Mohamed OUTAHAR, L’engagement religieux. Le cas des salafistes au Maroc, thèse de doctorat en sciences sociales, option sociologie, sous la direction de Hassan Rachik, Université Hassan II de Casablanca, Faculté des Lettres et des Sciences Humaines de Aïn Chock, 2019-2020.
ترتكز دراسة السلفية في ضوء الأدبيات القائمة على ثلاثة مداخل تحليلية رئيسية: المدخل اللاهوتي الذي يختزل السلفية في بعدها الطهراني وأصلها النبوي الأول وتجلياتها العقدية والإيمانية. والمدخل التاريخي الذي يعالج السلفية في ظروف نشأتها وتشكلها التاريخي وتطورها الدلالي والتداولي. ومدخل العلوم السياسية الذي يدرس السلفية في أشكالها التنظيمية وعلاقاتها الجيو-ستراتيجية. لم يتم إذن دراسة السلفية كهوية وسيرورة خارج تصوراتها اللاهوتية والتاريخية والتنظيمية. وتكمن محاولتنا في هذه الأطروحة في الوقوف على سيرورة تشكل السلفية كهوية، من خلال دراستها من منظور الالتزام الديني (L’engagement religieux) كمدخل تحليلي وتفكيكي لأشكال البناء الفردي والاجتماعي للتدين السلفي. في هذا الإطار، اقتضى منا فهم ظاهرة الالتزام الديني في علاقتها بالتدين السلفي الوقوف على التركيب والتعقيد اللذين يطالان بنيتها، بعيداً عن الاستنتاجات الأحادية-البعد التي تختزل الالتزام السلفي في محددات اقتصادية كالفقر، واجتماعية كالتهميش، ومعرفية كالجهل، وتآمريه كالتلاعب والسيطرة على العقول.
نشير في هذا الإطار إلى أن النقاش حول الهوية الدينية قد أخذ حيزاً كبيراً في عصرنا الحالي، سواء على الساحة الفكرية أو الثقافية والسياسية. ولا يفتأ هذا الأخير في التوسع والتجلي من خلال مظاهر عودة الدين وعصر التدين وزمن الروحانية والالتزام الديني والتحول الديني…إلخ. ولعل هذه المظاهر الجديدة للتدين تجد لنفسها سنداً في بعض أشكال الدعم السيكولوجي التي تُقدمها لمجموعة من الأفراد الذين يجدون في العودة إلى التدين ملجأ ضد ضغوطات الحياة وتعقيداتها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية؛ وتتجلى السمة المشتركة للأشكال الجديدة للتدين خلال العقود الأخيرة في الفردنة وتأكيد الذات والاعتراف الاجتماعي. في هذا السياق، أصبح التدين السلفي يشكل مجالاً للتحرر من بنية التنشئة الاجتماعية وأسر التقاليد وقبضة العادات والممارسات السلطوية، وأضحى حقلاً لتشكيل الهوية الفردية على أساس ديني لا يقبل التفاوض والتأويل في مسائل الدين، ومن ثمة فإنه يأخذ شكل التزام شمولي يُغطي جميع مناحي الحياة اليومية (قواعد اللباس، أنماط السلوك، طبيعة العلاقات والتفاعل الاجتماعي، أنشطة أوقات الفراغ … إلخ).
إن انخراطنا في الحقل السوسيولوجي وبمنهج كيفي (استناداً على عينة قوامها ثمانية وأربعين مقابلة فردية مع السلفيين ذكوراً وإناثاً) قد أسعفنا في الوقوف على سيرورة تشكل الهوية السلفية من خلال فكرة مفادها أن الالتزام الديني السلفي يقف على أطراف وتخوم الهوية الذاتية للفرد الملتزم، حيث يصبح طرفاً في بنائها وإعادة تشكيل معالمها؛ وكل لبنة تنضاف لصرح الهوية الذاتية تكون على حساب لَبِنات الماضي، الشيء الذي يُسقط الذات في مقايضة هوياتية شاملة. وكانت عملية فهم هذه السيرورة الهوياتية بالنسبة لنا مرتبطة بفكرة مفادها أن التدين هو كاشف عن “عقلانية الفاعل”، بلغة ماكس فيبر، التي يجب ضبطها وتفسيرها (دوافع، أهداف، توقعات، معتقدات، خبرات، تجارب، حوافز، رهانات، مصالح، إلخ.).
لقد اشتغلنا على محاولة فهم عملية انتقال السلفيين من هوية منفتحة، ناعمة ومتعددة (هوية الماضي قبل الالتزام) إلى هوية منغلقة، خشنة وشمولية (هوية الحاضر بعد الالتزام)، أي تبيان كيف يتحول الانفتاح إلى انغلاق وكيف تصبح الاستقلالية والحرية الفردية حفارة قبر نفسها من خلال الالتزام الديني الشمولي الذي تؤدي إليه. تقوم فرضيتنا في هذا الباب على فكرة قوامها أن الالتزام الديني لدى السلفيين يكشف عن البعد الإنجازي (Performatif) للهوية الدينية التي يسمح التدين السلفي بتشكيلها اجتماعياً وسيكولوجياً وبإعادة تفعيلها وإنتاجها خطابياً وثيولوجياً. وتعتبر الهوية الإنجازية من هذا المنطلق هوية شمولية بالأساس، لأنها تستند على البعد الطهراني والجوهراني (Piétiste et Essentialiste) للذات، والذي يأخذ منحى دينياً من خلال الالتزام الديني في شكله السلفي باعتباره المثال الأعلى لهذا الأخير.
ومن بين أهم الفرضيات التي تأكدت لدينا اعتماداً على البحث الميداني هو أن التدين السلفي ما يزال يتأرجح ما بين الإيديولوجيا ونمط العيش، بحيث أصبح يلعب دوراً مزدوجاً: فهو من جهة فهو كاشف أو مترجم للواقع السيكولوجي والاجتماعي والمعيشي للفرد الملتزم الذي يكتفي بالتزامه السلفي كنمط عيش، ومن جهة أخرى فهو مصدر للتغيير السلوكي والبناء الهوياتي والاجتماعي لدى الفرد الملتزم الذي يجد في الانخراط الجمعوي أو الإيديولوجي السلفي فرصة لضمان الانسجام الهوياتي والاستقرار السيكولوجي والاعتراف الاجتماعي. نشير في هذا الإطار إلى أن السلفية تتحول إلى إيديولوجيا في مرحلة متقدمة بعدما يصير التدين السلفي نمطاً للعيش؛ وتلعب آنذاك دوراً حجاجياً لإقناع الآخر من جهة، وضمان استمرارية الالتزام الديني من جهة أخرى. ويسعفنا هذا الدور المزدوج في فهم تعدد أشكال التدين السلفي (العلمي والسياسي والدعوي والجهادي والتكفيري…) ومستوياته الهوياتية (الانفعالية والطقوسية والاعتقادية والخطابية والشمولية) التي ترتبط، علاوة عن التأويلات المتعددة للإسلام، بزمنية الالتزام الديني (التزام قصير الأمد والتزام طويل الأمد)، وبطبيعة الاستقلال الفردي (استقلالية قبلية، أي قبل الالتزام الديني، واستقلالية بعدية، أي بعد الالتزام الديني). نشير في هذا الإطار إلى أن عملية الخروج من السلفية (Processus d’exit)، بالنسبة للأفراد الذين لم يعودوا يعتبرون أنفسهم سلفيين خطاباً وممارسة، مرتبطة بزمنية الالتزام الديني، حيث نجد أن أول مستوى من مستويات الخروج من التدين السلفي يتوافق بنسبة كبيرة مع المستوى الهوياتي الأول، ويكون القاسم المشترك هو البعد الاجتماعي والسيكولوجي لعملية الخروج، وذلك قبل أن يأخذ شكلاً دينياً سواء من خلال تبني تأويل جديد للخطاب الديني أكثر انفتاحاً أو عن طريق التحول الديني (Conversion)، كما قد يأخذ في بعض الأحيان شكل خروج كلي من الدين (Désengagement religieux).
هناك من ناحية الجنس/الجندر تباين واختلاف بين التدين السلفي لدى الذكور والتدين السلفي بصيغة المؤنث، حيث كثيراً ما يكون التدين السلفي لدى الإناث فرصة لبناء شخصية مستقلة ومحترمة وضمان استقرار نفسي واعتراف اجتماعي، ونتحدث هنا عن نمط الفردنة والاستقلالية المرغوب في اكتسابها (Revendication de l’autonomie). بينما نجد لدى الذكور عموماً ميلاً إلى التدين السلفي باعتباره تعبيراً عن استقلاليتهم في أشكال اجتماعية معترف بها ولها سند ديني، ونتحدث هنا عن نمط الفردنة والاستقلالية المتاحة والمراد ترجمتها دينيا .(Expression de l’autonomie) وغالباً ما نجد لدى الذكور انخراطاً ايديولوجياً ومؤسساتياً (جمعيات وأحزاب ومنظمات ونقابات ونوادي، إلخ.) يتم من خلاله ترجمة البعد الاستقلالي لهوياتهم قبل الالتزام، بينما نجد لدى الإناث اكتفاء بالتدين السلفي الطقوسي كنمط عيش لاكتساب هوية مستقلة ومعترف بها. إن الهوية السلفية بصيغة المؤنث هي هوية متعددة ومتنوعة، لأنها ترتبط بالسياقات الاجتماعية والنفسية والأسرية، ورغم أن الظاهر واحد (ارتداء النقاب أو الخمار) إلا أن سيرورة بناء هذه الهوية هي سيرورة معقدة يتداخل فيها الاختياري والقسري، الإيماني والوجودي، الاجتماعي والنفسي. يتعلق الأمر إذن بهوية سياقية تنخرط في إطار تجربة اجتماعية ووجودية يعيشها الفرد. ولعل القاسم المشترك بين النساء السلفيات هو أن عملية ارتداء النقاب أو الخمار لا تكفي في نظرهن ليصبحن سلفيات حقيقة، حيث يقتضي الأمر ترجمة ما تنطوي عليه الهوية السلفية في شموليتها والعمل على الالتزام به على المدى الطويل طقساً وسلوكاً وتشريعاً.
أصبح الالتزام الديني إذن كاشفا عن البناء الفردي والبعد الاستقلالي للفرد، ولم يعد فقط نوعا من الخضوع القسري واللاإرادي. وتكشف لنا هذه العودة إلى التدين من خلال الالتزام الديني وجها من أوجه ما يسميه آلان إغنبرغ “الذات المُنهكة من كونها ذاتا” (Alain Ehrenberg, La fatigue d’être soi: dépression et société, Paris, 1998)، أي من كونها ذاتاً حرة لها الاختيار دون أي قيود. وهذا يعني أن تعدد الخيارات وتعقدها يؤدي، وفقاً لمحددات سوسيولوجية، إلى عدم الرغبة في الاختيار بالمرة، تفعيلاً لعملية الانتقال من الفرد الضائع، اللايقيني والمتعدد الهويات إلى الفرد المستقر والثابت والمعترف به داخل المجتمع، وذلك من خلال البحث عن هوية جاهزة وسريعة المفعول. وغالباً ما تكون أهم ميزات هذه الأخيرة هي الثبات والوضوح والبساطة واليقين والشمولية، وهذا ما يقدمه الدين في شكل التدين السلفي من خلال ثلاثة مقومات رئيسية، هي: القطع مع هوية الماضي، وتأكيد هوية منسجمة وثابتة، والاتساق والانسجام بين الخطاب (المعتقد) والممارسة (الطقوس).
دراسة بالغة الأهمية، باعتماد مداخل علمية رزينة وموفقة، خاصة أمام النقص الحاصل في طبيعة الدراسات الجادة. نتمنى التوفيق لصاحبها