أحمد إدعلي، الأبعاد السوسيوسياسية للجباية المغربية نموذج الضريبة على الشركات والضريبة العامة على الدخل 1990-2000، إشراف: عبد الحي مودن، جامعة محمد الخامس-أكدال، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، الرباط، أكدال، 2006.
يندرج موضوع هذه الأطروحة في إطار بحث إحدى تعبيرات التسلط والقهر من جانب الدولة. فإضافة إلى القهرالمادي المباشر والمكشوف، تعمل الدولة على تثبيث سيطرتها وضبط تمفصلات المجتمع وإعادة إنتاج علاقات القوة داخله اعتمادا على ميكانيزمات تأخذ أبعادا لطيفة. وتعد الجباية إحدى صور هذا الاستغلال اللطيف.
يتوخى هذا العمل اختبار منطوق القانون الإطار بشأن الإصلاح الجبائي من خلال الكشف عن المنطق العميق الذي ينظم توجه الضريبة على الشركات، والضريبة العامة على الدخل، ورصد الأبعاد السياسية والاجتماعية لهذا المنطق.
وقد تبين اعتمادا على مؤشرات نطاق التطبيق، والإعفاءات، والخصوم، ونقل العجز، والعبء الضريبيين، وأنماط التحصيل، وأنظمة تقدير المدخول، وبنية الشرائح الدخلية، والأسعار الضريبية، ونظام الجزاءات أن توجه هاتين الضريبتين ظل محكوما بمنطق محاباة الأثرياء. وتم تعضيد هذه الخلاصة، بنتائج بحث ميداني كشف عن بعض ملامح الذهنية الجبائية لعينة تتكون من300 مكلف خاضع للضريبة العامة على الدخل.
هذه الخلاصة قادت إلى طرح استفهام بشأن محددات ونتائج هذا التوجه. وسيقت فرضيتان اثنتان لتفسير هذه المحاباة.
الفرضية الأولى هي أن جنوح السياسة الجبائية في شقها المباشر إلى محاباة الأثرياء، قد يفسر بالرغبة في تمكينهم من توسيع هامش مدخراتهم. فمن شأن تقليص العبء الضريبي عليهم ومنحهم امتيازات جبائية، مساعدتهم على تحسين قدرتهم الادخارية.
أما الفرضية الثانية فهي الرغبة في رفع مستوى الاستثمارات الخاصة. فالأثرياء هم الأقدر على تنشيط دينامية الاستثمار، لذا وجب منحهم امتيازات جبائية.
غير أن اختبار هاتين الفرضيتين أبرز ضعف مستوى الادخار الخاص والاستثمارات الخاصة الوطنية والأجنبية. أمام هذا الوضع، أعيد طرح التساؤل بشأن المحدد الرئيسي لتوجه الجباية المباشرة. يبدو أن الجباية تضطلع بدور رعاية وضبط التفاوتات الاجتماعية القائمة والمرتبطة بسياسات إعادة توزيع الأراضي والمدخول والمغربة والخوصصة التي تدعم الوضع الناتج عن نزوع الحكم إلى تشكيل أحلاف تسند قوته و تدعم قدرته على ضبط العلاقات الاجتماعية.
بعبارة أخرى، إنها تؤدي وظيفة حراسة الفوارق الاجتماعية التي تكرست بفعل عمليات توسيع القاعدة المادية للنظام. على أن السياسة الجبائية بإبقائها لكثير من المداخيل ومصادر الثروة خارج دائرة التضريب وبمغالاتها في منح الخصوم والإعفاءات وبنزعتها التسامحية إزاء سلوكات الغش والتهرب الضريبيين، أفضت إلى تحجيم المردودية المالية للضريبة على الشركات والضريبة العامة على الدخل وإلى تعميق الفقر وتغذية ظواهر الإقصاء كالبطالة. وبحكم تنامي حجم الإنفاق العمومي، تواجه الدولة خطر تفاقم العجز المالي، لذلك تلجأ إلى مزيد من الاقتراض. وقد أسهمت هذه السياسة في ارتفاع حجم الدين الداخلي والخارجي.
إن المفروض في الوضع الاجتماعي المتردي الذي أسهمت السياسة الجبائية بشكل مباشر وغير مباشر في إنتاجه، أن يهدد النظام ويخلخل استقراره. وبحكم أن النظام يبدو موفقا في ضبط المجتمع، أثير سؤال كيفية تدبير الدولة للتفاوتات الاجتماعية.
لقد تم التمييز في إطار ميكانيزمات تدبير الوضع الاجتماعي، بين نوعين اثنين:
نوع يرجع للدولة ويشير إلى جملة الإجراءات التي توظفها والسياسات التي تنتهجها لضبط النظام.
أما النوع الثاني فيرتبط بالقوى الاجتماعية ويتعلق بخاصيات تتصف بها هذه القوى وكذا بإجراءات تقبل عليها في إطار تأزم وضعها الاجتماعي.
وإذا كانت السياسة الجبائية تطرح أسئلة معقدة ترتبط بالتوجه والمحددات والنتائج، فإن فهما أعمق لها لن يكتمل من دون بحث موضوع الفاعلين الذين يسهمون في بلورة هذه السياسة.
إن السياسة الجبائية هي مركز لتأثيرات وضغوط مختلفة، وتكون نتاج تشابك عقلانيات تنتظم وفق تراتبية تتحكم فيها درجة قوة الفاعل. إننا بصدد لعبة الفاعلين، وهو معطى يجعل من غير المجدي الركون إلى مقاربة ترصد بشكل خطي أطوار القرار الجبائي. إن مقاربة كهذه لا تسمح بالإحاطة بالنزعات المختلفة التي تخترق هذا القرار.
لقد أبرز رصد سيرورة التقرير أن المؤسسات المالية الدولية تسهم بشكل كبير في رسم معالم السياسة الجبائية من خلال “تسويق نموذج تنمية”يشكل برنامج التقويم الجبائي أحد أقطابه الرئيسية. فهذه المؤسسات تسهم، من خلال “احتكارها لسوق الإصلاح الجبائي”، في توجيه السياسة الجبائية لخدمة مصالح الاقتصاديات المتقدمة وذلك في إطار تحالف مع فاعلين محليين. ويشكل الاتحاد العام للمقاولات بالمغرب نموذجا لهؤلاء الفاعلين. وبقدر ما يستثمر ثقله الاقتصادي وشبكة العلاقات الكثيفة لعناصره، يستعين الاتحاد أيضا بالرصيد المادي والاجتماعي والرمزي للتكافليات التي ينحدر منها أعضاؤه.
وفي إطار رهان التقرير بين الجهاز التنفيذي والبرلمان، كرست خصوصية الحقل السياسي المغربي بما طبعه من ثقل التاريخ والتقليد تبعية البرلمان للملك وللحكومة. وقد عزز الدستور بإحكام هذه التبعية من خلال تقنيات العقلنة البرلمانية. على أن تنامي الطابع التقني للجباية وطبيعة وأداء مكونات البرلمان واختراقه من طرف المجموعات التكافلية، مؤشرات تفسر رجحان كفة الجهاز التنفيذي و تظهر البرلمان كسلطة تعديل وليس كسلطة مبادرة.
وفي إطار هيمنة الجهاز التنفيذي يتوفر الملك والمديرية العامة للضرائب على هامش كبير للتأثير في القرارات الجبائية. وأظهر تحليل خطاب حزبي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والاتحاد الدستوري اللذين تعاقبا على موقعي المعارضة والحكومة -وشغل أحد أعضائهما منصب وزير المالية-، كيف أن الفاعل الحزبي كرس موضوعيا منطق اللعبة الجبائية المحابي للأثرياء، وإن بدا من حيث الظاهر مدافعا عن مصالح الشرائح الاجتماعية الدنيا. فخطابهما الجبائي يعكس الوضع الهامشي للفاعل الحزبي في سيرورة التقرير الجبائي.
لقد سمحت هذه الأطروحة بالخلوص إلى أن النظام الجبائي المغربي باعتباره يعبر عن عقلانية تريد لنفسها أن تماثل العقلانية الغربية بتوظيفه لطرائق التضريب الحديثة، لم ينشغل بأهداف الفعالية الاقتصادية والتوزيع المنصف للعبء الضريبي. فدينامية الواقع تسير في الاتجاه النقيض للأهداف المعلنة في قانون الإطار حول الإصلاح الجبائي وفي خطابات المقررين. بمعنى أن الواقع يتجاوز القانون والخطاب ويدمجهما في منطقه الخاص.
إن الجباية المباشرة بما طبعها من محاباة تمس بالحرية والعدالة. فالحرمان الاجتماعي الناتج في جزء كبير منه عن السياسة الجبائية، يقود إلى جعل الفرد حبيس دائرته الخاصة ومنشغلا بإخفاقاته، وهو ما يكرس ما تعتبره حنا أرندت فهما سيئا للحرية باعتبارها انكفاءا على الذات، في مقابل ما تسميه حرية خارجية تضمنها القوانين والمؤسسات. ثم إن العدالة التي تستبطنها الجباية المباشرة بعيدة عما أكد عليه الفكر السياسي من ضرورة أن تنصرف ثمار إعادة التوزيع إلى الأقل حظا في المجتمع. فالدولة تعطي، عبر مسلسل الجباية، صورة سلبية عن نموذج توزيع مؤسس على العبودية وهتك الحقوق الأساسية. فالتضريب المحابي استعباد بحكم أنه يجبر البعض على العمل مجانا لأجل الآخرين.