سفير مغربي في مدريد في نهاية القرن السابع عشر، هكذا عنون عبد الرحيم بنحادة عمله في تحقيق وتقديم مخطوط رحلة الوزير في افتكاك الأسير لصاحبها محمد بن عبد الوهاب الغساني. وقد قام عبد الرحيم بنحادة بهذا العمل أثناء مزاولته لمهام أستاذ زائر بجامعة طوكيو للدراسات الأجنبية باليابان في الموسم الجامعي 2004-2005.
وقد أتى هذا التحقيق في حلة أنيقة مستوفيا لكل الشروط العلمية والتقنية المطلوبة في مجال التحقيق، خاصة تحقيق الرحلات السفارية.
و تم نشر الكتاب سنة 2005 ضمن سلسلة دراسات في الثقافة الإسلامية، دراسات الشرق الأوسط والإسلام، منشورات معهد الأبحاث في لغات وثقافات أسيا وإفريقيا التابع لجامعة طوكيو. وقد أتى كما سبق الذكر في حلة جميلة وطبعة أنيقة في 225 صفحة بالعربية تضمنت مقدمة من 35 صفحة ومتنا من 128 صفحة إضافة إلى 44 صفحة تضمنت بيبليوغرافية التحقيق ومختلف الفهارس: فهرس الأعلام والمجموعات البشرية، وفهرس الأماكن، والمقابل باللغة الإسبانية للأماكن الواردة في النص، والاصطلاحات والتعابير العامية المغربية الواردة في النص، والألفاظ والتعابير الإسبانية المستعملة في النص وفهرس الموضوعات، كما أضيف إلى هذا العمل مقدمة باللغة الإنجليزية من 12 صفحة هي ترجمة بتصرف للتقديم باللغة العربية.
صاحب الرحلة هو محمد بن عبد الوهاب الغساني، لا نعرف عنه إلا الشيء القليل. فهو ينتمي على أسرة أندلسية استقرت بمدينة مراكش، عمل كاتبا عند السلطان في مكناس، وكانت له دراية وخبرة كبيرة بالمخطوطات والكتب ومجال نسخها. وكان ذلك من دواعي مأموريته السفارية إلى مدريد.
التحقيق:
اعتمد المحقق في إخراج المتن على 4 نسخ هي:
1- نسخة الخزانة الوطنية بمدريد وهي مبتورة البداية وهي النسخة التي اعتمدها ألفريد البستاني سنة 1939 ضمن منشورات مؤسسة فرانكو بالعرائش، وقد سبقه Sauvaire الذي قام بترجمة جزئية للمخطوط إلى الفرنسية وذلك تحت عنوان: Voyage en Espagne d’un ambassadeur marocain 1690-1691 كما قدم المخطوط ودرس من لدن العديد من المهتمين الأوربيين أمثال Stanly سنة 1868 وهنري بيريز سنة 1937 وفيرني سنة 1953 وبيرنار لويس سنة 1984.
2- نسخة الخزانة البلدية بمدينة روان الفرنسية وهي شبيهة بنسخة مدريد.
3- نسخة الخزانة العامة بتطوان وهي شبيهة أيضا بنسخة مدريد. 4- نسخة الخزانة الحسنية بالرباط وبها مقدمة سقطت من النسختين السابقتين وبها العديد من الحواشي والزيادات الهامة وهي المعتمدة من لدن محققنا حيث أدرج الإفادات في هوامشه لتساعد على فهم المضمون.
ناسخ هذه المخطوطة هو الفقيه محمد بن علي الدكالي سنة 1922، الذي قام بإغنائها بالعديد من الإفادات التي ساهمت في تدليل مواضيع المتن الأصلي وذلك من وجهة نظر مقارنة.
الرحلة:
شكلت رحلة الغساني الأولى من نوعها في المجال الإسباني. وكان الغساني يشغل منصب كاتب للسلطان ببلاط مكناس. وقد أتت سفارته بعد أن استرجع السلطان المولى إسماعيل مدينة العرائش من يد الإسبان سنة 1689. ففكر في استبدال من أسرهم من الإسبان بالأسرى المسلمين، واسترجاع الخزانة الزيدانية السعدية التي استحوذ عليها من قبل القراصنة وهي في رحلة بحرية بين آسفي وأكدير والموجودة في الإسكوريال. وهنا تكمن أهمية الغساني إذ كان عارفا بمجال الكتب والتأليف، وعليه فإن مسألة استرجاع الخزانة كانت تحتاج إلى مثقف مختص بالإضافة إلى محاور في شأن الأسرى.
خرجت سفارة الغساني من مدينة سبتة يوم 19 أكتوبر 1690 متجهة إلى جبل طارق وصلت إلى مدريد يوم 6 دجنبر 1690. وبعد مضي ما يزيد عن ستة أشهر عادت السفارة إلى المغرب في 29 ماي 1991. وعبر الرحلة تمكن الغساني من وصف إسبانيا وأهلها، فأضحى أهم المصادر الخارجية عن إسبانيا خلال القرن السابع عشر.
ويتميز الغساني، في وصفه، بدقة جعلته يرسم صورة إتنوغرافية للمجتمع الإسباني على غير عادة الرحالة المغاربة والعرب عامة. كما اهتم بقضايا أخرى لا تقل أهمية كاكتشاف أمريكا من لدن الإيبيريين والملوك الإسبان، ومحاكم التفتيش، وانفصال البرتغال، ونظام البريد، والمستشفيات، والصحافة، والمؤسسة البابوية، والعلاقات البينية الأوربية، والعلاقة مع العثمانيين، والأعياد المحلية وغيرها.
وبذلك فإن رحلة الغساني تمثل مادة خصبة للمؤرخ والمهتم بالعالم الأوربي المتوسطي خاصة المجال الإسباني ومكوناته الاجتماعية والثقافية والسياسية وعلاقاته البينية، بعين ومنطق خارجي.
وتشكل الرحلة من خلال وصفها للمجال المقابل، المجال الأوروبي نظرة نقدية لمجتمع الانطلاقة مجتمع الأنا. حيث أن كل ملاحظة هي في الأصل مقارنة مع ما يوجد في المغرب مجال انطلاق الغساني. علما بأن التشكيلة الثقافية والرمزية تفرض على هذا الأخير موقفا يموقعه في باب التفوق النظري، بحكم انتمائه إلى المجال الإسلامي وهو ذاهب إلى بلاد الحرب المجال المتدني بالضرورة وبحسب المنطق الديني الإسلامي التقليدي.
لكن عنف اللحظة، لحظة اللقاء مع المجال الإسباني ومجتمعه، يجعل السفير الرحالة يحاول تجاوز المفارقة بين النظرية الدينية التي تموقعه في غير واقع الحال. فيأتي وصفه للآخر الأجنبي المتفوق مبني على المقارنة الضمنية مع الأنا المتدنية، مع حضور اللاشعور الديني المتمثل في أن المجال الإسباني مؤهل بشكل تام للدخول في الحظوة الدينية النظرية إذا ما أكمل ذلك بالإسلام.
تشكل رحلة الغساني تعبيرا حيا عن مستويات التجاوز الحاصلة بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي المتمثل في أوروبا. على أنها أيضا تعبر عن الصدام الحاصل عند الشخصية الشرقية، بمعناها الشمولي، والمرتبط بقوة الاعتقاد الديني في ضرورة التفوق مقابل الواقع الذي يمثل العكس.