حرر ستة مثقفين جزائرين نصا بعنوان “لننقذ مدرستنا” يطرح وجهة نظرهم في الأزمة التي تعيشها المدرسة الجزائرية والتي يصفون وضعيتها بأنها “بلغت الحضيض” لكونها فشلت في القيام بوظيفتها التي تتمثل بالنسبة لهم في “…ترسيخ القواعد والقيم الاجتماعية …وتحصيل أساسيات المعرفة..” وإذا كان هذا النص الذي اعتبره محرروه “زجاجة قدف بها إلى عرض البحر،” يستهدف الجزائرين بالأساس، فإنه لا يخلو من فائدة لكل قارئ يهتم بالتحديات التي تواجه قطاع التعليم في بداية القرن الواحد والعشرين في دول متعددة، على رأسها المغرب. وسيلاحظ القارئ التشابه في القضايا التي يواجهها المجتمعان خاصة في ما يهم مسائل اللغة، والدين، والثقافة، والإبداع. ومجلة رباط الكتب إذ تنشر هذا النص، تتمنى أن يساهم في إثراء النقاش حول وضعية المدرسة في المغرب، وفي تعميق التفكير في مقاربات إصلاحها.
لننقذ مدرستنا!
هذا النّص بمثابة رسالة في زجاجة يقذف بها جزائريون إلى عرض البحر وهم لا يمثلون لجنة أو تنظيما، إنّهم لا يمثلون إلاّ أنفسهم. نص ينطلق من معاينة أن الحركة الوطنية افتقرت إلى التفكير العميق حول المسائل الوطنية والإجتماعية مما نتج عنه انقسامات وتمزقات لا نرى لها نهاية قريبة. جاءت مساهمتنا هذه من أجل البحث عن إجابة مشتركة ولا غرض آخر لها إلّا التعجيل بالتفكير في طريقة تجديد شروط البناء الوطني وأسس النّظام السّياسي في وضع يتسم بالتعددية التاريخية. إننا نؤمن أن المسألة التربوية تكمن في قلب هذا “التجديد” كضرورة ملحّة ومستعجلة.
لا تثير اللّغة العربية-كلغة تدريس- هذا الزّخم من الإنفعالات في المشرق أو المغرب كما تثيره في الجزائر، فهي باستمرار محل توترات سياسية وخصومات إديولوجية حادة، لأنّ الذين يدافعون عنها بذلك القدر من الجلبة لا يتصورنها إلاّ كلغة شعائرية وتراثية، وحتى عندما يقبلون كونها لغة ثقافة وفكر فإنّهم لا ينشغلون لا بشكل ولا بمضمون تلك الثقافة بل يكتفون باللّغة: لأنّها تقوم مقام الثّقافة –بالنسبة لهم-. بينما يجعلون منها مسألة مصيرية-كما يقولون- رغم هذا فإنّهم لا هم ولا أطفالهم ولا تلاميذ مدارسنا بشكل عام يبذلون مجهودا فعليا لتعلمها وجعلها أداة لغوية لتحقيق الذات فرديا والسعادة إجتماعيا. اللّغة العربية- عندنا- لا يُحْسَنُ تعلمها ولا تَكَلُّمُهَا لأنّها بدون محتوى، فقيرة وجافة كجدول وادٍ صحراوي. وما لم نفهم بَعدُ أنّ محتوى وثراء أي لغة-عبقرية اللّغة كما نسميه- يكمن في ثقافتها، كما هي متجسدة في معالمها الأدبية والجمالية الكبرى، وكما تتجلى في إبداعاتها الحاضرة والمستقبلية فإنّها ستبقى دون مضمون. في حين أنّنا كلّما تصنّعنا السخط من أجلها كلّما عجّلنا في تدَاعيها، تهلهلها وأفولها، لا تكون الشعوب جديرة باللّغات التي تنتسب إليها إلا إذا أَثْرَتْهَا واقتسمت ثمار ذلك مع بقية العالم. فما هي حالة الثقافة العربية في الجزائر؟ ردئية بلا شك لأنّ الجزائريين منفصلون تماما عن التراث الأدبي الكلاسيكي لهذه اللّغة، الذّي لا يطّلع عليه أحد-تقريبا- لأنّه أصبح مُبْهَماً حتى عند معظم أفراد النخبة المثقفة. فلتقرؤوا مقتطفا لابن المقفع أو سهل ابن هارون أو الجاحظ أو أبو العلاء المعري على تلميذ في الثانوية أو على طالب جامعي، وسترون أنّه لن يفهم لا المعنى ولا القصد، أخطر من ذلك ليس من المستبعد أن يكون الأستاذ نفسه غير قادر على فهم المقتطف ذاته وإذا فهمه فلن يمكن من تذوّق قيمته الأدبية والجمالية. ستون سنة من وجودها، لم تدرِّس المدرسة الجزائرية أيّا من ذلك. بينما الأنظمة التربوية الجديرة بهذا الإسم قديما وحديثا ترتكز على معرفة وتعليم الكلاسيكيات، التي بدونها تتعذّر أي حداثة أدبية وهذا منذ نشأة المدرسة عند الإغريق كما عند الرومان، في الصين القديمة كما في الهند الفيدية، في بلاد فارس الساسانية كما عند العرب في عصرهم الكلاسيكي، وأكثر من ذلك في العصر الحديث منذ النّهضة الإيطالية. لقد استطاعت الثقافة العربية الكلاسيكية أن تحقق ما تعجز الثقافة العربية الحديثة عن تحقيقه اليوم (ليس فقط في الجزائر) وهو أن تمنح العرب المسلمين ثقافتين إحداهما دينية والأخرى دنيوية، في العصر الكلاسيكي كان بإمكان أي طالب قضاء حياته كاملة في تحصيل إحداهما دون الأخرى أو طلبهما جنب إلى جنب قصد التمكن منهما معا. لماذا ذلك إذن؟ لأن الإسلام ليس مجرد دين فقط، بل هو ثقافة كذلك وإن إكتفى بكونه دين فقط استحال عليه أن يُطَوِّر حتى علومه الخاصة كعلم الكلام، علم أصول الفقه وأصول الدين، والسّبب أن هذه العلوم تتطلب تفكيرا عقليا لا يمكن تحصيله أو تطويره في غياب المنطق. بينما المنطق ليس علما عربيا ولا إسلاميا بل إغريقي. الكتب نفسها التي وردت فيها تلك العلوم الدينية قد أخذت شكلها وتقنية تأليفها وأنماط كتابتها وتقاليديها الأدبية من أكثر الثقافات العتيقة رقيا أي الثقافة الهيلينستية. المدافعون المدّعون عن اللّغة العربية عندنا الذين يُعْتَبَرون المسؤول الأول على غرق المدرسة يجهلون –طبعا- أنّهم مدينون للثقافة الإغريقية وتابعون لها حتى في طريقة تعلّم قراءة وكتابة اللّغة العربية التي نشرتها الكتاتيب القرآنية منذ قرون خلت.
أمّا بالنسبة لأولائك الذين يعتقدون أن اللّغة العربية لغة مقدّسة أو اللّغة الأقدس على الإطلاق، وهذا ليس إلا ضربا من الجنون، أوّلا لأنّ معظم اللّغات يتخيّل أصحابها أنّها نزلت من السماء- رغم أنّ محدّثا مشهورا كابن أبي شيبة من القرن التاسع اعتبر أن لغة أهل الجنة ليست العربية إنّما السريانية، بالإضافة إلى أنّ الأحاديث التي بنيت عليها هذه الأفكار هي أحاديث موضوعة، لقد وضع على لسان الرسول قول: “أحبوا العربية لثلاث لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي”، حديث موضوع تم إعادة تعديله من طرف السلفية الحديثة عن طريق شيخها ناصر الدين الألباني الذّي جعله مع ضعيف الحديث، وهي الدرجة ثالثة من مراتب الحديث بعد الصّحيح والحسن، ومن الثابت أن الحديث الضعيف لا ينتج عنه أثر في الأحكام الفقهيه لكنّه يصلح للتداول في مجالي الوعظ والإرشاد، هذا النّوع من الحديث شائع بين الدّعاة والوعّاظ إذ معظم القَصص والروايات التي ترد في خطبهم تنتمي إلى هذه الفئة من الحديث، والمهم ملاحظته أنّ خِطاب هؤلاء يقوم مقام الدّين في المدرسة الجزائرية كما يشهد عليه الفيديو الذّي نُشِر على شبكات التواصل الإجتماعي أول يوم من الدخول المدرسي لموسم 2016-2017، كإشارة لاستمرار الإستفزاز الذّي شهده صيف هذه السنة والذّي لم يكتفِ فيه المدافعون”أصحاب الأصالة” عن عربية واسلامية التربية الوطنية بهسترة النِّقاش والوصول به إلى مستويات من التوتر قلّما بلغها، بل صعّدوا الأمر من خلال نشاطات بغيضة تهدف إلى تحويل حربهم ضدّ المدرسة إلى حرب أهلية.
عِلاوة على سمته الرديئة فإنّ هذا الخطاب المدافع عن المدرسة باسم الدين جعل من الدين آلة ذات حدّين: طرفيها الحلال والحرام، في حين أنّ الشريعة الإسلامية تحتكم إلى سُلَّمَيْن لقياس الأفعال البشرية: الأول ديني والثّاني فقهي. يتضمن السلم الديني خمسة كيفيات:1) واجب، فرض، 2) سنّة، مندوب، مستحب، 3) مباح الذي يجب تمييزه عن الجائز، 4) المكروه، 5) وأخيرا الحرام وهو عكس الحلال، أمّا على سلم الأحكام الفقهية فإن المصطلح الأعم هو مصطلح “المشروع” الذّي يشتمل كل ما يعترف به الفقه ويوافقه. حسب درجة الموافقة حكم يعتبر:1) صحيح إذا كان أصله ووصفه يتفقان مع القاعدة، 2) مكروه إذا اتفق أصله ووصفه مع القاعدة ولكن اتصل بمحضور، 3) فاسد إذا وافق أصله القاعدة وخالفها وصفه، 4) باطل لا حكم له. مما سبق فإنّ الأثر الفقهي ينتج عن الصحيح والمكروه فقط. وكما أن الصحيح هو اللّفظ المستعمل عادة لفعالية أثره الفقهي كما قد يدلّ أحيانا على الصنفين (الصحيح والمكروه) معا. دمرّت السلفية المحدثة كل هذه الأحكام في بلادنا إلى درجة أنّ البلاد قد نسيت تقاليدها الفقهية الحنفية والمالكية. ولم يعد موجودا إلا المذهب الإباضي كشاهد على تعدد أشكال التدّين الذي تمسك به أجدادنا. مع ذلك فإنّ الدولة والمجتمع لا يحسنان حماية هذا المذهب من التهديدات التي تضغطه والتي تعتبر مصدرا للإنقسام في ظل تجاهل وطني وغياب الوعي بهذا الخطر، هذه التهديدات هي نفسها تلك التي ترمي بثقلها على مختلف أنواع التعبير اللّغوي الأمازيغي، وفي انتظار إنقاذ البعض منها وتقنين وتوحيد البعض الآخر، على المدرسة الآن أن تشرع في تدريس المنتوج الأدبي لهذه اللّغات من شعر ومآثر وحكايات شعبية وأساطير، ولا يجب أن يقتصر ذلك على المناطق الناطقة بالأمازيغية بأي حال من الأحوال بل يجب أن تدرّس أيضا في المناطق الناطقة بالعربية من البلاد، التي عليها أن تعيد إكتشاف وتبني هذا التراث كجزء منسي من عمقها التاريخي الثقافي. وعليه يجب على برامج المدرسة الجزائرية أن تجمع جنبا إلى جنب الشعراء الأمازيغ، الشعراء العرب والعالميين، وفي نفس الرتبة شعراء الملحون الذي يشكل ذاكرة ومعلمة اللغة المغاربية، تلك اللّغة التي قال عنها ابن خلدون أنها لغة تامة وأن لحن إعرابها لا يمنعها أن تكون صحيحة التعبير ودقيقة الفكرة ويدلّل على ذلك بنقله لأقدم الأمثلة المعروفة في هذا النوع من الشعر. من أجل إنتاج قواعد لغوية تثبت صحتها علميا يجب على بلادنا أن تنشئ أكادمية للّغة. سيكون خطأ جسيما تخصيص أكادمية للمعربين وأخرى للأمازيغيين كما هو متوقع، لينفرد كل جانب في زاويته ولا نحصل في نهاية المطاف على أي تغيير يذكر. والدّليل على عدم جدوى مثل هذا التفتت المؤسساتي هو تهاون المؤسسات الكثيرة التي يفترض بها دعم اللّغة العربية، دون ذكر تلك المخصصة للنهوض باللغة الأمازيغية، أمّا واقعا فما هي إلا أماكن موجهة لامتصاص لوبيات مثيرة للشغب تميل إلى البلبلة والثرثرة أكثر من العمل في هدوء وبصبر من أجل الصالح العام. بما أن الأكاديمية تجسيد للمثال اللّغوي للأمة لابد أن تجنح إلى الفعالية والوحدة، وليس إلى المجادلات العقيمة والإنفصام الذي لن يضيف إلى الإلتباس إلا إلتباسا في شكل ذهان لغوي بلغه الوطن منذ إستقلاله.
بالعودة إلى اللّغة العربية الكلاسيكية فليكن معلوما أنها ليست مقدّسة بأي حال اتفق، ولا تحتاج إلى أن تقدّس لتكون مقدّرة ومحبوبة، وحتى اللّغة التقنية النثر المقفى أو السجع كما نسميه والذي نجده في القرآن ليس مقدّسا، قبل أن يكون السّجع طابع التعبير القرآني كان من إختصاص الشعراء الخطباء، البلغاء، الكهان، والسّدنة ما قبل الإسلام، إنّها لغة جميلة ونحن نحبها لأنّها جميلة، هذا ما ردّ به أبو حنيفة عندما سئل هل يمكن للمسلم أن يهب أو يبيع نسخة من القرآن لغير المسلم، أجاب بالإثبات شارحا أن القرآن ليس مجرد كتاب ديني، إنه كتاب حكمة كذلك ويمكن لغير المسلم أن يقرأه ككتاب حكمة ويتذوق نكهته الأدبية والفلسفية دون أن يعتقد في الإسلام. وعليه فإذا كانت اللغة العربية مقدّسة كما تدّعيه السلفية المحدثة لماذا وصلنا القرآن محفوظا في خط اخترعته جماعات عربية مسيحية كانت تعيش بين الأردن وسوريا؟ ففي عصر ما قبل الإسلام الخط الوحيد الذي عرف في الحجاز-موطن الرسول- هو الخط الثمودي، ولم يكن الخط الذي اختاره الرسول وصحابته. بكل أسف الإسلام محروم من تاريخه وكلما قلت معرفة المسلمين بدينهم كلما سهل استعبادهم، ونهج السلفية المحدثة في ذلك الترغيب والترهيب وهي طريقة مريعة فمن جهة يصورون لك كل مباهج ولذات الجنة، ومن جهة أخرى يرهبونك بجحيم النار ولا يخفى على أحد أن بين الترغيب والترهيب مسافة خطوة واحدة قد تخطاها كثير من أبنائنا أثناء”المأساة الوطنية الكبرى” التي لم نتعاف منها بعد. ولأنّنا نعتقد أن المدرسة هي سبيلنا إلى الخلاص من خلال تلطيف علاقتنا بالدين والعالم، فإنّنا ندعوا إلى إصلاحها. إنّه واجب الأمة أن تنتزعها من هيمنة السلفية المحدثة التي تنخرها منذ عشرات السنين، مع أزمة المذهب المالكي التي ساهمت فيها السلفية المحدثة – أسلوب ديني يرتدي زي السلف الصالح وهو في الحقيقة اختراع حديث- التي تعد الــ”متنوج” الديني السّني الوحيد المتاح الذي يجذب إليه الناس في زمننا هذا. في حين أننا لا نرغب أن يحتل الدين كل الفضاء المدرسي، خوفا من أن يعيقه نهائيا عن أي إبداع، مطلبنا هنا ليس مطلبا لائكيا ملحدا كما يزعم خصوم المدرسة العصرية، بل هي دعوة لفكرة عميقة تأخذ التاريخ كمقياس لها: الإسلام الكلاسيكي لم يكن ليصبح الحضارة التي نعرف إلا عندما فصل العلوم النقلية عن العلوم العقلية، وأعاد إحياء الدراسات الفلسفية وضمن استقلاليتها في الوقت الذي لم تسمح فيه أوروبا اللاتينية بتدريسها إلّا عندما اعتبرت كخادمة للاّهوت. إنّنا نريد أن تكون لغة التدريس متحكّم فيها من طرف المعلمين والمتعلمين على حد سواء، إننا نريد أن تصل المدرسة إلى التمكّن من تاريخ الجزائر والحضارات التي تشترك معها في المجالين الثقافي والجغرافي لتحيي العلاقة مع بعديها الإفريقي والمتوسطي، ولأجل هذا الغرض يجب أن تتحرّر أذهان أطفالنا من كل ما يعيقها ويمنعها من الإزدهار من خلال: التربية، الثقافة والعلم، والصحيح أنّه من دون ثقافة عامة تستحيل إمكانية أي تكوين فكري جيّد، وهذا -بالضبط- ما تعانيه بلادنا: فعلى الرغم من ارتفاع عدد المتمدرسين-بفضل المجهودات المادية الهائلة التي تبذلها الدولة الوطنية لذلك- إلّا أن تكوينهم رديئ وعبارتهم فقيرة جدا.
لماذا المدرسة الجزائرية دائما ساحة للتجاذبات والتوترات الإديولوجية والسياسية الحادة؟ لماذا بعد محاولة تحديثها سنة 1977، المهمة التي أُسْنِدت إلى أحد ألمع مثقفينا انتهت بتخلى الرئيس بومدين عنها؟ بعد ضغط من وزيره للتربية الوطنية بإتخاذ موقف عَلَنِي من النّقاش العام، رفض الرئيس تاركا إياه وحيدا في مواجهة عنف الجناح الإسلامي-المحافظ للحزب الواحد-آنذاك- مما أجبر الوزير المصلح على الإستقالة سنتين بعد ذلك. في وقت أقصر من الذّي استغرقته لتأسيسها تحولت المدرسة الجزائرية إلى “مدرسة مزبلة” دام هذا عشرون سنة، ولكن لماذا إذن تخلى الرئيس بوتفليقة بدوره عنها عندما شكّل في ماي من سنة 2000 “لجنة لإصلاح منظومة التربية الوطنية” برآسة أحد أبرز الأساتذة، بعد وقوفه على الضّرر الذّي لحق بها وإعلانها مدرسة منكوبة تركها تغرق أكثر؟ بقي تقرير اللّجنة التي أشرفت على الإصلاحات مَخْفِياً ومغلقا وكأنّه سر من أسرار الدولة إلى أن قامت النقابة الوطنية المستقلة لأساتذة التعليم الثانوي والتقني SNAPEST بنشره على شبة الأنترنت في ديسمبر 2014 في ظلّ لامبالاة مطلقة، لقد بلغنا الحضيض. لم ينتبه أي من التربويين إليه ولم ير فيه أهمية تذكر، وفي الحقيقة أنّه منذ عهد الرئيس بن بلة بقيت الحكومات المتعاقبة رهينة -فكريا- للنّماذج البيداغوجية للأطراف التي جعلت من المدرسة ساحتها للتنافس السياسي والإديولوجي فبالنسبة للأصوليين الذّين تتجه عيونهم إلى الماضي فإن المدرسة أولا وقبل كل شيء مؤسسة تربوية وعليه فإنّ وظيفتها الأولى هي نقل القيم، بينما يرى أنصار العصرنة أن المدرسة لا تستطيع ولا يمكنها إلا أن تكون مؤسسة تحضّر الأجيال اللاّحقة وتمدّهم بالمعارف الضرورية من أجل كسب معركة الإنتاج –كما كان التعبير سائدا في زمن الرئيس بومدين- أو تلبيةً لمتطلبات السوق بتعبيرنا الحالي، مع الإمتناع كليّا عن تشكيل خطاب حقيقي للعصرنة الإجتماعية. في حين أن المدرسة لا هذه ولا تلك من هاتين المؤسستين بل هي هما معا: فهي في الوقت نفسه إيطار للتنشئة الإجتماعي أي ترسيخ القواعد والقيم الإجتماعية (أو قيم الأغلبية السائدة من المجتمع كما هو الحال غالبا) ومكانا لتَحصيل أساسيات المعرفة، خاصة تلك المعارف التي يمكن تحويلها سريعا إلى مهارات وكفاءات. لقد عمّقت الأزمة التي تعيشها الدولة هذا التشظي في المدرسة، ولا يمكن للدولة أن تستردّ هيبتها إلاّ بوضع يدها من جديد على المدرسة، ليس من أجل ممارسة القمع عليها بل من أجل رسم الطريق الذي تسلكه، لأنّ الدولة الحديثة، وهذا ما تطمح إليه الدولة الجزائرية، رغم العجز الذي تعاني منه، أولا وقبل كل شيء مؤسسة تحكيم وضبط.
وأمّا الآن فإن رداءة المدرسة الجزائرية ظاهرة للعيان ولا يمكن لأحد إنكارها، رداءة أعاقت فكريا أجيالا كاملة من التلاميذ. الكارثة تفوق الوصف. في المدرسة لا نعلّم التلاميذ لغة أو عدة لغات، أو معارف كثيرة فقط، بل نمرّنهم على التفكير الخطي أي نعلمهم التفكير من خلال الكتابة، يمكن أن يبدو هذا تناقضا ولكن كلما قدرنا على ترجمة أفكارنا عن طريق الكتابة كلما كنا على الكلام براحة وسلاسة أقدر. قبل أن تكون مسألة موارد بلاغية أو حتى تواصلية اللّغة المدرسية والتحكم فيها قضية فكرية شائكة. ومن أجل الوقوف على إفلاس نظامنا التربوي لنقم بالتجربة التّالية: حاولوا فتح نقاش -بلغة سليمة- وليكن مع ابنتكم أو ابنكم المتمدرس حول موضوع من اختياره، وستلاحظون أنّه في تسع حالات من أصل عشرة يكون الفشل ذريعا، أغلب تلاميذنا محرومون حتى من طريقة الإستدلال العقلي. لا يحسنون إقتصاد الخطاب العقلي ولا آلياته. صحيح أن كل هذا يتم تعليمه ولكن هناك بعض منه ما يتم عن طريق الحدس، إذ يكفي من أجل ذلك أن تكون قارئا فذّا. مع الأسف هل تعرفون في محيطكم أطفال كثر يطالعون؟ هناك من يتخرّج من الجامعة دون أن يقرأ كتابا كاملا من أوّله إلى آخره، وإذا كان كثير منهم يتصفّحون الكتب فهم لا يقرؤونها. وإن حدث وطلبتم منهم-جزافا- إنجاز ملخص لكتاب أو بطاقة قراءة لا يقدرون على ذلك، فلا المتوسطة ولا الثانوية لقّنتهم الطريقة وتقنيتها. كيف يمكن إذن في وضع مماثل التعبير عن أي فكرة إذا لم نتحكّم جيدا في اللّغة التي درسنا بها لمدة عشرة أو خمسة عشر أو حتى عشرين سنة؟ كيف نحب الوطن ونلتحم طويلا مع الجماعه في مصيرها إذا جهلنا تاريخه؟ كيف نتفتح على العالم إذا بقينا أحاديي اللّغة؟ كيف السبيل إلى بلوغ الكمال في الإنسانية والمواطنة إذا لم يكن لدينا أي رصيد ثقافي، وإذا حرمنا ذائقة القراءة ومحبة الفن؟ ومِنَ الدّين نفسه لا يجب أن نخاف. لقد تركت-حتى لا نقول تخلت- الدولة ولمدة عقود كاملة تسيير الشأن الديني في يد جماعات ضغط جعلوا منه مِنطَّة لبلوغ أغراضهم الإجتماعية والسياسية إن لم نقل الشخصية. لماذا يجب على مدرستنا أن تتبنى بشكل رسمي مذهب القدرية والجبرية؟ إذا كان كل شيء مكتوب، فإذن لا شيء مكتوب، هذه الطريقة في الطاعة والولاء تعبير عن الهروب من مواجهة الواقع والتنصل من المسؤولية، فعندما لا يكون “المكتوب” هو المسؤول عن فشل النّاس فإنّهم يحمّلون الدولة ذلك أو أي كائن آخر إلاّ ذاتهم، علما أن مسألة ما إذا كان الإنسان مجبورا أو مختارا ومسؤولا عن أفعاله قضية لم يحسمها القرآن، بل ترك الأمر مفتوحا للنقاش بين المؤمنين” ليعقلوا” مانحا الحجج لهؤلاء وأولائك، ولكن بعد المساهمة في تأزيم كل المذاهب السنية الأخرى، قامت السلفية المحدثة بفرض نفسها كبديل أين احتلت فضاءات إجتماعية ومؤسساتية، ونشر الفكر السلفي الجبرية إلى درجة توصل فيها إلى نفي على الإنسان وجوده ككائن مستطيع وجعل من الإرادة الحرة عين الكفر، في حين أن القرآن يساوي بين عدد الآيات التي تؤيد الإرادة والتي تنفيها: حوالي ستة عشرة آية مؤيّدة وستة عشرة آية معارضة، أراد المتكلمون العقلانيون الذّين وضعوا القدرة والتمييز كأساس لفصل الإنسان عن الحيوان أن يجعلوا من الإنسان مسؤولا عن أفعاله وأن يتحمل تبعاتها. أليس هذا ما نحتاجه اليوم؟ يعني هذا بوضوح أن الدّين الذي يُحْسَنُ فهمه لا يتعارض مع حداثة المدرسة والتربية، بل يشجعها على دعم التفكير العقلي عند الأفراد قبل القيام بخياراتهم حتى يتصرّف بعلم-بتعبير علماء الإسلام القدماء-. الإرادة الحرة هي النّهج الفلسفي الوحيد الذي يناسب هذا العالم المركب الذي نعيش فيه. من الواجب إذن على المدرسة أن تمنح أطفالها مفاتيح وجودهم في العالم لتتمكن جزائرنا من بلوغ مرتبة جديرة بها بين الأمم وتعمل على سعادة ورفاه الجميع كجزء من إنسانيتها.
- هواري تواتي، مؤرّخ، مدير دراسات في مدرسة الدراسات العليا للعلوم الإجتماعية، باريس
- أحمد جبّار، رياضي ومؤرخ علوم، أستاذ فخري في جامعة العلوم والتكنولوجيا في ليل، وزير سابق للتربية الوطني
- محمد حربي، مؤرّخ ومسؤول سابق لجبهة التحرير الوطني
- عبد الرزاق دوراري، مختص في اللّسانيات، أستاذ في جامعة الجزائر
- خولة طالب إبراهيمي، مختصة في اللّسانيات، أستاذة في جامعة الجزائر
- واسيني لعرج، كاتب وأستاذ الأدب الحديث في جامعتي الجزائر وباريس 3 السربون.