رحال بوبريك، تجار العبيد. الروافد والسياقات والأنماط، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2023.
تتميز كتابات رحال بوبريك بصرامتها المنهجية، وجرأتها النظرية، وشمولية مقارباتها. وهي تسعى في المقام الأول إلى فهم سيرورات تشكل المجتمع، والإحاطة ببنياته وتحولاته، مستفيدة من الإمكانات الهائلة التي تتيحها عملية التداخل بين التاريخ وباقي العلوم الإنسانية وفي طليعتها الأنثروبولوجيا. والواقع أن هذه الكتابات تعكس الدينامية التي تشهدها الكتابة التاريخية المغربية في العقود الأخيرة لا سيما في حقل التاريخ الاجتماعي، حيث ظهرت أعمال قوية عملت على إخراج البحث التاريخي من المقاربة الأرشيفية الدفاعية وفتحه على التفسير، وبهذا الصدد نستحضر على سبيل المثال لا الحصر أعمال عبد الرحمان المودن، وعبد الأحد السبتي، ومحمد حبيدة.
ويشكل كتاب رحال بوبريك تجار العبيد. الروافد والسياقات والأنماط التجسيد الأمثل لما سبق ذكره أعلاه. فعلى امتداد صفحاته التي يبلغ عددها 366 ينخرط رحال بوبريك في حفريات مطولة لفهم تجارة العبيد والعبودية في شمال إفريقيا بما في ذلك المغرب، مستندا إلى الزمن الطويل الساعي إلى تحديد الثوابت والمرجعيات الاجتماعية والثقافية، وكذا إلى المجال الممتد والشاسع الذي يتيح تتبع مسار تطور تجارة العبيد والعبودية. وهكذا فقد كشف عن الجذور التاريخية والروافد بدراسة السياقات التي صاحبت بداية تجارة العبيد في شمال إفريقيا، وغرب إفريقيا في العصر الوسيط. كما بين كيفية انتظام أسواق العبيد انطلاقا من حالة المغرب في القرن التاسع عشر وآليات اشتغالها بوصف بعض أسواق العبيد بالمدن الكبرى مثل: مراكش وفاس. وعلى مستوى آخر، أوضح موقف سلطات الحماية الفرنسية من تجارة العبيد والعبودية الذي تميز بالازدواجية، فمن جهة عملت على إلغاء تجارة العبيد بالمغرب استجابة لضغوط الجمعيات الغربية، ومن جهة أخرى تغاضت عن استمرارها بشكل سري تحت إشراف الأعيان القبليين والنخبة المخزنية.
على العموم، لن نعمل على إنجاز قراءة شاملة تقريرية في الكتاب المذكور أعلاه، بل ارتأينا أن نخوض فيه عن طريق رصد إشكاليات تتقاطع مع اهتمامنا، وذلك تفاديا لكل قراءة اختزالية قد تدفع القارئ المستعجل إلى الاستغناء عنه والاكتفاء بالملخص الجاهز، وكذا سعيا منا إلى بناء تفاعل منتج من شأنه فتح آفاق تفكير جديدة في بعض القضايا المشتركة.
أولا: تجارة العبيد والعبودية: بين الصور النمطية والنظرة النقدية
ارتبط موضوع تجارة العبيد والعبودية بالمغرب بما نسجته الذاكرة الجماعية من صور قاتمة حُبْلى بالمغالطات عن الأشخاص ذوي البشرة السوداء أو السمراء في المجتمع المغربي، وهو ما تجسده الأمثال العامية والحكايات الشعبية والمصطلحات المستعملة في وصفهم في الإسطوغرافيا التقليدية ووثائق الأرشيف، التي تعكس بالأساس خطابا تحقيريا يروم التقليل من مكانة فئة اجتماعية لطالما برهنت على أهميتها داخل المجتمع. وبطبيعة الحال فإن فهم مستويات هذا الخطاب، وتحليل عناصره، وتحديد الفاعلين الأساسيين فيه، يستدعي تنويع زوايا القراءة التي ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار الجوانب التاريخية والاجتماعية والأنثروبولوجية. ومن المفيد أن نشير هنا إلى وجود بعض الأصوات التي حاولت تجاوز النظرة التقليدية لموضوع العبيد والعبودية بالدعوة إلى التشبث بمبادئ الدين الإسلامي الذي يوصي بالتآزر والتضامن ونبذ كافة أشكال التفرقة بين أفراد المجتمع.
وعلى مستوى الكتابة التاريخية المغربية، ذكر رحال بوبريك أن البحث في موضوع تجارة العبيد والعبودية لا يزال في طور التشكل. فهناك عدد قليل من الأبحاث والدراسات التي سلطت الضوء على هذا الموضوع، لعل أبرزها أبحاث محمد الناجي وعبد الإله بلمليح وفايزة الطنجي وشكري الهامل ودانييل شروتر (Daniel Schroeter). وفي هذا الصدد أيضا لا بأس من أن نذكِّر بتنظيم بعض الندوات مثل: “ندوة الرق في تاريخ المغرب” بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة سنة 2010، والندوة الدولية المنظمة بمراكش سنة 2007 تحت عنوان: “التفاعلات الناتجة عن تجارة الرقيق والرق في العالم العربي الإسلامي”.
ولعل هذه الندرة في الكتابة التاريخية ترجع في المقام الأول إلى طبيعة الموضوع الذي يندرج في دائرة المسكوت عنه أو الطابوهات لما قد يحدثه من تشنجات اجتماعية، وكذا لتعارضه مع السياق العام الراهن للعلاقات بين المغرب وبلدان السودان الغربي. فأغلب الأبحاث المنجزة من قبل الباحثين المغاربة حول تاريخ دول جنوب الصحراء، ركزت على عناصر الاتصال والترابط بين الطرفين خاصة على المستوى الديني، متجاهلة كل عناصر الانفصال والتنافر التي من شأنها إحياء جروح الماضي.
وإذا انتقلنا إلى مقاربة هذا الموضوع في مجتمعات السودان الغربي، فإننا نلاحظ أنه يقترن بذاكرة جماعية تركز اهتمامها بالأساس على فظائع تجارة العبيد الأطلنتية، فهي تحمل الأوروبيين مسؤولية ما تعرض له الأفارقة من تهجير قسري واستغلال بشع في المناجم ومزارع قصب السكر بالعالم الجديد. وفي هذا الإطار نشير إلى أن رئيس غانا نانا أكوفو أدو (Nana Akufo-Addo) قد دعا في سنة 2022 الأوروبيين إلى تقديم تعويض مالي للدول الإفريقية تكفيرا عن مسؤوليتهم التاريخية في استعباد ملايين الأفارقة عبر تجارة الرقيق الأطلنتية. وتنظم سنويا العديد من التظاهرات في مناطق مختلفة من العالم لإحياء ذكرى تجارة العبيد بغية الضغط على الدول الأوروبية للاعتراف بالأعمال الشنيعة التي ارتكبت ضد الأفارقة السود. بيد أن ما يثير انتباهنا هو محاولة هذه الذاكرة تجاهل العبودية الداخلية بما في ذلك تجارة العبيد بين السودان الغربي والعالم الإسلامي، بل إنه حتى في حالة تناولها يتم التقليل من أهميتها باعتبارها كانت مجرد عبودية تتصل بالمجال العائلي.
وفي المقابل، احتل موضوع تجارة العبيد والعبودية مكانة بالغة الأهمية في الكتابات الغربية، التي لم تدخر جهدا في ترسيخ الصور النمطية والأحكام المسبقة المشبعة بالنزعة الاستشراقية. وعلى سبيل المثال نذكر كتاب طوماس فويل بكستون (Thomas Fowell Buxton) الذي نُشر سنة 1839م بعنوان: تجارة العبيد الإفريقية، فهو يعتبر أن الإسلام مصدر الاستعباد والاستبداد والمسؤول الرئيس عن فظائع العبودية بإفريقيا. كما نذكر كتاب موراي كوردون (Murray Gordon) العبودية في العالم العربي، الصادر سنة 1987م والذي شدد على قدم العبودية بالعالم العربي.
يبدو جليا أن هدف هذا النوع من الكتابات الغربية هو التقليل من المسؤولية التاريخية للأوروبيين في ما عرف بـ “فظائع تجارة العبيد الأطلنتية”. والظاهر أنها نجحت إلى حد ما في التأثير في عدد لا بأس به من الباحثين الأفارقة الذين تبنوا تصوراتها كما هو الحال بالنسبة للباحث السنغالي تيديان ندياي (Tidiane N’Diaye)الذي ألف كتابا بعنوان الإبادة الجماعية المحجوبة، الصادر سنة 2017، وهو كتاب يتضمن نقدا لاذعا لما يسميه “الرق العربي الإسلامي”، فقد وصفه بالعمل الشنيع الذي لا يقل بشاعة عن إبادة اليهود من قبل النازية، بل إنه يعتبر أن تجارة العبيد العربية الإسلامية كانت أشد قسوة على الأفارقة مقارنة بنظيرتها الأطلنتية، لأنها تسببت في قتل عدد كبير منهم جراء التعذيب الشديد وظروف التنقل القاسية والمعاملة السيئة.
إلى جانب هذه الكتابات المغرضة، برزت بعض الكتابات الأوروبية التي عالجت موضوع تجارة العبيد والعبودية من منظور موضوعي محايد مستند إلى المنهج العلمي الرصين، كما هو الحال بالنسبة لكتابات الباحث رالف أوستن ((Ralph Austen المختص في التجارة الصحراوية في التاريخ العالمي، ونخص بالذكر هنا مقاله حول تجارة العبيد العابرة للصحراء الذي ارتكز على المنهج الكمي، إذ استعرض بحذر بعض الإحصائيات المتعلقة بهذه التجارة، مشددا على صعوبة مقارنتها بتجارة الرقيق الأطلنتية.
كيفما كان الحال فإن ما قام به رحال بوبريك من استحضار للمنجز الإسطوغرافي في موضوع تجار العبيد العابرة للصحراء، لم يكن الغرض منه ملء الفراغ، بل إنه يندرج في سياق تشييد البناء النظري وصياغة الأدوات المفاهيمية لكتابه، وهو ما أكسبه عمقا نظريا ومتانة منهجية. والملاحظ أن المُؤَلِّف قد حظي بهامش تحرك أكثر اتساعا ومرونة في تنظيم أفكاره وضمان انسيابها بشكل سليم، فهو يتحاور مع تصورات نظرية مختلفة، ويستعرض خطابات متعددة، تضع المتلقي في صلب الظاهرة الاجتماعية المدروسة. والواقع أن هذا العمل يعكس تصور رحال بوبريك للبحث التاريخي الذي ينبغي أن ينحو منحى تركيبيا من شأنه توسيع زاوية نظر الباحث في أفق مراجعة المسلمات وصياغة الفرضيات وتجديد مسارات الفهم والتأويل.
ومن الجوانب المهمة التي حاول رحال بوبريك تجاوزها في هذا الكتاب، المقاربة الدفاعية التبريرية المفتقرة إلى النظرة النقدية والصرامة المنهجية. وهي مقاربة هيمنت مدة طويلة على جل الكتابات العربية الإسلامية التي أنجزها الباحثون المحليون، وكان لها إسهام كبير في تعميق المغالطات وترسيخ الصور النمطية حول تجارة العبيد والعبودية بالعالم الإسلامي. فعوض مناقشة الكتابات الغربية ذات النزعة المغرضة بالحجج والأدلة العلمية المنبثقة عن البحث الأكاديمي الرصين، اختارت هذه الكتابات الهروب إلى الأمام وتوجيه منظارها إلى بعض القضايا الفرعية التي اعتقدت بأنها أدلة ناجعة للدفاع عن الدين الإسلامي.
وهكذا تبنى رحال بوبريك مقاربة نقدية سعت إلى محاورة الأعمال الغربية قصد الكشف عن عناصر قوتها وضعفها. فعلى مستوى الأدوات المفاهيمية عمل على مناقشة مفهومي “مجتمعات العبودية” و”مجتمعات بعبيد”، وهما المفهومان الأكثر استعمالا في الدراسات الغربية التي تناولت تجارة العبيد والعبودية بالعالم الإسلامي. ومن المعلوم أن هذين المفهومين قد ارتبطا بالمؤرخ موزس فينلي (Moses Finley) المختص في التاريخ القديم، الذي اعتمد في نحت مفهوميه على محددات متعددة، يعتقد رحال بوبريك أنها تنطلق من المركزية الأوروبية ولا تنطبق بأي حال من الأحوال على المجتمعات العربية الإسلامية. لذا فقد بادر إلى وضع تعاريف إجرائية تتعلق بموضوع تجارة العبيد، وتستند إلى محددات موضوعية تراعي خصوصيات العالم الإسلامي ومجتمعاته المحلية.
من جهة أخرى، شدد رحال بوبريك على ضرورة توخي الحيطة والحذر في التعامل مع الإحصائيات المتعلقة بتجارة العبيد بالعالم الإسلامي، لأنها ببساطة خضعت للتضخيم، خاصة من قبل الدراسات الغربية ذات النزعة الاستشراقية. وهو أمر أكده أيضا أوستن الذي كان سباقا إلى استعمال المنهج الكمي، وهو يعترف بصعوبة تقديم إحصائيات مقارنة بتجارة الرقيق الأوروبية الأطلنتية بسبب غياب الكنانيش والوثائق التجارية التي توفر معلومات دقيقة عن هذه التجارة من حيث الجنس والعدد والأثمان ومكان الانطلاق. ومن الجدير بالذكر أن جون لوي مييج (Jean–Louis Miège) أثار المسألة نفسها في دراسته لتاريخ المغرب، فقد أشار إلى صعوبة تحديد أهمية العبيد السود في التجارة الصحراوية الواصلة إلى المغرب؛ لأن أغلب المعطيات المتوفرة بهذا الصدد هي مجرد تخمينات قدمها القناصل والرحالة الأجانب.
وبصفة عامة، استخلص رحال بوبريك أنه من الصعب مقارنة تجارة العبيد العابرة للصحراء بنظيرتها الأطلنتية، لأن تجارة الرقيق ظلت عرضية وعدد العبيد كان قليلا، وذلك لأن القوافل التجارية لم يكن هدفها جلب العبيد فقط، بل كانت تجلب مواد أخرى مثل الذهب والملح والعاج وريش النعام. ومن ثم فإنه ليس من السهل القول بأن هذه التجارة كان لها تأثير كبير على التوازن الديموغرافي للأفارقة أو في بنية مجتمعهم. بمعنى آخر فهو يرى أن توظيف المنهج الكمي في التجارة العابرة للصحراء من قبل بعض الدراسات الغربية لم يكن مبنيا على أسس علمية، وإنما اعتمد على التخمين والمعرفة السطحية بخصوصيات ساكنة إفريقيا وديموغرافية إثنياتها. ولا نستبعد أن ذلك كان استجابة لطلب الرأي العام الخاضع لتأثير اتجاهات متحاملة على الإسلام والمسلمين.
لم يتوقف رحال بوبريك عند ما كتبه الآخر عن تجارة العبيد، بل سلط الضوء على تصورات الباحثين في مجتمع العبيد أو ما أسماه “مجتمع المنهوبين”. وهكذا فقد أشار إلى أن جلهم ركزوا على تجارة العبيد الأطلنتية، التي حظيت بأبحاث كثيرة ومستفيضة، وقد يعود ذلك إلى غزارة المعطيات والإحصائيات التي توفرها الوثائق التاريخية المتعلقة بهذه التجارة، والتي تتماهى في نهاية المطاف مع السرديات الكبرى للذاكرة الجماعية الإفريقية. بيد أن هذا الأمر لا ينبغي أن يغيب عن بالنا بعض الأسئلة الملحة من قبيل: لماذا أغفل أو تجاهل الباحثون الأفارقة العبودية داخل المجتمعات الإفريقية وما يرتبط بها من تجارة العبيد العابرة للصحراء نحو شمال إفريقيا وشبه الجزيرة العربية؟
يبدو أن الإجابة عن هذا السؤال ليست بالأمر الهين، لأنه لا يخلو من حساسية، لكن ذلك لم يمنع رحال بوبريك من خوض تجربة التحري والتقصي وفق شروط البحث الأكاديمي الرصين. من هذا المنطلق فهو يعتبر أن جدار الصمت الذي يحيط بهذا الموضوع مرتبط برغبة الباحثين الأفارقة في إخفاء مساهمة جزء من المجتمع الإفريقي في تكريس تجارة العبودية، ذلك أن عناصر محلية من المجتمع الإفريقي كانت متخصصة في أسر الأفارقة وبيعهم للتجار الأجانب سواء المسلمين أو الأوروبيين، ومن ثم فقد كان لها دور كبير في نشأة تجارة العبيد الأطلنتية والعابرة للصحراء وتطورها. وفي هذا الصدد أيضا أوضح رحال بوبريك أن عملية الأسر لم تكن عشوائية أو اعتباطية، بل كانت تخضع لتنظيم محكم بإشراف مباشر من أمراء حرب ينتمون إلى النسيج الاجتماعي المحلي.
ثانيا: العبيد في المجتمع المغربي إبان حقبة ما قبل الحماية
من الجوانب المهمة التي ركز عليها هذا الكتاب وضعية العبيد السود في “مجتمع المشترين”، مع التركيز بشكل خاص على المغرب الذي شكلت أسواقه نهاية مسار تجارة العبيد العابرة للصحراء، بحيث كان هدف هذه التجارة هو تلبية الطلب الداخلي. بالمقابل كانت تجارة العبيد العابرة للصحراء عبر الطريق الأوسط والشرقي تهدف بالأساس إلى تزويد أسواق الشرق الأوسط وتركيا وأوروبا بالرقيق الأسود. ونشير هنا إلى أن عدد العبيد الواصلين إلى المغرب كان ضعيفا، لكن انطلاقا من أواسط القرن التاسع عشر إلى حدود بداية القرن العشرين، تزايد عدد العبيد السود بالمغرب. ويبدو أن هذا الانتعاش الذي شهدته الطريق الغربية لتجارة العبيد العابرة للصحراء قد ارتبط بإلغاء الرق في الجزائر وتونس وليبيا.
ومن المعروف أن العبيد السود كانوا عناصر اجتماعية لافتة للانتباه في المجتمع المغربي منذ قرون لا سيما النساء منهم، فقد كان حضورهن قويا في الحياة اليومية للمجتمع المغربي، ذلك أنهن كن يؤدين مهام كثيرة مثل الطبخ وتنظيف البيت وتربية الأبناء، أما العبيد الذكور فقد ارتبطوا أساسا بالقصور السلطانية، وبخاصة الخصيان الذين كانوا يشترون بطلب خاص من السلاطين. لكن من المهم أن ننبه إلى أن امتلاك العبيد بالمغرب في مرحلة ما قبل الحماية لم يكن في استطاعة جميع المغاربة، وإنما اقترن بفئات اجتماعية معينة. وهو ما يدفعنا إلى طرح بعض الأسئلة من قبيل: هل كان العبيد أداة للحفاظ على تراتبية المجتمع المغربي في مرحلة ما قبل الحماية؟ وكيف كانت وضعية هؤلاء العبيد داخل المجتمع المغربي؟
في ما يخص السؤال الأول، يتضمن كتاب رحال بوبريك إشارات عديدة إلى كون هذه التجارة قد استندت إلى ممارسات اجتماعية راسخة تندرج في إطار الحفاظ على التراتبية الاجتماعية التقليدية. ذلك أن زبناء هذه التجارة، وهم بالأساس، من وجهاء القبائل ورجال المخزن (الوزير والقائد والباشا والقائد العسكري) وأعيان المجتمع الحضري، قد عملوا على التشبث بمكانتهم الاجتماعية بكل الطرق والسبل، بما في ذلك استرقاق الإنسان كيفما كان جنسه أو ديانته أو عرقه. فامتلاك العبيد كان يشكل عملية غير خاضعة لوازع أخلاقي أو اجتماعي بقدر ما كانت مظهرا من مظاهر التباهي والتفاخر التي تندرج في إطار استعراض الوجاهة الاجتماعية والنفوذ. وهو ما عبرت عنه بعض الكتابات في زمن الحماية كما هو الحال بالنسبة لإدوارد ميشو بلير (Édouard Michaux -Bellaire) الذي تساءل في مذكرة مؤرخة بعام 1928 عن سياسة إدارة الحماية تجاه تجارة العبيد التي كانت غايتها الأساسية، حسب وجهة نظره، هي إرضاء “غرور الطبقات الغنية”.
سنركز في مناقشتنا لهذه القضية على المجتمع الحضري لوجود وفرة وثائقية نسبية. وهكذا نشير إلى أن المجتمع الحضري الراقي كان يبحث عن عبيد من نوع خاص غالبيتهم من النساء اللائي يستخدمن في الأعمال المنزلية أو يتخذن سراري. لذا فإن بعض السماسرة والوسطاء كانوا يعملون على إعادة تربية الإماء لرفع أثمانهن، وهكذا فقد حرصوا على تعليمهن مهارات الطبخ والموسيقى والغناء والرقص.
وإذا أخذنا المجتمع التطواني في القرن التاسع عشر نموذجا، نلاحظ أن المصادر التاريخية تزودنا بمعطيات مهمة حول تجارة العبيد، فهي تسلط الضوء على بعض جوانب هذه التجارة التي كانت نشيطة داخل المدينة بفعل الطلب الكبير لعائلات الأعيان على الإماء. والظاهر أنهن كن عنصرا أساسيا في بعض الممارسات الاجتماعية التي تعكس التمايزات الاجتماعية بين مكونات المجتمع الحضري، فعلى سبيل المثال نلاحظ أن عدول المدينة قد دأبوا على ذكر الأمة في عقود نكاح الأعيان باعتبارها مكونا رئيسا من مكونات الصداق المقدم للزوجة، وهو أمر يغيب في عقود نكاح “العامة”. ففي هذا الصدد ذكر الرهوني في الجزء الثاني من كتابه عمدة الراوين في تاريخ تطاوين: “فأهل الطبقة العليا يشترطون غالبا الثياب والحلي، ولا يشترطون دراهم، فيشترطون عددا من شقق الثوب الصفيق (…) وأمة الخدمة. وربما زادوا تعمير خرصة الأذن من اللآلئ” (ص: 191).
ولعل المقاومة الشرسة التي قادها الأعيان وكبار رجال المخزن ضد محاولات إدارة الحماية التي عملت على منع تجارة العبيد بالمغرب استجابة لنداءات جمعيات غربية ومجموعات ضغط مسيحية تشكل مظهرا آخر من مظاهر تشبثهم بالوضع الاجتماعي القائم، ورفض كل ما يمس نفوذهم ووجاهتهم الاجتماعية. وهكذا فقد عملوا على تشجيع تجارة سرية للعبيد كان يتولى الأشراف عليها سماسرة ونخاسون تابعون لهم. ومن المفارقات أن إدارة الحماية نهجت أسلوب التغاضي وعدم التعامل بجدية مع هذه التجارة، بل إن هوبير ليوطي (Hubert Lyautey) كان حريصا على عدم تورط إدارة الحماية في القضاء على تجارة العبيد بشكل نهائي، لأنه كان يعتبر الرق مؤسسة من المؤسسات الاجتماعية التي تدخل في إطار التقاليد الثقافية للمجتمع المغربي التي لا ينبغي خلخلتها.
لننتقل الآن إلى السؤال الثاني المتعلق بمكانة العبيد في المجتمع المغربي في حقبة ما قبل الحماية. فقد اعتادت الكتابات التاريخية على تصنيف هذه الفئة ضمن العناصر المهمشة في بنية المجتمع المغربي، فهي تسلط الضوء على مختلف أشكال الظلم والحيف الذي تعرضت له والمتمثلة بالأساس في المهام الشاقة التي كانت تؤديها، وكذا في طبيعة التمثلات والتصورات المجتمعية المتراكمة حولها، وما ارتبط بها من ممارسات اجتماعية، إذ مُنح العبيد مكانة اجتماعية متدنية، فهم خلقوا لخدمة الأسياد، ولا يتمتعون بأدنى الحقوق الاجتماعية، بل إنهم كانوا يباعون في الأسواق إلى جانب الأنعام. والواقع أن هذه التمثلات لا تزال مستمرة إلى حدود اليوم تجاه الأشخاص ذوي البشرة السوداء والسمراء، على الرغم من اختفاء الرق وموته من تلقاء ذاته على المستوى القانوني.
إذا عدنا إلى المجتمع الحضري بتطوان في مرحلة قبل الحماية، فإننا نجد مادة تاريخية لا بأس بها بخصوص وضعية العبيد في المجتمع بدءا بالرواية الشفوية التي تؤرخ لمكانة العبيد الاجتماعية عبر مجموعة من الأمثال والحكم والأغاني والحكايات الشعبية، ومرورا بالوثائق العدلية والنوازل الفقهية والمراسلات المخزنية، وانتهاء بمواقف بعض أعلام تطوان من العبيد والعبودية. فاستنادا إلى هذه المادة التاريخية المتنوعة، نلاحظ أن النظرة إلى العبيد في المجتمع التطواني لم تختلف كثيرا عما هو سائد في باقي مدن المغرب، فقد كان مضمون كلمة العبيد يحيل على العنصر الزنجي ذي البشرة السوداء الذي خصته الذاكرة الجماعية لأهل تطوان بقدر لا بأس به من الاهتمام، فعلى سبيل المثال استعرض محمد داود في كتابه الأمثال العامية في تطوان والبلاد العربية بعض الأقوال التي تعكس مكانة العبيد في المجتمع التطواني، واللافت للانتباه أن أغلبها يحمل صورة سلبية تظهر الاحتقار والتهميش والإقصاء الذي تعرضت له فئة العبيد، على الرغم من أدوارها المهمة داخل المجتمع التطواني. ولعل ذلك مرتبط بصور نمطية يُعاد إنتاجها من قبل فئات اجتماعية مهيمنة تراهن على إضعاف الآخر وتهميشه للحفاظ على نفوذها ومكانتها داخل المجتمع. وهو ما رفضه أحد الفاعلين الأساسيين في المجتمع التطواني في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، ويتعلق الأمر بالفقيه والمتصوف أحمد ابن عجيبة الذي انتقد العبودية والممارسات الاجتماعية المرتبطة بها، مثل الطعن في إمامتهم في صلاة الجمعة والأعياد، مستندا إلى آيات قرآنية وأحاديث نبوية تستنكر التمييز بين الناس على أساس اللون.
بصفة عامة، يمكن القول إن كتابة تاريخ موضوعي للعبيد بالمجتمع التطواني في مرحلة ما قبل الحماية ليس بالأمر الهين، خاصة إذا ما ظل الباحث حبيس المادة التاريخية المحلية التي تعبر عن رهانات اجتماعية لفئة معينة، لذا نعتقد أن الخروج من هذا المأزق المنهجي الذي يهيمن فيه خطاب واحد، يستلزم طرح أسئلة جديدة وتنويع زوايا القراءة لهذه الوثائق عبر استثمار مكتسبات العلوم الإنسانية. وهو أمر من شأنه أن يعيد النظر في بعض المسلمات، فعلى سبيل المثال ينبغي أن لا نتعامل مع العبيد خاصة الإماء كفئة واحدة، بل تميزت بعضهن بمواصفات خاصة مكنتهن من كسب قلوب أسيادهن. وهكذا تورد كتب التاريخ المحلي إشارات إلى كون بعض تجار تطوان كانوا يمتنعون عن الزواج بالحرائر ويفضلون الاقتران بالإماء، لا سيما السوداوات منهن لقدراتهن الجنسية الهائلة، وعدم اعتراضهن على مرافقتهم في الأسفار الطويلة بعكس الحرائر اللائي كن يرفضن في العادة الخروج من تطوان. وفي هذا الإطار أيضا استعرض محمد داود في كتابه عائلات تطوان أسماء بعض الأعيان الذين كان لهم أولاد أو بنات من إماء مختلفات.
لا نستبعد إذن أن ما نسج حول العبيد ولا سيما الإماء السوداوات في المجتمع التطواني من صور نمطية سلبية كان محركها الأساسي هو حقد النساء الحرائر اللائي نظرن إلى هذه الإماء بأنهن منافسات قويات لهن على الرجال لقدراتهن المتعددة ومهاراتهن الفريدة. والواقع أن مثل هذه الصور نسجت أيضا حول نساء القبائل المجاورة اللائي تميزن أيضا بمواصفات جسدية خاصة جعلتهن محط إعجاب رجال العائلات التطوانية العريقة. وفي هذا الإطار نستحضر ما ذكره الحاج أحمد مصطفى (تـ 1999م) في كناشته المخطوطة أن أحد أجداده وهو محمد بن عبد السلام مصطفى، تزوج فتاة بدوية من عائلة الطويل الواد راسية، وحينما لقيه الفقيه السكيرج صاحب كتاب نزهة الإخوان الذي كان جاره في حومة العيون، قال له: “انتين يا مصطفى تطواني أندلسي وتزوجت بجبلية؟ فأجابه مصطفى: أنا اديت الزين والطول، أما شبر وقطع ما عندي غرض فيه”. فصحيح أن هذا السؤال الاستنكاري قد صدر عن السكيرج بشكل عفوي ولربما في سياق الدعابة والمرح، ونحن نعلم جيدا أن الرجل عرف بحب المزاح وكثرة البسط، بيد أننا نعتقد أنه يشكل امتدادا لممارسات اجتماعية راسخة نظرت إلى الأجنبي نظرة ريبة وشك تمهيدا لتهميشه خاصة حينما يتعلق الأمر بعناصر هشة توجد مسبقا في حالة تبعية وخضوع كما هو الحال بالنسبة للعبيد.
واللافت للانتباه أن بعض الكتابات التاريخية المتعلقة بالعبيد في المغرب قد تبنت خطابا دفاعيا عن هذه الفئة، إذ ركزت نظرتها على مختلف مظاهر الاستغلال والظلم الذي تعرضت له. والواقع أن مثل هذا الخطاب يتقاطع، ولو بشكل غير مباشر، مع الكتابات الاستشراقية، لأنه ينطلق من صور نمطية وأحكام مسبقة ليصل إلى خلاصات تعميمية، لا تضيف جديدا إلى التراكم الحاصل في دراسة تجارة العبيد والعبودية. يبدو أن رحال بوبريك كان حذرا في هذا الجانب، إذ حرص على تبني مقاربة شمولية للظاهرة، وهو ما أتاح له الخروج ببعض الاستنتاجات التي لا تخلو من مجازفة. فهو على سبيل المثال يعتبر أن تجارة العبيد لم تكن عملية تبادل للسلع فقط، بل إنها شكلت صيرورة تواصل وتفاعل ثقافي بين المغرب وبلاد السودان الغربي، نتج عنها تمازج إثني – عرقي وثقافي- فني، أخذ مظاهر متعددة لعل أبرزها موسيقى كناوة.
وعلى العموم فإن رحال بوبريك يقترح مسالك بحث جديدة في مقاربة موضوع العبيد في المجتمع المغربي قبل حقبة الحماية. فهو يحث الباحثين، ولو بشكل غير مباشر، إلى عدم الركون إلى المسلمات المتشبعة بالأحكام الجاهزة، بل يدعو إلى خلخلتها باستمرار إما بالتنقيب عن مادة وثائقية جديدة، أو طرح أسئلة عميقة مستندة إلى التراكم الحاصل على مستوى العلوم الإنسانية. فمثلا تزودنا وثائق عائلة الرزيني بمدينة تطوان بمعطيات مهمة عن وضع العبيد بتطوان تظهر اندماج بعض العناصر المنحدرة من العبيد السوداني في المجتمع الحضري التطواني إبان حقبة ما قبل الحماية. فقد ذكرت نادية الرزيني، استنادا إلى أرشيف عائلتها، بأن أحد التجار البارزين في تطوان في القرن التاسع عشر ويتعلق الأمر بسعيد جسوس الذي كان في الأصل عبدا لحدو جسوس (شغل منصب قنصل المغرب بجبل طارق ما بين سنتي 1841 و1844م)، ثم حصل على حريته في حدود سنة 1833م. ولا تستبعد نادية الرزيني أن هذا التحول في مسار سعيد جسوس قد يكون مرتبطا بالمستجدات القانونية التي شهدتها صخرة جبل طارق في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، حين أصدرت سلطات الصخرة قرارا بإلغاء تجارة العبيد والعبودية. ما يهمنا هنا هو قدرة سعيد بن حدو جسوس على الاندماج في المجتمع التطواني، فالوثائق تظهر أنه كان يزاول أنشطة تجارية بين المغرب وصخرة جبل طارق، وهو ما مكنه من جمع ثروة مالية كبيرة. ولم يتوقف نجاحه عند هذا الحد، بل إن السلطان محمد بن عبد الرحمن عينه قنصلا عاما للمغرب بصخرة جبل طارق سنة 1862م أو 1863، وقد بقي في هذا المنصب إلى غاية وفاته سنة 1889م أو 1890م.
وإجمالا يمكن القول إن رحال بوبريك بتأليفه لهذا الكتاب قد حقق مجموعة من المكتسبات، في طليعتها اقتحام موضوع لطالما اندرج في دائرة المسكوت عنه في الكتابة التاريخية المغربية لاعتبارات متعددة لعل أبرزها هاجس التأثير السلبي على مسار العلاقات السياسية بين المغرب وبعض البلدان الإفريقية. وعلى كل حال نأمل أن يحفز هذا الكتاب الباحثين على تعميق البحث في القضايا الفرعية المنبثقة عن إشكاليته المركزية باستثمار الإمكانات التي تتيحها التيارات الحديثة في التاريخ الاجتماعي مثل التاريخ المجهري، وهو أمر من شأنه أن يمنحنا صورة مكبرة لمسارات بعض العبيد والتجار، ومن ثم الاقتراب من معيشهم اليومي.
ولا يفوتنا في الأخير أن نذكر بأن صاحب الكتاب كان موفقا في مقاربته لهذا الموضوع، فهو ينقل قارئه بين سياقات تاريخية مختلفة ومجالات جغرافية متنوعة قاسمها المشترك هو تجارة العبيد والعبودية. فانطلاقا من المجتمع السوداني الذي تميز ببنية اجتماعية معقدة كان لها دور كبير في نشوء هذه التجارة، ومرورا بالتجار الذين كانوا صلة وصل بين “مجتمع المنهوبين” و”مجتمع المشترين”، ووصولا إلى الأسواق المغربية التي شكلت نهاية مسار هذه التجارة؛ يجد القارئ نفسه أمام زوايا نظر متعددة تتيح له تمثل القضية المركزية لهذا الكتاب بالشكل السليم والمشاركة في طرح الفرضيات وإعادة مساءلة بعض المسلمات. ويندرج ذلك بكل تأكيد في إطار الاختيار المنهجي لرحال بوبريك الذي اعتبر إشراك المتلقي رهانا أساسيا.
قراءات تكميلية
- أكدي (حسن)، “جوانب من تاريخ الإماء السوداوات بتطوان القرن 19م”،مجلة ليكسوس: في التاريخ والعلوم الإنسانية، العدد 45، 2022، ص. 80- 59.
- بوبريك (رحال)، “سوق العبيد تجارة الرق في مغرب القرن التاسع عشر”، مجلة أسطور (الدوحة)، العدد 44، يوليوز 2021، ص. 23 – 48.
- عينوز (عبد العزيز)، وبلفايدة (عبد العزيز)، والغرايب (محمد) (تنسيق)، ندوة الرق في تاريخ المغرب، القنيطرة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة ابن طفيل، 2010.
- El Hamel (Chouki), Black Morocco: A History of Slavery, Race and Islam, New York/Cambridge, Cambridge University Press, 2013.
- Erzini (Nadia), “Hal yaslah li-taqansut (Is He Suitable for Consulship?): The Moroccan Consuls in Gibraltar during the Nineteenth Century”. The Journal of North African Studies, 12 (4), 2007, pp. 517–529.
- Ennaji (Mohammed), Soldats, domestiques et concubines : L’esclavage au Maroc au XIXe siècle, Casablanca, Eddif, 1994.