الإثنين , 9 ديسمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » نـدوات وملفـات » تجربة الحج بين الفعل والكتابة

تجربة الحج بين الفعل والكتابة

أحمد المديني، الرحلة إلى بلاد الله يليها الرحلة إلى رام الله، الرباط – دار الأمان، 2014.

 الرحلة الحجية، معاناة الذات ، فضاءات المناسك، التجربة والكتابة

تجربة مع الرحلة والسفر

milaffat_0217-02عندما نستعرض منظومة الرحلة والسفر في كتابات أحمد المديني سنجدها غنية ومتنوعة؛ متنوعة في المكان وفي الأغراض والمقاصد؛ فهو يصرح أنه يحب السفر ويقيم بين الضفتين، في المغرب وفرنسا، باريس تحديداً، كما يقيم في الطائرة من كثرة ترحاله، وأنه أصيب بـ”لوثة” السفر، بل صارت له “حرفة” أخرى وأكثر من “هوى”[i]. سجل المديني بعض رحلاته في نصوص من قبيل أدب السفر، تجمع بين السياحة والمتعة الفنية في الكتابة[ii]. نذكر كل هذا للتدليل على أهمية تجربة المؤلف في جنس كتابة الرحلة والسفر، والتمرس على سرد المشاهدات والأماكن والناس والعوالم التي يزورها، بالإضافة إلى خبرته بالكتابة السردية القصصية والروائية الطويلة.

نص الرحلة إلى بلاد الله[iii]، إذن، معزز بتجربة سردية سفرية ورحلية غنية ومتنوعة، قبلها وبعدها. ولهذا فنحن أمام نص مخدوم ومصنوع بيد خبير في الكتابة السردية والرحلية. وقد دأب المؤلف على وضع تقديم أو عتبة أو توطئة لنصوصه الرحلية أو نصوص السفر، تساعد القارئ على تمثل نصه تمثلاً أحسن ما أمكن. ومع أن المقدمات عتبات ونصوص موازية مساعدة على القراءة، لكنها قد لا تلزم القارئ دائماً. وضع المؤلف مقدمة نقدية هامة لرحلته لتساعد القارئ على تبين نص رحلته، ولكن دون توجيهه وفق ما يقصد إليه أو لا يقصد. ولا يخفى ما لهذا النص النقدي في مقدمة الرحلة من أهمية في إضاءة بعض الجوانب في نصه، ولكنه يبقى، مع ذلك، نصاً موازياً يمثل بدوره قراءة من القراءات التي يسمح بها نص الرحلة. وقد طبع هذا النص طبعتين: الأولى في 2010، والثانية في 2014. كما حظيت هذه الرحلة فور صدورها بنوع من التلقي الإيجابي؛ فصدرت بعض الحلقات منها في بعض الجرائد المغربية، وقررتها بعض الثانويات التأهيلية في الدار البيضاء ضمن برنامجها الدراسي الأدبي، ثم كتبت عنها عدة مقالات نقدية هامة، أَلحَق المؤلف منها مقالتين في آخر الرحلة في الطبعة الثانية.

ولعل أهم ما أفادته الرحلة إلى بلاد الله من تجربة المؤلف في مجال الكتابة عن الرحلة والسفر هو تطويع الكتابة السردية، وبالخصوص في مجال الوصف والتلوين السردي، وتنويع السرد وأساليبه، واستبطان الشخصيات التي خبرها في رواياته وقصصه الكثيرة والمتنوعة. غير أن المؤلف وجد نفسه في هذه الرحلة وكأنه يدخل مجالاً سردياً جديداً لم يكن متعوداً عليه، وهو السرد الروحي والديني، ووصف الأماكن المقدسة، وخلق ألفة مع الناس الذين أعطوا أنفسهم لله طالبين العفو والصفح والمغفرة، وكأنهم يمثلون نموذجاً إنسانياً واحداً في لحظة إشراقة روحية في مناسك الحج. نجد كتابة المؤلف هنا وكأنها بدأت تشق لنفسها طريقاً جديدة؛ فانفتحت على سجلات سردية جديدة ومختلفة عما عهده من قبل، مثل السجلات الدينية والروحية ولغاتها، والأساليب الدينية المتنوعة، مثل الأساليب القرآنية وأساليب الحديث النبوي والأدعية وما شابه ذلك. ولهذا قد تكون تجربة الرحلة إلى الأراضي المقدسة قد نبهت المديني إلى جوانب سردية ولغوية وتعبيرية وتخييلية جديدة فرضت عليه الانفتاح على سجلات فكرية وثقافية وسردية أخرى حاول أن يعمق هنا بعضها ويطور أخرى.

جنس الرحلة إلى بلاد الله:

حدد المؤلف جنس كتابته في هذه الرحلة، وهو ما لم يلح عليه كثيراً في كتاباته الأخرى عن أسفاره في البلدان الأخرى المختلفة عن الأراضي المقدسة. ولعل لجوءه إلى هذا التأكيد على نوع كتابته في الرحلة إلى بلاد الله هو خوفه من تبسيط نصه واعتباره نصاً واقعياً توثيقياً مثل نصوصه في الأسفار الأخرى التي تستلزم قراءتها قراءة الواقع المشاهد المسرود، ومن ثم ترتيب تصورات وآراء عنها وعن المؤلف. ولهذا فهو يعترف بأنه يسير على منوال أسلافه المغاربة في كتابة الرحلة فيقول: “حرصت على ذلك جرياً على سنة أسلافي المغاربة، أرسم مشاهداتي، وأنقل أحاسيسي عفو الخاطر، لم يخدشها طول تفكير، أو نزوع تأويل، أحب تقديمها على الأغلب انطباعات وارتسامات، وأحياناً في صورة تجليات بوصفها مشاعر متغلغلة في صدر الإنسان، تفيض من نبع ذاته وصميم وجدانه، وتنم عن جوهر اعتقاده ص11).

ابتدأت الرحلة في 20 نوفمبر 2009، وانتهت في 4 دجنبر 2009. وبذلك تكون الرحلة قد دامت أسبوعين. ولا شك أن قصر مدة هذه الرحلة هو أهم ما يميز هذه الرحلة الحجية المعاصرة. ومع ذلك، فقد سارت بدورها على نمط الرحلة التقليدية كذلك من حيث بدايتها ووسطها ونهايتها. وذلك المسار من خصائص بنية الرحلة الحجية. غير أنها تختلف عن التقليدية بتجاوزها كل الطقوس التقليدية المعروفة في الرحلة الحجية المغربية التقليدية الخاصة بالحديث عن مرحلة ما قبل الرحلة ومرحلة ما بعدها.

تردد المؤلف في صياغة رحلته بين قالب الرواية وقالب الرحلة، ولكنه انتهى إلى تبني قالب الرحلة، بقوله: “وأخيراً رأيت أن أفضل ما يحوي حملي ويستوعب زادي، أن أودعه القالب الرحلي، أجده أقدر وأوسع وقميناً بقبول تنوع وتحول مادتي بأشكالها وأذواقها المختلفة، على الخصوص سنوح إمكانية السرد وجاذبيته بما تخلقه من تطلع وتشويق، وحفز على التذكر واستعادة الأجواء(ص13).

ويوضح المؤلف أكثر موضوع رحلته المعاصرة ويحاول أن يعطي لرحلته طابعها الأدبي والفكري، والوجداني والإنساني، مما يجعلها تختلف عن الرحلات الحجية التقليدية، ويظهر ذلك في تأكيده على أدبية رحلته ووضع مسافة بينها وبين الرحلة الدينية عندما يقول: “إذ قولي أساساً ليس دينياً، وهده إحدى مفارقات خطاب الرحلة، التي تنشغل بمادة الدين في قلبها. إنما وهذا لا بد من ضبطه، خطاب هذه الرحلة أدبي، فكري، وجداني، إنساني عامة، أي مبني على الاحتمال ومساءلة الذات في مجرى البحث الدائم عن اليقين، خطاب الدين تشريع وتسليم ويقين، وخطاب الأدب متلون، يتغذى تحديداً بوسواس الاحتمال واللايقين.(ص15)

والحق أن قالب الرحلة قد أسعف المؤلف كثيراً ليجمع بين الواقع والمتخيل، بين المشاهدة ونقل المشاهدة، وبخاصة نقل أحاسيسه الخاصة الدينية والروحية وغيرها، ومن ثم تمكين المؤلف من المتابعة والمراقبة والملاحظة، والتعبير المباشر أحياناً عن مواقفه وآرائه فيما يرى ويشاهد، وفيما يسمع ويلاحظ. وإذا كان جنس الرحلة يفتح المجال واسعاً للوصف ونقل المشاهدات المختلفة، وبخاصة وصف الفضاءات المختلفة، فإن الرحلة إلى بلاد الله، وإن اهتمت بدورها بفضاءات الرحلة، فإنها ركزت أكثر على الجانب الروحي والإنساني والسلوكي.

الإنسان في فضاءات الرحلة

يمكن تحديد الأمكنة التي عرفتها الرحلة إلى بلاد الله من خلال مسارها المحدد بين الذهاب والإياب. تنطلق الرحلة من باريس في اتجاه جدة، فمكة، فالمدينة فجدة ثم باريس. غير أن هناك أمكنة أخرى عرفتها الرحلة تتمثل في الطريق بين تلك الأمكنة. وكانت تلك الأمكنة، الناقلة المتنقلة حاضرة في الرحلة، ومنها كان يطل المؤلف من خلال مشاهدته، أو من خلال سفره في تخيلاته وتشغيل ذاكرته واستحضار معرفته التاريخية والشعرية، وما أكثرها! ويمكن تصنيف أمكنة الرحلة إلى أمكنة مقدسة أثناء ممارسة الشعائر فيها، مثل الطواف حول الكعبة، والسعي بين الصفا والمروى، والوقوف بعرفة، ورمي الجمار. وزيارة قبر النبي محمد (ص) في المدينة. وهناك أمكنة عامة أخرى يمارس فيها صاحب الرحلة حياته اليومية في الأماكن المقدسة مثل أماكن الإقامة، أو وزيارة المدن التي مر منها.

للمكان سلطته في الرحلة إلى بلاد الله، ذلك أن الكتابة عن المكان في الديار المقدسة تخضع لمدى انفتاح المكان وعدم انفتاحه. المكان في الحج له حرمته وله قداسته في العقيدة الإسلامية وكل ديانة تحترم هذه الأماكن المقدسة. أماكن الشعائر في الحج معروفة، وكان السرد فيها يستمد نسغه، لغته وأساليبه واستشهاداته من الموروث الديني الإسلامي المشبع بالدعوات وذكر الآيات والأحاديث والإكثار من التكبير والاستغفار والتلبية وما يدخل في ذلك من أنماط القول المعروفة والمحفوظة، أو التي قرأها أثناء الرحلة، أو تلك التي كانت تُتْلَا عليه ويرددها في مناسك الحج.

اعتمد المؤلف في الرحلة إلى بلاد الله على “وصف المكان في الزمان وبالإنسان، في الحالة الصوفية التي هو فيها، يؤدي فريضة، وينزع إلى التطهير مما يعتريه من آثام الدنيا وسعياً إلى بغية آخرة محمودة عند الباري عز وجل(ص 5). وعندما نستعرض الطريقة التي عرض بها المؤلف الأماكن المقدسة نجده لا يتوقف عندها كثيراً، لينتقل إلى الإنسان الدي يوجد في تلك الأماكن. والملاحظ أن نوع هده الرحلة، مثل الرحلات التي ركزت فقط على الأماكن المقدسة، لا تركز على طبوغرافية الفضاء، وعلى الطبيعة الطبيعية، بقدر ما تركز على روحانية الفضاء وعلى ما يثيره هدا المقام في النفس الإنسانية المسلمة التي تمارس مناسك الحج. وربما قد توجَّهَ جنس هذه الرحلة إلى الفضاءات الداخلية أكثر منه إلى الفضاءات الخارجية. ومع ذلك فلن نلحظ المؤلف يتوقف كثيراً عند الفضاءات الروحية المكية والمدينية.

لقد عودتنا الرحلات الحجية الكلاسيكية وغيرها أن تقدم لنا بعض الأماكن المقدسة مثل الكعبة ومسجد الحرام ومسجد المدينة، بما يوحي من عظمة في النفس وخشوع وتبتل وضعف الإنسان أمام تلك الأماكن المقدسة. غير أن الرحلة إلى بلاد الله تتوقف كثيراً عند الإنسان الدي يطوف بتلك الأماكن ويتمسح بها، وينقل لنا أحياناً سلوكه الذي لا يليق بعظمة تلك الأماكن. وأحياناً ينسحب المؤلف الحاج من الطواف، لأنه لم يقو على تحمل الزحام والرفس والعفس وعدم المبالاة بالآخر. كما يصف لنا ما يجرى من تصرفات دنيوية بشرية مشينة، مثل السرقة، والشره والنهم وجمع المواد الغذائية بغير حساب، وكأننا في مشهد آخر غير المشهد الروحي الرباني، مشهد مناسك الحج. وكثيراً ما كان المؤلف يعود ليتأمل وضاعة ذلك السلوك الوضيع الذي لا يليق بالمقام المقدس في الحج.

هل تغلبت سلطة نزوات الإنسان على سلطة الأماكن المقدسة؟ ربما قد أبرزت الرحلة جانباً مهماً من سلطة السلوك الذي تطبع عليه الإنسان في بلده أكثر من تطبعه بقداسة المقام المقدس، كأن الطبع يغلب التطبع. غير أن هناك لحظات مشرقة في الرحلة تركز على أنماط بشرية ذات سلوك رباني روحاني قد أخذها المكان كلية، وأفصحت عن ضعفها وورعها وتواضعها واحترامها للمكان والناس والمقام المهيب للحج. ولعل ما يبقى في ذهن قارئ هذه الرحلة عن علاقة الإنسان الحاج بشكل عام بالأماكن المقدسة هو تغلب الطبائع البشرية على النفس الإنسانية الحاجة أحياناً على قدسية الأماكن المقدسة، رغم ما وفرته الدولة السعودية من إمكانيات وما تبذله من مجهودات من أجل تيسير الحج على الناس كما يعبر عن دلك المؤلف في ثنايا رحلته. ولكن دون أن ينسى التنبيه إلى بعض المظاهر التي تتطلب مجهوداً آخر، ومضاعفاً من أجل القضاء على كل ما يمكن أن يشين الأماكن المقدسة، مثل انتشار الأوساخ، ووجود عمارات عالية قرب الحرم المكي مثلاً، ربما لا تليق بفضاء الحرم المكي في نظر المؤلف.

معاناة الذات في الرحلة

بدأت معاناة الذات منذ أن توصل المؤلف بالدعوة الرسمية من السلطات السعودية لأداء فريضة الحج. وقذ هزت هذه الدعوة المؤلف وزعزعته، حسب تعبير المؤلف نفسه. وقد احتار المؤلف في البداية، ولكنه قبل في الأخير، رغم ما ساور المؤلف من هواجس أرقته كثيراً، ولكنه قبل في الأخير وأخذ يتهيأ للسفر إلى الديار المقدسة. وقد وصف المؤلف هذه المعاناة وكيف سينظر إليها الآخرون. ولذلك فإن رحلة المديني إلى بلاد الله قد فرضت عليه، أو بالأحرى عرضت عليه، ولم يسع إليها بل سعت إليه. ومع ذلك، فسيتكيف مع وضعه الجديد، ولم يتغلب على نفسه إلا لما انهمك في تحضيره للسفر، وارتياحه لكلام أصدقائه الخُلَّص، والدخول في زمن الحج وانغماسه في متطلباته والقيام بمناسكه على أحسن وجه.

وقد تمثلت المعاناة أيضاً في وجوده مع الوفد الرسمي في “مجر الكبش”، مقر إقامة الوفد الرسمي المدعو من طرف “دار الإيمان” السعودية التي هيأت لهم كل شروط نجاح وراحة المدعوين الرسميين، وكأنهم من حجاج خمسة نجوم، كما يصف ذلك المؤلف أحياناً. وقد وصف المؤلف معاناته مع هؤلاء المدعوين من مختلف البلدان العربية؛ وصف سلوكهم، وشرههم وسلوك نسائهم، بل والنفاق الديني لبعضهم، وكان المؤلف يشعر بالغربة بينهم، وكثيراً ما كان ينفلت منهم ويقوم ببعض مناسكه منفرداً، مثلما حصل له بعد أن قام بطواف الإفاضة لوحده، ولكنه لم يتمكن من الصمود أمام السيول البشرية في الطواف فانسحب مهزوماً، حسب تعبيره، ثم تشجع ثانية فنجح في طوافه، ولكنه بعيداً عن السيول البشرية.

حرص المؤلف على إتمام مناسك الحج كلها. ولهذا كان يساوره خوف تفويت أي منسك في وقته، وبخاصة لما كان مريضاً حيث انتابته هواجس كثيرة كشفت عن رغبته في إتمام كل مناسك حجه، والقيام بدوره كحاج يريد إنجاز مهمته على أحسن وجه. كما كان حريصاً على تفقد حزامه كل مرة، وبخاصة في الزحام أثناء الطواف، أو في رمي الجمار. وقد تعرض لمحاولة سرقة هاتفه النقال وساعته من معصمه لولا لطف بعض الحجاج وتنبيهه إليها. وقد وصف هذا المشهد وصفاً دقيقاً للتدليل على ما يحصل في مناسك الحج في قوله مثلاً: “أنهيت المنسك فحررت يدي اليمنى أدخلتها مباشرة إلى جيب دشداشتي اكتشفت إثرها هاتفي النقال قد طار، صحت مباشرة ‘الموبايل!’تلت ذلك صيحة قربي: ‘ها الموبايل!’فرأيت جهازي مقذوفاً أرضاً، داست فوقه قدم، انحنيت  بسرعة والتقطته مخاطراً بأن يتداعى علي الرماة”(ص 93)، وقوله:(ما كنت متلصصاً من هذه الناحية إلا بعد أن نظرت إلى معصمي فرأيت فجأة أن صار عاطلاً من ساعتي، فتعجبت، ولم آسف لها، وإن فطنت لِمَ قبل لحظات شعرت بألم خفيف كوخز في لحمي، ثم وقد سحبت كمَّ دشداشتي ظهرت لي الساعة معلقة، منحنية إلى أسفل مسنودة بسلك حزامها مغروز في لحمي، ومباشرة استعدت من كان إلى جانبي، من ظهر واحتك بي واختفى لتوه، خسر سرقته، وربما وفر عليه قطع يده”(ص 94).

كان المؤلف يتلهف للانتهاء من المناسك ليذهب إلى المدينة المنورة لزيارة قبر النبي. غير أن المؤلف لما نزل من السماء إلى الأرض، كما عبر عن ذلك لما نزل بالمدينة بعض الانتهاء من المناسك، لم يتوقف كثيراً عند معالم المدينة المنورة، وإنما قدم لنا مشاهد عامة خاطفة عنها، ثم قدم لنا صورة عن ارتياحه بعد تخلصه من الإحرام وإتمامه مناسك الحج، وارتياحه لشرب قهوته وقراءة جريدة الشرق الأوسط. وقد لوحظ في هذه المرحلة الأخيرة من الرحلة أن المؤلف كان يستعجل المغادرة والسفر إلى باريس، فجاء السرد هنا سريعاً ومختصراً للزمان والمكان والحال.

ونظراً لبعض الضيق الذي كان يشعر به المؤلف إزاء جماعته التي كان معها في الحج، فإنه لم يخلق علاقات كثيرة مع الناس الذين كان معهم في الوفد الرسمي، ولم يفتح حوارات كثيرة معهم، ما خلا بعضهم وهم قلة، لأنه لم يكن مرتاحاً معهم، بل كان يعجب لأولئك الحجاج البسطاء وبطيبوبتهم وصبرهم وتقواهم وصدقهم في تعبدهم وحجهم، حتى إنه قد استأثر به أحدهم فراح يبحث عنه في أواخر مناسكه، ولكن بحثه ذهب سدى، فتأثر لذلك كثيراً. ربما كان يتمنى المؤلف أن يكون في رفقة مثل أولئك البسطاء؟

خلاصة

هذه الرحلة إلى بلاد الله لم يسع إليها المؤلف، وإنما عُرضت عليه بدعوة رسمية من السلطات السعودية، فقبلها المؤلف رغم ما خلقت له في البداية من حيرة وقلق تمكن من التغلب عليهما. وقام برحلته مع الوفد الرسمي الدي هيئت له كل الظروف للقيام بحج في ظروف مريحة. ولما اختار المؤلف قالب الرحلة لصياغة رحلته والكتابة عنها، وجد نفسه أمام حقل لغوي ومعرفي وسردي جديد لم يسبق له أن جربه، فانفتح بذلك على سجلات معرفية ولغوية وسردية دينية وروحية فرضت عليه تطعيم لغته وأساليبه السردية بالأنساق التعبيرية الدينية، مثل القرآن والحديث وأصناف من الأدعية والتراتيل الدينية المتطلبة في مقام الحج. وقد ركزت الرحلة على الإنسان في الأماكن المقدسة، فنقلت لنا مشاهدات المؤلف عن سلوك الحجاج، وبخاصة بعض السلوكات التي لا تليق بالمقام المقدس، وبخاصة سلوك بعض أفراد جماعته من الحجاج الرسميين. ولهذا ثَمَّن صبر الحجاج البسطاء وقدر إيمانهم وخشوعهم الصادق لوجه الله. وقد فرض على المؤلف، حفاظاً على سلامته، أن يراقب نفسه، وصحته، وحزامه ومتاعه. كما كان المؤلف حريصاً على إتمام مناسكه ويؤدي دوره كاملاً كحاج.

وقد تتمثل راهنية هده الرحلة في مدتها المحدودة، أسبوعين فقط، وتجاوز طقوس الذهاب إلى الحج والإياب منه، واختصار كل المراسيم فيما هو أساسي فقط، وكذا تسريع السرد، والتركيز على سلوك الحجاج في الأماكن المقدسة، عوض التركيز على الأماكن المقدسة نفسها. وكان المؤلف يستعين أحياناً بالتعبير الشعري عندما يحس بالفيض الروحي في لحظات معينة. وبذلك تكون هده الرحلة رحلة عملية تمثلت السجلات الدينية وأنساقها وتجاوزت الوقوف طويلاً عند التأملات الروحية أمام مختلف الأماكن المقدسة، وإن عبرت عن مشاعرها الروحية والدينية بأساليب مختلفة وشعرية أحياناً. وأنها تأملت كثيراً في سلوك الناس وطباعهم، فأعطت صورة عن سلوك الحجاج الذين عبروا عن ثقافاتهم المختلفة التي تجلت في سلوكهم وتصرفهم وتعبدهم.

 

——————-

[i] المديني (أحمد)، نصيبي من الشرق (مصر في القلب)، لقاهرة – الدار المصرية اللبنانية، 2015، ص7.

[ii] من هذه الرحلات والأسفار: أيام برازيلية وأخرى من يباب، الدار البيضاء وبيروت – المركز الثقافي العربي، 2009؛ الرحلة المغربية إلى بلاد الأرجنتين وتشيليه البهية، كتاب دبي الثقافية، عدد أكتوبر 115، دبي – دار الصدى للنشر والتوزيع، الرحلة إلى بلاد الله يليها الرحلة إلى رام الله، الرباط – دار الأمان، ط. 1، 2014؛ نصيبي من الشرق (مصر في القلب)، القاهرة – الدار المصرية اللبنانية، 2015؛ نصيبي من باريس، القاهرة – الدار المصرية اللبنانية، 2014.

[iii] الرحلة إلى بلاد الله، من المعارف الجديدة، الرباط – منشورات فكر، الطبعة الأولى، 2010، والرحلة إلى بلاد الله يليها الرحلة إلى رام الله، الرباط – دار الأمان، 2014.

- أحمد بوحسن

أستاذ باحث في الدراسات الأدبية، الرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.