الخميس , 15 مايو, 2025
إخبــارات
الرئيسية » بإيـــجاز » المشاعر والسياسة

المشاعر والسياسة

حسن طارق، ما الذي تركته المشاعر للسياسة؟  مقالة في القبائل الحزينة، منشورات باب الحكمة، تطوان، 2025.

يبادر حسن طارق بهذا الكتاب لإقحام قارئه في قلب انشغالات “منعطف المشاعر”، وهو التحول الذي عرفته العلوم الاجتماعية منذ ثمانينات القرن العشرين، معترفا بالمشاعر كمتغير حاسم لفهم السياسة، وهو التخصص الأكاديمي للكاتب. لا تخلو هذه المبادرة من جرأة شجاعة من طرف صاحبها، فمنعطف المشاعر يبدو غريبا في حقل العلوم السياسية في جامعاتنا التي لا تزال تنبذه، بالرغم من أن هناك اعتراف ما فتئ يتقوى على الصعيد العالمي بأن فصل المشاعر عن التحليل السياسي لا يخلو من تعسف نظري. وفي نفس الوقت، فإن مقاربة المشاعر، رغم جِدتها النسبية كموضوع يحظى بالمشروعية العلمية من طرف مؤسسات دراسة السياسة، تتطلب التفاعل مع كم كبير من الكتابات التي صدرت خارج المغرب، وجلها بلغات غير العربية. وتوظيف هذه الكتابات يشترط بالتالي معرفة الباحث بلغات أجنبية، واستعداده لتجاوز التقوقع في حدود المراجع المتداولة في حقل العلوم السياسية، واجتهاده في اكتشاف تخصصات جديدة والاستئناس بثمراتها.

يُقنع نص حسن طارق قارئه بأنه تحمل هذه المهام المضنية، وأنه بذلك يغني المكتبة المغربية بنص متميز بسبقه واجتهاده في تقديم خلاصات تركيبية موفقة لما توفر له من كتابات رائدة في دراسة المشاعر، بعضها يصنف كنصوص مؤسِّسة لهذا المنعطف الذي أصبح يعد من بين المنعطفات الأكاديمية الأكثر بروزا في حقول العلوم الاجتماعية والإنسانية، على غرار المنعطف الثقافي والمنعطف اللساني والمتعطف التأويلي. وهي جميعها تحولات تتطلب أن ينتبه إليها البحث الجامعي في جامعاتنا لما توفره من آفاق للاكتشاف والتجدد والابتكار.

لا تقف مساهمة نص حسن طارق في التعريف بقراءات، لا يمكن إلا أن تكون محدودة، لما أُنجز حول المشاعر كموضوع سياسي، بل عمَل بالإضافة إلى ذلك، على توظيف خلاصاته كباحث في علم السياسة، لتحليل السياسة في المغرب.

يُعبّر العنوان الفرعي لمقالة طارق “القبائل الحزينة” عن عصارة استنتاجاته التي لن أتعسف في هذا التقديم بتكرارها، والتي لا أشك في أن جِدتها ستثير نقاشات متباينة.  أكتفي بالإشارة إلى أن وضع المشاعر كمتغير مستقل في تفسير السياسة في المغرب من منطلق العلوم السياسية سيثير بالتأكيد حفيظة المتشبثين بالبنيوية وبعقلانية الفاعل السياسي، وحفيظة الذين لا يعتبرون المشاعر، حينما يودون الإشارة إليها، إلا كزاوية منسية لا تستحق أي عناية كما يذكر حسن طارق. قد لن تختلف ردود فعل مماثلة في المغرب، إذا وُثقت، عن النقاشات التي أثارها ولا يزال منعطف المشاعر على المستوى العالمي. إلا أن مبادرات التجديد في بلادنا تظل مشاريع فريدة منعزلة، ولا تتحول إلى تيارات فكرية تدعمها مؤسسات البحث العلمي، وتتلقفها دور النشر، وتتبناها شعب التخصصات الأكاديمية كمواد ومسالك دراسية. ليس هناك ما يلمح إلى أن وضعية البحث والباحث في بلادنا مقبلة على تغيير يذكر، ولكننا كجامعيين، مدعوون، كشكل من النضال الثقافي، إلى التعريف بالمبادرات الجدية المجددة، والدعوة إلى وضعها على محك التقييم والتجربة والنقد. أحد أهم عناصر هذا المحك هو السعي للإمساك بالسياقات الفكرية والسياسية التي أفرزت المنعطفات، منعطف المشاعر في حالة نص حسن طارق، والسياقات التي تدعو لتبنيه في حالة المغرب.  هذه العملية ستجعل من تقييم تجريب منعطف جديد، تمرينا نظريا ومنهجيا ناضجا، عوض الاكتفاء بنقل المنعطفات في انسياق متسرع لموضة فكرية مؤقتة.

من جهتي، أنا مقتنع بقيمة منعطف المشاعر كمدخل لا أشك في أنه سيعمق فهمنا للسياسة كموضوع وكممارسة. لكن هذه القناعة، التي أشترك مع طارق فيها، ليست إلا بداية تحديات ضخمة. أولاها الغنى الهائل لبيبليوغرافيا المشاعر السياسية، التي ستفرض على الباحث فيها، وبشكل منعزل، أن يظل محصورا فيما توفره له إمكانياته الفردية من نصوص مهما جد واجتهد. لا حل لهذا التحدي بالنسبة للباحث، في المغرب أو غيره، إلا أن يترك مقارباته واستنتاجاته قابلة للانفتاح باستمرار على ما يُنشر بدون توقف وما يصله من الإصدارات باللغات التي يتمكن منها. التحدي الآخر يتعلق بالحاجة التي يتطلبها كل بحث للحسم في الخيارات التي تتبناها الدراسة حتى ولو كان هذا الحسم مؤقتا. حسن طارق اختار تبني المشاعر الحزينة لقبائل الهويات المتطاحنة، وعلى القارئ أن يحكم على ما يقدمه الكاتب من دعائم لأطروحته.

ستكون موضوع مساءلة بدون شك، حَصْر اهتمامات حسن طارق في المشاعر الحزينة التي حددها في الخوف والكراهية والاشمئزاز والاستياء، وتجنبه الخوض في المشاعر السعيدة كالحب والرحمة والإخلاص، أو التضامن على غرار ما قام به محمد سعدي مثلا في كتابه عن ديناميات الهوية الاحتجاجية في حراك الريف، وهو الكتاب الذي يعد بدوره مساهمة مغربية رائدة في اقتحام عالم المشاعر السياسية. لكن إحدى ميزات حسن طارق هي الكشف عن ذاتيته بصراحة نادرة في الكتب التي تتصور أن الذاتية متنافية مع الرصانة العلمية. يبرر حسن طارق وقوفه في حدود المشاعر الحزينة بالواقعية المتنافية مع المثالية التي أكسبتها إياه معاينته لواقعه السياسي، كما أنه لم يحسم بشكل قطعي في مسائله، بل يختم الكتاب بدعوة القارئ إلى المساهمة في معالجة مشاعر الكاتب الحزينة.

أنهي بأن ما فهمت مما يقترحه حسن طارق من مسالك لتجاوز ما يعتبره مخاطر المشاعر الحزينة، والتي حددها في الحاجة إلى الدولة لتدبير سياسي محنّك لهذه المشاعر، والحاجة للفلسفة والجامعة كملاجئ لحوار عقلاني بارد، كدعوات، هي في نهاية الأمر لنبذ المشاعر كلية، عوض الخوض في غمارها ومتابعة التحولات التي تشهدها والبحث عن سبل لمواجهات مثيرة قد تكون بناءة، بين المشاعر الحزينة والمشاعر السعيدة. ولذلك استنتجت، ربما عن فهم متسرع، أن حسن طارق ما أن دعانا لاقتحام منعطف المشاعر بشجاعة، حتى قادنا لمغادرته، والهروب بجلدنا من مخاطره.

- عبد الحي مودن

أستاذ جامعي وباحث في العلوم السياسية

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.