بالاختلاف والتماثل بين الأديان، بمفهوم الدين وعلاقة العقيدة بالممارسة. وفي أكثر من مقطع يفاجئنا الكاتب بنصوص ذات نفحة سوسيولوجية بينة تذكرنا بمقدمة ابن خلدون، في تحليل البنى الاجتماعية وأنماط العيش والطقوس الدينية بالمغرب كما بالأندلس، فضلا عن هذا، تنطوي الرواية على حس نقدي حاد أحيانا اتجاه مظاهر الاستبداد السياسي والمظالم الاجتماعية ووجوه الفساد الأخلاقي وأساليب تدبير شؤون الأمة وحياة البذخ والترف والبهرجة داخل بلاط تحكمه سلطة تسكنه المؤامرات والدسائس.
جعلت هذه الأبعاد مجتمعة الرواية ثرية في مضامينها، فائضة بالمعاني والدلالات، حافلة بالحقائق التاريخية والاجتماعية، حيث صيغت بلغة عربية متينة، وسلسلة، طوعها الكاتب تطويعا في الوصف والسرد والحوار، فجاء الوصف دقيقا يكاد يخيل للقارئ أنه يعيش المشهد، الواقعة، وجاء السرد مسترسلا لا يقدر المتلقي على الفكاك منه رغم الاستقلالية النسبية لفصول الرواية، بينما كانت الحوارات مولدة للأفكار ومرآة لما تمور به الصدور والأنفس من مشاعر اليأس والأمل، والود والكراهية، والاستحسان والامتعاض، والحلم والانكسار.
بهذا تكون رواية الفقيه، حسب ما أرى، قراءة خاصة لمرحلة من تاريخ المغرب ضمن محيطه المتوسطي، ونقدا عميقا للدولة والمجتمع، وللدّين والسياسة، ليس فقط زمن السعديين وإنما في كل الأزمنة بما فيها زمننا هذا. ولذلك أقول بأنها رواية في فلسفة التاريخ وليست رواية تاريخية فحسب.