Abderrahmane Moussaoui., De la violence en Algérie : les lois du chaos, Alger, Barzakh, 2006
هذا الكتاب هو تشريح لظاهرة العنف التي تعيشها الجزائر منذ بداية التسعينات من القرن الماضي. فعبد الرحمن موساوي قلب هذه الظاهرة من جميع جوانبها معتمدا في ذلك على ملامسة طويلة للأزمة عبر البحث الميداني والحوارات التي أجراها مع بعض ضحايا العنف أو من له صلة بهم .
يطمح المؤلف في هذه الدراسة إلى أن يفهم ويقدم لنا فهما لظاهرة معقدة لا يمكن تفسيرها انطلاقا من مقاربة واحدة كما يقول. لكن موساوي، وبحكم تخصصه، يعتقد أن التفسير الأنتربولوجي هو الوحيد الذي يسمح بتجاوز التفسيرات المبسطة والسطحية. لذلك فهو منذ البداية يستبعد جملة من التفسيرات المتداولة، منها :
التفسير البيولوجي الذي يرتكز على أطروحات كولونيالية : الإنسان الجزائري عنيف بطبعه .
التفسير السيكولوجي الذي يبرر العنف الحالي بقساوة العنف الاستعماري من جهة، و بالإحباطات التي عاشها الجزائريون بعد الاستقلال من جهة ثانية.
التفسير الاقتصادي والاجتماعي المعتمد على التهميش الذي كان من نصيب فئات واسعة من الجزائريين .
تفسير العنف بعوامل ثقافية –دينية.
التفسير السياسي: انعدام المشروعية والتمثيليــة لدى النخبة الحاكمة.
التفسير التاريخي: المجتمع الجزائري يمر عبر”أزمة حضارية” أو “أزمة نمو”
تفسير اليد الأجنبية الخفية، وهو أبعدها عن الواقع.
لمـــاذا العنف السيــاسي كموضوع للدراســـة؟
لقد اختار المؤلف كموضوع لدراسته العنف السياسي، مستبعدا بذلك الأنواع الأخرى للعنف (الاقتصادي والاجتماعي، والجنسي…)، لكنه مع ذلك لا يريد أن يقاربه من زاوية سياسية. فهو بدل أن يقدم لنا تحليلا سياسيا للمأساة الجزائرية يفضل “قراءة أنتربولوجية للحظة من تاريخ مجتمع في مرحلة التبلور عبر تبادل العنف والموت” (ص14).
والسؤال الذي يطرح نفسه منذ البداية هو التالي: هل نحن فعلا أمام “عنف سياسي” بحت؟ هل يدخل اغتصاب النساء في خانة السياسي؟ وإن سلمنا بذلك فلماذا تغتصب المرأة بحضور زوجها وأبيها؟ ثم لماذا يتبع الاغتصاب ببتر وتشويه الجسم والأعضاء؟ ألسنا منذ البداية أمام إشكالية منهجية تتمثل في إلباس ثوب السياسي على واقع هو غير ذلك؟ و المؤلف نفسه يعترف أن ضراوة العنف بالجزائر أبعد ما تكون عن “التدين أو الاقتنـاع السياسي” (ص72).
مهمــا يكن من أمــر فقد اختار المؤلف أن يركز دراسته على العنف السياسي بالجزائر على اعتبار أن الصراع يدور بالأساس حول السلطة السياسية. وأورد لتعريف هذا العنف السياسي ما كتبه G.Pontara : “كل وسائل الصراع العنيف الموظفة للاستيلاء على السلطة السياسية والاحتفاظ بها، أو للتأثير عليها” (ص427). وتدخل في العنف السياسي الحروب، والعمليات الإرهابية والاغتيال السياسي إلى غير ذلك.
ويلاحظ المؤلف أن العنف السياسي تعرفه في الغالب المجتمعات التي لم يكتمل فيها الانصهار بين مختلف المكونات، أو التي مرت بتصدعات لم تلتئم بعد. لذلك فإن معظم النزاعات السياسية المعاصــرة تظهر في البلدان الحديثة العهد بالدولة. وبالنسبة للجزائر يظهر أن المجتمع لم يستقر بعد على طبيعة الدولة المنشودة، أو المشروع السياسي للدولة: دولة وطنية حديثة أم خلافة إسلامية؟
حول هذا الخلاف الجوهري ظهرت اختلافات ونزاعات فئوية أخرى، إثنية أو ثقافية (الحركة الأمازيغية مثلا)، أي أن عددا من الهويات المكبوتة تظهر على السطح عندما يتخلخل التوافق الوطني. فالحركة القبائلية هي تعبير عن الشعور بالتهميش الاقتصادي والثقافي، وظهورهــا أو تجذرهــا قد يزداد حدة إذا عجزت الدولة عن فرض نفسها كإطار ضابط وموحد .
في حالة الجزائر، يقول موساوي، العنف السياسي لا يرمي إلى إحياء الماضي (خلافة إسلامية سابقة) بل إلى خلق واقع سياسي جديد (ص430). في مثل هذه الحالة وكما يقول Benedict Anderson يظهر العنف بتبلور “جماعة متخيلة” تستقطب حولها عددا مهما من المواطنين وتقنعهم بعدم مشروعية وتمثيلية “الجماعة” الحاكمة. من هنا يتضح أن اللجوء إلى العنف في إطار دولة ما لا يرتبط بالضرورة بغياب الديمقراطية. والأمثلة على هذا كثيرة، منها ما يوجد في دول أروبية متجذرة تاريخيا وديمقراطيا : منظمة الـ IRA بالمملكة المتحدة، و منظمة ETA بإسبانيا، أو جبهة تحرير كورسيكا بفرنسا. بل على العكس من ذلك فإن الكثير من الدول الاستبدادية كانت أكثر نجاحا في تجنب العنف السياسي.
الدين ودوره في الأزمة الجزائرية
الدين يطرح الجهاد كوسيلة لتحقيق النظام الإسلامي المثالي، فمنذ الثورة الإيرانية على الأقل ظهر الإسلام كأداة وظفت سياسيا للوصول إلى الحكم. وفي الجزائـــر اعتبر الصراع في البداية كظاهرة من هذا الصنف، لكن، يقول المؤلف، عند الفحص المتمعن للأشياء يتبين أن مظاهر العنف السياسي بالجزائر غير مرتبطة بالدين، حتى وإن استعمل هذا الأخير ووظف لأغراض سياسية. فالدين، أي دين، لا يدعو إلى التفرقة والتقاتل، وكما أن الدين لا يمثل بالضرورة أداة للصراع فهو لا يمثل كذلك أساسا لوفاق اجتماعي. فالإرهاب، كمظهر للعنف السياسي في العالم المعاصر، ظهر أول ما ظهر عندما لجأت جماعات متطرفة أرمينية غير مسلمة (أواخر القرن19) إلى أعمال إرهابية ضد دولة إسلامية هي الدولة العثمانية .
في الجزائر يحمل العنف اسم “الجهاد”، وهو بالنسبة للجماعات الإسلامية المسلحة فرض لا يقبل المساومة إذا كان الهدف هو التخلص من الطغاة الكفرة وإقامة نظام سياسي على أساس الخلافة الإسلامية. ويرتبط الجهاد باسم “الأمير” مصطفى بويعلى الذي كان أول من حمل السلاح، حتى قبل إلغاء انتخابات 1991 بكثير، أي في نهاية السبعينات. لكن يجب أن ننتظر سنة 1994 لتعلن الجماعة الإسلامية المسلحةGIA) ) أنهــا الإطار الشرعي والوحيد للجهاد بالجزائر (ص158).
إن التيار السائد داخل هذه الجماعة وشبيهاتها من الجماعات التكفيرية هو أن الجهاد أصبح فريضة دينية، وأن لا مكان لما يسمى بالسلفية “الجامدة” ( سلفية نحنـاح وأمثاله) المعارضة للعنف. وهذا التيار يرفض كل هدنة أو حوار مع الحكم، كما يرفض سلوك طريق الانتخابات للوصول إلى السلطة. وبطبيعة الحال فإن الهدف هو إقامة “الخلافة الإسلامية”، لذلك فإن أول قائد للجماعة الإسلامية المسلحة، شريف كوسمي، سيسمي نفسه أميرا، بمعنى قائد للجهاد، ولكن كذلك بمعنى إمــارة المومنين التي هي جوهر الخلافة.
كيف بدأ العنف بالجزائر؟
يوم 11 يناير 1992 قدم الرئيس الشاذلي بنجديد استقالته وتم تعليق المسلسل الانتخابي بعد أن تأكد فوز الإسلاميين. وتبع ذلك حل المجالس المحلية ذات الأغلبية الإسلامية كما تم حل جبهة الإنقاذ الإسلامية. هذه الإجراءات التي أقدم عليها الحكم الجزائري جذرت الحركة الإسلامية ودفعت بجزء منها على الأقل إلى اختيار لغة العنف أو”الجهاد” من أجل استئصال نظام لم يعد يمثل في نظرها إلا الطغيان والكفر .
المرجعية الإسلامية في الجزائر لم تولد مع الحركات الإسلامية التي ظهرت أواخر الثمانينــات. لقد تبلور الإسلام كأحد ركائز المشروعية السياسية في الجزائر خلال حرب التحرير الوطنية وخلال السنوات الأولى من الاستقلال. فجمعية المسلمين الجزائرية رفعت خلال الثلاثينات من القرن الماضي شعار “الجزائر وطننا، والإسلام ديننا والعربية لغتنا ” وجمعية العلماء الجزائريين كانت تدافع عن نفس الخط . وتم تكريس هذه المرجعية مباشرة بعد الاستقلال خلال عهد الرئيس بومدين على الخصوص، إذ تم منع القمار وتم إعلان يوم الجمعة يوم عطلة أسبوعية ، في الوقت الذي اتبعت فيه الدولة سياسة تعريب صارمة .
يحاول المؤلف في هذا الكتاب أن يفهم كيف يصبح مواطن عادي “مجاهدا”؟ أو كيف يصبح هذا المواطن مستعدا للموت؟ ومن خلال استجوابات متعددة ظهر للباحث أن الدافع الديني لم يكن يتصدر بالضرورة العوامل التي تقود إلى الموت. فالشبان المستجوبون يعللون اختيارهم بإهانات سابقة تعرضوا لها من طرف قوى الأمن (ص47)، أما التهديد الذي تمارسه الجماعات المسلحة على الإسلاميين الذين تخامرهم فكرة “التوبة” والخروج من إطار الحركة الإسلامية. كما أن العديد من الشباب العاطل يلتحق بالحركات المسلحة محاكاة لشبان آخرين. ومهما كانت الأسباب والدوافع فإن استقطاب “المجاهدين” يتم أساسا في صفوف فئات لها استعداد مسبق للانخراط في الحركات المسلحة: معتقلون سابقون لهم تعاطف مع الإسلاميين، أئمة، عاطلون. فالجهاد يوفر لهؤلاء فرصة الاندماج الاجتماعي، من خلال المسجد أولا (بدل المدرسة أو المصنع)، ثم من خلال التنظيمات الإسلامية.
مرجعية العنف: حرب التحرير الجزائرية
بعد استقلال الجزائر 1962 برزت حرب التحرير كأهم مرجعية لكل مشروعية في البلاد، وأصبحت كل القوى السياسية، كانت في السلطة أو في المعارضة، تبني خطابها على هذه الحرب بل وقع إفراط في تقديس حرب التحرير وكأنها القطب الوحيد الذي يمكن أن يلتئم حوله المجتمع الجزائري .
جوهر حرب التحرير، يقول المؤلف، هو التضحية والاستشهاد وبذل الدم ليس من أجل مثل دينية بل من أجل الوطن. لكن عندما يحمل أبناء المجاهدين والشهداء لواء المشروعية في جزائر مابعد 1962 فإنهم يفعلون ذلك باسم الوطن والدين في آن واحد، فالمناضلون الجزائريون الذين قاوموا الاستعمار في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي لم يكونوا يميزون بين الوطن والدين إذ كان الدفاع عن الوطن هو دفاع عن الإسلام في نفس الوقت، لكن الأمور تطورت بعد عقد أو عقدين من الاستقلال، وبقدر ما اتسعت الهوة بين المستفيدين وغير المستفيدين من “غنيمة” الاستقلال، وبقدر ما تبلورت معارضة “إسلامية” أصبحت رمزية حرب التحرير موضوع تجاذب بين اتجاهين، اتجاه “اللائكيين” ومنهم النخبة الحاكمة، المدافع عن علمانية الثورة، واتجاه إسلامي يريد أن يضفي طابعا دينيا على “الجهاد” و”الاستشهاد” .
يعتقد موساوي أن عمق المعارضة الإسلامية يكمن في الطريقة التي تم بها توزيع إرث الثورة الجزائرية (ص128)، فالإسلاميون يمثلون حسب هذا الرأي المتضرريــن والمستاءين من الكيفية التي وزعت بها غنيمة ما بعد الاستقلال. والإسلاميون كقوة معارضة، حاولوا أن يوظفوا لصالحهم إرث حرب التحرير. فعباسي مدني، زعيم جبهة الإنقاذ الإسلامية، لم يكن يترك فرصة تمر دون أن يذكر الناس بأنه “مجاهد”، كما يذكر رفيقه علي بلحاج بأنه من أبناء الشهداء (ص119). وفي المجال التنظيمي قسمت الجماعات الإسلامية التراب الجزائري إلى 6 نواحي أو ولايات، تماما كما كان الأمر خلال حرب التحرير. وفي المجال القتالي لجأ المسلحون الإسلاميون إلى ممارسات جبهة التحرير الوطني، كالإعلان عن مناطق محررة تخضع لقانون خاص يمنع فيها التدخين مثلا أو قراءة الصحافة الرسمية. ويلاحظ المؤلف أن وسائل التهديد بالموت المتبعة من طرف الإسلاميين هي نفسها التي سادت خلال حرب التحرير (تعليق قطعة من القماش الأبيض على باب المعني بالتهديد كرمز للكفن). كما يشير الإسلاميون إلى المعتقلات التي أقامها النظام في جنوب البلاد تماما كما فعل المستعمر الفرنسي بالأمس.
وبطبيعة الحال فإن الحكم يحاول أن يجر الحصير إلى جهته ليثبت أنه هو الوارث الشرعي لحرب التحرير. لذلك فهو لا يتأخر في حشر ضحايا الإرهاب ضمن “الشهداء”، كما أنه ينفي التهمة التي تريد أن تجعل منه وريث المحتل الفرنسي، أو التي تريد أن تجعل من مجموعات الدفاع المدني (التابعة للدولة) مجرد”حركيين” harkis) ( مشيرا إلى أن كثيرا من أفراد هذه المجموعات هم من قدامى المجاهدين. ويستخلص المؤلف أن حرب التحرير كرست الحرب والاستشهاد كقيم مجتمعية. لكن هذه القيم اكتسبت قوة أكبر وترجمت إلى عنف أشد عندما تلاقحت مع قيم أنتروبولوجية دفينة كقيمة العرض التي تدفع الشخص إلى تقبل الموت والاستشهاد.
الأنتربولوجيا تفســرالعنف: العِرض والثأر
إن مقاربة أنتروبولوجية للعنف بالجزائر لا يمكنها أن تقفز عن ثقافة المجتمعات المغاربية (والمتوسطية بشكل عام)، والمكانة التي يحتلها العِرض في هذه الثقافة. فالعامل الأنتروبولوجي حسب موساوي لا يمكن فصله عن التطرف الديني. ويتجلى هذا حتى على صعيد الاستقطاب إذ ينخرط “المجاهد” في أقرب المجموعات إليه عصبية.
كيف يـعرف العِرض؟ العِرض قيمة مجتمعية تنبني على تصور الفرد لنفسه داخل المجتمع وتصور المجتمع له في نفس الوقت. من مقومات العِرض الوقوف في وجه الأقوياء وحماية الضعيف، لكن أهم مقوماته هو رفض الإهانة التي غالبا ما تنتهي بالاقتصاص أو الثأر. فعندما يلجأ فرد من أفراد الجماعات المسلحة إلى اغتصاب الزوجة بحضور زوجها أو أخيها يكون الغرض هنا هو إهانة الخصم والمس بعِرضه بتجريده من كل اعتبار يحظى به وسط دائرة انتسابه. وعندما ينتهك عِرض شخص ما فإن الثأر يصبح الوسيلة الوحيدة للرد وكأن عِرض أحد الأطراف لا ينجبر إلا بالنيل من عرض الطرف الآخر.
إن قبول الإهانة والسكوت على “الحُگـرة” قد يجنب صاحبه العنف والموت ولكنه يعني”موتا اجتماعيا” دائما وهو أشد وطـأة من الموت العادي. يعترف موساوي أن “الحُگـرة” صعبة الترجمة إلى اللغة الفرنسية لأنها تعني عدة أشياء في نفس الوقت. فعندما يتهم الحكم بممارسة “الحُگـرة” فإن ذلك يعني الظلم، والاحتقار، وتجاوز الحدود وغير ذلك من الدلالات التي تشترك كلها في معنى الإذلال والإهانة. فمن منظور الجماعات المسلحة يعتبر العنف أداة تسمح، بواسطة الدم، بغسل الإهانة. إن العِرض والثأر المصاحب له يفسـر، حسب المؤلف، ما يجري اليوم بالجزائــر أكثر من أي شيء اسمه التدين أو التشدد السياسي (ص72).
السؤال الذي يطرحه المؤلف بهذا الصدد هو التالي: ألا يعتبر الرجوع إلى قيم تقليدية كالعِرض والثأر دليلا على فشل الدولة في بناء مجتمع على أساس قيم أخرى هي قيم الحداثة؟ بل يذهب موساوي أكثر من ذلك عندما يحمل الدولة مسؤولية التدهور الأمني والزج بالبلاد في دائرة العنف والعنف المضاد. وطالما ظلت القيم العشائرية متحكمة في العلاقات على حساب القيم الاجتماعية فإن العنف لن يتوقف، حسب المؤلف، مهما بلغت قوة الجهاز الحاكم (ص73).
لكن الوضعية الجديدة التي أفرزها الصراع بالجزائر أدت إلى ظهور ولاءات جديدة تحل محل الولاءات التقليدية. فالإسلاميون يعرضون الانتماء لجماعة المسلمين أو الأمة بدل الانتماء إلى العائلة أو العشيرة. لكن في نفس الوقت يلاحظ موساوي استمرار الولاء العشائري حتى داخل الجماعات الإسلامية نفسها! فالإهانات التي تمارسها قوى الأمن على إسلامي ينتمي إلى قبيلة معينة (ص80) قد يدفع ببقية أفراد القبيلة إلى الالتحاق بالجماعات الإسلامية ليس عن اقتناع إيديولوجي أو ديني ولكن تضامنا و حماية لعرضهم. كذلك عندما يتعرض كاتب أو فنان أمازيغي للعنف فإن القبائليين يحسون بأن هذا الاعتداء موجه إليهم كمجموعة إثنية أو لغوية متميزة فيقوي ذلك الحركات الأمازيغية ويجذر من مواقفها. وفي نهاية المطاف يدرك المواطن أن الحماية والطمأنينة التي ينشدها لا توجد لدى دولة عاجزة بل لدى القبيلة أو العصبية التي ينتمي إليها.
العِرض والرجولة
في الثقافة المغاربية غالبا ما يعني عرض الشخص حرمة المرأة (الزوجة /البنت) التي هو مطوق بمسؤولية حمايتها. لذلك فإن المرأة توجد في قلب المأساة الجزائرية، كما هو الحال في جميع النزاعات المماثلة (البوسنة مثلا ). إن الاغتصاب يصبح في وقت الحرب سلاحا لا يقل فتكا عن القتل، وإذا لجأ إليه المتحاربون فلأنه يمس الإنسان في أغلى ما لديه وهو عِرضه. يقول موساوي إن الاغتصاب الذي تبتلى به الأسرة الجزائرية يعاش كجنازة دائمة لا يمكن التخلص من كابوسها. فكم من أب تبرأ من ابنته التي وقعت ضحية الاغتصاب على يد الجماعات المسلحة، وكم من زوج طلق زوجته بعد أن تعرضت للاغتصاب أمام عينيه. فالاغتصاب في ثقافة العِرض يمثل أعلى درجات الإذلال والإهانة، وسبة كبرى في مجتمع تعتبر الرجولة فيه أم القيم.
والأمر المثير للانتباه هو أن أعضاء الجماعات الإسلامية الذين يجاهدون، حسب خطابهم، من أجل إقامة نظام أساسه الإسلام وإطاره الخلافة الإسلامية، لا يتورعون عن اختطاف النساء واستحلالهن تحت غطاء “السبي”، بما أن جهاد اليوم ضد الطغيان والكفر لا يختلف في شيء عن جهاد الرسول وغزواته ضد الكفار والمشركين!
ويكون الاغتصاب أكبر وطأة عندما يتعلق الأمر بفتاة بكر. فهنا تكون “الخسارة” أكبر عندما ترجع الفتاة إلى أهلها كسلعة فاسدة لم تعد صالحة لشيء. إنه موت اجتماعي محقق. إن الاغتصاب الذي يتم على مرأى من الأسرة أحيانا، يمثل سبة لا توازيها سبة، لذلك فإن ما يخشاه الناس في المناطق التي تنشط فيها الجماعات المسلحة هو اختطاف نسائهم، أكثر مما يخشون الموت! لكن المس بالعِرض والرجولة لا يأتي دائما عن طريق المرأة. فيوميات العنف بالجزائر، خاصة عند منتصف التسعينات من القرن الماضي، مليئة بحالات تعرض فيها الرجال للخصي قبل أن يقتلوا، لأن المسلحين وجدوا في هذا الفعل أفتك سلاح لأنه يجرد الخصم من رجولته (عِرضه). ولتحقيق نفس الغرض يلجأ المسلحون إلى بتر الجهاز التناسلي أو قطع الأنف، لأن “النيف” رمز آخر من رموز الرجولة!
وإذا كانت وظيفة الثأر هي غسل العار فإن كل ثأر مهما بلغت قسوته لا يمكن أن يمحى بالمرة أثر الإهانة الأصلية. وإذا كان انتهاك العرض بمثابة “موت اجتماعي” فإن العديد من الشبان والكهول حاولوا أن يتجاوزوا هذا النوع من الموت بالانخراط في صفوف المجموعات المسلحة، إسلامية كانت أو مرتبطة بالدولة، كخيار للانتقام أولا، ولتجنب “موت اجتماعي” دائـم ثانيا.
الإرهاب: إستراتيجية وتقنيات
بعد سنة 1995 تصاعدت وتيرة العنف بالجزائر وأصبح المدنيون من كل الفئات عرضة لعمليات الجماعة الإسلامية المسلحة (GIA). وبقدر ما طال أمد العنف بقدر ما اتسع ليشمل المقاتلين وغير المقاتلين من المدنيين الأبرياء. وبالموازاة مع ذلك طور المتحاربون إستراتيجيتهم وتفننوا في ابتداع أساليب البطش والتنكيل.
بالنسبة للجماعات الإسلامية فإن “الجهاد” الذي أعلنوه ضد الحكم يهدف إلى خلخلة هذا الحكم وإضعافه بكل الوسائل الممكنة، دون أي اعتبار للمرجعية الأخلاقية طالما أن كل الوسائل تبرر الغاية التي هي استبدال النظام السياسي وإقامة الخلافة الإسلامية. وإذا كان ميزان القوى من الناحية العسكرية الصرفة هو لصالح النظام فإن الجماعات الإسلامية ستحاول تعويض هذا العجز باللجوء إلى أساليب قتالية ليس الغرض منها هو هزم العدو عسكريا ولكن إرهابه وعزله داخليا وخارجيا عبر عمليات مذهلة تضعف معنوياته ومعنويات مسانديه. ذلك أن الهدف الأول للعنف، يقول موساوي، ليس تدمير الخصم ماديا ولكن تحطيمه نفسيا (ص27).
من هذا المنطلق ركزت الجماعات المسلحة على خطف واغتصاب النساء لأنه يمس العِرض ويؤدي إلى إذلال نفسي لا ينجبر لكن الوسائل المعتمدة لإرهاب السكان متنوعة، منها أدوات القتل (السلاح الأبيض، الفأس، المنشار…) وكيفية التقتيل (الذبح، بقر البطن، تقطيع الأعضاء، فصل الرأس عن الجسد….). واعتمادا على المقولة العربية “الحرب خدعة” لجأ المسلحون إلى إقامة الحواجز الأمنية المزيفة على الطرقات، أو حشو جثة الضحية بالمتفجرات قبل أن تصل إليه قوات الأمن. لقد أصبحت طريقة القتل بوحشيتها وبشاعتها سلاحا موجها ليس إلى قوة الخصم العسكرية ولكن إلى نفسية مقاتليه ونفسية المواطنين بصفة عامة.
وبما أن الحرب أصبحت حربا نفسية فإن الإشاعة والخبر الكاذب أصبحا من الوسائل الموظفة في هذا الصراع. فالشائعة كما يقال هي سلاح في كل حرب. فعند منتصف التسعينات من القرن الماضي، مع بلوغ العنف أوجه، أصبحت الشائعات هي الخبز اليومي للجزائريين. في الصباح يتبادل الناس ما سمعوه أو ما شاهدوه بالأمس: طلقات نارية، صفارة سيارة الإسعاف أو الشرطة، أخبار القنوات الأجنبية كالجزيرة أو TF1. وتكثر الشائعات وتتضخم بعيد كل مجزرة يذهب ضحيتها العشرات من المواطنين، فيعم الهلع و يتيقن الناس أن الحركات المسلحة بوسعها أن تضرب في أي مكان وفي أي وقت، دون أن يستطيع النظام فعل شيء. بل إن الشائعات في هذه الحالة قد تنقلب ضد النظام نفسه، فمن يدري؟ قد تكون بعض هذه المجازر من تدبير الدولة نفسها! مهما كان الواقع فإن النتيجة هي انتشار الذعر بين المواطنين والانهيار النفسي، وفقدان الثقة في كل واحد (حتى في الأخ الذي ربما يكون من الأنصار الإسلاميين المتستريـن!).
خــلاصة
يتســاءل القارئ في النهاية: هل قربنــا هذا الكتاب إلى فهم أعمق للمأســاة الجزائرية؟ وهل المقاربة الأنتربولوجية التي اعتمدها المؤلف، على الرغم من أهميتهــا، هي المؤهلة لحل لغز العنف بالجزائــر؟
لقد حذرنا عبد الرحمن موساوي منذ البداية من السقوط في التفسيــر “الجوهراني” (essentialiste) الذي قالت به المدرسة الكولونيالية، والذي يرجع عنف الجزائـري أو المسلم إلى طبيعته كجزائري أو مسلم. منهجيا يحق للمرء أن يتســاءل أين يمر الخط الفاصل بين ما هو جوهراني ومــا هو ثقــافي (أنتربولوجي)؟ فالثقــافي مكتسب وهو نتاج اجتماعي، وثقافة الجزائـري أو المغربي هي وليدة تنشئة اجتماعية تركــز على قيم معينة تترسخ في الفرد فتصبح لها قوة التحكم والتأثيــر في الفرد والمجتمع (العِـرض مثلا). وباختلاف التنشئة الثقافية يختلف بالضرورة السلوك، وحتى فهم الدين وترجمته إلى ممارسة يومية.
والثقــافة تحيلنــا كذلك على التــاريخ، إذا اعتبرنــا أن الإنسان هو نتاج مجتمع معين ولكن كذلك نتاج سيرورة تاريخية لا يفلت من تأثيرهــا لا الفرد ولا المجتمع برمتــه. وهذا سيجرنــا إلى طرح السؤال التالي: أليس هناك في ماضي الجزائر ما يجعل الجزائري يتصرف بكيفية مختلفة عن تصرف جاره التونسي أو المغربي؟ و عندمــا نقول بالتاريخ لا نقصد فقط التاريخ القريب (عنف الاستعمار الاستيطاني الفرنسي الذي لم يعرفه المغاربيون الآخرون) ولكن التاريخ البعيد قليلا كالتجربة العثمــانية. وهنــا كذلك اختلفت التجربة الجزائرية عن ما عرفته تونس المجاورة مثلا حيث استطاعت النخبة التركية الحاكمة أن “تتـونس” و تنصهــر في المجتمع، في حين بقيت النخبة العسكرية التركية بالجزائــر بمعزل عن المجتمع الجزائري. هذه القطيعة بين “الدولة” التركية وبقية المجتمع الجزائري حالت دون تبلور نظام سياسي- اجتماعي متماسك لا ينظر فيه الناس إلى الحكام كغربــاء أو أعداء. والتجربة الاستعمارية لم تزد طرفي التركيبة الجزائرية إلا تباعــدا.
هذا مجرد تلميح إلى أن التاريخ قد يساعد، بالإضافة إلى الأنتربولوجيا وعلوم اجتماعية أخرى، في فهم لغــز بالغ التعقيد.