تاريخ الزمن الراهن في التجربة المغربية: مخاض ميلاد حقل إسطوغرافي جديد
العفاس (محمد)، تاريخ الزمن الراهن في المغرب: بحث في سياق الميلاد، مراكش-مؤسسة آفاق، 2023، 256 صفحة.
يطرح كتاب “تاريخ الزمن الراهن في المغرب بحث في سياق الميلاد”، لمحمد العفاس واحدة من أهم القضايا المتعلقة بإبستمولوجية المعرفة التاريخية وأكثرها إثارة للجدل بين الباحثين في التاريخ؛ قضية التاريخ الفوري أو الراهن أو المباشر أو الآني أو الجاري[1]، ذلك الحقل الإسطوغرافي الجديد والواعد الذي أثار دخوله ضمن حقل الكتابة التاريخية جدلا كبيرا في أوساط المؤرخين وغيرهم من المهتمين بالمعرفة التاريخية وقضاياها الكبرى.
يروم هذا الكتاب التعريف بتاريخ الزمن الراهن وسد الفراغ الحاصل في المكتبة العربية في هذا الباب؛ إذ يقارب مجموعة من الإشكاليات المتصلة بتاريخ الزمن الراهن في مستواها النظري والمنهجي، كما يحكي عن التجربة المغربية في مجال التاريخ الراهن ولاسيما مخاض اقتحام المؤرخين المغاربة لهذه “الحقبة الزمنية” الوليدة في مجال البحث التاريخي.
يقترح الكتاب مجموعة من الأفكار المتعلقة بالسياقات التي رافقت بروز تاريخ “الحقبة” الراهنة على سطح النقاش الأكاديمي على مستوى العالم بشكل عام وفي التجربة المغربية بشكل خاص، مستندا في ذلك على آراء شبكة من الأعلام الكبار من سياقات إسطوغرافية متنوعة أوروبية وانجلوسكسونية وعربية ومغربية، وذلك لإماطة اللثام عن القضايا الجوهرية والتحديات الكبرى المطروحة على المؤرخ المتخصص في دراسة الزمن الراهن، انطلاقا من إشكالية التسمية والتعريف والمحددات الكرونولوجية، مرورا بالاعتراضات الكبرى التي واجهها هذا الحقل الإسطوغرافي في سياق الجدل الحاد الذي رافق ظهوره ولاسيما في السياق الأوربي، والتي ارتبطت في أغلبها بالثوابت التي اعتاد المؤرخون على الاحتكام إليها لتحصين هوية مجال اشتغالهم، وبخاصة مشكلة المسافة الزمنية وقضية الأرشيف وصعوبة تناول قضايا إنسانية ما تزال مطروحة، ولم تحسم بعد.
وفي مستوى آخر يلتقي قارئ هذا الكتاب مع تحليل للسمات المميزة لتاريخ الزمن الراهن وما يرتبط به من قضايا إبستيمولوجية عميقة؛ كالالتباس الحاصل بين التاريخ والذاكرة، ومسألة الحدود الفاصلة بين كل من التاريخ والصحافة إضافة إلى خصوصية كتابة تاريخية تتم تحت أنظار ومراقبة الشهود واستجابة للطلب الاجتماعي المتزايد لتحليل قضايا التاريخ القريب، خصوصا في سياق الأزمات التي تجعل أنظار الجميع تترقب ما سيدلي به المؤرخ من آراء حول مواطن الخلل المنتجة للأزمات والتعثرات، علاوة على القضايا المطروحة دائما على طاولة النقاش لدى المؤرخين وباقي المتخصصين في العلوم الإنسانية والاجتماعية حول ثنائيات: الحدث/ البنية، الزمن القصير/ المدة الطويلة، التاريخ السياسي والعسكري/ التاريخ الاجتماعي والاقتصادي، مسألة الحوار مع العلوم الاجتماعية، ثم الجيل الجديد من المصادر التي تتجاوز حدود القراءة الوضعانية للوثيقة التاريخية وتفتحها على آفاق جديدة تتجاوز الأرشيفات الرسمية والعمومية وتنفتح على ذاكرة الشهود والفاعلين والأرشيفات الخاصة.
وفي مستوى ثالث، يتعلق بالتجربة المغربية، أفرد المؤلف حيزا هاما من الكتاب لمناقشة المخاض العسير الذي رافق ميلاد الاهتمام بتاريخ الزمن الراهن من خلال الوقوف عند محطات فارقة في الكتابة التاريخية الأكاديمية، وربطها بالسياق السياسي والحقوقي الخاص الذي شهدته البلاد منذ الاستقلال إلى غاية مطلع القرن الواحد والعشرين، مرورا بسنوات الرصاص وصولا إلى الانفراج السياسي الذي بدأ منذ التسعينيات، وكان من ثمراته تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة في بداية الألفية الثالثة، ليكون مسار تشكيل ملامح تاريخ الزمن الراهن في التجربة المغربية متصلا بتفاعل حاسم بين ثلاثة متغيرات كبرى: السياق السياسي والسياق الحقوقي والتجربة الأكاديمية.
تحيلنا هذه الأفكار على استنتاج عام مفاده أن طرح قضية التاريخ الراهن على طاولة النقاش العلمي في التجربة المغربية تجعلنا ننتبه إلى مسألتين غاية في الأهمية:
أولا: أهمية اقتحام حقل التاريخ الراهن ودوره في تجديد المعرفة التاريخية بما يطرحه على المؤرخين من أسئلة جديدة تساهم في فتح المعرفة التاريخية على آفاق نوعية كانت في السابق حكرا على من سواهم من الباحثين في مجالات بحثية أخرى كالعلوم السياسية والأنثروبولوجيا والصحافة وغيرها…، علاوة على ما يتيحه هذا الانفتاح على الزمن الراهن من إمكانية التفاعل البناء بين التاريخ والعلوم المجاورة له وتلقيح المقاربة التاريخية بسماد مستمد من الآليات المنهجية التي تشتغل بها العلوم الاجتماعية.
ثانيا: صاحب اقتحام حقل التاريخ الراهن، تركيز بيِّنٌ على إشكالية عريضة في التجربة الإسطوغرافية المغربية تتعلق “بالانتقال المعرفي من الحماية إلى الاستقلال ومن التاريخ إلى الذاكرة القريبة”. مع ما يعنيه ذلك من انتقالات على مستوى منهج الكتابة التاريخية ونوعية المقاربات المعتمدة في معالجة أحداث الماضي، كالانتقال من التاريخ السياسي والعسكري والدبلوماسي إلى التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والمرور من مرحلة كتابة التاريخ الوطني والمحمول على بساط لغة الرد على الأطروحة الكولونيالية إلى النبش في خصوصيات الذات وبنياتها الداخلية عبر تاريخ منوغرافي أعاد الاعتبار للأرشيف المحلي واستفاد من المفاهيم الرائجة في العلوم الاجتماعية…إلخ
تركيب تفاعلي مع مضامين الكتاب
يفتتح المؤلف كتابه بالانطلاق من لحظة معبرة ذات علاقة بفكرة جدوى التاريخ وأهميته، مستدلا عليها بالإقبال المجتمعي اللافت للنظر على التاريخ خلال اللحظات الحرجة التي تمر منها المجتمعات المختلفة، مشددا على أن الإقبال يكون على التاريخ القريب أكثر من غيره من الحقب الزمنية الأخرى: “تمر كل المجتمعات بلحظة مفصلية في تاريخها تتطلع فيها النفوس إلى تغير الأحوال إلى ما هو أفضل، وسواء كانت هذه اللحظة عنيفة ودموية أو هادئة وسلمية، وسواء تحقق بفضلها التغيير المطلوب أو ظل الحال على ما هو عليه، فإنه كثيرا ما يتم استدعاء التاريخ، القريب تحديدا، لمعرفة أين يكمن الخلل من أجل عدم تكرار الأخطاء نفسها ولمعرفة نقط القوة للاحتفاظ بها كمكتسب تحسبا للمستقبل” (ص. 11). يذكرنا هذا الربط الرمزي بين لحظات الأزمة والحاجة إلى التاريخ بمقولة معبرة، سبق وأن دبجها الباحث التونسي فتحي ليسي في سياق دراسته لقضية التاريخ الراهن في التجربة التونسية، مفادها أن لحظات الأزمة عادة ما تكون إيذانا “بدخول التاريخ بقامته الفارعة وهامته الأسطورية بيوت الناس وغرف نومهم” ويصير التاريخ “هذا الحاضر الباذخ الذي يتابعه الناس بعيون شاخصة”، غير أن قضية القرب هاته تبقى خاضعة لمنطق التنسيب وتظل مرتبطة بنوعية القضايا التي تدعونا لاستعادة التاريخ واستحضاره، ففي القضايا المرتبطة بالهوية وبأصول المجموعات البشرية وثقافتها وعاداتها مثلا، غالبا ما يكون التاريخ القديم جدا هو الأقرب ذهنيا من التاريخ القريب زمنيا. ومعنى هذا أن استعادة التاريخ في كليته مرتبطة بجدلية ماضي- حاضر التي تطغى على مختلف القضايا الإنسانية.
ومن التأصيل للتاريخ الراهن كحقل إسطوغرافي اقتحمه مختصو الزمن في مختلف التجارب الإسطوغرافية الكونية، ينتقل بنا المؤلف إلى التأصيل لميلاد هذا الحقل في السياق المغربي، وهي مسألة مرتبطة بصدور التقرير الختامي لهيئة الإنصاف والمصالحة أواخر سنة 2005، وما انبثق عنه من توصيات وما صاحبه من نقاش عمومي حول مسألة العدالة الانتقالية، كنقطة انطلاق للاهتمام المغربي بالتاريخ الراهن، على أن التفسير العلمي والموضوعي لهذا الاهتمام يأخذ لدى المؤلف أبعادا ثلاثة ارتبطت بسياقات ثلاثة كذلك؛ سياسي وحقوقي وأكاديمي، ساهمت مجتمعة في توفير البيئة الحاضنة لتاريخ الزمن الراهن وفي ارتقائه من التناول السياسي والحقوقي الانفعالي إلى المعالجة الأكاديمية التي تنشد الدقة المنهجية والموضوعية العلمية، فقد أسهم السياق السياسي الذي وُسم بنوع من الانفراج منذ مطلع التسعينيات في تهييء المشهد السياسي المغربي لما سمي “بالعهد الجديد” وما رافقه من مبادرات إيجابية أطلقت من لدن القصر الملكي وكان لها دور فعال في تذويب وتصفية التركة الثقيلة التي خلفتها مرحلة حكم الملك الحسن الثاني في ملفات شائكة مثل الملف الحقوقي وملف المرأة والقضية الأمازيغية… إلخ، وبالتالي إتاحة هامش معقول من حرية التعبير سمح بصدور العديد من المذكرات وتزايد اهتمام الصحافة بقضايا التاريخ الملتهب والجاري. وارتباطا بذلك شهد المشهد الحقوقي انتعاشة ملحوظة أفرز تجربة فريدة ومميزة في مجال العدالة الانتقالية اكتست خصوصية ضمن التجارب التي شهدها المحيط الإقليمي في الإطار نفسه، إذ عوضت منحى المقاربة القضائية بمنحى أكثر مرونة رام تحقيق المصالحة وجبر الضرر الجماعي أكثر من اهتمامه بالقصاص والمحاسبة المادية، وكانت مساعي هذا النهج للحفاظ على الذاكرة في ظل استمرارية نظام الحكم السائد من أهم العوامل التي لفتت الأنظار للاهتمام بتاريخ المغرب القريب من خلال الدعوة لإحداث مؤسسات تعنى بهذا الأمر ومؤسسات أخرى تهتم بالأرشيف وتنظيمه وإتاحته للباحثين. ولم يكن للسياق الأكاديمي أن يبقى بمعزل عما كان يجري في الساحتين الحقوقية والسياسية، وكان من ثمار تفاعل الأكاديميين المغاربة المختصين في الزمن وقضاياه مع التحولات السياسية والحقوقية أن تم تنظيم عدد من الملتقيات والندوات الفكرية التي تداولت بدورها في مسألة التاريخ القريب وما كان يطرحه من رهانات وتحديات، وكان من محفزات انفتاح المؤرخين كذلك على قضايا الزمن الراهن مساهمة بعض المؤرخين المغاربة في إنضاج تجربة العدالة الانتقالية وتقويم الحصيلة التنموية بالمغرب المستقل واستشراف أفقها، وفي مقدمتهم على رأسهم ابراهيم بوطالب، عضو هيئة الإنصاف والمصالحة، ومحمد كنبيب الذي ساهم في صياغة الجزء التاريخي من تقرير الخمسينية.
اللحظات الرئيسة لتاريخ الزمن الراهن بالمغرب: من التاريخ العالمي إلى التجربة المحلية
تناول المؤلف امتدادات القضايا المشار إليها أعلاه عبر أربع لحظات رئيسة شكلت الهندسة المنهجية لمضامين الكتاب، إذ نلتقي في اللحظة الأولى مع تفاعل كثيف ونقاش مستفيض للظروف التي كانت وراء الاهتمام العالمي بتاريخ الزمن الراهن، وإن لم يحسم المؤلف في الكثير من القضايا التي أثارها النقاش الحاد بين المؤرخين المتحمسين لهذا الحقل الإسطوغرافي وخصومهم الذين امتنعوا عن منحه حق المواطنة المعرفية ضمن حقل التاريخ، إلا أن من إيجابيات الكتاب أنه استعرض كل هذه الآراء وناقش مجموع هذه الآراء المتعارضة، وضمن هذه اللحظة تبنى المؤلف وهو يؤصل لتاريخ “صناعة التاريخ الراهن”، مقولة المؤرخ الفرنسي جون-فرانسوا سولي Jean-François Soulet القائلة بأن كتابة التاريخ الراهن عملية موغلة في القدم إذ هي تقليد راسخ منذ العصور القديمة مع المؤرخين اليونانيين هيرودوت وتوسيديد. ومع أن التونسي فتحي ليسير يعيب على الباحثين التشديد على ريادة هذين المؤرخين في مجال تاريخ الزمن الراهن بدعوى اختلاف السياقات الإسطوغرافية، فإن فكرة قدم الاهتمام بهذا القطاع الاسطوغرافي، في واقع الأمر ليست من بنات أفكار جون-فرانسوا سولي، إذ سبقه إليها الصحفي جان لاكوتير Jean Lacouture منذ أمد بعيد[2]، ومع هذه الأطروحة تعقب المؤلف تقلبات مواقف المؤرخين، ولاسيما في السياق الإسطوغرافي الفرنسي، من تاريخ الحاضر إلى غاية مرحلة ما وسمه المؤرخ الفرنسي فرانسوا دوس François Dosse بـ”التاريخ المفتت” (L’histoire en miettes) ، حيث تم نبذ التاريخ الراهن مع المدرسة الوضعانية التي تشبثت بمبادئ وتقاليد علمية تتعارض مع روح التاريخ الراهن وأهمها تقديس الوثيقة المكتوبة، واعتماد مسافة زمنية كافية من الحدث المراد التأريخ له، ليتجدد الاهتمام بالتاريخ الآني مع الجيل المؤسس لمدرسة الحوليات في ثلاثينيات القرن العشرين، الذي بنى جزءا مهما من توجهاته البحثية على أساس التفاعل بين الماضي والحاضر ومنح أهمية كبيرة للحاضر باعتباره بوصلة وخريطة للأبحاث التاريخية، ثم خف الاهتمام بعد ذلك مع هيمنة التاريخ البنيوي وتاريخ المدة الطويلة مع الجيل الثاني للحوليات بقيادة فرناند بروديل Fernand Braudel، الذي ساهمت توجيهاته، حسب رأي المؤلف، في تغييب تيمة الحاضر في الأعمال الكبرى التي كانت بمثابة دساتير صناعة التاريخ في النصف الثاني من القرن العشرين، وهي ثلاث مؤلفات جماعية تُقَوِّمُ حصيلة صناعة التاريخ وتستشرف آفاقها وتضع توجهاتها الجديدة، ونعني بها مؤَلَّفُ “صناعة التاريخ” (faire de l’histoire, 1974)، و”التاريخ الجديد” (la nouvelle histoire, 1978)، و”ورشة المؤرخ” (l’atelier de l’historien,1982 )، كما أن كتاب التاريخ الجديد الذي أشرف عليه جاك لوغوفJacques Le Goff خصص حيزا لا بأس به للتاريخ الراهن بمقالة مطولة كتبها الصحفي الفرنسي جان لاكوتير بعنوان “التاريخ الآني”[3]. ضمن هذه اللحظة كذلك خلص المؤلف إلى ثلاث أطروحات مركزية بمثابة حلول لثلاثة مآزق منهجية تواجه المتخصص في تاريخ الزمن الراهن، ارتبطت الأولى بالحدود الزمنية لحقبة التاريخ الراهن، وهي حدود متحركة ومتجددة بطبعها، فما يعتبر تاريخا راهنا اليوم قد لا يكون كذلك بعد سنوات، ويكمن حل هذا المأزق في تبني مفهوم المعاصرة؛ “أي معاصرة الفاعلين والشهود لفترة التاريخ القريب موضوع أسئلة المؤرخ” (ص. 29)، وتتجلى الأطروحة الثانية، التي يقترحها المؤلف كحل لإشكالية التسمية، في تبني تسمية “تاريخ الزمن الراهن” بمعناها المجازي “الذي تحيل فيه على الماضي القريب وليس على ما يحدث هنا والآن” (ص.29)، وهي حقبة تتضمن أيضا “التاريخ المباشر”، “كفترة تمتد على الثلاثين سنة الأخيرة”(ص. 29)، وأما مأزق التعريف، فيميل المؤلف، كحل له، إلى اعتبار تاريخ الزمن الراهن موافقا لما يسمى أنثروبولوجيًّا مجال “التجربة المعاشة”، وهو تعبير مستمد من مفهوم “المعاصرة” المومأ إليه آنفا.
بينما كانت اللحظة الثانية مناسبة للنبش في البدايات الأولى لتفكير المغاربة في كتابة تاريخهم الراهن، وهو تفكير وسمه نوع من التردد والسير بخطى بطيئة في البداية لكن سرعان ما اتسعت دائرته بانخراط المؤرخين المتنامي فيه ولاسيما من الباحثين الشباب، ثم باتساع دائرة النقاش لتشمل السنوات الأكثر قربا من الحاضر (مرحلة ما بعد الاستقلال) بعد أن كان مفهوم التاريخ الراهن مرتبطا في تمثل المؤرخين المغاربة بالمرحلة الاستعمارية، استغرقت بدايات التفكير في تدوين التاريخ الراهن هذه، ما يربو عن العشرين سنة إذا اعتبرنا بداية الألفية الثالثة مرحلة الانكباب الرسمي والأكاديمي على دراسة تاريخ المغرب القريب، وهكذا شكلت ندوة البحث في تاريخ المغرب حصيلة وتقويم سنة 1986، وندوة وثائق عهد الحماية: رصد أولي سنة 1995، ثم ندوة إعادة التفكير في حقبة الحماية سنة 1998، لحظات ذات دلالة قوية بالنسبة لمؤرخي الزمن الراهن، إذ أعطت دفعة قوية للبحث في تاريخ هذه المرحلة وشجعت الباحثين على اقتحامها وعلى خوض غمار البحث فيها دون توجس، بعد أن تمكن المساهمون فيها من تجاوز ذلك الحاجز النفسي الذي كان يحول دون الانكباب على التخصص في تاريخ يعتبر خارج نطاق المشروعية العلمية لدى الكثير من المؤرخين، فضلا عن كونه مجالا شبه محظور كانت الظروف السياسية الحرجة والقلقة في البلاد تحول دون الاقتراب منه.
ثم جاءت اللحظة الثالثة، لحظة الانكباب الفعلي على التاريخ الراهن، مستفيدة من أربع متغيرات مستقلة حركت المياه الراكدة وكانت من وراء تكريس البحث في تاريخ الزمن الراهن تأسيا بخطى توجهات البحث في مختلف جامعات العالم، وتتجلى المتغيرات المستقلة الأربع التي كان ميلاد حقل التاريخ الراهن بالمغرب متغيرا تابعا لها، في التحولات السياسية والحقوقية التي أتى بها، ما يسمى في زمننا الراهن بالعهد الجديد مع تولي الملك محمد السادس عرش البلاد عام 1999، ثم صدور تقرير الخميسينية سنة 2005 بمناسبة مرور 50 سنة على استقلال البلاد، إلى جانب صدور التقرير الختامي لهيئة الإنصاف والمصالحة أواخر سنة 2005 وما صاحبه من نقاش سياسي وحقوقي جاد وعميق حول قضايا يرتبط معظمها بالتاريخ القريب، فضلا عن تزايد الطلب الاجتماعي على التاريخ القريب كانعكاس مباشر للنقاش الذي شغل الفضاء العمومي، وجعل الكل يفكر في التاريخ ويتساءل عن دوره في كل ما جرى ويجري من تحولات.
أما اللحظة الرابعة فيمكن اعتبارها بمثابة تتويج للمسار السابق، ذلك أنها اتسمت بتفاعل مؤسساتي وأكاديمي عميق مع المتغيرات آنفة الذكر التي مهدت الطريق أمام تزايد الاهتمام بالتأريخ لزمن المغرب القريب. وقد تمثل هذا التفاعل في عقد العديد من الندوات والملتقيات الفكرية التي عمقت النقاش في القضايا المعرفية والمنهجية والإيتيقية المتعلقة بتاريخ الزمن الراهن بما في ذلك حدود العلاقة بين التاريخ والذاكرة وتنظيم الأرشيف ومهام المؤرخ، وذلك بمساهمة من مؤسسات أكاديمية وهياكل وجمعيات عالمة كالجمعية المغربية للبحث التاريخي والجمعية المغربية للمعرفة التاريخية ومؤسسة أرشيف المغرب وكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط والمعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب.
تتيح قراءة هذا العمل، امتدادات على سبيل التفاعل يمكن إجمالها، مثالا لا حصرا، في المستويات التالية:
-افتتح المؤلف عمله، على مستوى التحقيب، بالتشديد على أن انطلاق الاهتمام الرسمي بتاريخ الزمن الراهن يرتبط بحدثين مركزيين يتعلقان بتوطين بنيتين بحثيتين في موضوع الزمن الراهن بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط بين سنوات 2010 و2013، ويتعلق الأمر بماستر تاريخ الزمن الراهن ومركز تاريخ الزمن الراهن. وإن كنا نتفق مع المؤلف على أهمية هذين الحدثين إلا أن المخاض الذي أنتج شهادة ميلاد التاريخ الراهن في بلادنا مرتبط أكثر- في نظرنا – بالدينامية السياسية والحقوقية التي شهدتها البلاد، ولم يكن العمل الأكاديمي سوى تفاعلا مع تلك الدينامية، الأمر الذي يؤكده المؤلف نفسه في أكثر من موضع من عمله، زيادة على أن تحولا اسطوغرافيا من مثل هذا الحجم لا يمكن إلا أن يكون ناتجا عن تحولات طويلة المدى تسهم في تغيير الكثير من القناعات الذهنية والفكرية لدى الفاعل الثقافي والسياسي على حد سواء، ولهذا فإن هندسة المتغيرات التفسيرية، بما أن غاية الكتاب الأساسية هي البحث في سياق ميلاد تاريخ الزمن الراهن، يبدو من الأنسب إعطاء الأولوية الأسبقية للمتغيرات السياسية والحقوقية على المتغير الثقافي الأكاديمي.
– لم يغفل المؤلف وهو يبحث في السياق التاريخي الممهد لميلاد حقل التاريخ الراهن بالمغرب، الدور الذي اضطلعت به الصحافة في الزيادة من حجم الطلب الاجتماعي على التاريخ القريب، وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى استحضار تجربة كانت تنضج وتنمو في رحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق، بالموازاة مع الدينامية التي كانت تشهدها شعبة التاريخ بكلية الرباط، ونكتفي في هذا الصدد بذكر تجربة الأستاذين المصطفى بوعزيز والطيب بياض مع مجلة زمان والتي سجلها هذا الأخير في كتاب له بعنوان الصحافة والتاريخ [4] سنة 2019.
-من بين الخلاصات الهامة التي شدد عليها العفاس واختار أن يختم بها عمله القيم، مسألة العراقيل التي تعترض، ومن المحتمل أن تعترض مستقبلا، جهود كتابة التاريخ الراهن في بلادنا، تلك العراقيل التي تتجاوز عنده ما هو منهجي متعلق بضوابط علم التاريخ، التي من المفترض أن تؤطر عمل الباحث في التاريخ الراهن؛ كانعدام المسافة الزمنية وقلة المصادر، وصعوبة ولوج الأرشيفات وعدم اكتمال الأحداث…، وتتصل بما هو حقوقي سياسي، على اعتبار أن غياب هامش كاف من حرية التعبير من شأنه أن يحول دون تحقيق التراكم اللازم في الأبحاث المختصة في التاريخ القريب، وهي على كل، فكرة لها من الوجاهة ما يجعلنا نتفق مع مضمونها، حتى وإن كانت الصعوبات المنهجية وغياب حرية التعبير صنوان لا ينفصلان، وإذا عدنا إلى السياق المغربي في هذا الموضوع لابد وأن نلاحظ أن أكثر عائق حال ولمدة طويلة دون خوض المؤرخين المغاربة غمار تجربة كتابة التاريخ الراهن، لم يكن مرتبطا بمثل ذلك التدافع النظري والمنهجي، بين متحمس ومعترض على انفتاح المؤرخ على التاريخ القريب، الذي ميز تجارب إسطوغرافية أخرى، أكثر من ارتباطه بالسياق الحقوقي والسياسي الملتهب وما أفرزه ذلك من حواجز نفسية كبحت جماح رغبة المؤرخين في التفاعل مع ما كان يجري في جامعات العالم من نقاش حول التاريخ الراهن.
– ويطرح هذا الكتاب، من بين قضايا أخرى عديدة، قضية منهجية على جانب كبير من الأهمية يمكن أن ننسب إليها غياب الاستمرارية والانسجام في جهود مؤرخي الزمن الراهن، الذي تأسف عليه عبد الرحمان المودن، ويتعلق الأمر بغياب الجماعة العلمية التي تضمن وجود آليات عمل تؤمن الاستمرارية في العمل وعلى رأسها هياكل البحث والمجلات المتخصصة وروح المتابعة النقدية لما يصدر من أعمال.
لا يسع قارئ هذا الكتاب إلا أن يقر بأصالته وتماسكه المنهجي، وتناسق مضامين أفكاره، وغنى الحوار والنصوص المنتقاة التي تضمنها ملحقه، مما زاد هذا السفر العلمي أهمية على أهميته.
الهوامش:
- جان لاكوتير، “التاريخ الآني”، ضمن: التاريخ الجديد، إشراف جاك لوغوف، ترجمة محمد الطاهر المنصوري، مراجعة عبد الحميد هنية، منشورات المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2007.
- فتحي ليسي، تاريخ الزمن الراهن عندما يطرق المؤرخ باب الحاضر، منشورات دار محمد علي، صفاقس، الطبعة الأولى، 2012.
- فرانسوا دوس، التاريخ المفتت من الحوليات إلى التاريخ الجديد، ترجمة محمد الطاهر المنصوري، منشورات المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، 2009.
- محمد حبيدة، “التاريخ الراهن وراهنية التاريخ”، ضمن الذاكرة والهوية أعمال مهداة إلى عبد المجيد القدوري، تنسيق محمد جادور وشعيب حليفي ورشيد الحضري، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2013.
- محمد العفاس، تاريخ الزمن الراهن في المغرب: بحث في سياق الميلاد، منشورات مؤسسة آفاق، مراكش. 2023.
مقال رصين محبوك بأسلوب شيق ولغة راقية جدا تجعل القارئ ينجدب لهذا الانتاج المعرفي -حتى لو كان من غير أهل التخصص-.
هنيئا لصاحب الكتاب بهذا ‘التسويق’ الأكاديمي المميز.
نتمنى أن يتم إعطاء التاريخ مكانته الخاصة في البحث العلمي كما نتحتاج الى المزيد من المقالة والكتب الخاصة بالتاريخ القريب