تزدان الساحة الثقافية المغربية بمولود جديد على إثر صدور العدد الأول من المجلة المغربية لعلم السياسة في شهر نونبر من سنة 2010. تضم المجلة بين دفتيها 208 صفحة من القطع المتوسط. وتحوي المجلة أربع مساهمات بالعربية وثمان مساهمات بالفرنسية تنضوي ست منها في ملف خاص حول علم السياسة بالمنطقة المغاربية. كما تتضمن ملخصا علميا لأشغال مائدة مستديرة نظمت بمدينة غرونوبل الفرنسية حول علم سياسة مخزني بتاريخ 7- 9 شتنبر 2009 وذلك بمناسبة المؤتمر العاشر للجمعية الفرنسية لعلم السياسة، وملخصا لأشغال الندوة الدولية التي نظمتها الجمعية المغربية لعلم السياسة يومي 6 و7 ماي2010 بالمدرسة الوطنية للإدارة حول موضوع العدالة الدستورية.
وتجدر الإشارة إلى أنني آثرت أن يكون تقديمي لأغلب المساهمات بالفرنسية التي تنتظم في إطار ملف خاص مفصلا نسبيا. ومبرري في ذلك هو الأهمية البالغة للفرضيات التي تسوقها في مسعى لمقاربة سؤال مدى امتلاك علم السياسة بالمنطقة المغاربية لهوية خاصة تميزه عن باقي التخصصات المعرفية. فالظاهر أن المجلة، كانت سباقة إلى إثارة إشكال كان، منذ عقود، موضوع مطارحة في الغرب. فقد انصب النقاش والبحث على العوامل الميسرة لانفصال علم السياسة عن مجال الأخلاق وخروجه من جبة العلوم الاجتماعية واجتراحه لهوية مستقلة. كما أثير جدل حول التواريخ الخاصة لعلم السياسة، حيث تحدث على سبيل المثال، ألموند فيربا عن علم سياسة موزع بين مدارس عديدة تدعي كل منها أحقية تمثيل هذا العلم. إن أهمية المساهمات الواردة في ذلك الملف الخاص و سبق تناولها لتلك الإشكالات، عوامل قادتني أحيانا إلى اجتزاء بعض مقاطعها التي تبدو لي قوية.
تنهض مشروعية إصدار مجلة مغربية لعلم السياسة، وفق ما أكده رئيس الجمعية المغربية لعلم السياسة في الكلمة التقديمية (صص5- 6)، على عدة مبررات. فإصدار المجلة يعد تنفيذا لأحد برامج الجمعية واستجابة لمطلب “الحقل الثقافي المغربي الحالي”. كما يندرج هذا الإصدار ضمن مسعى إنتاج نوعية خاصة من المعارف وتوسيع دائرة انتشارها في ظل احترام الضوابط العلمية التي يفرضها هذا الحقل العلمي. ثم إن تزايد أعداد الباحثين في حقل علم السياسة وما أفرزه ذلك من تراكم معرفي يسمح “بميلاد حقل معرفي جديد”، عوامل تدفع صوب إصدار مجلة متخصصة تحتضن هذا المنتوج المعرفي وتجترح أفقا للنقاش وتفتح ساحة النقد وتمكن من مسايرة النقاشات الجارية حول إشكال من الإشكالات المختلفة، مستفيدة من الجهود المبذولة في إطار المسيرة الشاقة لبناء وتطوير “فضاء عمومي”.
ورغم الإشارة إلى أن المجلة لا تعبر عن “الرغبة في تقسيم المهام بين الباحثين” أو الاستفراد بقطاع بحثي واجتراح مجال خاص للاشتغال أو ” توزيع رسمي للعمل بين المؤسسات الجامعية”، فإن رئيس الجمعية أكد على أنها تعكس نضج حقل العلوم السياسية وأهليته للاصطفاف إلى جانب حقول معرفية أخرى شكلت السياسة بالمغرب إحدى مجالات اهتمامها. ويذكر هذا الكلام بالنقاش السائد في الغرب خلال فترت خلت، والمتعلق بمدى قدرة علم السياسة على أن يجترح لنفسه هوية خاصة ويكف عن الالتفاف في عباءة حقول معرفية أخرى وخاصة حقل العلوم الاجتماعية وأيضا بالشروط التي مهدت لاستقلاليته واستنفاره عدة منهجية وشبكة مفاهيمية خاصة به.
وختم رئيس الجمعية كلمته التقديمية بالإشارة إلى مجالات اهتمام الجمعية. فالمجلة تهتم “بالبحث في الشأن السياسي الذي يتخذ المغرب موضوعا له”، مثلما تشرع الباب على المبادرات التي تستثمر المعرفة بالسياسي في فضاءات مشابهة للمنطقة المغربية. على أنها لا تنكفئ في مادتها البحثية على المنتوج المحلي أو الإقليمي فقط، بقدر ما تنفتح أيضا على تجارب البحث العالمية.
استهلت المساهمات باللغة العربية بمحاضرة ألقاها محمد عابد الجابري خلال افتتاح المؤتمر الثاني للجمعية المغربية للعلوم السياسية في نونبر1997، وعنوانها “الإصلاح السياسي” (صص7- 10). حدد الجابري كإطار عام لموضوعه عنوان “عودة الأخلاق” والذي يوحي بحضور أعقبه غياب فعودة. يشير الجابري إلى حضور الأخلاق في الفكر السياسي مستندا إلى الإرث اليوناني الذي قسم النشاط البشري إلى نشاط نظري وفكري وآخر عقلي وعملي. على أن الأخلاق والسياسة، اللذين تربط بينهما وشائج القربى، يندرجان في سلك الجنس العقلي والعملي للنشاط البشري. ويجري التمييز في إطار الأخلاق بين ثلاث مجالات، النفس والمنزل والمدينة. وإذا كانت عبارة “عودة الأخلاق” توحي بغيابها، فإن الجابري يشير إلى بعض تمظهرات ذاك الغياب، وهي انحدار قيمة الفرد الذي لم تعد له قيمة في ذاته، بل احتوته الآلة والتقنية، فضلا عن تذرير الأسرة. أما المطالبة بعودتها فتتم في زمن العولمة الموسوم بإزاحة القيود وسيادة رأس المال وانسيابية الثقافة وتراجع دور الدولة وما ولدته هذه التغيرات من تأثيرات سلبية على الفرد والأسرة والمدينة. إن الحاجة إلى طرح سؤال الأخلاق تبدو ملحة في ظل الأخطار المتربصة بالعالم والمرتبطة بسؤال”إلى أين يسير العالم؟”. إن السياسة في ظل التصورات التي يشهدها العالم في زمن العولمة تبقى مأزومة، من هنا حاجتنا الملحة إلى الأخلاق، “أخلاقيات السياسة”. فالأخلاق تعقل جموح التقدم الميسر للانحرافات وتؤمن “عودة الضمير” إلى السياسة.
أما مداخلة أحمد بوجداد (صص 11- 22) فجاءت بعنوان “الطبقة الوسطى والسياسة التعليمية، فرضية الأزمة والتحول”. ابتدأها بعرض “دلالات”أهمية إثارة موضوع الطبقة الوسطى في المغرب (ويتعلق الأمر بتجليات أو تمظهرات تلك الأهمية أو بمبررات إثارة الموضوع). أولها تدهور الوضع الاجتماعي ومفاعيل هذا الانحدار على الوضع المادي والمعنوي لتلك الطبقة. التجلي الثاني هو أن وضع تلك الطبقة ينطوي على مخاطر الإساءة إلى الإحرازات الإيجابية التي حققها المغرب على جبهة السياسة. ومن تجليات تلك الأهمية أيضا تصلب مواقفها السياسية الذي تعكسه ميولاتها الانتخابية ودورها المركزي في التنمية والافتقار إلى المعطيات الكافية بشأن بنية المجتمع.
تتفرع المساهمة إلى أربعة محاور. عاود أحمد بوجداد الإشارة في محور أول إلى أهمية الطبقة الوسطى، كما أومأ إلى اختلاف دلالة المفهوم بحسب الاتجاهات الفكرية. أما المحور الثاني فتضمن إشارة إلى بعض الكتابات المهتمة بالبنية الاجتماعية عامة وبالطبقة الوسطى بشكل خاص. وعكف الباحث في محور ثالث على إثارة استفهام بشأن إسهام التعليم في إنتاج أزمة الطبقة الوسطى. وقد انصب هذا المحور على إثارة إحدى التفسيرات الممكنة لوضع الطبقة الوسطى. ينطلق الباحث من أن الانعطافة التي عرفها المغرب في بداية الثمانينات بفعل التقلبات المناخية وارتفاع المجهود الإنفاقي في مقابل اشتداد الأزمة الاقتصادية وما أعقب ذلك من سياسات اقتصادية واجتماعية تقشفية، عوامل أضعفت قدرة المدرسة على أن تكون إوالية ارتقاء اجتماعي ومسلكا آمنا يضمن الحظوة الرمزية. فقد عرف قطاع التعليم سلسلة ترميمات علاجية تنسجم روحها مع مقتضيات برنامج التقويم الهيكلي. كما استرسلت إخفاقات مشاريع الإصلاح بشكل عمق أزمة “المدرسة العمومية”. هذا الوضع المأزوم، ولد نوعين من النزوعات لدى “الفئات الوسطى”. فبينما ظلت “الفئات السفلى” تراهن على المدرسة لتجسير فجوات التأخر وتحسين وضعها، أضحت المدرسة في أعين “الفئات العليا ” آلية ارتقاء معطوبة، الأمر الذي اضطرها للبحث عن منافذ جديدة. وإذا كانت أزمة “المدرسة العمومية” قد ساهمت، ضمن عوامل أخرى، في “تقليص حجم الطبقة الوسطى” وخاصة “الشرائح الدنيا والوسطى” منها، فإن ما سماه الباحث “الشرائح الوسطى ذات الرأسمال الاقتصادي أو البيروقراطي” تجني ثمار ذلك الوضع. وخصص المحور الرابع والأخير لبحث مسألة تمويل السياسة التعليمية كمؤشر على “عمق الأزمة”. وقد أدرج الباحث ضمن حزمة الأعطاب المؤثرة في عملية التمويل، طبيعة السياسة الاقتصادية المنتهجة والتزامات الدولة والسياسة الإنجابية ومستوى النمو الاقتصادي ونسبة إسهام الأسر في تمويل التعليم وتوزيع النفقات بحسب قطاعات التعليم والرهانات المستهدفة ( التدفقات المدرسية، العرض التربوي، البحث، الجودة…). إن المفاعيل السلبية لهذه الأعطاب على جودة التعلمات، أضعف موقع أبناء “الفئات الوسطى” في سوق العمل.
وعرض عبد العلي حامي الدين في ورقة ثالثة رؤية علال الفاسي للمسألة الدستورية، حيث حاول في مساهمته المعنونة “المسألة الدستورية في فكر علال الفاسي: دراسة في الأصول الفكرية والآليات الدستورية” (صص23- 38) الكشف عن “المرتكزات الفكرية والأدوات المنهجية” التي اعتمدها الفاسي لصياغة فلسفته في هذا الباب وإبراز ما يعتبره ضوابط إجرائية للممارسة السياسية. ففي إطار الأسس الفكرية والآليات المنهجية، تم بحث مسألتي التأصيل والتحديث في خطاب الفاسي. فالتأصيل بما هو حرص على الإسناد الفكري والفلسفي، يحتل موقعا هاما ضمن رؤيته. وقد استعرض الباحث موقف الفاسي من العلمانية والاجتهاد كمظهرين رئيسيين لعملية التأصيل. فهو يؤسس موقفه الرافض لفصل الدين عن الدولة متتبعا منشأ ذلك الفصل في الغرب وخلص إلى استحالة اعتماده في إطار الإسلام. على أن اعتماده الأصول لا يشكل أمارة جمود وتكلس، بقدر ما يعضد قابلية التطور. فتحقيق المصلحة العامة يقتضي إعمال آليات الاجتهاد. وأكد الفاسي على إلحاحية عملية التحديث كضرورة تفرضها الحاجة لمسايرة العصر مع الحرص على عدم النأي عما هو أصيل. لقد نزع منزعا توفيقيا لا يعيش فيه تراث الأمة ومستجدات العصر علاقات تنافر وتوتر. وساق الباحث مفهومي “الديمقراطية التمثيلية” و”التعددية السياسية” كنموذجين يعكسان ذاك المنحى التوفيقي.
وبقدر ما اهتم علال الفاسي بالتأصيل النظري للمسألة الدستوري، بالقدر نفسه بلور ضوابط منهجية ذات صلة بممارسة الحكم، واستحضر الباحث نموذجي “السلطة التأسيسية” و”النظام البرلماني”. فالفاسي يؤمن بأسلوب الجمعية التأسيسية المنتخبة بالاقتراع العام، غير أنه استسلم لفكرة التعيين بقبوله المشاركة في مجلس دستور معين من طرف الملك، بل إنه جنح إلى تبريرها بالظروف التاريخية والسياسية التي يجتازها المغرب آنذاك. على أن علال الفاسي المفتتن بالنظام البرلماني الإنجليزي، لم يتردد في التأكيد على ضرورة اقتفاء أثر الإنجليز باعتماد ملكية برلمانية تكون فيها الحكومة منبثقة عن الأغلبية البرلمانية ومسؤولة أمام البرلمان المنبثق عن الشعب. ويذهب الباحث إلى أن الفاسي يرمي من وراء اعتماد هذا النظام إلى ثلاث مقاصد، “حق الأمة في اختيار الحاكمين” وإقرار محاسبتهم وضمان الاستقرار ودرء الفتنة.
المساهمة الرابعة بالعربية هي لعز الدين العلام وخصصها “للمغرب كموضوع سياسي” (صص39- 46). وقد استهلها بملاحظات بشأن المحاولات التي تتخذ من “السياسة” موضوعا للكتابة خلال فترة سابقة على الاستقلال وما يعترضها من صعوبات ويلحقها من أعطاب تخرجها من دائرة علم السياسة كعلم مستقل وذي هوية متميزة. كما تناول في محور ثان تقديرات بعض الباحثين لواقع “علم السياسة” في مغرب ما بعد الاستقلال. فقد اختلفت التقديرات بين مشكك في وجود علم سياسة مستقل رغم كثافة تمدد السياسة عبر مجالات معرفية أخرى، وقائل بكونه “مهجورا”، إذ لا وجود لمؤسسات تحضنه وباحثين يطرقون بابه ويخوضون غمار البحث في ساحته. في ظل هذا الواقع يشد “عالم السياسة” رحاله صوب فضاءات جغرافية ومجالات معرفية أخرى. إن علم السياسة في ظل هذا الارتحال يفتقد لهوية مميزة. ويذهب البعض الآخر إلى أنه رغم التطور الذي عرفه علم السياسة بعد الاستقلال مقارنة مع واقع تراثنا الفكري الموسوم بغياب مفاهيم العلوم السياسية ومع تراكمات المرحلة الاستعمارية التي دشنت مرحلة التأسيس، ما يزال هذا العلم مطبوعا بهزالة الإنتاج والبقاء في أسر ردهات الجامعات. وساق الباحث في محور ثالث استفهاما يستبطن تفسيرا لما أسماه “الظهور المتعثر لعلم السياسة”. فالاستفهام ينصرف إلى ما إذا كان ذلك التعثر نتيجة صعوبة الانتقال من دولة تقليدية (سلطانية) إلى دولة حديثة. وحاول التقاط مؤشرات صعوبة وتعقيدات وإيقاع الانتقال بين هذين النموذجين.
1- أعطاب الدولة والحكومة والمعارضة: فهو يقر بإمكانية الحديث عن دولة مغربية بالمعنى الحديث بحكم أن»”الحداثة” (هو) مصيرها المحتوم «، مثلما يستبعد ذلك من منطلق أنها» ما انفكت تعاني من ثقل الماضي “السلطاني” « (صص 42-43). ويبدو أن الباحث تلقف روح هذه الفكرة من عبد الله العروي الذي اعتبر أن الدولة المغربية هي نتاج التطور الطبيعي لإرث الدولة السلطانية المستبدة التي تعتمد القهر والطاعة من جهة ونتاج التنظيمات الحديثة التي تم تلقفها من الغرب من جهة ثانية. فمشكلتها تكمن في ذلك التأرجح، بل والتناقض بين حداثة التنظيم والطابع التقليدي للقيم. أما بالنسبة للحكومة، يبدو أن اضطراب وعدم وضوح علاقتها مع الدولة وهيمنة منطق المناورة على تلك العلاقة، عوامل تضعف فاعلية أدائها. وتصطدم المعارضة بمشكلة أن إمكانية التداول السلمي للسلطة بين من يحكم ومن يعارض تبدو صعبة، في ظل حداثة القيم الديمقراطية وعدم ترسخها وكثرة المخاطر المحدقة بها وما قد يتولد عن ذلك من احتمالات التعجيل بالنكوص والانتكاس.
2- المؤشر الآخر هو صعوبة استعارة مفاهيم حديثة لتحليل واقع منهك بترسبات ما يسميه الباحث “الزمان الاجتماعي” في مقابل قصر “الزمان السياسي” وما يولده ذلك من صعوبات، شكلانية مؤسساتية وكثافة الإيديولوجيا ووجود بنية تستجيب لمنطق عميق معاند لا تقوى الترميمات على خلخلته. ثمة انفصام بين الزمنين يثير استفهاما بشأن ما إذا كانت للمفاهيم الحديثة المتداولة محتويات اجتماعية.
المحور الرابع والأخير رصد فيه الباحث الصعوبات التي تعترض التحليل السياسي. الصعوبة الأولى تتمثل في الطابع الحربائي للواقع و للفاعلين. وبحكم أن علم السياسة يفرض على الباحث توخي صرامة منهجية ومساحة كافية إزاء موضوعاته، فإن التغير الدائم يعقد إمكانية التحليل. أما الصعوبة الثانية فتجسدها ازدواجية الحياة السياسية، إذ أن وجود حياة “سياسية باطنية حقيقية” فاعلة إلى جانب “حياة سياسية ظاهرة” أو صورية لا يسعف “وضعانية” علم السياسة على التسلل إلى نتوءات العوالم الباطنية والإمساك بمنطق اشتغالها. الصعوبة الثالثة والتي ترددت في موضع سابق من هذه الورقة، سماها الباحث “مفارقة المفاهيم للوقائع”. فترسبات “الزمان الاجتماعي” تضعف القدرة التفسيرية للمفاهيم الحديثة لعلم السياسة وتجعلها غريبة وغير فعالة. وترتبط هذه الصعوبة بالمناهج والمؤشرات. فالملاحظات والاستنتاجات التي تتخلق في رحم المؤشرات الكمية و القانونية وتنبعث من رمادها، تتربص بها عيوب عدم الدقة وضعف المصداقية. يعزى ذلك إلى أن تلك المؤشرات لا تعكس بصدق المنطق العميق الناظم لتضاعيف البنية الاجتماعية. ونبه الباحث في الأخير إلى محدودية التصور الذي يقرن بين علم السياسة وتحديث ودمقرطة الحقل السياسي، وتتمثل في أن تلك المفاهيم “ليست فقط مسألة سياسية” و”إرادية”، ولكنها أيضا، وبالأساس، مسألة مجتمعية و”مدنية”.
استهلت المساهمات باللغة الفرنسية بورقة تقديمية للملف الخاص المتمحور حول علم السياسة الخدوم للدولة بالمنطقة المغاربية، وهي من إعداد عبد الله ساعف وعبد الرحيم المصلوحي (صص7- 17). يطمح العدد الأول من المجلة المغربية لعلم السياسة، كما أكد الباحثان، إلى المساهمة في النقاش حول الهوية العلمية لعلم السياسة في المنطقة المغاربية. ويقترحان خدمة أجندة الدولة caméralité))، باعتبارها تحيل على علاقة خاصة للمعرفة بالسلطة، زاوية للمعالجة مع الإشارة إلى بواعث هذا المنزع. يتعلق الأمر أولا بنوعية الأوساط السياسية التي تتحرك وتنشر فيها مختلف المعارف المنتجة حول السياسة في البلدان المغاربية، حيث تستتبع تلك الأوساط، عبر إواليات مختلفة، تبعية الإنتاج الجامعي للطلب المؤسساتي. الباعث الثاني يرتبط بتاريخانية حقل علم السياسة ذاته. وتشير الوضعية التي يكون فيها علم السياسة في خدمة الدولة” (posture camérale) هنا، إلى مرحلة أزمة أو إلى مرحلة تكون الحقل وتطوره في اتجاه وضع أكثر تأملية.
و عكفت الورقة، بعد هذه الإشارات، على رصد حركية علم السياسة بالمنطقة المغاربية استنادا إلى النماذج المثالية الأربع التي حددها رايموند بودون Raymond Boudon))، السوسيولوجيا الجمالية أوالتعبيرية والسوسيولوجيا الملتزمة أو النقدية والسوسيولوجية الوصفية أو التي تخدم الدولة والسوسيولوجيا المعرفية أو العلمية. وإذا كان علم السياسة في الغرب لم يربح رهان المأسسة والاستقلالية إلا بعد نجاحه في قطع الحبل السري الذي يربطه بالطلب المؤسساتي، فإن التطورات التي شهدها علم السياسة بالمنطقة المغاربية أبرزت انخراطه في مسار معكوس، حيث اقترنت مأسسته بمسلسل توج برسوه في حضن المؤسسات. فبينما تزامن تطابق وضعية خدمة علم السياسة للدولة في فرنسا وألمانيا مع مرحلة ابتدائية تعطي لعلم السياسة وضع علم ملحق في خدمة الدولة، انطبعت المراحل الأولى لهذا العلم في الدول المغاربية باقتحام مرحلة معرفية خلال الفترة ما بين 1950 و1975، التي شكلت عصرا ذهبيا تميز بخصوبة استكشافية للنظريات الكبرى ( الانقسامية والباترمونيالية الجديدة) والتي صاغها باحثون غربيون اتخذوا منطقة شمال إفريقيا موضوعا تجريبيا إيفانس بريتشارد (Evans Prichard) وإرنست غيلنر (Ernest Gelner) وبيير بورديو (Pierre Bourdieu) وكليفورد غيرتز (Clifford Geertz). بعدها لاح طيف مرحلة جديدة “نقدية” امتدت ما بين 1975 و1990. فقد تلقف الباحثون المحليون تراث الأجانب واتخذوه في الغالب بديلا عن الاقتصادوية الماركسية. صوب الباحثون المغاربيون في مجال علم السياسة، على قلتهم، سهام اهتمامهم نحو العلوم الاستعمارية والممارسات المحلية للسلطة. غير أن خيبة أمل العلوم الاجتماعية الناتجة عن مآزق الماركسية والإيديولوجية الهولية وبزوغ عمليات الدمقرطة والتعطش للحكامة وللسياسات العمومية، عوامل فتحت المجال، أخيرا، أمام فتح أو إعادة فتح “مرحلة خدمة علم السياسة للدولة”. بتعميقها للرؤية الإدارية للسياسي، أخضعت هذه الموجة الجديدة علم السياسة للارتباط مجددا بالطلب المؤسساتي. وكانت العلاقات، تاريخيا، وثيقة بين المعرفة والسلطة. ففي زمن المخزن بمغرب ما قبل الاستعمار والبايات بتونس والجزائر، لم يؤل رجال العلم والأدب جهدهم لخدمة الأمراء، إذ يسخرون ملكاتهم المعرفية لتأويج المداخيل ولا يتوانون عن إسداء النصح. ويبدو، بنظر الباحثين، أن عالم السياسة المغاربي ينزع اليوم نفس المنزع. وفي زمن النهضة وزوال الاستعمار كان بناء الدولة يتم بالتوازي مع بناء العلم ولم تعد المعرفة بالنسبة للأمراء مجرد ترف أو زخرف، بل أضحت مكونا ضروريا لنظام الحكم. ودون أن ينسلخ عن جبة نزعة خدمة الدولة، أمسى الباحث منذ الاستقلال حتى اليوم، يوظف بعض المقتضيات الشكلية لعلم الاجتماع. فهو يعمل من جهة، على جمع اللوازم الملائمة، ومن المحتمل أن يرتدي عباءة الإثنوغرافي أو مستقصي الرأي، ويعمد من جهة أخرى لبناء المادة التي التقطها اعتمادا على مقياس الرغبات المعبر عنها أو المفترضة للأمير وليس وفق منظار مبادئ الاستنتاج المنطقي التي يستتبعها العلم. لقد أصبح علم السياسة، خلال هذه المرحلة، يتداخل مع حقل السلطة بشكل يعضد قدرة هذا الأخير على إنتاج ” الواقع السياسي”. وخلافا للمشرق، حيث السياق الثقافي يفسح المجال أمام الجدل حول علم السياسة “العربي” أو “الإسلامي”، تبقى إحالات علماء السياسة المغاربيين على الماضي العلمي للحضارة العربية الإسلامية، قليلة. فباستثناء ابن خلدون كأحد المؤسسين البارزين لعلم السياسة المعاصر، لا تصل “مسالك الأصالة” والتوترات الهوياتية والابستمولوجية الناتجة عنها، إلى درجة نفي أو التبرأ من الاقتباسات من المدرسة الفرنسية، وبدرجة أقل، من التقاليد الأنجلوساكسونية. على أن هذه الفرادة لا تمنح أي امتياز لعلماء السياسة المغاربيين. فأنماط التساؤل السائدة في علم السياسة الدولي وصدى التيارات ما بعد الوضعية، تبقى غير مسموعة من الناحية العلمية. فالمعارف لا يتم تداولها بالشكل المرضي عبر الجمعيات العلمية والندوات والأيام الدراسية. وفي مجال النشر، يتم تفضيل خفة الرسالة (essai légèreté d’) على ثقل الأثر الضخم (pesanteur du gros œuvre) وإحدى الجرائد الكبرى على المجلات المتخصصة وعجلة الاجتماعات على المنتديات الدراسية الصغيرة. وبينما لا يحتاج عالم السياسة في فرنسا من أجل إثبات ذاته إلا إلى اعتراف أنداده، تغدو هذه التجربة في البلاد المغاربية ثانوية ولا تؤتي أكلها إلا بعد “مسار خارج الجامعة” ينتهي (المطالب به) صاحبه بالارتماء في آسار السلطة ووسائل الإعلام الضخمة. وفي تونس في زمن بورقيبة وبعده، لم يستطع “الصراع من أجل الحفاظ على المشروعية العلمية” انتزاع علم السياسة والتخصصات الملحقة به من شراك المأسسة الموضوعة تحت الوصاية. وفي الجزائر، قضى سياق بناء الدولة على طموح كل مكونات المجتمع لتملك سلطة الإنتاج الرمزي. وبالمغرب، لم تكف السلطة عن ضخ “كفاءات فردية” في الجامعة.
يبدو حقل السياسة، وفق تقدير الباحثين، بالمنطقة المغاربية متشظيا، بحيث يتكون من طيف من تقاليد غير متجانسة يصعب حصرها أو ردها إلى خط معرفي واحد. إن انشطار حقل علم السياسة يتوافق مع تعددية أنماط شرعنة السلطة وضبط المصالح. على أن تقطيع ذلك الحقل يسمح بملاحظة أنه يتمحور، على الأقل، حول ثلاث مواضيع تطور كل منها وضعية خاصة إزاء السياسة القائمة. وضعية خدمة الدولة، الأكثر انتشارا، ناتجة عن تأثير “التصادم” بين حقل المعرفة وحقل السلطة. على أن هذه الوضعية تزاحمها وضعيتان اثنتان. وضعية نقدية، حيث طور علماء سياسة معارضون شبكات ماكرو سياسية للتفسير تعطي الأولوية للأبعاد النسقية والشمولية للهيمنة على حساب قنوات أو “أوعية السلطة” (capillarités du pouvoir) ودينامياتها الحدية. الوضعية الثالثة تركز على المستويات الميكرو في التحليل وتعبر عن انشغال معين بتساوي المسافة (equidistance) بين غائيات السلطة و”سوسيولوجيات” الكشف أو التعرية لعلماء سياسة محتجين. ويتعلق أغلب أنصار هذه الوضعية بالميدان ويجنحون إلى كشف أو فضح الأمور الشاذة أو غير السوية ومقاربة الواقع انطلاقا من القاعدة وإحداث تقاطعات بين تخصصات معرفية والقيام بسجالات مع المكتسبات العالمية في مجال العلوم الاجتماعية. وقد وقع بعض هؤلاء ضحية نجاحهم، حيث انتهى بهم المطاف إلى السير في ركاب السلطة واعتناق نزعة خدمة الدولة. و بقدر ما زاد هذا التداخل من قوة تعبئة أنصار الدولة، بالقدر نفسه هيأ لصالحهم فضاء يمكن من فرز نخبة أكاديمية. وعلى النقيض من ذلك، يبدو حضور الانفصاليين محدودا، إما بحكم “منفاهم الطوعي” أو بسبب كون ولوج الفضاء العمومي المؤسساتي يتطلب ترشيحا دقيقا. تبرز هذه الأمور جزئيا، غياب التمفصل البنيوي لعلم السياسة، مما يفسح المجال أمام ممارسات ترقيعية واستثمارات فردية “بطولية” تصدر عن منطق فردانية سوسيولوجية أكثر منه فعل جماعي منظم.
ويشير الباحثان إلى صعوبة التقاط المؤشرات الداعمة لفرضية “الاستجابة لأجندة الدولة” (caméralisation) التي تسمح بالتأكيد الوثوقي لفكرة وجود أو انتفاء علم السياسة في المنطقة المغاربية وفي المغرب خاصة. فالدراسات حول هوية علم السياسة بالمغرب غير كافية. فهي لا ترصد أو تتعقب نشأة المعرفة العلمية حول السياسة في بلد كالمغرب ولا تولي الاهتمام بالشروط التي تمارس فيها تلك المعرفة. إن دراسة متأنية للتاريخ الحقيقي لهذا الحقل وللشعب الملحقة به ومراعاة التراكم الحاصل وتحاشي الانطباعية ورواية النوادر (anecdotisme) التي تسم بعض التحاليل، هي السبيل لمعرفة مدى وجود انفصال بين فضاءات التكوين المتخصص والخريجين. إن الصورة التي تنسج في الغالب بخصوص تلك العلاقة، لم يتم التأكد من وجاهتها من خلال جهد التجريب والملاحظة.
ولاحظ الباحثان أن تمظهرات النقاش العمومي وجبهات اتخاذ المواقف وحقول بلورة تعليقات وتحليلات وتقصيات علمية، والتي كانت مهيمنة منذ الاستقلال، تغيرت بشكل جذري في مغرب اليوم. ففي المغرب، كما في البلاد المغاربية الأخرى، ارتفع عدد الباحثين والبحوث الهادفة والمنشورة ومؤسسات التكوين والتقصي حول المغرب السياسي. إن الإجابة عن سؤال وجود أو غياب علم سياسة ترتهن بالإجابة عن سؤال ميتافيزيقي مرتبط بتمثلنا لمفهوم “علم السياسة” وبنوعية الاختيارات المنهجية والمواضيع التي ينبغي استثمارها. وعاود الباحثان طرق باب تطورات أو تحولات علم السياسة بالمغرب. فبعد أن تم تصويب سهام البحث بعد الاستقلال، صوب فئات جلية وبسيطة وإعادة تركياباته وتداخلاته، اغتنت بفضل النقاش الذي خاضه باحثون أجانب. نسبيا، وتم التركيز على مواضيع “السياسي” و”النظام” و”النسق” و”السلطة” وكانت الجهود الرامية لاستيعاب أو إدراك”الحقل السياسي”، تتمحور، لعقود، حول الحكومة ومعارضاتها، فإن الخصائص أضحت أكثر فأكثر متباينة وهامة. كما أمست التراكمات الموضوعاتية ضاغطة. على أن جهود التكفل ببحث تعقيدات السياسي وتركيباته
واعتبر الباحثان أن مسألة الهوية العلمية لعلم السياسة بالمغرب يصعب إيضاحها . فالجميع يستسهلون الاضطلاع بهذه المهمة ولا يترددون في الانخراط في لعبة التجنيس والتقطيع. ويبدو أن الخطوط الفاصلة بين المجالات العلمية لمختلف الفضاءات ما تزال غير واضحة بشكل كبير في الحقل العلمي المغربي. وسواء كانت الاتجاهات مشككة في وجود علم سياسة بالمغرب أو مقرة بذلك الوجود، فإن الاعتراف بهذا العلم أضحى أمرا واقعا، كما أصبح الباحث مطلوبا من قبل الدولة والفاعلين السياسيين والاجتماعيين. ثمة تكثيف للطلب على خبرة الباحث في مجال علم السياسة، واكبه تنويع للتمويلات المنتظمة و الموجهة لأهداف دقيقة. هناك إقبال على تلك الخبرة أيضا من لدن الأحزاب ووسائل الإعلام والجهات الأجنبية. بيد أن هذا الطلب والإنتاج المرتبط به، ما زالا بعيدين عن بلوغ درجة كثافة بالشكل الذي يسمح بأن نطمح، في المستقبل القريب ، إلى مسلسل استقلالية هذا الحقل المعرفي. إن الأمر لا يتعلق، في نظر الباحثين، بتجنب الخوض في المواضيع التي يعتقد أن الحاكم يوثرها، ولكن بالاشتغال على مواضيع الانتخابات والتعبئات والنضالية أو الحزب السياسي وإعادة بناءها وفق مقاس الاستفهامات الخاصة بعلماء السياسة. إن شروط الانعتاق من شراك السلطة موجودة دوما وستبقى موجودة إلى الأبد. ويعتقد الباحثان أن الخبير يسهم حاليا في تعضيد المعرفة العلمية بشأن السياسة، و أن التبعية المادية و المؤسساتية للباحث بعيدة عن أن تكرس وضعية الاغتراب. ثمة جزء من إنتاج المعرفة العلمية السياسية آخذ في التطور بعيدا عن الإيعازات أو الإملاءات الضاغطة للرزنامات الرسمية الداخلية والخارجية. وينبغي زيادة البحث وتعميق جهود التوضيع (objectivation) و الإيمان بالعلم.
ومن أجل رصد واقع علم السياسة و تاريخه الاجتماعي وإعادة تشكيل الإكراهات الداخلية والخارجية التي تبدو هامة لتفسير تأخر استقلالية حقل علم السياسة، اقترح الباحثان في ختام ورقتهما التقديمية تصويب التفكير نحو زاويتين للتحليل. أولا، كشف الممارسات المعرفية والمنهجية والتنظيمية المبنينة لإنتاج المعرفة في مجال علم السياسة في المنطقة المغاربية. هذه الزاوية من الفهم، تفضل الاستفهامات حول الهوية التخصص لعلم السياسة من منظور العلوم الاجتماعية الأخرى التي يقترض منها عدته المعرفية وأنماط تساؤلاته. أما الزاوية الثانية فتركز أكثر على استعمالات علماء السياسة العملية لإنتاج المعرفة العلمية السياسية. كما يتم فحص “الضغط” الذي يمارسه التاريخ الواقعي والديناميات السوسيوهوياتية على الرزنامات العلمية والسياسات البحثية. يسمح هذا المسلك أيضا، بتحديد العقلانيات العملية للمسارات المهنية لعلماء السياسة المغاربيين، والتقاط نوعية الوضعيات( متماهية أو نزاعية أو وضعيات الاحتفاظ بمسافة ) التي ينتبذها علماء السياسة إزاء مراكز المصالح السياسية وصور المنطق التجاري وكذا تأثير تلك الوضعيات من حيث مخزنة التخصص.
هل اكتمل تشكل علم السياسة في البلاد المغاربية، باعتباره حقلا مستقلا؟. بهذا السؤال ابتدأ ميشال كامي (Michel Camau) ورقته المعنونة” تمظهرات سياسية وعلم السياسة في البلاد المغاربية”. يشكك كامي في ذلك سواء من الناحية الابستمولوجية أو المؤسساتية. استند في حكمه على مؤشر رصيد دول هذه المنطقة من المجلات. فباستثناء مجلة مغربية مستقلة وغير منتظمة الصدور، المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، أضحت علامة (label) علم السياسة ملحقة بمجلات يهيمن عليها رجال القانون ولا تترك إلا حيزا ضيقا لعلماء السياسة. من أمثلتها، المجلة الجزائرية للعلوم القانونية والاقتصادية والسياسية التي تصدرها كلية الحقوق والعلوم الاقتصادية بالجزائر، والمجلة القانونية والسياسية والاقتصادية التي تصدرها كلية الحقوق بجامعة محمد الخامس أكدال الرباط. بل إنه يتم احتضان علماء السياسة أحيانا من قبل مجلات العلوم الاجتماعية والاقتصاد، بغض النظر عن المجلات الأجنبية. ويرى كامي أن الوضع آخذ في التدهور مع مر العقود. إن العجز الذي أصاب علم السياسة في المنطقة المغاربية، من حيث المهننة.la professionnalisation)) والمأسسة (l’institutionnalisation)، لم ينظر إليه كمؤشر قصور أو كمشكلة إلا ابتداء من نهاية الثمانينات. فعلماء السياسة يؤكدون ويشكون إشباع العلوم الاجتماعية بالسياسة، ومن تم عدم إفراد حقل خاص لعلم السياسة. فعلم السياسة أو العلوم السياسية في المنطقة المغاربية، يعد من الناحية المؤسساتية فرعا ثانويا (sous-produit ) للقانون العام ويحيل من الناحية العملية على مجال غير ممهنن.
هذا الحكم الأولي المؤكد لعدم تشكل حقل مستقل لعلم السياسة بالمنطقة المغاربية، عمد كامي إلى تدعيمه من خلال إيراد أفكار باحثين مغاربيين وأجانب في الموضوع وأيضا من خلال رصد نوعية التقاليد البحثية ببعض دول المنطقة والنزعات التي تخترقها وطبيعة العلاقات بين العلم والسياسة ونوعية التيمات التي انصرف إليها اهتمام الباحثين ونوعية البراديغمات التي تؤطرها وبيان كيف أسهم الباحثون في علم السياسة أنفسهم في تعقيد تشكل حقل مستقل لعلم السياسة والأشواط التي قطعها هذا العلم. يشير كامي في هذا الصدد، إلى ما لاحظه عبد الله ساعف من تأخر علم السياسة مقارنة مع باقي تخصصات (disciplines) العلوم الاجتماعية النزاعة إلى استثمار السياسة والتعامل معها كامتداد طبيعي لمعارفها. ففي الجزائر وتونس، تعالت أصوات قليلة مدافعة عن مهننة الأبحاث في مجال علم السياسة من داخل الهيئات الجامعية المختصة في السوسيولوجيا. ويتحسر الهواري عدي على تشتت الاهتمامات الجامعية في مجال السوسيولوجيا السياسية على فروع مختلفة للعلوم الاجتماعية. إن استقلالية علم السياسة بهذه المنطقة، تبدو متدنية لدرجة أنه انحصر في دور الممثل الصامت وتنازل عن مهمة إيضاح الظواهر السياسية لفائدة العلوم الاجتماعية. هذا العجز يفسح المجال أمام عدة تفسيرات ليست وقفا على البلاد المغاربية. وساق كامي إحداها وتهم الحدود الداخلية لمشروع علمي يتلمس مجالا للسياسي ينظر إليه “كإقليم لحياة جماعية”.
لقد انصب النقاش في المنطقة المغاربية في نهاية الثمانينات على العلاقات بين العلم والسياسة. في هذا الإطار، سجل محمد قري صعوبة “أن تكون عالم اجتماع في العالم العربي” بحكم عدم ثبات الحدود بين العلم والسياسة في المنطقة. وأشار الهواري عدي إلى إشباع العلوم الاجتماعية بالسياسة والذي يدل على تبعية العلوم الاجتماعية، والتي يتحمل مسؤوليتها علماء الاجتماع أكثر من النظم السياسية. أما محمد الناجي فيرى أن “الثقافي” لا يكون موضوع تفكير خارج المدار الدولتي أو شبه الدولتي. ويتصور عبد القادر زغل أن علماء الاجتماع العرب “وضعيون من دون أن يقرؤوا لأوغست كونت” و”ماركسيون موضوعيون” حسب عبد الله العروي، لهم، في الغالب، معرفة سطحية بتراث ماركس. ولعل هذا ما يفسر كون موقفهم نقديا، لكن مناصرا للدولة. ولئن أبدى محمد قري ومحمد الناجي وعبد القادر زغل قلقهم من زفاف علماء الاجتماع بالسياسي وخطاباته أو بالدولة، فإنهم اجتهدوا لإبراز كيف أسهم علماء الاجتماع بشكل مباشر في “تدجين المعرفة بشأن المجتمع”. إن مشكلة علم السياسة، من هذا المنظور، ليست سوى مظهرا لمشكلة أوسع أصابت مجمل العلوم الاجتماعية. فالعجز الذي أصاب هذا العلم على صعيد المأسسة والمهننة، ليس إلا نتيجة طبيعية لهيمنة “المبدأ السياسي” داخل حقل العلوم الاجتماعية. إن واقع السلطة والثورة والملكية والإسلام، في ظل هذا الوضع، تيمات أضحت خارج دائرة التفكير.
لقد أضحت الرؤية التنموية (dispositif développementaliste)”لسياسة الانتقال”مهيمنة في المنطقة المغاربية. وتنزع هذه الرؤية إلى التركيز على السياسات (policies) التي يفترض أنها تعزز التعبئة الاجتماعية. و قد أخذ دمج العلوم الاجتماعية المغاربية في إطار هذه الرؤية، أشكالا متمايزة يصعب ردها إلى أمر إبستيمي أو حكومي جاهز، وهو ما يفسر بنظر كامي، التباينات الهامة للبراديغمات من بلد لآخر. ففي تونس والمغرب كانت “السوسيولوجيا القروية” في صلب المحاولات التأسيسية للتوجهات البحثية السوسيولوجية خلال الستينيات. ورغم ذلك، تختلف دلالات ووزن الظاهرة بشكل عميق من بلد لآخر. ففي تونس، كانت البدايات الأولى لمركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية (CERES) تحت رعاية “السوسيولوجيا القروية”. فبعد تأسيسه في سنة1962، ارتبطت انطلاقته بسياسة التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنتهجة، سيما في القطاع الزراعي. ومنذ 1964، نظم “منتدى للسوسيولوجيا القروية” بمشاركة ألفرد سوفي (Alfred Sauvy) وهنري ديسبوا (Henri Despois) وجون بونسي (Jean Poncet) وهنري ماندراس (Henri Mandras). وفي إطار”البرنامج الموسع للمساعدة التقنية” لليونسكو (UNESCO)، أنجز هنري ماندراس مهمة بالمركز لمدة شهر. وأشار في التقرير الذي كلف بإنجازه إلى عدم وجود مؤسسات ذات إمكانات تضارع إمكانات هذا المركز، بحوض المتوسط وحتي في البلاد العربية. كما أكد على أنه يلزم قليل من الوقت كي يغدو المركز نموذجا لمراكز الأبحاث التي يمكن للبلدان الأخرى اقتفاء أثرها، وكي يصبح منار الإشعاع وفضاء تكوين بالنسبة للمنطقة المغاربية. و شدد على وجوب أن يتوجه المركز صوب البحث الأساسي الطويل النفس وأن ينصرف البحث إلى المشاكل التي تتخبط فيها تونس. لقد كانت الرؤية التنموية مهيمنة، بحيث أقبل عليها الفاعلون وغطت طيفا واسعا من التخصصات يتجاوز السوسيولوجيا القروية. وكانت السوسيولوجيا القروية موضوع مهمة أخرى أنيطت إلى الخبير برانس (Brans) في 1965. وقد توجت بتبني المركز لبرنامج بحثي حول ” سوسيولوجيا التنمية الزراعية بتونس”. وتنضبط الإشكالية التي صاغها التقرير لهدف مخطط التنمية الزراعية بتونس المتمثل في “خلق والحفاظ على شروط الحياة السليمة والمستقرة للساكنة القروية” وللطابع التجريبي “للصيغ” التي جاء بها ذلك المخطط.
تجدر الإشارة إلى أن الأبحاث الصادرة عن المركز لا تنصرف كلها إلى “التنمية الزراعية”، بل إن البحث ينصرف إلى مواضيع أخرى، كالتربية والازدواجية اللغوية والتخطيط والتمدن والتصنيع والتشغيل والهجرات الداخلية والتأطير الاقتصادي، تعالج وفق نفس المقاربة التحليلية النقدية للسياسة الاشتراكية للتنمية. على أن البراديغم الذي يتيح تشكيل نظرة عن تلك الأبحاث، هو، بطريقة ما، براديغم علم السياسة رغم غياب علم السياسة كتخصص (discipline). إن فشل “الاشتراكية الدستورية” وإعادة توجيه السياسات، عوامل أضعفت حماسة الباحثين وذلك بالتشويش على كونهم المرجعي. إن السوسيولوجيا لم تفقد فحسب قوة جذبها، بل إن التجانس النسبي الذي استطاع براديغم النخبة الإدارية الإحاطة به أيضا، لم ينجح طويلا في مقاومة أزمة الرؤية التنموية المستندة إلى “الاشتراكية الدستورية”.
لقد أخذت دينامية بحثية أخرى، في ظل هذا الوضع، في البروز والانطلاق، واهتمت بالسياسة من منظور مختلف وهو التاريخ. وتبلور هذا الاتجاه في تونس خلال السبعينات حول دفاتر تونس، “مجلة العلوم الإنسانية” التي صدرت سنة 1953. وبينما كانت السوسيولوجيا لا تحتل إلا حيزا ضيقا في دفاتر تونس، هيمن التاريخ كتخصص discipline)) طوال عقد من الزمن عندما كان بشير تليلي يتولى إدارة المجلة. لقد أضحى التاريخ ملاذا للسياسة.
وفي المغرب، لم تعرف العلوم الاجتماعية من الناحية المؤسساتية نظيرا لمركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية والاقتصادية، مثلما لم تصطدم يسياسة تنمية مؤطرة وكثيفة ونسقية مثل “الاشتراكية الدستورية”. لقد تمت إقالة حكومة عبد الله إبراهيم ذات التوجه الاشتراكي بعد إحداث معهد السوسيولوجيا سنة 1960. ولم يكن المعهد، كبنية للتدريس والبحث، يتوفر على شعبة للبحث ثلاث سنوات بعد إحداثه. وعلى غرار مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية والاقتصادية، انخرط معهد السوسيولوجيا في مهمة كبيرة في إطار البرنامج الموسع للمساعدة التقنية لليونسكو. غير أن الخبير كون (Conne) الذي تولى تسييره لم يقترح برنامجا للبحث واشتكى من ندرة الموارد المالية واللوجستيكية ومن غياب هيئة الأساتذة ومحدودية أعداد الطلبة وغياب البحث. ورغم محاولة تنشيط دينامية البحث داخل المعهد في عهد عبد الكبير الخطيبي من خلال تبنيه لمقاربة نقدية، فإن المعهد بدا بنية منكفئة على التدريس أكثر منه على البحث. وفي سنة 1970، صدر قرار ملكي بإغلاقه. بيد أن هذا الإجراء العقابي الذي يعكس الحنق من السوسيولوجيا لم يمنع تطور البحث السوسيولوجي بفضل جهود ثلة من الباحثين بمعهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة. لقد أصبحت السوسيولوجيا القروية، بفضل الفريق الذي يقوده بول باسكون (Paul Pascon)، عامل تطور البحث السوسيولوجي ونشاط مجلة النشرة الاقتصادية والاجتماعية للمغرب. لم تكن هذه السوسيولوجيا، خلافا لنظيرتها بتونس، أقل اهتماما بالسياسات (policies). فإضافة إلى انخراطها في ممارسات التنمية، تتميز هذه السوسيولوجيا أيضا بالدقة في تحديد مواضيعها. واستطاعت بفضل طموحاتها وإسهاماتها النظرية دمج المسألة السياسية في صلب إشكالياتها وفتح فضاء أمام علم سياسة نقدي. لقد بدا “المجتمع المركب” براديغما بإمكانه إدراك وفهم دينامية السوسويلوجيا المغربية خلال تلك الفترة.
إن بزوغ علم سياسة مستقل لم يكن شأن هذا التيار السوسيولوجي الذي استطاع تجاوز الانتماءات التخصصية والتقطيعات الأكاديمية. ومع ذلك، بدا هذا التيار، تيار علم سياسة (politologique)، لأكثر من سبب. لقد بلور أدوات لتحليل علاقات السلطة وشكل بؤرة لتكوين جيل من الباحثين في علم السياسة وساهم في أن يكون للعلوم الاجتماعية موقع متميز داخل فضاء عمومي يشكو من ضغوطات عدة، وذلك من خلال مجلة لام ألف(Lamalif) التي توقف صدورها سنة 1988 بفعل ضغوط السلطات العمومية على إثر نشر مقتطف من مؤلف باسكون والناجي حول المخزن. لقد تزامن اختفاء المجلة، التي تشكل همزة الوصل بين البحث في العلوم الاجتماعية وجمهور مثقف، مع مرحلة الجزر التي عرفها ذلك البحث. فالرقابة السياسية كانت ضاغطة، كما بدأت علاقة قوى جديدة ترتسم في الحقل العلمي عقب موت باسكون في 1985. إن نهاية صدور النشرة الاقتصادية والاجتماعية للمغرب و تعويضها بالمجلة العلمية والثقافية علامات الحاضر في 1988، مؤشرات تعكس مرحلة جديدة تميزت ببداية إعادة تشكيلات ورسم توجهات جديدة.
وخلافا لتونس والمغرب، لم تتبين سوسيولوجيا التنمية في الجزائر حول دينامية الدراسات القروية. فقد تأثرت في زمن الاستقلال بالانفصال بين سوسيولوجيا جامعية صاعدة وبحث سوسيولوجي نشيط جسدته على الخصوص الجمعية الجزائرية للبحث الديموغرافي والاقتصادي والاجتماعي (AARDES) والذي سطت عليه مديرية المخطط. هذه القطيعة على الصعيد المعرفي والمؤسساتي، لم تتم مقاصتها من خلال خلق مركز بحث مماثل لمركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية والاقتصادية التونسي أو لمعهد السوسيولوجيا بالرباط. لقد أنيط إنجاز الخبرة إلى جامعة الجزائر، مع أن المفروض اضطلاع “مركز الدراسات السوسيولوجية ” أو “معهد الفلسفة” التابع لجامعة الجزائر بتلك المهمة. إن هدفها الرئيسي يتمثل في تكوين باحثين وإنجاز “بحوث سوسيولوجية ميدانية” وإعداد “مخطط بحث” يعكف على مشاكل سوسيولوجيا التربية. وبسبب إلغاء “مركز الدراسات السوسيولوجية ” وتولي الباحثين الذين بدأوا تكوينهم بالمركز لمهام أخرى، بدأ الخبير كون في الاشتغال مع لجنة تتشكل في المجمل من ثلاث أعضاء. وتتمثل مهمتهم في تهييء بحث استكشافي حول “الازدواجية اللغوية بالمدرسة”. ومن منطلق وعيه بتعذر إعداد برنامج بحثي من دون باحثين، خلص كون في تقريره إلى ضرورة خلق مركز للأبحاث في العلوم الاجتماعية، كتنظيم يربط بين الجامعة ومختلف الهيئات الوطنية الحكومية المكلفة بإيجاد حلول عملية مدروسة للمشاكل الكبرى للتنمية. غير أن هذا المركز لم ير النور قط. لقد جنحت السوسيولوجيا، بطريقة ما، إلى تقليد الاقتصاد أو على الأقل تحليله للسياسات من زاوية التصنيع. كما أن علماء الاجتماع لا يتوفرون على أية مجلة متخصصة. فهم يرتبطون بمجلات أخرى كدفاتر مركز البحث في الاقتصاد التطبيقي للتنمية (CREAD)، و المجلة الجزائرية للعلوم القانونية والاقتصادية والسياسية التي تميزت بطول عمرها وبروز منطق متعدد التخصصات لعلوم السياسة. وقد انصرف النقاش في الجامعة الجزائرية إلى مواضيع التدبير الذاتي والإمبريالية ومذاهب الاشتراكية واستراتيجيات التنمية والتحرير الوطني، وكانت صفحات المجلة الجزائرية تردد صدى تلك المواضيع. وشكلت الثورة الجزائرية الأفق المفاهيمي الذي تقارب من خلاله المجلة، السياسي.
إن احتجاجات 1988 رجت النسق السياسي ومعه المعارف الروتينية. هذه الظرفية العصيبة كانت حاسمة في بروز علم السياسة كمشكل. وبينما كانت تونس تجتاز بدورها ظرفا عصيبا مع الانقلاب الدستوري المقنع بشعار “التغيير السياسي”، لم يعرف المغرب أحداثا سياسية بنفس الحدة والكثافة، وهو ما قاد كامي إلى القول إن ظهور علم السياسة كمشكل، في هذا البلد أو ذاك، ليس نتاجا لأحداث وإنما لنزعات مكشوفة و- أو تضفي عليها تلك الأحداث بعدا دراماتيكيا. لقد عمدت الدول المغاربية في ظل إفلاس الرؤية التنموية وما عرفه العالم من تحولات مختلفة في عقد الثمانينات، إلى تبني برامج التقويم الهيكلي. واحتلت مسألة الديمقراطية وصعود الإسلاموية المشهد السياسي.
لم تكن المقاربة التنموية المنتهجة لتصمد في وجه التحولات التي عرفتها المجتمعات المغاربية، مثلما لم تعد الدولة فاعلا رئيسيا للتغيير الاجتماعي والاقتصادي. لقد انطبع المشهد بتعدد الفاعلين واختراق الفضاءات الوطنية وصعود مفهوم جديد، “الحكامة الديمقراطية” الذي اعتبر كامي أن دلالته نتاج تقاطعات بين التجارب والخطابات العالمة. وإذا كان البعض يعتبر عدم مأسسة علم السياسة بالمغرب نتيجة لمأسسة خاضعة للرقابة السياسية، فإن الوضع مختلف في الجزائر وتونس. ويتوقع كامي اطراد تطور الإنتاج المغاربي من علم السياسة. ولئن كان المغرب يشكل قوة دافعة في هذا المجال، فإن الجزائر وتونس سيسهمان بدورهما في جعل “العلوم السياسية” إحدى التخصصات المفضلة للباحثين المغاربيين. واعتمد كامي في بحثه مسألة خضوع علم السياسة لأجندة الدولة على المؤشر البيبليوميتري. ففي الجزائر ظلت السوسيولوجيا السياسية، كما علم السياسة، محصورة في وهران، حيث تصدر “المجلة الجزائرية للأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية” إنسانيات التي تترك حيزا لعلم السياسة وتنصب بعض أعدادها على مواضيع سياسية. كما تفسح المجلة الجزائرية للعلوم القانونية والاقتصادية والسياسية و مجلة إدارة، اللتين تصدران خارج وهران، هامشا ضيقا للمقالات المنضوية في سلك “العلوم السياسية”. على أن مدينة وهران تتميز بوفرة هامة نسبيا لأبحاث السلك الثالث المنجزة بالفرنسية. ويشير كامي إلى أن احتضان المقالات المنتجة في مجال علم السياسة من قبل مجلات تنتمي إلى حقول أخرى، وهو مؤشر على المستوى الضعيف للمأسسة، يتعارض مع النمو المفترض للإنتاج. إن العجز الأكاديمي لعلم السياسة يندرج بنظره في سياق مطبوع بتردي الجامعة، وفي ارتباط مع ذلك، بشغف أو اهتمام الأساتذة الباحثين بالطلب المؤسسي الوطني والدولي.
وفي تونس لم يمهنن علم السياسة رغم وجود جمعية تونسية لعلم السياسة. ولا يوجد إلا عدد قليل من الباحثين المتخصصين في كليات الحقوق وعلم الاجتماع. وشكل الاستغناء عن مدرسي علم السياسة القلائل، بموجب الإصلاح الجامعي لمارس 2006، ضربة قاضية لعلم السياسة. ورغم أن علم السياسة كنشاط بحثي ذي صلة بمواضيع سياسية ليس محظورا، فإن ممارسته تعرض لمخاطر تجاوز الخطوط الضمنية والمتقلبة بحسب الظروف. وكانت التعددية والدمقرطة والحركة الإسلامية، في منعطف التسعينات، مواضيع أيام دراسية ونشر أكاديمي. غير أن الاحتفاظ بمسافة عمومية إزاء فكر الدولة أضحى صعبا في ظل قمع الحركة الإسلامية وتصلب النظام. لقد أخذت المخزنة، في مثل هذا السياق، مظهر الرقابة الذاتية والملاحظة أكثر منه شكل تبعية للطلب المؤسساتي الوطني والدولي. لقد أضحت اللعبة أكثر تعقيدا بشكل سمح ببروز سلوكات مضادة وممارسات التفافية. لقد بقي علم السياسة المفتقر إلى قاعدة بحثية متماسكا، ليس فقط من خلال اللجوء إلى المنشورات الأجنبية، ولكن أيضا من خلال الاستفادة من الموارد المتأتية من التعاون الدولي والاختباء خلف دثار المقاربة التاريخية. إن تكفل التعاون الدولي بالأنشطة العلمية وتمويل النشر، عوامل وسعت هامش العمل بالنسبة للباحثين (المؤسسات الألمانية والمصالح الفرنسية للتعاون وبرنامج الشرق الأوسط للتنافس البحثي لمؤسسة فورد ومؤسسة التميمي للبحث والاتصال). لقد أضحى التاريخ، أكثر من أي وقت مضى، ملاذ علم السياسة والبحث المستقل في العلوم الاجتماعية. فالمواضيع السياسية تتم مطارحتها، عموما، من زاوية تاريخية. على أن أهمية المعالجة التاريخية لمواضيع السياسة تقاس بمقياس الأعمال المنجزة حول الحركة الوطنية التونسية، والتي تأويها عدة مجلات كمجلة روافد التي يصدرها المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية ومجلة التاريخ المغاربي.
وعلى خلاف التجربتين الجزائرية والتونسية، يتوافق التطور الكمي الذي عرفه علم السياسة بالمغرب مع تحولات دالة من الناحية العلمية. لقد أضحت السياسة حقلا للدراسات يتيح إعادة تشكيلها حول دلائل أو مرجعيات الحكامة الديمقراطية: الدمقرطة والمجتمع المدني. إن الدينامية السياسية والمؤسساتية التي عرفها المغرب، والتي شهدت دفعة هامة مع “حكومة التناوب”، مكنت علم السياسة من أن يتشكل كتخصص متمايز. فقد تمكن من إنتاج أعمال هامة تدور حول الدمقرطة والمجتمع المدني. بيد أن هذه التيمات التي تبدو ملائمة لتثمين هويته العلمية تنزع إلى التشويش على تلك الهوية، بحكم أنها أصبحت بشكل سريع نماذج (catégories) توجه الممارسة السياسية والجمعوية.
وفي ورقته المعنونة “علم السياسة والممارسة الميدانية بالمغرب”(ص ص 39-(52 تناول حسن رشيق فكرة ندرة الأبحاث الميدانية المنجزة في حقل العلوم السياسية مقارنة مع الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا. وقبل رصد تمظهرات فقر البحوث الميدانية في مجال علم السياسة بالمغرب، أشار رشيق إلى التحول الحاصل في مسار البحوث الأنثروبولوجية، إذ لم تكن التصورات والتفسيرات التي ينتجها الأنثروبولوجيون الأوائل محصلة جهد ميداني يستنفر العدة المنهجية والتقنية التي يقتضيها ذلك الجنس من البحوث، بل كانوا يعكفون على البحث المستندي. وحتى حين تم الشروع في استثمار الإمكانات التي يتيحها الميدان، يظهر من خلال الرجوع إلى تاريخ الأنثروبولوجيا وجود اختلاف في صيغة التقنيات المستعملة في البحوث الميدانية، إذ لم تكن المقابلة على سبيل المثال تقنية يتوجب على الأنثروبولوجي استعمالها. فبإمكانه دراسة مجتمع معين من دون استعمال لسان أهله. ومع مرور الوقت أضحى الإلمام بلغة وثقافة البلد المدروس مفتاحا ضروريا لتستجمع الدراسة مقومات الجودة والوجاهة. وأورد رشيق مثال دوتي (Doutté) الذي انتبذ وضعا وسيطا بين الباحث المقتصر على المكتب والباحث في الميدان. فقد حط دوتي رحله بأرض المغرب وسخر الملاحظة الميدانية توخيا لمعرفة أعمق للمغاربة. وإضافة إلى دور الأنثروبولوجيا في إثراء البحوث الميدانية المتعلقة بالمغرب، كان إسهام الإدارة الاستعمارية بدوره بارزا في هذا الباب. وأشار رشيق في هذا الصدد إلى الأبحاث التي أنجزها بعض الباحثين خلال الفترة الكولونيالية أمثال جاك بيرك (J. Berque) وروبر مونتاني (R.Montagne) وآدم (Adam). ومع تراجع مستوى الإنتاج السوسيولوجي والأنثروبولوجي حول المغرب بعد 1956، أضحى المغرب موضوع بحث مغر لعلماء السياسة أمثال ريمي لوفو (R.Leveau) ووليام زارتمان (W.Zartman) وجون وارتبوري J.Waterbury)). على أن الأبحاث المنجزة في مجال العلوم السياسية والتي ركزت على الملكية والأحزاب، تنأى عن الميدان الذي شكل اللجوء إليه ميزة البحوث السوسيولوجية والأنثروبولوجية. فالباحثون في علم السياسة لا يعمدون، في أحسن الأحوال، إلا إلى إجراء مقابلات مع الفاعلين السياسيين. تجدر الإشارة إلى أن رشيق يعتبر أن اللجوء إلى البحث الميداني ليس لذاته مؤشرا على جودة العمل المنجز، بل إنه أراد لفت الانتباه من خلال هذا المدخل إلى وجود تقاليد نظرية تشجع وأخرى لا تحفز على اللجوء إلى الميدان. إن منطلقه في هذه الورقة هو أن فرص طرح الأسئلة التي تستوجب عملا ميدانيا، تكون ضئيلة بالنسبة للباحث الذي يبقى حبيس حقل العلوم السياسية.
بعد هذا المدخل، قدم رشيق نماذج لمجالات بحثية يغيب فيها البحث الميداني. لاحظ رشيق أن إيلاء أهمية قصوى للماضي وللتراث، يشكل إحدى المسلمات أو الفروض الأولية المألوفة في الدراسات السياسية الحالية بالمغرب. فلا غرو إذا أمسى علماء السياسة المغاربة مؤرخين للأفكار السياسية. ثمة جنوح من قبلهم إلى المزاوجة بين الماضي والحاضر. ويعد مؤلف المخزن بالأمس واليوم لألان كليس (Alain Claisse) نموذجا يعكس هذه المقاربة. ورغم تأرجحه بين زمنين، فإن الحاضر يشكل غالبا موضوع هذه الدراسة، بحيث أن لجوئه إلى التاريخ تمليه الرغبة في مقاربة الحاضر وفهمه. وساق رشيق عينة من الكتابات التي قاربت التاريخ السياسي للمغرب بطرق مختلفة. فمؤلف عبد اللطيف أكنوش (1987) التاريخ السياسي للمغرب: السلطة والمشروعيات والمؤسسات، ينطلق من الحاضر ليغوص في التاريخ تلمسا لفهم أعمق لإشكالية مشروعية النظام السياسي. وينضوي في سلك هذه العينة من الأبحاث أيضا مؤلف محمد ضريف (1988) حول السلطنة الشريفة الذي أكد فيه على أهمية التاريخ في دراسة النظام السياسي. إن كشف العمق التاريخي للنظام السياسي المغربي المعاصر، يبدو بالنسبة للباحثين مرحلة ضرورية لتفسير الممارسات التي تعج بها الساحة السياسية المغربية الحالية. ووفاء لهذا المنزع، عكف محمد ضريف في مقاربته للسلطنة الشريف على تحديد مؤشرات الاستمرارية والقطيعة من خلال التجارب السعدية والعلوية ورصد الأسس السوسيوسياسية لتلك السلطنة والعلماء والطرق والزوايا. وعرفت دراسات شبيهة النور، كمؤلف رشيدة الشريفي (1988) حول المخزن ومؤلف ضريف (1992) حول الزوايا ومؤلف محمد كلاوي (1995) حول التشكل التاريخي والسياسي للوقائع والمؤسسات الاجتماعية ودراسة نجيب مهتدي (1999) حول تاريخ الزوايا ووظائفها وعلاقاتها مع المخزن. لقد شكلت الزوايا والمخزن والسلطة والملكية والمؤسسات المرتبطة بها كالبيعة وإمارة المؤمنين، مركز جذب للباحثين في مجال علم السياسة. ولاحظ رشيق أن الحيز الزمني للمواضيع المدروسة غالبا ما يكون طويلا، الشيء الذي يعوق البحث المدقق للظواهر المدروسة ويعوق معرفة الفاعلين ودوافعهم وأفكارهم وسياقاتهم. بينما ظلت الدراسات التي تنصب على إشكالية محددة خلال فترة محددة، نادرة. ورغم أن الجنوح للنهل من الماضي يبرر غالبا بتعذر فهم الحاضر من دون استحضار الماضي وأيضا بوجود امتدادات إيديولوجية ومؤسسية لهذا الماضي، فإن رشيق يعتبر أنه لا يتم إبراز كيف يمارس الماضي تأثيره على الحاضر. وعلى الصعيد المجالي، تنطبع الأبحاث المنجزة في هذا المجال بالشمولية، فنادرا ما نجد دراسات منصبة على حيز مكاني أو زماني محدد بشكل يضمن فهما أعمق للمؤسسات و طرق اشتغال مختلف أنماط الشرعية ومختلف التمفصلات بين الدين والسياسة. التفسير الذي قدمه رشيق لهذا الوضع يتمثل في عدم انتظام أغلب البحوث حول التاريخ السياسي في سلك أي تخصص معرفي، حتى التاريخ كأقرب تخصص إليها فتاريخ الأفكار السياسية يختزل في تأويل لفظي لنصوص مرتبة وفق منهج عرض أقرب إلى منهج المقررات المدرسية منه إلى الكتب ذات الإشكالية.
وعرض رشيق في نقطة ثانية عينة من دراسات تهتم إجمالا بالفكر السياسي المغربي ( بعض أعمال عبد الله ساعف و محمد ضريف و عبد اللطيف حسني) و دراسات تعنى بالفكر العربي الإسلامي التقليدي و المعاصر ( مثل أعمال عز الدين العلام و مواقيت و شاكير)، و التي تنزع أحيانا إلى إثارة أسئلة بشأن مدى وجود فكر سياسي مغربي مستقل و القيام بموازنات بين هذا الفكر و الفكر الأوربي والعربي. أما النخب السياسية فلم تحظ بالاهتمام الكافي، وقد أشار رشيق إلى الدراسة التي أنجزتها أمينة المسعودي حول الوزراء بالمغرب و التي ترصد فيها منافذهم و مساراتهم و مآلهم. وأورد البحث في نقطة ثالثة طائفة من الدراسات ذات الاهتمامات المختلفة. فخلال الفترة الممتدة بين1960 و1970 حظيت العلاقة بين الملكية والنخب السياسية باهتمام باحثين وحذا باحثون مغاربة حذوهم بالتركيز على العلاقة بين الملكية والحركة الوطنية. وفي خضم التحولات المختلفة التي عرفها المغرب خلال عقد التسعينات والتي أفرزت فاعلين جدد، تكثف اهتمام الباحثين الأجانب والمغاربة بظاهرة الإسلام السياسي. على أن الملكية لم تفقد بريقها كموضوع للبحث، بل إنها لا زالت تستأثر باهتمام الباحثين في مجال العلوم السياسية باعتبارها فاعلا دينيا أو فاعلا سياسيا يهيمن على الحقل الديني (نموذج بحوث محمد الطوزي ومحمد بردوزي ومحمد ضريف…). كما انصب الاهتمام على الفاعلين الجدد كالجمعيات الدينية والتنظيمات الإسلامية وعلى أسباب ظهورها وصعودها واهتماماتها وتوجهاتها الإيديولوجية وصيغ عملها وتعاطي السلطات معها وجدلية إقصائها وإدماجها. وتم أيضا بحث موقع المثقفين الإسلاميين و أدوارهم في الحقل الديني و خططهم ( أعمال محمد ضريف وعبد الرحيم المشيشي ومحمد الطوزي ومحمد العيادي ويوسف بلال).
ومواكبة للتحولات المعتملة في الحقل السياسي والتي شكل التناوب السياسي إحدى تمظهراتها، اهتم الباحثون منذ أواخر التسعينات بالانتقال الديموقراطي والتناوب السياسي وبشكل عام بالمغرب السياسي (رقية المصدق، وبنمسعود اطريدانو، ونجيب بنصبيعة وعبد الكبير خطيبي وعبد الله بودهراين ومحمد بردوزي ومحمد كلاوي). وسجل رشيق ملاحظة ندرة الدراسات المرتبطة بالعمل السياسي والسياسات العامة والسلوك الانتخابي والتواصل السياسي (سعيد الشيخاوي ومريم حميماز وعبد اللطيف زكي). وعاود الباحث التأكيد على أن الدراسات المتعلقة بالتاريخ السياسي المغربي وبالإسلام السياسي تظهر الحدود التي تصطدم بها الإشكالات التي توثر الاشتغال على “الوثيقة كمصدر للمعلومة وكموضوع للتحليل”، بينما ظلت الدراسات التي تلجأ إلى الميدان نادرة. ولئن كان توسل الدراسات السياسية الحالية إلى الماضي سببا يفسر، بنظر رشيق، العوز من حيث البحوث الميدانية في مجال علم السياسة، فإن اللجوء إلى الأنثروبولوجيا يسمح بربط الصلات مع الميدان. ولعل الدراسات الأمريكية حول الثقافة السياسية تشكل نموذجا للمحاولات التي تجسر الفجوة بين علم السياسة والأنثروبولوجيا. وبحكم افتراض هيمنة التقليد والبنيات التقليدية بالمغرب، يلجأ علماء السياسة إلى النظريات الأنثروبولوجية لتفسير السلوكات السياسية واستراتيجيات الشرعنة والتعبئة السياسية. فأبحاث جون واتربري حول الحياة السياسية وسلوكات النخبة السياسية، تستلهم تراث الأنثروبولوجيين أمثال إفانس بريتشارد (Evans- Prichard)، حيث لاحظ وجود مماثلة بين الجمود الداخلي الملحوظ لدى كثير من القبائل في الشرق الأوسط والجمود الذي يطبع الحياة السياسية المغربية. إن سلوكات النخبة السياسية تعزى بنظره إلى إرثها المزدوج، إرث القبيلة وميراث المخزن. ومن نماذج الدراسات التي تستعين بحقل الأنثربولوجيا، أشار رشيق إلى دراستين ميدانيتين شارك فيهما محمد الطوزي. الأولى تحت إشراف إتيان برونو (Etienne Bruno)، همت الممارسات الدينية والأشكال الجديدة للتدين بالدار البيضاء (1979). والثانية تحت إشراف بول باسكون (Paul Pascon) بتازروالت بجنوب المغرب (1981- 1982). مبرر هذا التحول بنظر رشيق هو طبيعة موضوع الدراسة نفسه (المؤسسات السياسية التقليدية والثقافة السياسية التقليدية والمخزن والسيبة والبيعة). فهذه المواضيع تستثمر من قبل الأنثروبولوجيا أكثر منه من طرف علم سياسة حصر نفسه في دراسة المؤسسات السياسية العصرية كالحكومة والبرلمان والأحزاب. غير أن هذا العامل ليس لوحده كافيا، بحجة إمكان تطبيق المقاربة الأنثروبولوجية “الميكروسكوبية” حتى على المؤسسات المسماة عصرية. وإضافة إلى بعض الأعمال الميدانية لإتيان برونو حول موضوعات “تقليدية” وأخرى مستجدة، اقتحمت مونية بناني الشرايبي باب البحوث الميدانية، حيث اهتمت بدراسة الحركات الاجتماعية والحملات والسلوكات الانتخابية. كما عكف عبد الغني أبوهاني وعزيز عراقي على بحث النخب المحلية والأعيان في علاقتهم بالتدبير الحضري. وختم رشيق ورقته بإيراد تفسير لإقبال علماء الاجتماع وفيما بعد الأنثروبولوجيون، على البحث الميداني. فحقلا السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا ارتبطا بمشاريع التنمية القروية، في حين نادرا ما يتم اللجوء إلى علم السياسة كخبرة محلية لبلورة سياسات عمومية.
وانعكفت ورقة الهواري عدي المعنونة “المعرفة كتمثل وكإرادة، بشأن علم السياسة والعلوم الاجتماعية بالجزائر” (ص53-66)، على سوق تفسيرات لضعف الإنتاج المعرفي للجامعات ومراكز الأبحاث بالمنطقة المغاربية وتحديدا بالجزائر الذي يشكل مرجعه الرئيسي. فواقع العلوم الاجتماعية المتردي يعزى إلى كابحين رئيسيين. ينطوي الأول على بعد سياسي، حيث يعمل العسكر على تجذير وضعهم وتأبيد هيمنتهم غير آبهين بتشجيع إنتاج واستهلاك تلك العلوم. أما العائق الثاني فيرتبط ببنية المجتمع وتمفصلاته مع الدولة. ينطبع النظام السياسي الجزائري بخاصية بسط الجيش هيمنته على جميع مؤسسات الدولة وتسويغ وصايته المطلقة بالتلويح بمشروعية خوضه لحرب التحرير. ولا يكف الجيش عن خوض حرب تمويهية. فبينما يستأثر بالسلطة الفعلية، يجنح للسفور عن وجه ديموقراطي من خلال إناطة مهمة التدبير الإداري إلى نخبة مدنية وتسويق فكرة أن السيادة للشعب يمارسها من خلال ممثليه المنتخبين ومن خلال إقرار تعددية صورية. هذا القناع الديموقراطي يخفي واقعا سلطويا رهيبا، يعكسه إمساك الجيش بتلابيب القرارات الحاسمة على كل الجبهات واستنفار ميكانيزمات عدة لاستدامة وضع الهيمنة ورمي أي فاعل يحاول خلخلته بتهمة التآمر ضد الأمة التي تستتبع لفظه من الحقل المؤسسي. إن النظام السياسى الجزائري يبدو، في ظل هذا الوضع، عصيا على التحليل العلمي الرصين. ثمة حرص على تكريس تبعية الجامعة للنظام وإحكام الرقابة على البحث في العلوم الاجتماعية. هذا الهوس بإبقاء الجامعة في فلك النظام، من خلال إواليات الوصاية الإدارية وأنظمة تعيين العمداء والتركيز على نوعية خاصة من تخصصاتهم وغياب مشاريع بحثية وتسخير أنظمة الاستخبارات وسياسة التعليمات والاستعانة بخبرة مراكز البحث الأجنبية، يعيق بروز وتطور الأبحاث في مجال العلوم الاجتماعية. ينضاف إلى ذلك عدم توفر الأحزاب على نوادي ومجموعات التفكير وضعف انبناء المعارضات السياسية الذي لا يحفز على إنتاج معرفة تساعد على تشكيل إيديولوجيتها السياسية وعدم توفر معطيات إحصائية عن تطور القدرة الشرائية للمأجورين وعن الظرفية الاقتصادية ووضع العمال الفقراء والمتقاعدين. إن العلوم الاجتماعية تبدو متخلفة عن مواكبة التقلبات والتحولات الاجتماعية العميقة وما يرتبط بها من مشاكل وإشكاليات يمكن استثمارها بحثيا. فالنظام يتربص بكل المحاولات التي توذن ببزوغ سلطة علمية تستمد مشروعيتها من إنتاجها المعرفي وقدرتها على كشف وفضح الخطاب الرسمي.
وإذا كان لهواري عدي قد اعتبر العامل السياسي ظرفيا، فإن ثمة عاملا آخر أكثر قوة يرتبط بما يسميه كليفورد غيرتز (Clifford Geertz) “رؤية العالم” التي تمدنا بمعايير تشرعن علاقات السلطة. فخلافا للمجتمعات العصرية التي استطاعت تخليص “رؤية العالم” من الأوهام وفك الارتباط بين معنى الحياة وعلم اللاهوت، بفضل علمنة العالم وإحداث قطيعة فكرية تضع الإنسان في صلب إدراك التاريخ، وخلق جمهور للعلوم الاجتماعية، فإن الوضع في الجزائر يبدو متخلفا. فالباحثون في مجالات السوسيولوجيا والاقتصاد واللسانيات والأنثروبولوجيا وغيرها من التخصصات، يفتقرون إلى جمهور وإلى زبناء مؤسساتيين، الأمر الذي كرس عزلتهم وهشاشتهم السياسية. إن غياب عمق مجتمعي يسند المثقف والباحث عبر قراءة منتوجاتهم والانخراط في تحاليلهم، يضعف سلطتهم المعرفية. إن ضعف العلوم الاجتماعية يجد مصدره، بنظر لهواري عدي، من جهة في نمط الثقافة المهيمنة التي لا تؤمن بإمكانية أن تكون الممارسات الاجتماعية موضوع مطارحة علمية، ومن جهة أخرى في تبعية أو ارتباط المجموعات الاجتماعية بالدولة باعتبارها منتجة وسائل أو شروط وجودهم. لقد كرس النظام الجزائري تبعيتهم بإدماجهم في منطق إعادة إنتاج الريع. هذا المنطق الذي يطوق الأفراد ويحجب العقول، لا يحفز الطلب على المعرفة. فحتى في حالة حصول نقاش بين الأفراد، فإن هذا النقاش لا يخرج غالبا عن أحد أمرين. إما استساغة وصاية الجيش على المؤسسات باعتباره المؤمن للحمة الوطنية، وفي أحسن الأحوال مؤاخذة ولوم النظام على عدم التكفل بالمطالب الاجتماعية الملحة. إن النظام يراهن من خلال تكريس التبعية والرقابة، على استدامة جهل الأفراد بالميكانيزمات الإيديولوجية والسياسية لعلاقات السلطة بالشكل الذي يؤمن إعادة إنتاج نظام السلطة.
حاول لهواري عدي بعد ذلك، فهم العلاقة الوثيقة بين المعرفة السياسية والأساس الإيديولوجي للدولة ومخيال المجموعات الاجتماعية وذلك من خلال تحديد الشرائح الاجتماعية الداعمة والمعارضة للنظام. أكد عدي أن النظام الجزائري يتمتع بقاعدة اجتماعية تسمح بضمان بقائه. فهو لا يتوكأ فقط على القهر والعنف، بل يسخر موارد أخرى لتعضيد مشروعيته كاستثمار التاريخ وتوظيف الإيديولوجيا. إن النظام الحاكم في الجزائر يتوفر، كما أبرزت انتخابات 1991، على قاعدة انتخابية هامة تستحضر ذاكرة حرب التحرير وتنسج صورا رمزية عن العسكر. ويعتبر عدي أن القاعدة الاجتماعية للنظام الجزائري تتسع لتشمل كل الشرائح التي تعيش من الأجرة التي تتلقاها من الدولة والتي من مصلحتها بقاء النظام. ينتظم في سلك تلك الشرائح، العسكر والدرك والشرطة والقوات المساعدة ورجال الإدارة القضائية وفئة كبيرة من موظفي الإدارة المركزية والمحلية وأطر القطاع الاقتصادي العام والمستفيدون من المعاشات باعتبارهم مجاهدين سابقين أو أبناء الشهداء، فضلا عن رجال الأعمال المرتبطين بقنوات الاستيراد وكذا العاملين في مجال توزيع الريع. وقدر لهواري عدي عدد الذين يرتبطون مباشرة بالدولة من خلال الدخول التي توزعها عليهم مباشرة بثمانية مليون فرد. ولئن كان هؤلاء يشكلون أقلية مقارنة مع الأغلبية المعارضة للنظام، والتي تتشكل في الغالب من عمال القطاعين العام والخاص ومن صغار الموظفين ومن العاطلين، فإنهم يعتبرون زبناء نافذين يقدمون خدمات كبرى للنظام. على أن الفصل بين هذين الفريقين لا يتأسس على معيار طبقي وعلى تباين في المصالح الاقتصادية والثقافية، بل إن المعيار يتحدد في مدى القرب أو البعد من النظام. إن الفريق المعارض لا يبدو متجانسا، مثلما لا تنهض معارضته على موقف إيديولوجي متمايز ومختلف عن موقف مجموع أفراد المجتمع. ويستدل لهواري عدي على ذلك باستحالة تصور ما سمي بالمصالحة الوطنية لو لم يجد الخطاب الرسمي صدى إيجابيا خارج دائرة زبناء النظام. فالمساندون كما المعارضون مفتتنون بالخطاب الصوفي حول الأمة. فالتمثلات التي ينسجها الجميع حول الأمة، كمجتمع أسبل عليه طابع مثالي و”كتجمع مثالي يضم أعضاء مهملين ومتأهبين للتضحية بمصالحهم من أجلها”، تسوغ بقاء العسكر في السلطة لاستكمال مهمتهم التاريخية. ويتصور عدي أن الإسلاميين كأبرز فصيل ضمن المعارضة الجزائرية يتقاسمون بدورهم نفس المخيال السياسي السائد. فالإسلاموية شكلت، بنظره، الاستمرار الإيديولوجي للحركة الوطنية التي أخفقت في تحقيق وعودها التحديثية. في ظل هذا الوضع الذي لا يتيح الكشف عن أصل السلطة ويشجع في المقابل على اعتناق حكاية المشروعية الانتخابية لنظام الحكم، يغدو عصيا إنتاج علم للسياسة. ويفترض عدي أن النظام الجزائري يندرج ضمن حقل اهتمام الأنثروبولوجيا السياسية وليس علم السياسة. ويطرح حزمة من الأسئلة المؤرقة التي يتعين طرحها عند مقاربة النظام الجزائري من زاوية الأنثروبولوجية السياسية.من يحوز السلطة العليا؟ وكيف تشتغل؟ وكيف تنتقل تلك السلطة؟ وكيف يسوغها الحكام؟ وما هي الموارد التي تؤمن للنظام إعادة الإنتاج؟ وهل يسمح بفتح آفاق في اتجاه دولة القانون؟ إن طرح هذه الاستفهامات في إطار مناسب أو قانوني، تقتضي وجود قوى اجتماعية وسياسية تنشغل بصياغتها، وهو أمر متعذر في جزائر اليوم.
في مقابل ضعف الإنتاج المحلي من الدراسات المنضوية في سلك علم السياسة، شكلت الجزائر موضوع دراسات أنجزها باحثون غربيون. غير أن فعالية تلك المعرفة الأكاديمية تظل محدودة لاعتبارات عدة. أولا، بحكم غياب حقل علمي محلي يوظف تلك المعرفة في إطار مسلسل يراكم المعارف. وثانيا، بسبب الاحتراز أو بالأحرى الإعراض عن تلك المعرفة بحجة كونها غير مشروعة أو غير صالحة للاستعمال ما دامت أجنبية المصدر. فالفاعلون السياسيون لا يعتمدون أطر إسناد فكرية غربية أثناء تموقعهم. ينضاف إلى ذلك، كون المعرفة الغربية لا تتوجه إلى المجتمعات المحلية. فرغم توخي الباحثين الغربيين لمحاذير ابستمولوجية، فإن معرفتهم لا تنفلت من نزعة التمركز حول الذات التي تجوهر تساؤلاتهم. إن المعرفة التي ينتجونها تندرج ضمن تمثل الغرب للغيرية، وهو تمثل مقنع بدثار أكاديمي يلطف من حدة أحكام القيمة التي يكيلونها، حيث تجري تورية تلك النزعة من خلال الملاحظة التحليلية. وفي مسعى لتعضيد فرضيته، ساق لهواري عدي مثال المعرفة السياسية المنتجة في فرنسا حول الإسلاموية والمعرفة الأنثروبولوجية المنتجة من قبل إرنست غيلنر (Ernest Gelner) وكليفورد غيرتز. ففي عقد التسعينات تميز ثلاثة باحثين فرنسيين بتحليلاتهم للظاهرة الإسلامية، ويتعلق الأمر بجيل كيبل (Gilles Kepel) وأوليفيي روي (Olivier Roy) وفرانسوا برغات (François Burgat). استلهم جيل كيبل الأطروحة الماركسية وأبرز أن الظاهرة الإسلامية تحيل على صراع طبقي يعبئ الرموز الدينية لشرعنة الاحتجاج ولا صلة لها باللاعقلانية. فالعنف الذي لجأ إليه الإسلاميون تبرره حالة عوز وفقر الجماهير الحضرية. وانتقد أوليفيي روي مغالاة كيبل في تبني أطروحة الصراع الطبقي وتحجيمه دور المخيال الاجتماعي في بناء أو نفي السياسي. ويرى أن تلك الظاهرة تحيل على عدة إشكالات. إنها احتجاج عالم ثالثي ضد الوضع العالمي وإدانة للأنظمة الإسلامية باعتبارها تشكل سواعد محلية ميسرة للهيمنة الخارجية.ثم إنها تنزع لإخضاع السياسي للديني وتركن لمخيال ديني مفارق للتاريخ ولسوسيولوجيا المجتمعات الإسلامية. تأسيسا على هذا يعتقد روي أنها لن تنجح في مسعاها. أما تحليل فرانسوا برغات فانطبع ببعد هوياتي. فالظاهرة الإسلامية تعبر، من منظوره، عن رغبة في المشاركة السياسية في دول تسلطية وفاسدة وذات قابلية للتطور صوب الديمقراطية ودولة القانون من خلال أشكال ثقافية مغايرة لصيغ الدول الغربية. إنها تجسد بنظره النمط الذي يتلمس من خلاله المسلمون حيازة التحديث بعد أن فشلت الحركات الوطنية في بلوغ ذلك المسعى. إن العطب المنهجي الرئيسي الذي تشكو منه هذه التحاليل بنظر عدي هو أنها لا تراعي التاريخ والخصوصيات الثقافية وتنزع لبناء موضوع، الظاهرة الإسلامية، يمتد من أندونسيا إلى المغرب. ثم إنها تعيد إنتاج النزعة الجوهرية (أو الجوهرانية) التي دأبت على انتقادها. على أن لهواري عدي لا يرمي من وراء هذه الملاحظة، إلى نفي وجود نزعة إسلامية.
عالج مقال ميكائيل بشير أياري المعنون “من يطرح السؤال ولماذا؟ العلوم الاجتماعية ورهانات المعرفة: مثال قطب إكسوا للبحث حول المغرب العربي” (ص67-84)، وضعية العلوم الاجتماعية في المغرب العربي، وأساسا قضية “تأخر” مأسسة علوم سياسية حقيقية على المستوى السوسيولوجي. وقد أرجع ذلك “التأخر” إلى إمكانية انتصار إكراهات الواقع على التفكير العلمي. ويتضح لدى معارضي نزعة الخضوع لأجندة الدولة، خاصة في المغرب، أن استمرار مقاومة هذه النزعة تعني أن النقاش حول الحقل العلمي المغاربي ما يزال تابعا للحسابات السياسية والمهنية. والحال أنه يلزم كي تكون العلوم السياسية علوما بمعنى الكلمة، أن تكون هي وفروعها بمنأى عن أية مأسسة خاضعة للمراقبة، وأن تستند إلى أخلاق مهنية في إطار دولة ديمقراطية. ونظرا لارتباط العلوم الاجتماعية في الدول المغاربية بالمستعمر الفرنسي، بين الباحث من جهة، وعلى سبيل المقارنة، كيفية تمأسس تلك العلوم في فرنسا، إذ انبنت تاريخيا على أساس جدلية المعرفة والفعل، وكانت نتاج فشل مشروع علم اجتماع تطبيقي في خدمة الدولة. وبذلك ساهمت في تعريف مهام الدولة الفرنسية، كما عملت، وتعمل، على إيجاد حلول للفرد والمجتمع بإعداد مخططات مختلفة للتنمية، من خلال مؤسسات بحث مستقلة عن الجامعة. ومن جهة أخرى، وبارتباط مع ما سبق، وبهدف بلورة تفكير سوسيولوجي مغاربي لا يتعارض من البدء مع الحجة السياسية التي تقول بأن السلطة في الدول المغاربية تحول بشكل منظم باحثيها الجامعيين إلى أدوات لشرعنة خطابها السياسي، ركز الباحث على العلوم الاجتماعية المنجزة حول المغرب العربي من خلال أنشطة قطب البحث “إيكسوا” (aixois نسبة إلى إكس أونبروفانس Aix-en Provence الفرنسية).
وفي مساهمة “العلوم السياسية في المغرب، الاستقلالية في مواجهة “ساندروم” التبعية لأجندة الدولة” حاول محمد بلعربي تقديم إضاءات حول أثر الديناميات المؤسساتية على النشاط العلمي المنتج في إطار العلوم السياسية خلال العقدين الأخيرين وعلى قيادة السلوكات والممارسات البحثية في هذا المجال. هدفه في ذلك هو محاولة فهم ما إذا كانت المعارف المنتجة في إطار علم السياسة تخضع لمحددات خارجية ، وأساسا الإكراهات المؤسساتية. في هذا الإطار، تكون مدى استقلالية هذا الحقل المعرفي والتزام الباحثين في علم السياسة تجاه هذا الفرع المعرفي و تجاه المجتمع، موضع رهان. وأشار الباحث إلى النقص الحاصل في الأعمال العلمية التي تهتم بتاريخ السياسة المغربية، والتي تساعد المهتم على تحديد مكانة العلوم السياسية في الحقل الفكري بالمغرب. ثم تطرق للعوائق التي منعت وتمنع تلك العلوم من أن تكون حقلا مستقلا، ومنها:
ثقل القيم الدينية التي توظف في ممارسة السلطة.
غياب نظام بحث حقيقي والافتقار إلى البنيات التحتية الضرورية وهي عوامل تجعل المعرفة في هذا الحقل ترقيعية أكثر منها معرفة مبنية ومؤسسة.
حداثة تلك العلوم وهشاشتها، الأمر الذي يضعف استقلاليتها.
أحيانا كثيرة، تخلق الظاهر الاجتماعية كي تكون مواضيع للنقاش السياسي، مما يجعل تحديد موضوع تلك العلوم مائعا وبعيدا عن الإجماع لكثرة اهتمامات المتدخلين.
التفكير الإبستيمولوجي في علاقة تلك العلوم مع الظاهر التي تبحثها، يبقى نادرا.
جمع معارف ما قبل الاستقلال والمعارف التي أنتجت بعده في سلة واحدة، واعتبارها صالحة لإدارة وبناء الدولة المغربية.
إعتبار بعض الباحثين للأعمال المنجزة في إطار هذه العلوم بعد الاستقلال، أعمالا أكاديمية خاضعة لإكراهات الظرفية.
المساهمات الأساسية لهذه العلوم جاءت من هوامشها، لأنه كان ينظر لوظيفة العلوم السياسية كنوع من التهديد للسلطة (مثال أعمال عبد الله العروي).
العلوم السياسية في المغري، لا تثير ولا تحرك سوى أقلام طاقات عقلية قليلة، أغلبها يدور في فلك السلطة ويكرس الوضع السياسي القائم.
أضحى البحث في العلوم السياسية، أكثر فأكثر، خاضعا للتمويل من طرف المؤسسات العامة التي تطلب المشورة والخبرة في مواضيع تطبيقية محددة، وهذا لا يخدم المعرفة السياسية الحقيقية.
تأسيسا على هذه الإكراهات، يرى الباحث أن وضعية العلوم السياسية وضعية غامضة وما يزال ينظر إليها كعلوم “مساعدة”، ولا تعدو أن تكون منتوجا فرعيا للقانون العام، وبالتالي غير “ممهنن”، مباح أن يمتهنه الصحافي والدبلوماسي والأستاذ … . وعليه، لم تستطع العلوم السياسية خلال العقدين الأخيرين خلق “فرضيات حقيقية” و”أطروحات” و”تيارات” و”اتجاهات”وكذا “صراع مدارس”. هذه الوضعية، تجعل جزءا كبيرا منها في مستوى لا يؤهلها لتحليل التحولات الاجتماعية والسياسية التي يعرفها المغرب، مثل الفوارق الاجتماعية والبطالة والفقر وقضايا الأمن…. وتزيد من تعقد هذا الوضع، معطيات موضوعية تتجلى في تعقد الحياة السياسية المغربية والخلط في تحديد مفهوم الدولة – الأمة وتطوره، فضلا عن جمود النظام التربوي. النتيجة هي أن دور الباحثين السياسيين في تثبيت استقلالية هذا الفرع المعرفي، يبقى دورا محدودا جدا بحكم النزوع نحو “مخزنة” المعرفة السياسية أي سيطرة أجهزة الدولة عليها والتحكم فيها. وللتدليل على هذه النتيجة في أعمال بعض الباحثين المغاربة في العلوم السياسية، تطرق الكاتب لتقرير الخمسينية، والذي اعتبره بمثابة إنتاج لمعارف تجريبية مؤسسة فقط على ترقيع الحقائق وترميمها، دون محاولة تفكيك ميكانيزمات اشتغالها، لأنه ببساطة، إنتاج تحت الطلب وظف فيه القلم لخدمة السيف.
وإضافة إلى المساهمات المنتظمة في إطار ملف خاص، تضم المجلة أيضا دراستين اثنتين. الأولى لعبد الرحيم المصلوحي وتناولت في جانب منها التحول الذي عرفته مقاربة المؤسسات المالية الدولية بشأن مساعدة جهود التنمية في دول الجنوب. فبعد أن كانت تتورع في ما مضى عن التدخل في الشؤون السياسية لتلك الدول، بحيث ينصرف مبدأ المشروطية إلى أمور تقنية واقتصادية، فإنها أمست تشدد على الترابط الوثيق بين قوانين السوق والديمقراطية ومبادئ العدالة الاجتماعية. لقد توج نقد نتائج العولمة الليبرالية التي تراهن أساسا على النمو على حساب التنمية، بمراجعة البراديغم التنموي التقليدي وتبني مقاربة جديدة متعددة الأبعاد تستلهم كشوفات الفكر السياسي المعاصر. وتنزع هذه المقاربة إلى التركيز على الأسباب المشيعة والمغذية للفقر والحرمان بدل تصويب النظر على أعراض وتمظهرات الفقر. على أن هذا لا يعني تسليما بوجاهة النقد الموجه لتلك المؤسسات، بقدر ما يجسد الرغبة في ضمان فعالية أكثر لبرامج التقويم. فتوسيع مدى مبدأ المشروطية يروم عقلنة التدبير واعتماد مناهج رشيدة في تقييم السياسات المعتمدة. وأبرز الباحث أيضا كيف أن المغرب على غرار باقي الدول، حريص على تطبيق فروض هذه المؤسسات، بحيث انخرط في مقاربة جديدة في مجال التنمية البشرية من خلال اعتماد صيغ تدخلية جديدة تعضد مشروعية الدولة. فقد شكل المغرب حقل تجريب لحزمة الإصلاحات التي تقترحها أو تفرضها المؤسسات المالية. وبعد أن أشار الباحث إلى الصعوبات الداخلية والخارجية التي تصطدم بها السياسة الاجتماعية للدولة، عكف على عرض بعض المبادئ المؤطرة لاستراتيجية تعاون البنك الدولي مع السلطات المغربية، فضلا عن إبراز بعض المفارقات التي تطبع “الهندسة الاجتماعية” المنتهجة بالمغرب.
ورصدت المساهمة الثانية للباحث العربي حنان، المسارات التاريخية الممهدة لمراكمة الثروات بالمغرب وتركيز الرساميل وتشكل نخبة من المقاولين. كما تناولت سلوك وخصائص تلك النخبة وقدمت صنافة لها وأبرزت الحدود التي تصطدم بها والمرتبطة بوضعها الاقتصادي وتموقعها السوسيوسياسي. ووقف الباحث أيضا عند بعض عوامل نجاح المقاول التي تدعم مشروعيته إزاء المؤسسات، ونبه إلى ضرورة أن تعضدها دينامية الانتقال الديمقراطي التي تضمن مبادئ الحرية والعدالة وشروط التنافس السليم وتجعل الجهاز الإداري على قدر مهم من المهنية والقدرة على التوقع وتجعل المؤسسات السياسية تتحمل قسطا من كلفة الإصلاحات الديمقراطية. وخلص حنان إلى أنه رغم التحول الذي عرفته نخبة المقاولين المغاربة، فإنها لم تعمل من أجل بلورة وضع اقتصادي جديد قائم على الابتكار، مثلما لم تعمل من أجل تشكل وضع سوسيوسياسي جديد ومستقل. لذا ينبغي، سعيا لتحقيق ذلك، أن تنخرط هذه النخبة في تفكير إيجابي وتقتحم غمار المخاطر وتبادر بالتجديد وتقبل بعض قواعد اللعبة وتحتفظ لنفسها بالاستقلال وتحارب وضعيات الريع والامتيازات غير المبررة وتقبل بحياة مواطنة حرة ومتضامنة.
تحية اليكم أستاذي الكريم ، شكرا على هذا المقال الاٍفتتاحي الرائع ، مزيدا من التوفيق والرقي في ذرب البحث العلمي .
تحياتي اليكم أستاذي الكريم ، مزيدا من التألق في ذرب البحث العلمي.