الأحد , 28 سبتمبر, 2025
إخبــارات
الرئيسية » نـدوات وملفـات » تخييل التاريخ في رواية “ثورة المريدين” لسعيد بنسعيد العلوي

تخييل التاريخ في رواية “ثورة المريدين” لسعيد بنسعيد العلوي

سعيد بنسعيد العلوي، ثورة المريدين، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-المغرب، بيروت-لبنان، 2015.

التخييل بين السرد التاريخي والسرد الروائي

يبدو أن علاقة التخييل بالتاريخ هي علاقة تلازمية، لأن التاريخ لما يتحول إلى صوغ بالكتابة يكتسي بهذه الكتابة صفة التلازم التي تخص الكتابة نفسها، ذلك أن عالم الكتابة هو في الأساس تمثيل ومحاكاة بالكتابة للموضوع التاريخي، ومن ثم كل ما يستتبعه منطق هذه الكتابة من صيغ تعبيرية مختلفة تقوم على الصور الحقيقية والمجازية أحياناً، وعلى مختلف التمثيلات الأسلوبية التي تستعمل في الخطاب اللغوي بمختلف أصنافه. ولذلك فاللغة ونوع اللغة ومستويات هذه اللغة في واقعيتها وبلاغتها وانزياحاتها هي التي تميز خطاباً واقعياً عن خطاب غير واقعي، أي مشبع بالصور التي تخرجه عن واقعيته، مثل الأساليب البلاغية المختلفة أو الأساليب الغريبة والعجيبة والأسطورية والخرافية التي تستعمل في خطابات تسمى تخييلية.

يلتقي الخطاب التاريخي مع الخطاب السردي في اللغة أولاً، ويختلفان في نوع اللغة ثانياً، كما يلتقيان في استعمال الوصف للموضوع بلغة سردية تحاول نقل الموضوع، أي، الحدث التاريخي مثلاً؛ وللوصف التاريخي محدداته التي تجعله لا يخرج عن عالم المعقولية بحيث يسعى إلى عرض الموضوع في حالته الواقعية، التي تجعله قريباً من حقيقته الموضوعية، وإن كان للتاريخ أيضاً إمكانياته التخييلية التي قد ينقل بها موضوعه. غير أن حرية تلك الإمكانية تكون مؤطرة ومحددة بمحاذير الخروج عن معقولية الموضوع التاريخي، الذي تحدده الوثائق المادية وغير المادية أحياناً والشواهد الدالة، إلى عدم معقوليته التي يتيحها التخييل الذي لا يتحدد بالعوالم الواقعية للموضوع التاريخي. ومثل هذه الحرية في التخييل هي التي يتمتع بها الموضوع الأدبي والفني، مثل الموضوع الروائي الذي يعتمد بدوره على السرد القائم على الوصف والعرض والتتابع الأسلوبي الذي يتناسل في سلسلة سردية تؤدي الحلقة منها إلى الأخرى وترتبط فيما بينها.

يركز الخطاب التاريخي على تمثل الموضوع التاريخي ونقله وتمثله في واقعيته، بل يسعى إلى البحث عن معقوليته وحقيقته ما أمكن، لأن موضوع التاريخ موضوع يكاد يكون واقعياً وقريباً من الحقيقة، بحكم أن التاريخ علم إنساني، وليس علماً دقيقاً مثل العلوم الدقيقة والصلبة. هو علم يستعمل بعض أدوات العلم الدقيقة، ولكنه لا يصل إلى العلمية البحتة التي نجدها في الرياضيات أو الفيزياء أو البيولوجيا. فالتاريخ يوصف بأنه شبه علم؛ وتسمح له هذه الصفة باستعمال صيغ تعبيرية تستعمل في مجالات غير علمية، أي، فنية، مثل السرد الروائي، ومنها التخييل الذي يخرج عن المنطق الصلب والصارم لاستعمال اللغة.

غالباً ما يطرح التاريخ في علاقته مع السرد عندما تصاغ أحداث تاريخية في صوغ روائي، فيحصل التداخل بين ما هو تاريخي وما هو روائي أو سردي روائي. وفي هذه العلاقة بين الحدث التاريخي وبين صياغته سرداً روائياً يتدخل عنصر التخييل الذي ينقل الحدث من سرده التاريخي الموضوعي إلى سرد ذاتي ينزاح عن الموضوعية التي غالباً ما يسعى إليها المؤرخ في سرده التاريخي، فيحصل أن ينقل الحدث بلغة مشبعة باللغة التخييلية التي لا تخضع دائماً لقواعد الخطاب التاريخي الذي يتصف في الغالب بالمعقولية، والاقتراب من الواقع، بله الحقيقة. الحقيقة التخييلية الروائية لا تهتم بمعقولية الحدث التاريخي، وإنما تهتم بمدى ما يتيحه ذلك الحدث من خلق عوالم تحيل على الحدث فقط، ولكن تختلف عنه، تشبهه ولا تشبهه، أي ‘كما لو’ (As If) أنه (1). عملية تخييل الحدث التاريخي في السرد الروائي تسعى إلى خلق مسافة فنية بواسطة اللغة الفنية المشبعة بالصور وبالبلاغة الأسلوبية المستعملة في السرد الروائي، تنزاح عن اللغة الوظيفية في السرد التاريخي.

الغاية من خلق هذه المسافة بين واقعية الحدث وتخييله سردياً روائياً هو الوصول إلى واقعية أخرى تسمح للسرد الروائي أن يتصرف في الحدث التاريخي بما يقربه عنه ويبعده عنه في نفس الوقت. إن خلق المسافة الجمالية للتعبير عن الحدث التاريخي هي التي تنقل الموضوع التاريخي من حضنه التاريخي الذي يتمثل في حدوثه في الزمان والمكان والعوالم التي يتحرك فيها، أي، في واقعيته وحدوثه بالفعل، كما ينقله المؤرخ، ويتم تداوله في السردية التاريخية، ومن ثم يوصف بالحدث التاريخي الذي يتداول في السردية التاريخية وما يعتريه من تطورات عبر القراءات التاريخية المتواترة للحدث التاريخي. عملية النقل الجمالي هذه، بما هي عملية تحويل وتحوير وتصرف في الحدث التاريخي من طرف السرد الروائي تتم من خلال ما يعرف بالتخييل، أي القدرة الذهنية، التي يكاد يتميز بها الإنسان وحده، على اختلاق عوالم في التصور تسمح بتمثل الموضوع التاريخي تمثلاً ظاهراتياً يسمح بتجاوز حدود ما تفرضه اللغة الموضوعية المفترضة في السرد التاريخي، بمعنى وجود حرية يتيحها الخيال الذي يستعمله الروائي في تعامله مع العالم الواقعي، ويرفعه من واقعيته المادية إلى عالم تخييلي معادل للعالم الواقعي تكون فيه للروائي حرية أكثر لاختلاق عوالم ممكنة أخرى للعالم الواقعي، تستدعي في تلقيها ما تتيحه اللغة الجمالية التي تستطيع تمثل جمالية الحدث التاريخي عندما ينقل تخييلاً في صور مختلفة عن واقعيته وموضوعيته. الموضوعية الجمالية للحدث التاريخي هي التي تميز التخييل التاريخي عن السرد التاريخي، والذي تقوم به الرواية التي تتخذ الحدث التاريخي موضوعاً لها، وتحاول تسريد ذلك الحدث سرداً روائياً.

لقد عرف السرد التاريخي توظيفاً في مجال الرواية منذ القرن التاسع عشر، وتطور فيما يعرف بـ”الرواية التاريخية” التي كانت تسعى إلى سرد الحدث التاريخي في شكل وبناء قصصي يتبنى استراتيجية السرد القصصي الذي يقوم على بنية الحكاية التقليدية، بداية، وسط، ونهاية، واستعمال التشويق والمفاجآت، وغير ذلك من التقنيات الكلاسيكية في الرواية التاريخية. وهنا لا تتم عملية تخييل التاريخ، ولكن فقط توظيف التاريخ لبناء حكاية تاريخية. أما التخييل التاريخي فلا يسعى إلى نقل الحدث التاريخي في قالب قصصي يغري القارئ، وإنما يجعل من الحدث التاريخي موضوعاً جمالياً يبعده عن القصد التاريخي البحت، وينقله إلى القصد الجمالي الذي يقوم على التصرف والتحوير والتحويل الفني للحدث التاريخي، عن طريق فعالية التخييل التي تعطيه إمكانية التعبير عن تصورات أخرى للحدث التاريخي، والتي قد لا تخطر ببال المؤرخ، وأحيانا تتعارض معه، ولكن تتوافق مع الأفق الجمالي لمقصدية التخييل الروائي.

 

كيف تعامل السرد الروائي مع حدث المهدي بن تومرت في رواية “ثورة المريدين”؟

للإجابة عن هذا السؤال سنعرض هنا، أولاً، للحدث كيف عرضه السرد التاريخي، وثانياً، ما هي العمليات التحويلية الجمالية التي قام به السرد الروائي، في الرواية، المتمثلة في عملية التخييل للحدث التاريخي.

 

أولا: السرد التاريخي لما يعرف بـ “ثورة المريدين”

حاول الروائي سعيد بنسعيد أن يبني موضوع روايته، ثورة المريدين(2)، حول المهدي بن تومرت، معتمداً على السرد التاريخي المتواتر، وبالأخص ذلك الذي اعتمد عليه، والذي جاء في كتاب أخبار المهدي بن تومرت وبداية دولة الموحدين(3)، لأبي بكر بن علي الصنهاجي المكنى بالبيذق. وقد سار معظم المؤرخين على غرار سرديته التي تتلخص في تمجيد حياة المهدي بن تومرت والرفع من شأنه في كل أعماله، بل وأسطرته أحياناً. وقد حاول مؤلف الرواية أن يطلع على أهم تلك المظان التاريخية ويعتمد عليها في بناء صورة المهدي وتتبع أخباره في الرواية في جزء هام من روايته. يذكر السارد في الرواية تلك المظان التاريخية القديمة، مثل الأنيس المطرب بروض القرطاس لابن أبي زرع، ونظم الجمان لابن القطان، والمعجب في تلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي، ووفيات الأعيان لابن خلكان، وغيرهم.

يساير الروائي سردية البيذق في كتابه المذكور، ويبني سرده الروائي في جزء هام منه على مسار حياة المهدي بن تومرت في رحلته من المشرق إلى المغرب، والمحطات التي توقف عندها والأعمال التي قام بها والذين كانوا معه في رحلته ولقائه بالشاب عبد المومن في بجاية، ثم وصولا إلى مراكش فإيجليز هرغة(4). حافظ السرد الروائي على مسار رحلة ابن تومرت في جزء كبير من مسار السرد في الرواية، أي إلى حدود الفصل الثامن منها، وهو نصف الرواية تقريباً.  وإلى هنا كان الذي يوجه السارد هو ما جاء في السردية التاريخية عند البيذق والذين ساروا عليها ونشروها من الذين عاصروه أو جاؤوا بعده. يمكن أن نقول هنا إن السرد الروائي على مستوى مسار الحدث، حياة المهدي بن تومرت، كان ينقل الحدث سرديا ويحافظ على واقعيته، بحيث كان التخييل السردي هنا تخييلا يعكس اللغة التاريخية سرديا، كما وزعها في أجزاء روايته. وأن فعل التخييل التاريخي، الذي سيحاول التصرف في السرد التاريخي لم تتم بشكل واضح، لأن المؤلف يريد أن يكتب رواية تاريخية يحتكم فيها إلى التاريخ. يقول: “في روايتي أريد أن أبتعد عن الحلم أقصى مسافة ممكنة. أريد أن أنتزع من التاريخ خيوطاً متشابكة، خيوطاً دقيقة، رجع أصوات، ذبذبات أصوات المهدي وصحبه” (ص. 20).

يبدو أن الذي كان يوجه تخييل المؤلف التاريخي هو مفهومه للتاريخ كما قرأه في المظان التي سردت حياة المهدي.  يقول: “في روايتي أحتكم إلى التاريخ، نعم رواية، غير أني قررت، صممت، أقسمت، حرنت كالبغل أن تكون رواية من التاريخ الفعلي. قرأت كل ما أمكن أن تطوله اليد من كتب ودراسات، ورسائل ومقالات، ورسائل جامعية.” (ص. 24) فالمؤلف قد قرأ إذن المظان التاريخية الأساسية إلى جانب كتاب أخبار المهدي بن تومرت للبيذق، بالإضافة إلى كتابات أخرى أجنبية عن المهدي، وتوقف عند القضايا التي خاض فيها المؤرخون، مثل علاقة المهدي بأبي حامد الغزالي، حتى امتلأ بالمهدي وتاريخه وصحبه ورجاله ثم قال: “أستطيع الآن أن أكتب رواية تاريخية رواية المهدي بن تومرت” (ص. 25).

 

ثانيا: التخييل التاريخي في الرواية

تكونت لدى السارد علاقة خاصة بالمهدي تجمع بين النقيضين، يحبه ويكرهه في نفس الوقت. ربما كانت هذه العلاقة المفارقة هي التي وجهت السارد في هذه الرواية، ويريد أن يسردها محتفظاً في نفس الوقت بالسرد التاريخي، ومناوئاً لهذا السرد في نفس الوقت. وهذا هو مصدر إشكالية هذا السرد في الرواية الذي يتراوح بين السرد التاريخي لما يساير السرديات التاريخية التي بناها كتاب حياة المهدي للبيذق، وسار عليها المؤرخون الذي سايروه، وبين التخييل التاريخي لما يخرج من ذلك السرد التاريخي المتواتر ويحاول صياغته في أشكال سردية أخرى سينمائية وتلفزيونية مع صاحبه المصري جمعة بسيوني من جهة، ومحاولة تخييل مسار آخر لحياة المهدي، غير الذي سطره السرد المتواتر من جهة أخري، وبخاصة عندما تخيل أن هناك كتاباً آخر للبيذق فيه ذكر لحياة المهدي غير المهدي الذي ذكره في كتابه المعروف. هنا نكون في حالة التخييل التاريخي، الذي يتخيل فيه السارد مساراً يختلقه لحياة المهدي ويرتب عليه مساراً جديدا لحياة المهدي ينفتح فيها السرد على عوالم جديدة، لا علاقة لها بما جاء في السردية التاريخية المتواترة.

لماذا خرج السارد عن السرد التاريخي المتداول، وبخاصة ذلك الذي جاء في كتاب البيذق وسار عليه المؤرخون بعده؟ الملاحظ أن مسار السرد قد حاول خلال نصف الرواية تقريباً، إلى حدود الفصل الثامن منها، مجاراة البيذق في سرده لحياة المهدي بن تومرت، ولكن في نقاشه مع صديقه غسان أبو ماضي تبين أنه منساق مع ما ذكره تراجمة المهدي. يقول: “لا أدري أنني قد ابتعدت عما ذكره تراجمة المهدي عما ذكَرَتْه كتب التاريخ. … شيئاً ما يزعجني الآن فعلاً: سكوت البيذق عن الصفقة التي تمت بين المهدي وصاحبه عبد الله… هل كان مبتغى البيدق تدوين أخبار المهدي كما كان شاهداً عليها، كما كان شريكاً فيها أم أن مراده كان كتابة تلك الأخبار على النحو الذي قرر عبد المومن أن يكون، عبد المومن الترجمان العملي لفكرة المهدي؟ وإذن فما المانع، من جهة الإمكان، من جهة المنطق المحض، أن يُقْدِم البيذق على تأليف كتابين كما يزعم صاحب غسان (أو كما يقسم على ذلك): كتاب هو هذا المعروف والمتداول، كتاب يرسم صورة المهدي كما يحلم بها أن تظهر للعموم. كما يحرص عبد المومن الخليفة على تقديمها. وكتاب آخر مضنون به على غير أهله، يخلو فيه البيذق بنفسه، ينصت إلى ضميره فيكتب سيرة المهدي كما كان شاهداً عليها حقاً… يكتب طليقاً من كل قيد، المؤلف الأول هو البيذق الذي سعى إلى خداع الناس وخداع المؤرخين والتمويه عليهم. والمؤلف الثاني هو البيذق الذي يغلق باب الحجرة ليقف أمام المرآة عارياً…” (ص. 150-151).

في هذا المفصل من مسار السرد، ومن الرواية، ينعطف السرد ويتخذ مساراً آخر لما أثار تلك الأسئلة عن طريق النظر وإعادة النظر فيما كتب من فصول الرواية، وبخاصة ما نبهه إليه غسان، وتساءل عن نوع السرد الذي كتبه البيذق عن صاحبه ابن تومرت. هنا تولدت فكرة خلخلة ما تم سرده عن المهدي من طرف السارد، ومن طرف البيذق والمؤرخين، وفتح السارد هنا آفاقاً جديدة ترفع السرد التقليدي عن حياة المهدي المتواتر إلى افتراضات جديدة عن إمكانية وجود كتاب آخر للبيذق يحكي فيه حياة حقيقية عن المهدي، مخالفة لما حكاه في كتابه المتداول. ولكن هذا الكتاب الثاني مضنون به عليه، ومفقود. وهنا يتم الانتقال إلى مرحلة في السرد تقوم على تخييل سردي يواجه به السرد التاريخي المتواتر، والذي سايره السارد لمدة في سرده.

يبدو أن مثل هذا الانعطاف في التفكير وفي تغيير مسار السرد هو وليد ظهور السارد المفكر، المؤلف الضمني، الذي لا يركن إلى المتواتر من الأفكار والمتداول منها، دون مساءلتها؛ هي صفة المفكر والفيلسوف الذي يطرح الأسئلة على الأشياء البديهية أحياناً. وكأني بالمؤلف هنا وبالسارد قد تقمص جبة المفكر والفيلسوف، لا ليقدم الأدلة والحجج المنطقية، ولكن ليجيب عن طريق التخييل السردي على أسئلة تاريخية وفكرية، أي، مدى عدم ارتياح السارد إلى السردية التاريخية التي سلكها البيذق ومن تبعه من المؤرخين في تقديم حياة المهدي بن تومرت. ولعل مرجعية السارد، ووراءه، المؤلف الضمني، الفكرية وقراءاته الكثيرة عن المهدي بن تومرت، وعن الصور المختلفة التي قدمتها المظان القديمة الأخرى، وبخاصة المظان الحديثة، عن وجوه أخرى قاتمة ومظلمة عن حياة المهدي هو الذي أذكى وعي السارد للي عنق السرد المتواتر، وركوب عالم التخييل المتاح للسارد الروائي ليركب ما هو معروف في السرد العالمي في مثل هذه المواقف، لافتراض وجود كتاب أو مخطوط مفقود غير معروف وغير متداول، يمكن أن يكشف عن حقائق أخرى عن الموضوع. وهو ما وجه السرد هنا في الرواية للبحث عن مخطوط مفقود للبيذق، سيقوم التخييل التاريخي هنا بدور كتابة تاريخ آخر لمسار حياة المهدي.

لا شك أن اللجوء إلى البحث عن المخطوط المفقود، هي تقنية سردية نجدها في روايات عالمية معروفة، مثل رواية “دون كيشوت” لسرفانتيس، ورواية المخطوط القرمزي لأنطونيو غالا، ورواية اسم الوردة لأمبرطو إيكو، وقصة الدنو من المعتصم، لبورخيس، ورواية مزيفو النقود لأندري جيد. الهدف الفني من هذه التقنية في البرنامج السردي المتبع في بعض الروايات هو فتح المجال لتخييل عوالم ممكنة يسمح بها مجال البحث والتقصي واختلاق شخوص وفضاءات أخرى تعالج الموضوع بحرية، بل ومتحررة من كل القيود التاريخية المتواترة، كما في حالة البيذق، وافتراض آراء أخرى مغايرة قد تعارض أو تنتقد السرد التاريخي المتواتر في حالة البيذق.

فماذا خلقه هذا التخييل للمخطوط المفقود؟

تدخل الرواية هنا فيما يسمى السرد الاستقصائي وما يستتبع ذلك البحث من ظهور شخوص جديدة مغربية وإفريقية وأوروبية، وتنقّل المخطوط بين هذا وذاك. هنا يكون التخييل التاريخي قد فرض نفسه وابتعد عن السرد التاريخي المتداول، ليفتح عوالم مكانية وزمانية وحدثية أخرى، تعطي للحدث التاريخي أبعاداً أخرى تعبر عن معارضة تخييل تاريخي روائي لسرد تاريخي متواتر. وقد يتمثل في ذلك وجهات نظر جديدة للسارد، وكشفه عما أخفاه أو أغفله السرد التاريخي المتواتر، وربما يبرره ما كشفت عنه الدراسات التاريخية الأخرى غير التي سارت على منوال كتاب البيذق. ولعلي بالتخييل السردي هنا يعرض حياة المهدي الإشكالية التي عرفت اختلافاً في الآراء، مما يكشف عن مختلف وجوه حياته بما لها وما عليها، وليس الوجه الوحيد الذي حاول السرد المتواتر فرضه.  والحق أن خروج السارد في روايته عن مفهومه الأول للتاريخ الواقعي والفعلي المستمد من الكتب التي اعتمد عليها، هو خروج مكنه منه التخييل التاريخي الذي تبناه في بعض أقسام روايته، ويعبر فيه عن مواقف فكرية ودينية وسياسية. ترى كيف كانت ستكون الرواية لو ابتدأت من هذا المنعطف، البحث عن المخطوط، وسار السرد كله في هذا التخييل التاريخي؟ ربما سنكون آنذاك أمام رواية أخرى تنزاح إلى فضاءات وعوالم أخرى تترك للقارئ تصورها. غير أن لجوء الرواية في قسمها الأول إلى عرض قناعات السارد الأولى باعتقاده في كتابة رواية تاريخية واقعية انطلاقاً من كتاب البيذق ومن ساروا على هديه، فيها نوع من إخضاع القناعات القديمة إلى المساءلة، ومن ثم إثبات مدى ضعفها، بل وخطورتها المبنية على الخرافة والسلطة الدينية المزيفة. ولا شك أن السياق الزمني الذي كتبت فيه هذه الرواية، ما سمي بالربيع العربي في بدايات العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، هو الذي يعطي لما قامت به الرواية من خلخلة للسردية التاريخية المتواترة عن المهدي أبعاداً فكرية وتاريخية ودينية وسياسية دالة.

 

خلاصة

تجمع هذه الرواية بين تصورين اثنين للتاريخ: تاريخ يسير وفق ما تداولته المظان التاريخية المعروفة التي سارت على هدي كتاب البيذق، فأنتجت لنا سردية تاريخية عن المهدي بن تومرت تضفي عليه هالة من القوة والعظمة والقدسية أحياناً، وأنه معصوم وصاحب كرامات وغير ذلك مما يضع المهدي بن تومرت في مرتبة قريبة من الأنبياء. وتاريخ يخرق هذا التصور التمجيدي والتقريظي والتقديسي، وينزل بالمهدي إلى عنفه الإنساني الذي يسعى إلى السلطة والحكم واقتراف كل الفظائع من حرق وتنكيل وتقتيل للقبائل، وما شابه ذلك من وسائل القهر والظلم من أجل السلطة. وهذا جانب واقعي أيضاً مثبت في المظان التاريخية الأخرى التي حاولت أن تبتعد عن الوجه الوحيد لحياة المهدي كما رسمه البيذق، وتنظر إليه بمنظار أكثر موضوعية كحاكم له ما له من قوة وسلطة، وما فعله في تقويض دولة المرابطين وخلق دولة موحدية جديدة قوية، ولكن ليس بالبساطة التي يرويها السرد التاريخي المتواتر عن البيذق.

لعل أهم ما يفيدنا به التخييل التاريخي لحياة المهدي بن تومرت بالصورة التي تم بها في رواية ثورة المريدين، هو وضع القارئ أمام إنسانية المهدي، الذي وصف بالمخلص والمنقذ والمصلح والثائر، وبخاصة وجه هذه الإنسانية الخفي، أو الذي أريد إخفاؤه، إما خوفاً أو طمعاً، والمتمثل في مطامح هذا المخلص للسلطة، وما يقترفه من فظائع إنسانية من أجل الوصول إليها والحفاظ عليها. وأن ما يغلف خطابه الديني وسلوكه الموحي ظاهرياً بعفته وزهده وتقشفه، وادعاء الكرامات، ليس إلا قناعاً يخدع به ذوي النفوس الضعيفة التي تثق في تلك الخرافات، لأن ذلك ليس إلا وسيلة خداعة للوصول إلى هدفه الذي هو السلطة، وبأي ثمن.

كان تأطير هذا التخييل التاريخي بمسارات سردية داخل الرواية قد كشف فيها عن بعد ذلك التخييل في مسار علاقة السارد بصاحبه المصري جمعة بسيوني وجماعته من الفنان السينمائيين، وبخاصة ما عرفته مصر من أحداث الربيع العربي وما خلقه من حماس في ميدان التحرير، والآمال المعلقة على ذلك من تخليص مصر مما كانت تعانيه من ظلم وقهر سياسي، وأن مثل هذه الثورة هي التي ستنقذ المجتمع المصري. والحقيقة أن التخييل التاريخي في الرواية يواجه مثل هذه الاعتقادات السياسية التي كان وراءها بعد ميتافزيقي، ثوري، ديني بخاصة، مما يعطي لمثل هذا التخييل التاريخي بعداً عميقاً آخر في النظر إلى مجريات بعض الأحداث التي يغري مظهرها الذي قد يخدع الناس، ولكن سرعان ما ينكشف ضعفه المبني على غير أساس نظري وعملي صحيح، بعيداً عن كل أيديولوجية دينية خداعة.

 

————————————-

الهوامش :

  • Wolfgang Iser, Prospecting: From Reader Response to Literary Anthropology, The Johns Hopkins University Press, Baltimore and London, 1993, p. 232-233.
  • سعيد بنسعيد العلوي، ثورة المريدين، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-المغرب، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، 2015.
  • أخبار المهدي بن تومرت وبداية دولة الموحدين، لأبي بكر بن علي الصنهاجي المكنى بالبيذق. تحقيق عبد الوهاب بن منصور، دار المنصور للطباعة والوراقة، الرباط، 1971.
  • ينظر في كتاب المستشرق الإسباني أمبروسيو هويثي ميراندا “التاريخ السياسي للإمبراطورية الموحدية“، ترجمة عبد الواحد أكمير، منشورات الزمن، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط. 1، 2004، فيما يخص الطريق الذي سلكه ابن تومرت أثناء عودته من المشرق، (من طرابلس إلى مراكش)، ص. 42، و(المحطات التي توقف عندها ابن تومرت في فراره من الأطلس إلى إيجليز هرغة)، ص. 60.

 

 

 

 

 

- أحمد بوحسن

أستاذ باحث في الدراسات الأدبية، الرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.