الأحد , 13 أكتوبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » جيل المقاومة وزمن الذاكرة

جيل المقاومة وزمن الذاكرة

مقدمة كتاب مذكرات الفقيه الفكيكي. محمد بوراس. زمن المقاومة والنضال، 1946- 1980، الرباط، مطبعة المعارف الجديدة، 2015.

                       

kiraat_1115-01كثيراً ما راود الفقيه محمد بوراس ذاكرته لتجود ببعض ما علق بها من ذكريات الكفاح والنضال من أجل الوطن، وكذلك فعل الكثيرون من أمثاله. فمنهم من أسعفته ذاكرته فكتب عن تجربته الكفاحية والنضالية في صيغة من صيغ الكتابة عن الذكريات أو المذكرات، أو رواها شفاهة فكُتبت عنه، ثم صادق عليها، أو كُتبت في شكل استجواب صحفي، أو في صورة سرد روائي أو سرد ذاتي.

اختار الفقيه محمد بوراس أن يعبر عن تجربته الكفاحية والنضالية بالجمع بين الرواية الشفوية من جهة، ومراجعة ما رواه والمصادقة عليه، من جهة أخرى، مع الاحتفاظ، ما أمكن، بالصيغة التي رويت بها وبأسلوبها الذي يعبر عن صاحبها وعن ثقافته. ولهذا سيلاحظ القارئ أنه تم الاحتفاظ بالصيغة القريبة إلى أسلوب الفقيه في رواية مذكراته، لما في ذلك من حرص الفقيه على توخي الصدق في رواية تجربته التي يعبر عنها أسلوب سردها أكثر.

حاول الفقيه أن يلتزم بالتتابع الزمني في رواية مذكراته، ما أمكن، ولو أن ذاكرته كانت تفرض عليه، من حين لآخر أن يخرج عن ذلك، ليستدرك بعض ما فاته، ليتذكر بعض الأشخاص أو بعض الأحداث والوقائع التي كان يراها الفقيه جديرة بالذكر لتُسجلفي تاريخ الكفاح الوطني والنضال من أجل تحرير الوطن والإنسان والمجتمع في المغرب المعاصر. وهكذا ركز الفقيه في مذكراته على زمن الطفولة في فجيج، وزمن الدراسة في مراكش وفاس، وزمن المقاومة وجيش التحرير، وزمن المنفى.

حاول الفقيه محمد بوراس أن يداري ذاكرته ويعود بها إلى زمن الطفولة في مدينته العريقة، فجيج. فتوقف عند بعض الملامح الدالة على نسبه ومَنشَئه وأسرته وأصولها الأندلسية، وعن تاريخ ميلاده وبعض الأحداث التي تُذَكِّر ببنية مجتمع فجيج، وبخاصة قصر زناﮔـة الذي ينتمي إليه، وكذلك بعض الوقائع التاريخية التي عرفتها مدينة فجيج، وبخاصة قصر زناﮔـة؛ مثل دفاع أهل زناﮔـة عن أراضيهم التي كان يحاول المستعمر الفرنسي اغتصابها وضمها إلى الجزائر المستعمرة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. كما ذَكَّر بدور أسرته في ذلك، وبخاصة في أحداث قصف زناﮔـة سنة 1903 من طرف الفرنسيين، ورفض قصر زناﮔـة الترخيص للفرنسيين بتمرير خط السكك الحديدية عبر ترابهم.

أعطى الفقيه بعض الملامح عن التعليم التقليدي في الكُتّاب الذي كان سائداً في فجيج، وهو نفس التعليم التقليدي الذي كان معروفاً في المغرب آنذاك. وقد نال الفقيه حظه من ذلك التعليم، فحفظ القرآن وتعلم بعض المبادئ الفقهية واللغوية الأولية الأساسية التي ستؤهله لطلب العلم في مستوى آخر أعلى، وهو جامع القرويين في فاس. غير أن الظروف التي رواها قد ألقت به في البداية في مراكش بكلية ابن يوسف، ليلتحق بعد ذلك بالقرويين بعد مدة من الدراسة في مراكش.

يحكي الفقيه بنوع من التفصيل الدقيق عن هذه المرحلة من حياته في مراكش ثم في فاس؛ وهي مرحلة جمعت بين التعلُّم والتزود بالمعرفة الدينية والتاريخية واللغوية والفكرية المشبعة بالروح الإسلامية، وبالروح الوطنية والقومية في نفس الوقت. وقد نجد فيما عرضه الفقيه عن حياة الطالب في ذلك الوقت وظروف دراسته، ما يدل على بعض الملامح التربوية والمنهاجية التي تعطي صورة عن التعليم العربي الإسلامي في عهد الحماية، من حيث نوع الكتب ونوع المواد ونوع الأساتذة وتعاملهم مع الطلاب،

تَذكَّر الفقيه تفاصيل مرحلة دراسته في مراكش وفي القرويين بفاس، واعتبر تلك المرحلة من المراحل الأساسية التي وجهت حياته، وزرعت فيه الوعي الوطني بقيم التحرر والكفاح والنضال من أجل الحرية والاستقلال، ومن أجل وطن حر من كل أشكال القهر والطغيان. كما كانت تلك المرحلة تجمع بين الدراسة وبين النضال السياسي الوطني؛ ذلك أن الفقيه سيتعرف في هذه المرحلة على العمل السياسي وعلى الوطنيين في حزب الاستقلال بخاصة. كما تعرف على جيل من الشباب الذين كانوا يتقاسمون نفس الهموم الوطنية والسياسية، حتى أصبحت مجموعة منهم من رواد الكفاح الوطني والنضال في صفوف المقاومة وجيش التحرير فيما بعد.

من حق الفقيه أن يذكر مرحلة دراسته في كل من مراكش وفاس، لأنها عرّفته أكثر على طغيان المستعمر الفرنسي وعلى ظلم وتسلط المتعاونين معه من بعض القياد وغيرهم، بل قاسى من ذلك كثيراً وهو في بداية شبابه، وأبان منذ ذلك السن عن قوة شخصيته، وشدة صبره وحزمه، والتضحية من أجل الوطن، وتحمله لكل الصعاب، مع الحرص على حسن التدبير قبل كل شيء. كما ربط علاقة وطيدة مع المغفور له الملك محمد الخامس، فذكر اتصالاته المتكررة معه فيما يخص شؤون الطلبة أو ما يخص الكفاح الوطني في مرحلة المقاومة وجيش التحرير.

والحق أن مرحلة الدراسة في مراكش وفاس كانت مرحلة صعبة ومعقدة، تطلبت من الفقيه أن يواجه متطلبات الدراسة وتدبير أمورها، ومتطلبات المساهمة في العمل الوطني، وتحمل تبعات النضال الطلابي الثقافي والسياسي. فقد ساهم مع أصدقائه في إنشاء “جمعية الطالب” في مراكش، ثم محاولة إنشائها في كل من فاس ومكناس، وفي الخارج كذلك، وإنشاء مجلة “الشرارة”، وتنظيم الأنشطة الثقافية المعبرة عن الروح الوطنية، والقيام بالإضرابات احتجاجاً على سياسة المستعمر الفرنسي، مما سيعرض الفقيه وأصدقاءه إلى الاعتقالات والتعذيب في السجون، والطرد من الدراسة أحياناً. ولا شك أن هذا النشاط الثقافي والسياسي هو الذي سيثير اهتمام الوطنيين والسياسيين في حزب الاستقلال بنشاط الفقيه وأصدقائه، ويحاولون التعامل معهم والتنسيق معهم، مما سيدخل الفقيه في خضم الحركة الوطنية والكفاح الوطني ضد المستعمر وأذنابه.

بعد مرحلة الدراسة في مراكش وفاس في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، سينتقل الفقيه إلى الدار البيضاء وقد أصبح مهيأً لخوض غمار الكفاح والنضال والمقاومة ضد المستعمر. فيُذَكِّر الفقيه هنا بالأحداث السياسية الوطنية والقومية والدولية التي عرفتها تلك المرحلة، وبخاصة سياسة المستعمر الفرنسي التي ستدفع الوطنيين إلى الانتقال إلى المقاومة المسلحة. يتوقف الفقيه عند هذا المفصل التاريخي في تاريخ المقاومة المغربية، فيشير إلى بذور ظهور المقاومة المسلحة في الدار البيضاء، والعمليات الأولى وبعض المقاومين الذين قاموا بتلك العمليات المشهورة. وكان الفقيه يذكُر كل من يتذكرهم، سواء منهم الذين عُرفوا أو الذين لم يُعرفوا.

ولعل أهم ما تثيره مذكرات الفقيه هنا هو مجاولة تتبعه لمسار ومنعرجات المقاومة المسلحة في المغرب؛ في الدار البيضاء وفاس، و وجدة، وفي بعض المدن الأخرى. فقد توقف عند تفاصيل التنظيم في بداياته وتشعباته ومشاكله التنظيمية والتدبيرية. فلم تخل المذكرات من تدقيق لبعض الحوادث والوقائع، ومن إنصاف بعض الذين شاركوا في المقاومة المسلحة، ومن فضح بعض الذين ادعوا المشاركة في المقاومة كذلك. ويذكر أنه أنصف الكثيرين من المقاومين الذين لم يستفيدوا من بطاقة المقاومة، وبالخصوص بعد رجوعه من المنفى.

سيلاحظ القارئ أن الفقيه قد توقف طويلاً عند تنظيم المقاومة وطريقة تدبيرها وسيرها. وحاول أن يكشف عن بعض التفاصيل الخاصة ببعض العمليات، أو ببعض الممارسات، وطرق الحصول على التمويل، بل وحتى التمويهات المتبعة في سير المقاومة، مثل استعمال محال بيع الخمور أو بيوت الدعارة من أجل التمويه على المستعمر وجعلها مكاناً للتواصل والاختفاء. وكذلك طرق تواصل أفراد الحركة، من حيث الكتابة التمويهية، ونوع الإشارات المتبعة عند ما يريد المقاومون التعرف على بعضهم البعض أحياناً. ثم الوسائل المستعملة للتضحية بحياة المقاوم خوفاً من افتضاح أمر المقاومين وخيوط الحركة، مثل تناول أقراص السم وغيرها. وكذلك كيفية نقل المقاومين إلى المنطقة الخليفية في الشمال التي كانت ملجأً لكل من افتضح أمره، أو مكاناً لإعادة تنظيم المقاومة وحفظ سيرها.         لا شك أن بعض التفاصيل الخاصة بصعوبة المرور من المنطقة الجنوبية إلى المنطقة الشمالية، تدل على هول ما عاناه الفقيه وما عانته المقاومة، مثل رحلته من وجدة إلى الناظور فتطوان. فهي، بحق، رحلة غنية بالدلالات التي تحمل كل معاني التضحية من أجل الوطن، ونموذج من نماذج البطولات التي قام بها المقاومون من أجل تحرير الوطن. ولم يفت الفقيه أن يذكر إلحاحه على محاولاته المتكررة لتنشيط المقاومة في كل من فاس و وجدة، بالإضافة إلى الدار البيضاء. بل استدرك ليذكر بعض العمليات الهامة التي قام بها بعض المقاومين في مناطق بعيدة من المغرب، مثل ذكره لعملية تحويل خط السكك الحديدية الرابطة بين وهران وبشار التي قام بها بعض المقاومين من مدينة فجيج. فرواها كما رويت له من أحد المشاركين فيها.

غير أن تزايد القمع وشراسة سياسة المستعمر، وبثه للمخبرين في صفوف المقاومة، من جهة، وطريقة تنظيم المقاومة، الذي يجمع بين التنظيم المحكم في بعض الجوانب، وبين التنظيم العفوي في جوانب أخرى، من جهة أخرى، جعل المقاومين يقعون في شَرَكِ المستعمر، فيتعرضون للقمع والسجن والتعذيب. وكذلك حصل للفقيه الذي اعتقل وسجن وعذب حفاظاً منه على سلامة الحركة وإنقاذاً لرفاقه في المقاومة. وقد وقف الفقيه طويلاً عند تجربته في الاعتقال والسجن وزنزانته رقم 23، وما تعرض له من أنواع الاستنطاق والتعذيب. ولكنه تحمل كل ذلك، حتى فر من السجن بعد رجوع الملك محمد الخامس من منفاه، وحصول المغرب على الاستقلال.

يتذكر الفقيه مرحلة بدايات الاستقلال 1956- 1960، ذلك المنعطف التاريخي الهام والصعب في تاريخ المغرب المعاصر، وقسمها إلى مرحلتين: وصف الأولى بزمن الفوضى، والمرحلة الثانية وصفها بزمن التوترات. ويشير بزمن الفوضى إلى صعوبات تدبير المراحل الأولى من الاستقلال، من حيث ظهور التجاذبات داخل اللجنة السياسية لحزب الاستقلال والحكومات الأولى في عهد الاستقلال، ومواقف القصر، ومسألة جيش التحرير واستكمال تحرير البلاد. وأشار كذلك إلى بعض الممارسات التي لم يتم التحكم فيها وما ترتب عنها من نتائج وخيمة على مآل أحلام الاستقلال واستكمال تحرير البلاد. هي مرحلة معقدة فعلاً، حاول الفقيه أن يقدم فيها بعض التفاصيل في بعض القضايا التي تخص جيش التحرير بشكل عام في تلك المرحلة، وبخاصة في المنطقة الشرقية التي كان مكلفاً بها. وقد قدم هنا إيضاحات تاريخية هامة تخص الوضع الصعب الذي كان يعمل فيه جيش التحرير في تلك المنطقة، من حيث وجود الجيش الفرنسي، وجيش التحرير الجزائري، والجيش الملكي المغربي، والمطالبة بتسليم السلاح من طرف جيش التحرير المغربي والالتحاق بالجيش الملكي. هي مرحلة كشفت عن صعوبة الوضع الذي كان يعمل فيه الفقيه وجيش التحرير، ولكنه كشف فيها عن أطماع قادة الثورة الجزائرية في الأراضي المغربية في المنطقة الشرقية، وعن تخوفه من تصرفات قادة تنظيمهم، مما أدى به إلى أخذ جماعة منهم إلى الملك المغفور له محمد الخامس فيستقبلهم في قصره في الرباط، ويسمعون منه عن مغربية منطقة بشار التي كانوا يزعمون أنها جزائرية، وقال لهم بتعبيره الذي رواه الفقيه حرفياً هكذا: “اعْرَفْتُو هادَ الباب اللِّي انتُوما واقْفين عليها، راه ابْحال هنا ابْحال تَمّا”، أي: يجب أن تعرفوا أن بشار مغربية مثلها مثل هذا القصر الملكي. أما زمن التوترات، فهو زمن التوترات السياسية التي ظهرت سنة 1959، وتجلت في الانقسامات السياسية والصراع مع القصر، ثم المحاكمات التي سيضطر فيها الفقيه إلى الخروج من الوطن سنة 1960.

إضطر الفقيه إلى اللجوء إلى المنفى خارج المغرب الذي سيدوم عشرين سنة، من 1960 إلى 1980. وقد تحدث عن هذه المرحلة العصيبة من حياته بنوع من التفصيل، وبخاصة عن تنقلاته بين باريس ويوغوسلافيا وألمانيا والجزائر ثم دمشق. وفيها اهتم الفقيه بعلاج بصره من جهة، في كل من باريس وألمانيا وموسكو. ولعل أهم ما يلاحظ في مذكرات الفقيه هنا هو عرضه الدقيق لحياته في المنفى هو وجماعته، وما عانوه من مختلف المشاكل الإدارية والمادية والتدبيرية وغيرها. فكشف عن الخلافات التي كانت داخل الجماعة، وتلك التي كانت بينه وبين الفقيه البصري في تدبير أمور الجماعة، والاختلاف في التصورات في مواصلة النضال، مما اضطره في 1971-1972، إلى إعلان اختلافه مع الجماعة ومع الفقيه البصري، مع الاحتفاظ بعلاقته الشخصية الأخوية معه، وإعلان انسحابه من التنظيم، بل وتحذيرهم من مغبة ما يخططون له. وقد كان الفقيه يقرأ تلك الممارسة النضالية بعين ناقدة واعية ببعض الأخطاء التي  طالت ذلك المسار النضالي، مذكراً بتحمله لمسؤوليته فيما ساهم فيه من ذلك، ويعفي نفسه عما لم يساهم فيه ولم يقتنع به. ثم سينتقل الفقيه بعد ذلك ليستقر بدمشق هو وأولاده، حتى يعود إلى الوطن في سنة 1980، بعد العفو الملكي. وبعد عودته إلى الوطن سينتخب عضواً في اللجنة الإدارية في المؤتمر الرابع للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1984. ويقرر في المؤتمر الخامس للاتحاد الاشتراكي سنة 1989، الانسحاب نهائياً من العمل السياسي.

يقدم الفقيه محمد بوراس في هذه المذكرات، إذن، إضاءات تاريخية عن مساره النضالي وتضحياته من أجل تحرير الوطن واستقلاله منذ سنواته المبكرة في الدراسة بمراكش وفاس، هو ومجموعة من الوطنيين والمناضلين الذين انخرطوا في الكفاح الوطني، وساهموا في إنشاء المقاومة وجيش التحرير، والنضال من أجل تحقيق الحرية والعدالة في المغرب المعاصر. وستكون هذه المذكرات وثيقة هامة يستأنس بها المؤرخون والمهتمون بتاريخ المغرب المعاصر، وبخاصة تاريخ الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير، وما رافق ذلك من خلافات وصراعات سياسية وغيرها.

- أحمد بوحسن

أستاذ باحث في الدراسات الأدبية، الرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.