صلاة القلق: رواية الوباء والانتظار في نصٍّ يُصلّي ضدّ الفناء

محمد سمير ندا، صلاة القلق، منشورات مسكلياني، الطبعة الرابعة، تونس، 2025

 

في روايته صلاة القلق، الصادرة عن منشورات ميسكلياني (2024)، يقدّم محمد سمير ندا نصًا أدبيًا فريدًا في لغته وبنيته وقضاياه، جسّد من خلاله قلقًا جماعيًا وأزليًا في قلب نجع المناسي، حيث يمتزج الواقعي بالأسطوري، وتتماهى الذاكرة مع الكابوس، وينتشر وباء غامض يحوّل سكان القرية إلى كائنات قريبة من السلاحف، خافتة الصوت، منطفئة الحضور.

تنطلق الرواية من مشهد انفجار ضوئي غامض يهزّ السماء، يليه دويّ مهول يقلب حياة نجع المناسي رأسًا على عقب. ذلك الحدث، الذي يُفسّره البعض على أنه سقوط نيزك، بينما يعتبره آخرون قصفًا أو علامة من علامات القيامة، يصبح المدخل إلى عالم مليء بالهواجس والشك والرموز المتعددة.

في قلب هذا التحول، يقف الشيخ أيّوب، ابن وليّ الله الشيخ جعفر، ممثلًا لفقدان المعنى وسط هيمنة خليل الخوجة، الرجل الغامض الذي تَصدَّر المشهد بدعمٍ من الدولة وبقوةٍ إعلامية متمثلة في جريدته “صوت الحرب”. بين الشيخ الوريث لسلطة روحية بدأت في الأفول، والخوجة الذي يمتلك مفاتيح الواقع والسيطرة على السرد، تدور أحداث الرواية، التي لا تُروى خطيًا، بل تتقدم وكأنّها تسير على إيقاع كابوسي متقطع، تتداخل فيه أصوات أهل النجع، وتظهر فيه رموز مثل تمثال عبد الناصر المنقسم، وشبح القطة السوداء، والتقارير الغامضة عن وباء يتفشّى في القرية تدريجيًا.

يتجلّى السرد في شخصيات مركبة مثل نوح النحّال، الرجل العائد من قاهرة الاضطهادات إلى قريته بحثًا عن معنى وخلاص، والذي يفقد ابنه مراد في حربٍ لا تنتهي. كما نجد شواهي، المرأة التي تحضر كرمزٍ للحريّة والجسد والرغبة، وتختفي بشكل غامض، ما يزيد من حالة الانهيار الجماعي. أما حكيم، ابن الخوجة الأخرس، فهو الوحيد الذي لا يصيبه الوباء، بل يظلّ يضحك، ويستمع إلى عبد الحليم حافظ في تكرار غريب لأناشيد الانتصار في زمن الانكسار.

تأتي رواية صلاة القلق في سياق أدبي وفكري تتجدد فيه الرواية العربية المعاصرة وهي تعيد مساءلة المفاهيم التقليدية للحرب والسلطة والدين والهوية. وإذا كانت الرواية المصرية عرفت في العقود الماضية موجات من الواقعية السياسية أو التجريب الذهني، فإن ندا يقدّم صوتًا مغايرًا يمزج الشعر بالنثر، والطقس بالتحليل، ويمنح القرية المصرية، التي طالما قُدّمت كرمز للأصالة أو البساطة، بعدًا ميتافيزيقيًا سوداويًا جديدًا.

حصول الرواية على الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) في دورتها الأخيرة ليس حدثًا عابرًا، بل هو تأكيد على أن لجان التحكيم باتت تعطي اعتبارًا أكبر للتجارب التي تتحدى التصنيف، وتغامر على مستوى الشكل والمضمون. فالرواية ليست سهلة، ولا تُقرأ على عجل، ولا تقدّم “حكاية” واحدة، بل تنثر شظايا السرد في لغة شعرية كثيفة تتطلب من القارئ إعادة التركيب والتأمل.

تكمن فرادة صلاة القلق في كونها لا تقدّم إجابات بقدر ما تطرح أسئلة حول “الانتظار” و”الخوف” و”الهشاشة الجماعية” في زمن تتداخل فيه الحروب الحقيقية بالافتراضية، وتتقاطع فيه الأوبئة مع السلط المعرفية والسياسية. وهذا ما يجعل فوزها بالبوكر اعترافًا بمغامرة أسلوبية وفكرية نادرة في الأدب العربي المعاصر.

من الوجهة الفنية، تنتمي الرواية إلى عالم السرد المتشظي، حيث لا تسلسل زمنيًا تقليديًا، ولا راويًا واحدًا، بل تتعدد الأصوات، وتتداخل الأزمنة. تعيد الرواية إلى الأذهان مفهوم “الرواية الطقسية” التي تكتب كما لو كانت صلوات، حيث تبدأ وتنتهي من الألم، ومن نداءات مشفوعة بيأسٍ روحيّ عميق.

يعتمد ندا على لغة تجمع بين البيان الصوفي واللغة اليومية، ويكثر من استخدام التناصات والاقتباسات القرآنية والغنائية (خاصة مع عبد الحليم حافظ وكلمات الأبنودي في مواز نصي يتصدر كل فصل من فصول الرواية)، وهو ما يجعل السرد محملًا بإيقاع صوتي داخلي يمنح النص طاقةً أدائية. لا تخلو الرواية من نقد سياسي واجتماعي صريح، لكنه يُقال غالبًا عبر الرمز أو الحلم أو الهلوسة، ما يضفي عليه قوة فنية بعيدًا عن الخطاب المباشر أو الخطاب الواعظ.

تتميز الرواية كذلك ببنية سردية ذات طابع دائري: يبدأ القلق وينتشر ويتحوّل إلى طقس جماعي، ثم نعود إلى الشيخ أيوب الذي يروي، ويتذكر، ويهمس، دون أن يستطيع تقديم الخلاص، لأن الخلاص ذاته أصبح مهدّدًا بفقدان اللغة والرمز.

بناء على كل ما سبق، تُعدّ صلاة القلق علامة فارقة في المسار الروائي لمحمد سمير ندا، إذ تمثّل تحولًا نوعيًا من التجريب الأسلوبي إلى التأسيس لخطاب سردي متعدد الأبعاد، يجمع بين الشعري والرمزي والتأملي. وبعد أن أصدر أعمالًا سابقة مثل مملكة مليكة وبوح الجدران، تأتي هذه الرواية لتُرسّخ موقعه كأحد أبرز الأصوات الأدبية الجديدة في المشهد الروائي العربي. وقد نُظر إلى هذا العمل بوصفه نصًا طقسيًا يستعيد الذاكرة الجمعية ويقلب الرواية التاريخية إلى مرآة نقدية، تُزعزع “الخطاب المستقر” وتؤسس لما يُشبه سردية بديلة عن النكسة والخذلان والحروب المؤجّلة. تميّزت الرواية ببنيتها المتشظية، حيث تتناوب ثماني جلسات سردية، تتداخل فيها الأصوات الفردية والجماعية، وتتوزع بين الوقائع، والهلوسة، والاعترافات، في تنويع أسلوبي أقرب إلى التكوين الموسيقي منه إلى التسلسل التقليدي.

من وجهة نظر نقدية، أثنى العديد من النقاد على قدرة النص على تحويل القلق الوجودي إلى حالة جمالية متكاملة، كما رأى بعضهم أن الرواية تنتمي إلى ما يُعرف بـ”سردية المستبعدين”، من حيث موقع الشخصيات المهمّشة، وانتفاء اليقين، وتشظي المعنى. وقد وصفتها لجنة جائزة البوكر بأنها عملٌ يتميّز بالجرأة والجدارة، لما يحمله من وعي سردي عميق، وتحكم دقيق في الإيقاع اللغوي والبناء الرمزي. وبقدر ما أثارت الرواية إعجابًا نقديًا واسعًا، فقد واجهت أيضًا انتقادات وهجمات في الفضاء العام المصري، حيث رُبطت بمواقف سياسية أو مزاعم تشكيك في “ثوابت وطنية”، وهو ما يؤكد أن العمل تجاوز أفق التلقي الأدبي ليصبح حدثًا ثقافيًا بامتياز.

يحمل عنوان الرواية صلاة القلق كثافة دلالية لافتة، تتجاوز الطابع الإنشائي إلى مستوى تأويلي عميق، إذ تُوضع كلمتا “الصلاة” و”القلق” في علاقة مجازية تُنتج نوعًا من التوتر الرمزي بين الطقس الروحي والتجربة الوجودية. فـ”الصلاة” في دلالتها الأولى تفترض اليقين والسكينة والاتصال بالعالم الغيبي، بينما “القلق” يحيل إلى التوجّس والارتباك وفقدان الطمأنينة. هذا التناقض الظاهري يتحول في بنية العنوان إلى وحدة سردية تفتح أفق القراءة على فهم الرواية بوصفها طقسًا جماعيًا لمواجهة المجهول، حيث يغدو القلق نفسه مادة للصلاة، لا ضدّه.

من المنظور التمثيلي الأليغوري Allégorique، يمكن اعتبار العنوان بوابة إلى قراءة الرواية  بوصفها مجازا جماعيا موسعا عن حال الأمة في زمن الأزمة والانحدار، حيث يتحوّل القلق من حالة فردية إلى صلاة مجتمعية، تُقال همسًا أو جنونًا أو عن طريق الهذيان والانتظار. أما من الناحية الرمزية، فإن العنوان يشير إلى علاقة ملتبسة بين الدين والخلاص، حيث تفقد الطقوس التقليدية فعاليتها، ويغدو القلق، لا الإيمان، هو القوة الوحيدة التي تُحرّك الشخصيات وتصوغ أفعالها. بذلك، تنجح الرواية في تحويل مفهوم الصلاة من فعل تعبدي إلى مساحة درامية للمقاومة الرمزية، ومن ثم يصبح العنوان نفسه استعارة كبرى للعمل كله، يؤطره ضمن أفق فلسفي يتأرجح بين العجز والتأمل، بين الانهيار والرغبة في المعنى.

في ضوء كل ذلك، تمثل صلاة القلق أكثر من مجرد نص روائي؛ إنها مشروع فني يشتبك مع الذاكرة، ويعيد مساءلة السلطة والمعنى والزمن، ضمن تجربة كتابية تتجاوز المحلية نحو فضاء عربي أوسع، يُعيد للكتابة دورها كممارسة نقدية وجمالية في آن. ويمكن القول إن الرواية فتحت أفقًا جديدًا للرواية العربية المعاصرة، من خلال صيغتها المركّبة، وجرأتها التعبيرية، وانخراطها العميق في مساءلة الأنساق المهيمنة عبر فعل السرد ذاته. صلاة القلق ليست رواية عن قرية فحسب، بل عن العقل الجمعي في لحظة انهيار، عن الذاكرة عندما تصير عبئًا، وعن اللغة حين تتهجّى العجز. محمد سمير ندا يقدّم عملًا مكتوبًا بعين الروائي وبأذن الشاعر، يخلق من خلاله عالمًا تراجيديًا، ينبع تميّزه من رهافة الشكل وعمق التخييل.

عن سعيد الحنصالي

معهد الدراسات والأبحاث للتعريب / جامعة محمد الخامس - الرباط

شاهد أيضاً

Histoire, fiction, et regard critique

Mohamed Houbaida, ‘Ishtu thalâthata mi’at sanah (J’ai vécu 300 ans) Tétouan, éd. Bab al-hikma, 2024. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.