ربما ليست أسبابا بسيطة تلك التي لا تجعلنا نولي الأهمية اللازمة لكل تلك الكتابات التي تُلحق بما ينشره الموقع من نصوص، فتكتب على حاشيته بحروف صغيرة لا تكاد ترى تحت باب :”تعليقات”. وقبل أن نحاول استقصاء تلك الأسباب لابد أن نؤكد أهمية التوقف عند هذه التعليقات، ليس بهدف الرد عليها، وإنما محاولة لتبيّن السمات التي تجمعها لتحديد مفهوم الكتابة الذي تعتمده، بل ربما مفهوم الفكر الذي تتبناه.
وفي هذا الإطار يبدو لنا أن السمة التي تطبع أغلبية تلك التعليقات هو أنها لا تحيد في معظمها عن نمطين: فهي إما تعليقات معلم يلاحظ على الكاتب قربه أو بعده عن الصواب، ركاكة أسلوبه أو بيانه، طول نفسه أو قصره..أوهي تعليقات التلميذ الذي يؤكد استفادته مما قرأ شاكرا الكاتب طالبا المزيد.
نوعان من التعليقات إذن باستطاعتنا أن نردهما إلى نوع واحد إذا اعتبرنا أنهما معا لا يخرجان عن فصل الدرس، وأنهما معا لا “يدخلان” إلى المتن، فيعتبران نفسيهما “مجرد” حاشية تعلق بالنص، مثلما تعلق ملاحظة المعلم بهامش ورقة التلميذ.
ربما أمكننا أن نعلل ذلك في البداية بما ترسخ في ثقافتنا من أن التعليق والحاشية هما دوما دون المتن. وفي هذا السياق لنتذكر ما كنا نردده، مع بعض المستشرقين، من أن مفكرينا هم في أحسن الأحوال شراح معلقون. وهكذا فعندما كنا نذهب معهم إلى الحكم على ابن رشد، على سبيل المثال، أنه كان معلقا على المعلم الأول فان ذلك كان يضمر نوعا من التنقيص، على اعتبار ما ترسخ لدينا من تمييز تفضيلي بين صاحب المتن وبين مجرد الشارح والمعلق، بين معلم “أول”، و”معلمين” يأتون بعده.
غني عن التأكيد أن الشعرية المعاصرة، بل ربما الفكر المعاصر في مجمله، لم يعد يعتمد هذه التفرقة بين من يكتب من جهة ومن يعلق من جهة أخرى، بين من يؤلف ومن يشرح، من يفكر ومن ينتقد. فما دعي موتا للمؤلف صوحب في الوقت ذاته ببعث من ظلوا ظلا له كالقارئ والناقد والمترجم والمعلق. وهكذا فربما لن نجانب الصواب إن جزمنا أن كبار المفكرين المعاصرين هم “مجرد” معلقين. لنتذكر كتابات بلانشو ودريدا وفوكو ودولوز… وعلى ذكر هذا الأخير لنذكر ما يقوله بصدد ما يمكن لنا أن نقوم به إزاء فكر معين. فالتعليق الممكن في نظره هو ما يدعوه “استمرارا في التفكير”. أن نعلق على مفكر هو أن نعمل على أن نجعل فكره يمتد، هو أن نجعل الفكر يمتد. في هذا الإطار ربما ينبغي أن نفهم تبادل الكتابة بين فوكو وداريدا، بين دولوز وفوكو، بين هؤلاء جميعهم وبين بلانشو. قد يكون من المتعذر أن نقول إن ما كتبه بلانشو في الترجمة مثلا هو “مجرد” تعليق على كتاب بنيامين، كما قد يتعذر الجزم ما إذا كان ما كتبه دولوز هو “مجرد” تعليق حول مؤلفات فوكو، أو ما كتبه هذا الأخير “مجرد” تعليق حول ما كتبه دولوز.. فنحن أمام كوكبة من الكتاب تكتب النص نفسه، كل يعمل على أن يجعل النص يمتد ويتمدد، إلى حد أنه يتعذر علينا أن نحدد من المعلق ومن المعلق عليه، من “الأول” ومن يليه، من المؤلف ومن الشارح، من الكاتب ومن الناقد…بحيث نستطيع أن نقول في النهاية ليس هناك نص أساس، ونصوص شارحة أو معلقة، وإنما هناك تعليق ça commente أو ربما ليس هناك إلا التعليق.