ملف “نحن والتاريخ العالمي“، مجلة هسبِريس–تَمودا، المجلد 55، الجزء 1، 2020. كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس، الرباط.
خصصت مجلة هسبِريس-تَمودا، التي تصدرها كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط، عددها الأخير الذي صدر في أواخر أبريل 2020 ، لملف عنوانه “نحن والتاريخ العالمي”. وقد قام بتنسيق العدد كل من عبده الفيلالي الأنصاري (مدير سابق لـ”معهد الدراسات حول حضارات المسلمين” / لندن) وعبد الأحد السبتي (جامعة محمد الخامس). وقد تزامن صدور هذا الملف مع ظرفية وباء كوفيد-19 الذي اخترق الحدود بشكل أصبح معه الهاجس الرئيس لشعوب بأكملها وحكومات وأنظمة سياسية ومنظمات اقتصادية ومؤسسات عالمية، وهو تزامن له دلالاته ويؤكد راهنية الموضوع وملحاحية الأسئلة التي يطرحها، خاصة وأن الوباء هو إحدى نتائج العولمة، لكنه في نفس الوقت أحد مظاهر أزمتها أيضا.
يتضمن الملف تسعة بحوث باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية قدم لها منسقا العدد بمقال تمهيدي يؤكدان فيه بأن الهدف هو تحسيس المؤرخين والباحثين المغاربة بأهمية التاريخ العالمي كحقل واتجاه في البحث قطع أشواطا مهمة في مناطق ومراكز أكاديمية عبر العالم، وتشجيعهم على الانفتاح على النقاشات والممارسات المستجدة في مجال البحث التاريخي والإنساني في الجامعات العالمية. ويكتسي الأمر أهمية قصوى خاصة بالنظر إلى التجاهل الواضح للتاريخ العالمي في محاولات كتابة تاريخ المغرب. وهي ظاهرة قد تُعزى لتأثير المدرسة الفرنسية التي انفتحت متأخرة على هذه الاتجاهات الجديدة في البحث التاريخي. بالإضافة إلى هذا العامل، نجد أيضا هيمنة التاريخ الوطني في المغرب بشكل يقف فيه هذا التضخم للتاريخ المحلي عائقا أمام طرح الأسئلة الإشكالية وتجديد المناهج.
ولذلك خصص العدد بعض مواده لبحوث تُعَرف بحقل التاريخ العالمي ومناهجه. فيخصص ادريس مغراوي (جامعة الأخوين بإفران) مقالا تحت عنوان “التاريخ العالمي: زوايا ومقاربات” للتعريف بأهم عناصر حقل التاريخ العالمي خاصة في سياقاته الأنجلو-أمريكية، وبالأفكار والنقاشات المثارة في هذا المجال خلال العقود الثلاثة الأخيرة. ويذهب دانييل ريفي Daniel Rivet (جامعة باريس 1) في مقاله “بعض التنويعات حول التاريخ العالمي” إلى أن التاريخ العالمي قد برز إثر تراجع النظريات الكبرى في التاريخ والعلوم الإنسانية، والتي عرفت أوجها مع الدولة الحديثة في القرن التاسع عشر وصولا إلى عهد الاستقلال والتحرر في دول العالم الثالث أواسط القرن العشرين. لذلك يأخذ التاريخ العالمي بعين الاعتبار الارتباط الوثيق الموجود بين مناطق جغرافية مختلفة وشعوب وتجارب متفاوتة، وعلى التفاعل الذي حكم دوما العلاقات بين أوروبا وباقي العالم منذ القرن السادس عشر. مما يجعل هذا التاريخ هجينا (hybride) ينتقل بين المحلي والعالمي بشكل مستمر. وفي مقال تحت عنوان “النمو العالمي للتربية حول التاريخ العالمي”، يحاول روس دان Ross Dunn (جامعة سان دييغو) التأريخ لهذا التيار كحركة ثقافية وتربوية حديثة، ورصد موقع التاريخ العالمي في المؤسسات الأكاديمية والتربوية. يذهب دان إلى أن بدايات التاريخ العالمي في المؤسسات التعليمية والبحثية قد بدأ في الولايات المتحدة مع بداية القرن التاسع عشر، وقد تمت إعادة صياغة الحقل عبر مراحل مختلفة، تجاوز تأثيره خلالها حدود الولايات المتحدة. وهو ما بدأ يتجلى منذ التسعينيات من القرن العشرين في خلق مؤسسات ومراكز بحث وبرامج تعنى بالتاريخ العالمي في أوروبا وشرق آسيا. لكن الطريق مازال طويلا حسب دان سواء بسبب محدودية انتشار التاريخ العالمي كحقل أكاديمي وتعليمي في مناطق عديدة في العالم، أو من حيث طبيعة الأسئلة الضرورية التي يطرحها الحقل مثل إمكانية تعريف التاريخ العالمي كموضوع للمعرفة. ويؤكد عبد السلام شدادي (جامعة محمد الخامس) في مقاله “التاريخ العالمي: مفهوم قيد التأسيس”، أن هذا التاريخ ليس فقط شكلا من أشكال كتابة تاريخ للعالم، بل هو تخصص مستقل بذاته. ولفهم السياق الذي تطور فيه التاريخ العالمي، يبدأ شدادي باستحضار الشروط الابستمولوجية والتاريخية لنشأة التاريخ كتخصص حديث، ثم يربط ذلك بفترة العولمة ليخلص إلى أن التاريخ العالمي هو نتيجة مباشرة لها.
ماذا يعنيه التاريخ العالمي بالنسبة لتاريخ المغرب؟ وكيف يمكن قراءة تاريخ المغرب على ضوء المقاربات والمناهج والنقاشات المطروحة في حقل التاريخ العالمي؟ يذهب لطفي بوشنتوف (جامعة محمد الخامس) في مقاله “نحو تاريخ عالمي للمغرب” إلى أنه رغم التراكم المعرفي المهم الذي حدث في مجال كتابة تاريخ المغرب منذ فترة الحماية، إلا أن هذا التراكم قد حكمته في الغالب رؤية محلية وطنية عزلته عن مسار تطور الأحداث في العالم. ويرى بوشنتوف ضرورة إعادة قراءة تاريخ المغرب لمحاولة إنتاج فهم جديد يربط أولا بين تاريخ المغرب والتحولات العالمية، ويسمح ثانيا بتوسيع الأفق وتبني رؤية من الخارج لأحداث وفضاءات إدراكية في الداخل.
وقد حاولت بعض الأبحاث التي تضمنها ملف العدد هذا الربط بين تاريخ المغرب والتحولات العالمية، خاصة في سياق المحيط الإيبيري وعلاقة المغرب بالبرتغال. وهكذا يركز إدموند بورك Edmund Burke III (جامعة كاليفورنيا-سانتا كروز) في مقاله “الحرب العالمية في القرن السادس عشر: مقاربة من الهامش” على الفترة الممتدة بين سقوط الأندلس وبداية تفكك الدولة السعدية. يقف بورك على لحظات تاريخية أعقبت معركة وادي المخازن ليطرح فرضية جديدة حول تأثير المغرب في مسار التاريخ العالمي مفادها أن فشل القوى الإيبيرية في التوسع جنوب المتوسط قد يكون لعب دورا مهما في تحويل طاقات هذه القوى واهتماماتها نحو مناطق أخرى، فتوجهت البرتغال نحو المحيط الهندي بينما توجهت إسبانيا نحو أمريكا الجنوبية. وفي مقال تحت عنوان “البرتغال والمغرب والمحيط: تاريخ متصل”، يدرس بيرنار روزينبيرجي (Bernard Rosenberger) العلاقات المغربية البرتغالية بين القرنين الثاني عشر والسادس عشر مستندا إلى مصادر متنوعة بما فيها الأرشيف البرتغالي. وبدل معالجة تاريخ كل دولة بشكل منفصل عن بعضهما البعض، يحاول روزينبيرجي تصور تاريخ يربط بين مسار الدولتين من خلال فصول متعددة تترواح بين المواجهة العسكرية والمبادلات التجارية السلمية والعلاقات السياسية المعقدة. ويذهب إلى أن أحد أهم هذه الفصول قد تجلى في التفوق البرتغالي في المجال البحري أواسط القرن الثالث عشر، وهو ما مكَّن البرتغال من نقل المواجهة إلى السواحل الأطلسية للمغرب.
وضمن سياق جغرافي أوسع، يتناول مقال “المسلمون عبر التاريخ: إعادة التفكير في مسارات المجتمعات المسلمة على ضوء التاريخ العالمي” لعبده الفيلالي الأنصاري مشروع مارشال هودجسن (Marshall Hodgson) الطَّموح لكتابة تاريخ للإسلام والمسلمين. استعان هودجسن بالأدوات والمفاهيم النظرية في العلوم الإنسانية المتاحة له، لكن الآفاق التي فتحها حقل التاريخ العالمي جعلته يعيد صياغة هذا التاريخ الإسلامي بشكل يسائل التأويلات السائدة في الغرب ويفتح آفاقا أوسع للتفكير ولفهم الثقافات والحضارات المسلمة. وفي مقال تحت عنوان “المكان والأزمنة والحدود في أعمال فيكتور سيجالين (Victor Segalen) عن الصين: مشروع تاريخ عالمي”، يتناول دانييل نوردمان Daniel Nordman (المركز الوطني للبحث العلمي بباريس) حضور الصين في أعمال الفرنسي فكتور سيغالين، وهو كاتب وشاعر وطبيب وإثنوغرافي وأركيولوجي عاصر الحرب العالمية الأولى. ويتناول المقال هذه الأعمال من زاوية بعض المفاهيم مثل الحدود والزمان والمونوغرافيا، ويتساءل نوردمان: ألم تكن كتابات سيغالين تصب في مشروع تاريخ عالمي غير مُعلن، أو “تاريخ عالمي لفرنسا” على غرار المؤلف الجماعي الذي أشرف عليه باتريك بُوشرون (Patrick Boucheron)؟