الخميس , 28 مارس, 2024
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » بيان من أجل البوادي المغربية أو مفارقات التحديث

بيان من أجل البوادي المغربية أو مفارقات التحديث

عمار حمداش، حول تجارب التحديث القروي بالمغرب، مع بيان من أجل البوادي المغربية، القنيطرة، 2015.

 

kiraat_0716_01         أثارتني في هذا الكتاب مسألتين: بيان من أجل البوادي المغربية، ومفارقة التحديث في تجربة المستعمر الفرنسي بالمغرب. تجربة بقدر ما تبين رغبة المستعمر في تحديث الفلاحين وتطوير أحوال عيشهم ومعاشهم، وكأن الاستعمار فاعل إنساني يسعى لخدمة الشعوب التي يستعمرها، تظهر إلى أي حد شكلت نسقا لا يُنتظر منه سوى الاستغلال والاختلال والتراتب والزبونية والفساد والبطالة والبغاء والتهميش ومدن الصفيح.

هذه هي الخيوط التي ظلت توجهنا في قراءة الكتاب وتقديمه، قراءة لا تتوخى التلخيص، ولا النيابة عن القارئ، بل هي تفاعل مع بعض أفكاره ونصوصه.

في الكتاب، كما في البيان المرفق، لا يفصل الأستاذ عمار حمداش بين العلم والسياسة، هذا الجمع نفترضه التزاما من الكاتب وانتصارا منه لترابه ولفئة البسطاء من الفلاحين، بل تمليه إخفاقات التنمية ببلادنا. نحن أمام نص قوي، بمادته، بأرقامه، بتجاربه المستحضرة، وبأسماء وجغرافيات متعددة. نص لا يخفي معه الباحث رهاناته، وهو الذي ينادي بتنمية شمولية للبوادي المغربية، ينتفي معها الدوار كما تنتفي معه كل علامات البؤس الاجتماعي والإنساني التي تحيل عليه.

انتبهت سلطات الحماية مبكرا، لأهم بنيات البلد، وللمنطق الذي يحكمها، بدءً ببنية المخزن التقليدي، القائم على ثلاثية المال والدين والشرف. فالبوادي المغربية موشومة بصورة مخزن قاهر، وهي الصورة التي رسخها الاستعمار وعمَّقها. أما البنية الثانية التي حكمت البوادي، فيجمعها المؤلف في ثلاثية الخضوع لرحمة السماء، للفقر والخصاص والندرة، ولقهر المخزن. هي بنيات عميقة، متداخلة ومركبة، تلف أعناق القروي وتكبل مصيره.

يتساءل الأستاذ عمار حمداش عما إذا كانت هذه البنيات قد تلاشت؟ في جوابه، لا ينكر الباحث التطورات التي عرفتها بلادنا، من منشآت، وتجهيزات وعمران، ولكنه في الوقت ذاته يقر باستمرارية البنية العميقة للحكم، وللمقومات الكبرى للحياة بالبوادي.

مع تجربة الاستعمار، لم يعد المجال القروي الفلاحي حكرا على الفلاحين المغاربة، بل سيتم اختراقه من قبل مزارعين مقاولين، وفلاحين جدد غير مقيمين، فأصبح الفلاح القروي المغربي التقليدي رهينة بيد هذه الفئات الجديدة، المنخرطة في نظام اقتصادي جديد. منذ ما يزيد عن قرن من الزمان، والقرى المغربية تسير، نحو إفراغ ساكنتها بالمدن. يقول: كفى وضعا كهذا؟ وضعا يجر الهلاك على الجميع. فهو في بيانه، لا يقف عند هذا الحد، بل يؤكد أنه آن الأوان للدولة المغربية لترد الدين للقرى، وأن تجبر الناس ضررهم، بالنهوض بالبوادي والقرى، بدءً بالأرض لمن يحرثها، إحياءً لشعار بداية الاستقلال.

يدافع المؤلف عن البوادي ويبين فضلها على المدن، والضرورة تقتضي إعطاءها حقها حتى لا تعدو مجرد عنوان “أصالة موهومة”، أو علامة تجارية. إنه بيان من أجل البادية المغربية، بيان لإعادة هيكلة المجالات القروية بشكل شمولي، يختفي معها الدوار، ويتخلص معها الفلاح البسيط من أوضاع صعبة، تحيل على الفقر والحاجة والخصاص. بيان يعيد ترتيب أوراق خرائطنا، ويسعى تمكين قرانا من التأهيل، من خلال تطوير الموروث، تحقيق شروط التنمية، تطوير الموارد الطبيعية والبشرية، إغناء الفرص وتثمينها بتهيئة حقيقية للتراب.

يقترن التحديث في الكتاب، بمعان التجديد والتطوير والإصلاح. في الحالة المغربية، ارتبط التحديث بالتفاعل مع الدول الأوربية خلال القرن التاسع عشر. هذا التفاعل مع الغرب تولدت عنه ردود أفعال متباينة، يجملها صاحب الكتاب في: الدعوة للإصلاح، اليقظة، الاستعداد للمواجهة، الاحتماء بالقيم الثقافية والاجتماعية الموروثة.

يتتبع المؤلف هذه التجربة، من خلال قراءة الأرشيف الاستعماري، وتفكيك خطابه، مستخلصا الدروس والعبر. يقول: “عندما تمكن الأوربيون من الحق في امتلاك الأراضي واستغلالها، توسعت دوائر اختراقهم، حتى مست الحياة اليومية للمغاربة”.

على طول صفحات الكتاب سيظل الرجل وفيا للمفارقة التي بدأنا بها هذه الورقة، فالتفاعلات السابقة لم تكن سوى ظرفية ومحدودة في عمقها ومداها. رغم أن التحديث اتخذ دلالات التطوير والعصرنة والتحسين، فإنه ركز على النخب بالأساس، مع التجربة الفرنسية بالمغرب القروي، كما تترجم ذلك سياسة ليوطي. وهي سياسة تبتغي تنوير عقول هذه الفئات التي كان المستعمر على علم بتطلعاتها وطموحاتها، أما باقي الفئات الأخرى، فستلحق بشكل تدريجي.

لذلك ستنتبه الإدارة الاستعمارية إلى إصلاح أساليب الإنتاج الفلاحي واستبدالها بالوسائل التقنية الحديثة، وانتبهت أيضا الى الإطار القانوني للأرض (التحديد، التسجيل، التحفيظ)، التمييز في الملكية بين الملكية الخاصة، والحيازة الجماعية، والملك العائلي ثم الملك العام والخاص. كما انتبهت الى الجانب الإداري والتنظيمي بما في ذلك الإدارة والتقنيات.

اختبر المستعمر تجارب عدة بالمغرب كتجربة الشركات الأهلية للاحتياط، وهي التجربة التي عمَّرت ما يزيد عن ثلاثة عقود. فمنذ 1912 أحدث المستعمر مؤسسات إدارية وترسانة قانونية تؤطرها، كما أنشأ عددا من المؤسسات الموازية لدعم الحضور الفرنسي بالبوادي المغربية.

لقد استلهم المستعمر هذه السياسة من تجربة المخازن المحلية التقليدية، وهي سياسة اتخذها المستعمر كآلية إدارية لمراقبة الأهالي وإخضاعهم للمراقبة والتحكم. تنص قوانين هذه الشركات، على تزويد الفلاحين بالديون ومساعدتهم على اقتناء الحبوب والآلات. كما اعتمد على الأعيان، لحجمهم ومكانتهم ودورهم في البوادي، وهم الذين كانوا يُنعتون بـِ “الفلاحين الكبار”. كانت هذه الشركات ملزمة بتأطير الأهالي من خلال تقديم القروض، وإرشادهم تقنيا في مجالات الزراعة وتربية المواشي. فضلا عن شراء البذور وتوزيعها على الفلاحين، ثم العمل على محاربة بعض الأمراض وتحسين نسل الماشية.

لم يقف المستعمر عند هذه التجربة، بل عمل على مراجعتها، وإعادة هيكلة الشركات الأهلية، حتى يتمكن من تجاوز المعوقات التي واجهته ميدانيا. وخلال التجربة الثانية ظهرت فكرة القروض بضمانات فعلية. فالقروض الموجهة للأهالي في مجملها أصبحت مدعمة، بل تم توسيعها لتشمل فئة الصناع والحرفيين، والغاية من ذلك، توسيع مجالي التأطير والمراقبة لتشمل المجالات الحضرية.

خاض المستعمر تجربة المراجعة الأساسية للشركات الأهلية للاحتياط، ضمن ظروف تتسم بتوفير قطعة أرضية للفلاحين المتعاقدين مع الشركة، وتشييد مدرسة ومستوصف. وقد توسعت هذه التجربة في البوادي المغربية من خلال خلق فروع لها. كما عمل على تجديد الأدوات الزراعية، والرفع من جودة التربة بتنقيتها من الأحجار والأعشاب الضارة، وتشجيع استعمال الأسمدة، وفتح الطرق والمسالك، وتشجيع الفلاح على استعمال التقنيات العصرية، وتخفيض ضريبة الترتيب لكل فلاح يزرع أرضه بعد تنقيتها وحرثها بمحراث حديدي.

وبالنسبة للكسب وتربية الماشية، فقد لجأ المستعمر الى توفير الفحول اللازمة للتلقيح، وانتقاء النسل، ومحاربة الأمراض، وحماية بعض الأراضي الرعوية، وتنظيم عمليات الانتجاع، وتنمية الزراعات العلفية، وتمكين بعض المزارعين من تملك الأرض في الوقت الذي كانوا يشتغلون خماسة أو مجرد عمال زراعيين.

تكشف تجربة هذا التدخل في البادية المغربية عن تمايزات، يرجعها خبراء تلك المرحلة إلى وضعية الفلاحين وعلاقتهم بالأرض، فالبعض منهم راكم تقاليد فلاحية (الشاوية)، والبعض الآخر كان حديث العهد بالزراعة وبالاستقرار.

يوضح عمار حمداش أن ما عاشه الفلاح المغربي في علاقته بالمستعمر هو محاولة “تطوير” و “تحسين” أكثر مما هو تحديث، إذ تم التركيز على التقنيات والأدوات، وهي عمليات، في مجملها، كانت تستهدف أعيان البوادي دون أن تمس غيرهم من الفئات العريضة.

أما البعد السياسي لهذه التجربة، فيلخصه في الاحتياط من غضب الفلاحين المغاربة، الذين كانوا يعيشون ظروفا قاسية. نحن أمام شركات أتت بعكس ما رسم لها، جعلت الفلاح يتقوقع على ذاته، وساهمت في تقوية آليات إنتاج الثقافة المضادة أو ما يتم التعبير عنه بالمقاومة بالحيلة.

إن التحديث الفرنسي بالبوادي المغربية، مس فئة الأعيان، وهي الفئة التي كانت لديها القدرة على فهم مثل هذه الأشياء كما قال جاك بيرك. كما اشتغلت فرنسا بمنطق ترويج مشاريعها، والتسويق لها حتى تصبح نموذجا. وهنا أيضا نصطدم بالمفارقة السابقة، تفاوت كبير بين الفلاحين الكبار والمعمرين من جهة، والفلاحين البسطاء من جهة ثانية. فإذا كانت الفئة الأولى تمتلك الأراضي الشاسعة، ولها من الإمكانيات والتقنيات ما يجعلها منتجة للسوق، فإن الفئة الثانية، لا تملك من الأرض شبرا، وحتى إن ملكت، فلا يتجاوز الأمر قطعا متفرقة ومجزأة. أما إمكانياتها، فبسيطة وبدائية، مما يجعل عملها لا يتجاوز زراعات معاشية، لا تكفيها حتى لتوفير قوتها اليومي. وهذه كلها معطيات ووقائع تبين أن التحديث القروي كان وسيلة لحكم البوادي ومراقبتها.

مع توالي تجارب التحديث القروي، وصعوبة تبيئتها مغربيا، اقتنع منظرو التحديث ومن بينهم جاك بيرك، أن التحديث إما أن يكون شموليا أو لا يكون. كما أن التدخل التقني في العالم القروي، إنما هو عمل جزئي يتناقض وطبيعة النسق الاجتماعي للبوادي المغربية. إنه تدخل يفضي إلى خلخلة النسق أكثر ما يؤدي إلى تحديثه. فالنسق الفلاحي المغربي نسق عضوي متكامل، لا يمكن المساس بأحد أبعاده ومكوناته دون التأثير في المكونات والأبعاد الأخرى. هو تحديث كان يراهن على تحرير الفلاح وفتح مداركه على التحولات الكبرى التي تنتظره، كرأسملة العلاقات، والربح، والمردودية، وقيمة الأرض والعقار، ونظام التأجير والكراء.

وتبين التجربة أيضا، أن البعد السياسي، لم يكن عفويا، ولا وليد الصدفة، بل تم ضمن خطة أوسع من خلال تهيئ الفلاح ومساعدته بخلق تعاونيات أو نقابات تمكنه من تسيير شؤونه بذاته، ونقل الفلاح من وضعية تتسم بالإقطاعية. وفي ذلك سعي لتحويل البوادي المغربية، وإعادة صنعها كما يقول بيرك. ولهذا انصب التركيز على الأراضي الجماعية، لكونها تغطي مساحات مهمة من التراب المغربي، وخاضعة لطرق الاستغلال التقليدي، فضلا عن كونها أراض جاهزة للاستغلال قانونيا وإداريا، وبإمكانها أن تضمن الأمن الغذائي المطلوب.

إذا استثنينا بعض المراكز القروية، لم تتمكن فرنسا من خلق مراكز قروية متكاملة التجهيزات والوظائف (سكن، مدراس، متاجر، مستوصفات، مرافق إدارية).

ينتقد بعض علماء الاجتماع هذه التجربة، كما فعل جاك بيرك وبول باسكون. إن تجربة التحديث القروي لم تكن لا كمية ولا نوعية لإحداث التغير الاجتماعي المتوخى كما قال جاك بيرك. في حين لاحظ بول باسكون من خلال تجربته في حوز مراكش، أن تجربة التحديث محدودة وبسيطة، تجربة أعاقها المعمرون الفرنسيون، كما أعاقها الأعيان المغاربة. بل كانوا يمنعونها عن الأهالي. عارض المعمرون التجربة، كما عارضها الأعيان، وهم الذين رأوا في التجربة منافسة لهم، وفهموا التحديث تشويشا على مواقعهم ونفوذهم، بل كان من شأن هذا المشروع أن يحرمهم من يد عاملة زراعية تقليدية، مما جعلهم يتخوفون من ضعف سلطتهم وتقلص امتلاكهم للتقنيات الآلية الحديثة. أما الفلاح البسيط، فقد تولد لديه الشك والتخوف من فقدان أرضه، وتجريده منها، فضلا عن الخوف من تجنيد أبنائه للخدمة العسكرية.

قوبلت التجربة بردود أفعال متباينة: التشكيك، التخوف، الانتظار، المواجهة والعصيان، رفض تسلم الحبوب واستعمال التقنيات، التمسك بالأساليب والأدوات العتيقة. كما تعرضت التجربة لانتقادات تمس المؤشرات الآتية: السكن القروي الحديث لم يكن دالا على تحديث أساليب عيش الفلاح، والأوضاع الاجتماعية لم تتحسن، والاستغلال المباشر للأراضي الجماعية حوَّل الفلاح إلى أجير. هذا بالإضافة إلى إعادة إنتاج بعض القيم والممارسات المجتمعية التقليدية وتقويتها، وإغفال الاهتمام بتحليل الوظيفة الاقتصادية والاجتماعية للعائلة القروية، بما هي وحدة إنتاجية معقدة ومتشعبة الوظائف. وأخيرا، التعامل مع الفلاح كما لو كان آلة أو أداة. كان منظرو ومهندسو هذه التجارب على وعي بهذه الانتقادات، غير أنهم كانوا محكومين بالشرط الاستعماري.

ومع بداية الاستقلال سيشهد العالم القروي تجارب أخرى، وسيستعيد الأعيان صفتهم الوطنية، بعد أن نُزعت عنهم خلال الفترة الاستعمارية، نتيجة تعاونهم مع المستعمر والانخراط في تدخلاته بالبوادي. إن فشل هذه التجارب يوضح قصور المقاربات التنموية ذات الطابع التقني الضيق، وغياب مقاربة تنموية شاملة، وتلك هي المعضلات التي حاول المؤلف الوقوف عندها وتشخيصها في هذا الكتاب.

 

 

- عبد الله هرهار

جامعة ابن طفيل القنيطرة/المغرب

تعليق واحد

  1. شكرا للأستاذ القدير السي عبد الله هرهار،على هذه الإضاءة النيرة والتي قربتنا الى الأفكار الواردة في كتاب الأستاذ عمار حمداش،موضوع هام ومقاربة مهمة تغري باقتناء الكتاب وقرائته،دمت السي هرهار منارة العلم الساطعة

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.