السبت , 18 أكتوبر, 2025
إخبــارات
الرئيسية » إخبــــارات » بيير نورا: انطفاء آخر أنوار “الحوليات”

بيير نورا: انطفاء آخر أنوار “الحوليات”

     في مطلع الأسبوع الأول من شهر يونيو 2025 رحل بيير نورا، وانطفأ مع هذا الرحيل آخر نور من أنوار الحوليات، التي أضاءت سماء الكتابة التاريخية في القرن العشرين. ففي العشر سنوات الأخيرة، تساقطت أسماء كبيرة كانت قد جدَّدت الدراسات التاريخية، ووجّهتها، وجعلتها تحتل واجهة البحث والنشر والإعلام، مثل جاك لوغوف، وإمانويل لوروا لادوريه، وبول فينْ، ومارك فيرو. وها هو بيير نورا يلتحق بهم، وبمن سبقوهم إلى عالم الخلد بعد حياة دامت أربعة وتسعين عاما، قضى معظمها بين ثنايا الكتاب، تأليفا ونقاشا ونشرا.

عرفتُ بيير نورا، أو تعرّفتُ عليه، في مناسبتين. الأولى، لما ترجمتُ عام 1996 مقالته عن “الذاكرة الجماعية” التي كانت قد صدرت عام 1978 في المصنَّف الشهير “التاريخ الجديد” الذي أشرف عليه جاك لوغوف وروجي شارتييه وجاك روفيل؛ والثانية عام 2011 في مدينة بْلوا الفرنسية خلال الدورة الرابعة عشرة لِـ “ملتقيات التاريخ”، التي شكَّل “الشرق” موضوعها الرئيسي. كان قد نُظِّم بالموازاة مع هذا المنتدى معرضٌ للكتاب حضرته كبريات دور النشر، ومنها غاليمار التي مثّلها شخصيا بيير نورا باعتباره مشرفا على سلسلة “مكتبة التواريخ” التي نشرت كتبا مرجعية كثيرة، منها “المراقبة والمعاقبة” لمشيل فوكو، و”الكتابة التاريخية” لمشيل دو سيرتو، و”زمن الكاثيدرائيات” لجورج دوبيه. كان وسط الكتب، يقدمها للزوار والقراء، ويتكلم عن أهميتها، ويتبادل معهم أطراف الحديث، بأخلاق العالِـم القريب من الناس.

كان بيير نورا ناشرا، وأستاذا، ومؤرخا، وصاحب مشاريع معرفية كبرى، في طليعتها إدارة الأبحاث بمعهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية، وتأسيس مجلة لوديبا (الحوار)، وترؤُّس المكتبة الأوروبية للأفكار بالمركز الوطني للكتاب.

وكان أيضا كاتبا كبيرا، ألّف العديد من الكُتب. في تمرين أَنَويٍّ خاضه عام 2022، كَتَبَ عن نفسه: “سبعة وخمسون عامًا في دار النشر غاليمار، وخمسة وثلاثون عامًا من التدريس والبحث، وأكثر من ألف كتاب منشور بهذه الدار، وسبعة مجلدات من أماكن الذاكرة، وأربعون عامًا على رأس مجلة لُوديبا (الحوار)، فهل أحتاج إلى المزيد لتبرير لقبي؟ غالبا ما عرّفت نفسي بأنني هامشي مركزي. هامشي، لأنني لم أكن أكاديميا كلاسيكيا، ولا ناشرا محترفا، ولا مؤرخا نموذجيا، ولا كاتبا أصيلا. ربما ثمة شيء من جميع هذه الأمور. ومع ذلك، قد أكون مركزيا لأن الكثير من الكتّاب، والكثير من الأفكار الخاصة بواحدة من أكثر المراحل نشاطًا وإبداعًا في فرنسا المعاصرة، مرّت عبر مكتبي الصغير الكائن بالطابق الأول من شارع سيباستيان بوتين، الذي صار يحمل الآن اسم “غاستون غاليمار”.

ارتبط اسم بيير نورا بِـ “الذاكرة”. كان أول مؤرخ يقتحم هذا الموضوع الذي ظل لمدة طويلة حكرا على غير المؤرخين، مثل هنري بيرغسون (المادة والذاكرة)، وموريس هالفاكس (الأطر الاجتماعية للذاكرة)، حيث أشرف على عمل جماعي ضخم، من سبعة أجزاء، امتد من 1984 إلى 1992 (أماكن الذاكرة)، ليبيِّن التقابل بين الذاكرة الجماعية المرتبطة بالانفعال والذاتية، والذاكرة التاريخية المبنية على التحليل والنقد، وليجعل “التاريخَ في قلب الثقافة” على حد قوله، والذاكرةَ كأداة ثقافية لفهم الزمن الراهن.

وارتبط اسم بيير نورا أيضا بحسه النقدي تجاه مدرسة الحوليات التي تخلت عن الاهتمام بالسياسة والفاعلين السياسيين، وذلك قبل المنعطف النقدي الذي تبلور في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، لما كتب مقالته الشهيرة “عودة الحدث” ضمن المجلد الأول (إشكاليات جديدة) من الكتاب الجماعي صناعة التاريخ الذي أشرف عليه رفقة جاك لوغوف عام 1974.

ينتمي بيير نورا إلى الجيل الذي تشبّع في قلب القرن العشرين بالفكر الموروث عن فلسفة الأنوار. ينتمي إلى الجيل الذي عايش عصر العلوم الإنسانية الذهبي، ثم عايش بعد ذلك تراجع هذه العلوم مع تلاشي قدرتها على التغيير الاجتماعي. ينتمي إلى الجيل الذي اشتغل بالكتب، بالأوراق، بالأفكار، بالذكاء البشري، والذي شهد في مطلع الألفية الثالثة تسارع التطور التقني، وسيادة الافتراضي، والذكاء الاصطناعي. عام 2020 لما توقفت مجلة الحوار عن الصدور، والتي كان قد أسسها قبل هذا التاريخ بأربعين سنة من أجل الإسهام في النقاش الرامي إلى فهم الإشكاليات التي يطرحها العالم المعاصر، في سياق التصدي للاختزال الإعلامي والتخصص الجامعي المفرط، اعتبر تجربةَ المجلة، “هذا الشكل الأخير للتقليد المتجذر في الثقافة الفرنسية منذ مائتي سنة”، قد عفا عليها الزمن بسبب الثورة الرقمية.

- محمد حبيدة

جامعة ابن طفيل – كلية الآداب القنيطرة

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.