*أمبرتو إيكو، التأويل بين السيميائيّات والتفكيكية، ترجمة وتقديم سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، ط 2، 2004.
يعَدُّ النّص الأدبي سواء كان شعراً أم نثراً فنًّا مُؤوِّلاً للعالم؛ أي إنّه نص يسعى إلى فهم العالم بوصفه خطاباً لا يتكوَّن من حروف، بل من أفعال تستهدف موضوعات معينة؛ تساير تقلّبات المجتمع في زهوه وانتكاسته، فكانت تجارب أنتجتها عقول الكتّاب المبدعين الذين يحاولون فهم العالم من خلال إرجاعه إلى نسق فكريّ ما مُستنِدٍ إلى سؤال ما، يبحث في الواقع المعيش.
وبالتّأويل يستطيع المبدع كسر أفق التّوقع ليخلق لنا تجربة إبداعيّة فريدة، والتّأويل لا يقوم على قصد النّص، أو قصد الكاتب، أو قصد القارئ، وإنّما يقوم عليها جميعاً، إضافة إلى علاقته بنمط مُعيَّن من الكتابة الإبداعيّة؛ والمقصود بذلك قراءة النّص الإبداعي وتأويله بوساطة النّص نفسه، أي، نصوص عبر التّاريخ، والنّصوص الثقافيّة المُؤسِّسة المُؤثِّرة في الفكر والمعرفة.
ولا يُمْكِن التّفكير في التّأويل في العمل الإبداعي من دون التنبّه إلى أنّ الكتابة تُشكِّل عالماً موسوعيّاً أيضاً؛ فهي تُعَدُّ بمثابة برنامج من التّعليمات والمعايير المُتّبعة، وليس هذا البرنامج مُجرّد آفاق جماليّة فحسب، بل يُعَدُّ تأويلاً مُعيَّناً للكتابة أيضاً، وتأويلاً للعالم من جهة ثانية، ويُعَدُّ خرق أفق الانتظار خرقاً لتأويل مُتوقَّع للعالم من قِبَل القارئ، لأنّ قراءة النّص قراءة تأويليّة تعني أن ندرك حضور الكاتب والقارئ معاً في النّص.
ولهذا فإن ما تظهره النّزعةُ التأويليّة هو صعوبةُ الإلمام بمعنى القراءة الواحدة، أو بالأحرى استحالة اختصار النّص إلى معنى واحد، لأنّ العلامة اللّغويّة مكانٌ يختلطُ فيه المعنى الحرفي والمعنى المجازي اختلاطاً يبلغُ من قوِّتهِ أنّه يصعب على القارئ حين يباشرُ نصّاً ما أن يعرف على وجه اليقين إن كان عليه أن ينشئ تأويله حسب بنيّة الجملة القواعديّة وما تفترضه أنظمة النّحو والصّرف، أو حسب بنيتها الخطابيّة وبنيتها البيانيّة، وهو ما يدرج ضمن شاعريّة اللّغة أو الاستعارة.
وعليه سنحاول في هذه الدّراسة أن نتحدّث عن الاستعارة والتّأويل، والتّأويل المضاعف من خلال كتاب “التّأويل بين السّيميائيّات والتفكيكيّة” لــــ: أمبرتو إيكو، الذي ترجمه سعيد بنكراد.
أولا: حول التأويل والاستعارة
اندرج تحت هذا العنوان ستة عناصر، كل عنصر مرتبط بالعنصر الذي يليه. وللتّوضيح أكثر سنأخذ كل عنصر على حدة.
1- التّوليد والتّأويل: يرى “أمبرتو إيكو” أنه من الصّعب جدّاً أن نخلق نظريّة توليديّة للاستعارة خارج حدود قواعد معروفة، لهذا نحن في حاجة إلى دراسة البنى التي نستند عليها في تأويل الاستعارات، وتحليل المراحل الخاصّة بالإجراء التّأويلي، فبقدر ما يكون الابتكار الاستعاري أصيلاً بقدر ما يؤدي إلى خَرْقِ العادات البلاغيّة السّابقة. وإذا ما أردنا أن نأتي باستعارة ما فعلينا أن نملك تصوراً لها لأول مرّة، أي المؤوِّل النّموذجي للاستعارة هو الذي ينطلق من الموقع الذي يسمعها فيها لأول مرّة.
وللتّوضيح أخذ “أمبرتو إيكو“ مثالاً بسيطاً هو “قدم الطّاولة“؛ هذه الجملة المتكوّنة من (القدم والطّاولة) تمثّل استعارة حيّة. فقولنا عنها إنّها استعارة حيّة يرجع إلى وضعنا هذا الدّال بالذّات “القدم” بدلاً من دال آخر، وليكن مثلاً الذّراع حيال هذا المدلول لأنّنا نتصوّره لأول مرّة. وعليه إذا ما أردنا التّعامل مع الملفوظ الاستعاري فلا بدّ أن ننطلق من المبدأ القائل بوجود درجة صفر للّغة يستند إليها كل تعبير، لكن ماذا نعني بدرجة الصفر للغة؟
2- درجة الصفر والمعنى الحرفي: يرتبط مصطلح درجة الصّفر في الغالب بالدّلالة المتداولة في السّياقات التّقنيّة والعلميّة، أي نعني به المعنى الحرفي وعلاقته بالسّياقات الممكن بناؤها اصطناعياً. ولتوضيح هذا المفهوم أخذ “أمبرتو إيكو“ مثال “عيون مضيئة“؛ فهي تحيل عند كهربائي أو مهندس معماري على الأجسام المضيئة كالمصباح، في حين ينطلق كل من “مونرو بيردسلي (M. BEARDSLEY) 1985، وموري هيس (M. HESSE) 1966، وسرنل ليفين (S. LEVINE) 1977، وجون سورل (J. SEARLE) 1980 وغيرهم، من فرضيّة أنّ المتلقي يؤّول ملفوظاً ما تأويلاً استعارياً عندما يدرك عبثيّة المعنى الحرفي، أما إذا كان المقصود منه المعنى الحرفي، كما يقول “أمبرتو إيكو“، فسنكون حينها أمام شذوذ دلالي مثل “أغميّ على الزّهرة“، أو حالة تناقض ذاتي مثل “الوحش الإنساني”، أو حالة خرق للمعيار التّداولي للنوعيّة، وحينها نكون أمام إثبات مزيف “هذا الرّجل حيوان”.
أمّا بالنّسبة لقبول المعنى الحرفي للتّعبير عن المعنى الاستعاري، فقد أخذ “أمبرتو إيكو” مثال قصيدة “بول فاليري”، المقبرة البحرية:
وذلك السطح اللازوردي الهادئCe toit tranquille, où marchent des colombes,
الذي تمشي فوقه الحمائم
يرتجف بين أشجار الصنوبر والقبور.Entre les pins palpite, entre les tombes,
البحر، البحر، هو البحر.la mer, la mer, toujours recommencée.
البيت الأول يحمل معنى حرفيّاً لأنّ السّطح تمشي فوقه الحمائم، أمّا البيت الثاني فيحمل معنى استعاريّاً، لأنّ حركة الحمائم فوق السّطح تعطي انطباعاً بأنّ السّطح يتحرّك، ولكن الملفوظ الاستعاري لم يأخذ معناه الصحيح إلاّ في البيت الرّابع عندما يؤكّد الشّاعر وجوده أمام البحر.
– لأنّ السّطح الهادئ هو البحر.
– أمّا الحمائم فهي الأشرعة والبواخر، وهنا تتجلّى الاستعارة الحيّة.
3- الاستعارة ظاهرة خاصّة بالمضمون والموسوعة: هذا يعني أنّ الاستعارة هي التي تربط علاقة تطابق معين بين مضامين التّعابير أي بين موضوعات العالم، ومثال على ذلك قول سيدنا سليمان في نشيد من الأناشيد في كتاب الانجيل:
“إنّ أسنانك شبيهة بقطيع غنم عائد من الحمّام“. في الوهلة الأولى لا نفهم شيئاً من هذا المثال، لكن فيما بعد، وإذا كنّا نمتلك الحس التّأويلي الاستعاري الذي يستند على المؤّولات، يمكن أن نربط هذا المثال بالمعنى الثاني أو المعنى الخفي الذي نستنبطه من خلال تأويلنا الأسنان الشّبيهة بقطيع غنم عائد من الحمّام بالبياض، أي شبّه بياض الأسنان ببياض النّعاج عندما تكون نظيفة، وهو ما يجعل هذه الاستعارة تستند في وجودها إلى المماثلة في الأثر المعنوي لا المحسوس، لأنّنا نلتمس الاستعارة في هذا المثال من خلال المعنى دون التّصريح به مباشرة، أي المضمون هو الذي أكدّ على وجود استعارة، فكأنّه يقول: رطوبة الأسنان وبياضها ولمعان لعابها تدخل في تفاعل مع رطوبة النّعاج الخارجة من الماء.
وللتّوضيح أكثر نأخذ البيت الأول من “الكوميديا الإلهية“ لـــ: دانتي:
“وسط درب حياتنا”: هذا البيت يمثّل استعارة لأنّ الحياة تتضمّن بعداً زمنيّاً، في حين أن الدّرب يتضمّن بعداً فضائيّاً. وهذا ما يحيل على أنّ كلاً من “درب وحياتنا” يحملان معنى السّيرورة، ويدلاّن على الانتقال من (أ) إلى (ب)، أي قولنا عن هذا البيت إنّه يحمل في مضامينه استعارة يرجع إلى التّحولات التي حدثت على الجملة من ناحيّة الخصائص ومن ناحيّة المقولات. فلفظة وسط لم تكن لتدلّ على استعارة لو نظرنا إلى درب في بعده الفضائي، لكن مجيء لفظة حياتنا بعدها مباشرة جعلها تتحوّل من البعد الفضائي إلى مقولة الزّمن، ومقولة الزّمن بدورها تحوّلت إلى فضاء خطيّ. وعليه، يمكن أن نمثّل لهذه الجملة على النّحو الآتي:
السّيرورة.
مجرى داخل الزّمن (حياة) حركة داخل الفضاء (درب)
نحن هنا أمام تحويل من فصيلة إلى فصيلة، وفي الآن ذاته نحن أمام تشبيه بين حياة ودرب، لأنّ كليهما سيرورة.
الاستعارة في هذا المثال، إذن، هي التي تؤّول باعتبارها حالة تناسب، شرحت من خلال حدود معجمية لها خصائص موسوعيّة مركّبة تتمثّل في أنّ السّفر مرتبط بالفضاء، والحياة مرتبطة بالزّمن. فكأنّه يقول إنّ الحياة شبيهة بالسّفر. ومن أجل الوصول إلى نتيجة تأويليّة يكفي تنشيط خاصيّة أو خاصيّتين حتّى تتحقّق الاستعارة. وعليه، فإن السّياق وتجلّي بعض الخصائص في النّص الاستعاري هما اللذان يفرضان علينا المعنى.
4- الاستعارة والعوالم الممكنة: يقصد “إيكو” هنا بالاستعارة والعوالم الممكنة الوسائل التي تمكّننا من معالجة الاستعارة معالجة مرجعيّة، وهي التي تتجلّى في النّظر إلى الاستعارة في بعدها الحرفي، وبعدها إسقاط مضمونها على عالم ممكن، أي إنّ تأويل الاستعارة معناه تصوّر عوالم ممكنة، ولتوضيح ذلك نبقى في المثال السّابق “إنّ أسنانك شبيهة بقطيع غنم عائد من الحمّام” فكأن سيدنا سليمان يقول إنّ “أسنان الشابة لها خصائص قطيع النّعاج”: قوله هذا جاء ضمن سياق محدّد يستجيب لبعض متطلّبات الشّعريّة، فخطابه هذا كان رمزاً عما كان يريد أن يقوله عن الشّابة التي يتغنى بها، لأنّ خصائص قطيع الغنم التي يشير إليها ليست هي التي تدخل في سياق تجربته الخاصّة، بل هي التي منحتها الثّقافة الشّعريّة السّائدة في عصره، لأنّ قطيع الغنم آنذاك كان رمزاً للبياض. ولهذا فالمواقف الثّقافيّة هي التي جعلت منه ينظر إلى قطيع الغنم من هذه الزّاوية ويشبه بها بياض الأسنان.
5- الاستعارة وقصديّة المؤلف: هي التي نعني بها أنّ الاستعارة لها علاقة وطيدة بتجاربنا الداخليّة الخاصّة بالعالم، ولها علاقة أيضاً بسيرورة انفعالاتنا، والاستعارة في تصوّر سورل هي التي ترتبط بالمتكلّم، أي إنّ الاستعارة هي التي تخضع لقصديّة المتكلّم. ولنأخذ مثالاً على ذلك، هو “إنّها ظبيّة” و“إنّه بطن ظبيّة”، فكأن المؤلف يشير إلى كائن بشري ولون، أو يشير إلى ثدييات من نوع الأَيْليّات إلى أجزاء من جسمه، من هذا المنظور أخذ سورل موقفه بأن تأويل الاستعارة خاضع لقصد المؤلف.
لكن هذا غير منطقي لأن كثيراً من الشّواهد تحتاج في قراءة الاستعارة إلى من يملك قوة تأويل وإيحاء خارقة، وهو ليس بالضرورة ما يقصده المؤلف، لأنّ التّأويل الاستعاري ينبثق من التّفاعل بين المؤوّل والنّص، ونتيجة هذا التّأويل تفرضها طبيعة النّص، وطبيعة الإطار العام للمعارف الموسوعيّة لثقافة ما، وليست قصديّة المؤلف. ولهذا لا يمكن أن تأتي مشروعيّة التّأويل إلاّ من خلال السّياق العام المتضمّن للملفوظ، ومن أجل أن نفهم هذه الفكرة جيداً فلنعد إلى قصيّدة بول فاليري “المقبرة البحرية“:
وذلك السّطح اللازوردي الهادئ.
الذي تمشي فوقه الحمائم.
يرتجف بين أشجار الصنوبر والقبور.
البحر، البحر، هو البحر.
لقد كان على القارئ أن ينتظر حتى البيت الرابع من أجل أن يكتشف التّفاعل التّأويلي “بأنّ هذا السّطح الهادئ الذي تمشي فوقه الحمائم هو البحر الذي تنتشر فوقه الأشرعة البيضاء”؛ فالتّبرير الذي يؤول الحمائم على أنّها أشرعة لم يظهر إلاّ في البيت الرابع، لهذا كان من الضّروري أن تكون بحوزة القارئ النّموذجي معرفة موسوعيّة عميقة مدعّمة بالتّجربة. (ص 158- 162)
ومثال آخر بسيط “جان يأكل تفاحته كل صباح”. يمكن أن يكون التّأويل الاستعاري لهذا المثال أن جان بأكل التّفاحة كل صباح كأنّه يرتكب خطيئة آدم كل صباح، هذا يكون تأويلاً قائماً على معرفة موسوعيّة سابقة بحادثة آدم وحواء مع شجرة التّفاح التي حرمها الله عليهما، حين نهاهما الله تعالى ألا يقربا هذه الشّجرة لكن سوّلت لهما نفسهما وأكلا منها. (ص 160)
النّص والمعرفة الموسوعية هما اللذين يضعان القارئ النّموذجي بين يدي ما توحي به استراتيجيّة النّص، أي إنّ القصديّة النّصيّة هي التي يتصوّر من خلالها القارئ التّأويل الاستعاري المناسب، لكن هذا لا يعني أنّه بالضرورة تكون الاستعارة ظاهرة مقصودة، لأنّه في بعض الأحيان من خلال عفويّة القارئ ننتج استعارة ملائمة، أما إذا ربطناها بالقصديّة يمكن أن نأتي باستعارات مبتذلة.
6- الاستعارة باعتبارها نوعاً من الإيحاء: هو أنّ الاستعارة ظاهرة إيحائية من وجهة نظر سيميائيّة داخل لسان وفي فترة زمنية ما من تطور هذا اللّسان، لا من جهة نظر قصديّة المؤلف. وللتّوضيح أكثر بأنّ الاستعارة هي نوع من الإيحاء نأخذ العبارة التالية “جان خنزير”، فهي تعني في معناها الحرفي جان من ثدييات خنزيريّة، أما في معناها الإيحائي فتدل على أنّ جان شخص سيء السّلوك الأخلاقي والعملي، وهذا يعود إلى معرفتنا السّابقة بالعادات السّيئة للخنزير، وأنّه حيوان وسخ وغير طاهر- بالنسبة للمسلم-، وعليه فالإيحاء في هذه العبارة يدّل على السّلبيّة بالمعنى الحرفي للكلمة، لدرجة أنّه يقود المؤلف إلى أنّ الخنزير حيوان وضعه الله قصداً كي يحيل به على أناس محتقرين
وعلاوة على ما قدّمناه حول الاستعارة والتّأويل من منظور إيكو، يمكن أن نتوّصل إلى نتيجة مفادها أنّه لا بدّ من إدراك الأمور التالية في التأويل:
- أن نمتلك تصوّراً أوّليّاَ حول النّموذج الاستعاري الموجود بين أيدينا، المراد تأويله، شرط أن تتوفر في هذا التّصور العناصر الفنّيّة المهمّة، والتي تفرضها طبيعة الملفوظ الاستعاري.
- أن نكون واعين بعبثيّة المعنى الحرفي للملفوظ، وهذا ما يقودنا بالضرورة إلى تأويله تأويلاً استعاريّاً.
- أن يكون الملفوظ الاستعاري ضمن الموسوعة التي تتوفر على مرجعيّات سابقة تمكّننا من التّأويل، ولا يتحدّد ذلك إلاّ ضمن خاصيّة أو عدّة خصائص يتوفر عليها الملفوظ، إضافة إلى الاعتماد على الإشارات التي نستنبطها من السيّاق النّصي، والتي تقودنا في نهاية الأمر إلى تأويل محتمل للاستعارة.
- أن نتحقّق من وجود استعارة مفترضة، تذهب بنا إلى علاقات دلاليّة لا نهائيّة، نكشف بها عن القدرة المعرفيّة للاستعارة التي تتحكّم فيها ثقافة القارئ المرجعيّة.
ثانيا: دفاعاً عن التّأويل المضاعف: جونثان كالر
اشتغل “جونثان كالر” (J. Culler) في هذا العنصر على استخلاص بعض الملاحظات الخاصّة بالمحاضرة التي ألقاها “إيكو” تحت عنوان “التأويل والتأويل المضاعف” والمتمثلة في أنّ:
– “إيكو“ من أولئك الذي يؤمنون بأنّ التّأويل المضاعف أكثر أهمية من غيره، أي لا يتوقف في محاضراته كثيراً عند التأويل الأدنى أو الملائم أو المعتدل، فهو يحاول إحياء وبث الروح في تأويل مبالغ فيه/المفرط، وهو يقول بأنّ هذا التّأويل المضاعف لم يكن له أثر في النّقد الأدبي، تم تجاهله حتّى اكتشفه وحثّ طلبته على الاشتغال عليه. (ص 173)
– يمكن أن يكون التّأويل المضاعف، حسب “إيكو“، في الواقع ممارسة تضع أسئلة ليست ضروريّة في التّواصل العادي، ولكنّها تمكّننا من التّفكير في طرق اشتغالها. أي إنّ “التّأويلات القصوى” عنده هي التّأويلات التي يجب أن تحظى بالاهتمام لأنّها تملك القدرة على الكشف عن العلاقات والتّرابُطات التي لم يتم الكشف عنها من قبلُ أو التي لم يُفَكَّر فيها. (ص 179)
– التّأويل المضاعف عنده أيضاً هو إعادة بناء قصديّة النّص. “فإيكو“ في هذا المنهج كما يرى “كالر” يسعى للتّعرف إلى “السُّنَن والبنيّات المنتجة للدّلالة داخل مناطق متعدّدة من الحياة الاجتماعيّة“. (ص 179 – 181)
بعد هذه الملاحظات التي استخلصها “كالر” عن التّأويل المضاعف عند “إيكو“، انتقد موقفي “إيكو” و”رورتي“ من التفكيكية، إذ يرى بأنّ كليهما يرغبان في إقصاء التّفكيك حيث نجد:
– “إيكو” قد أضلّه انشغاله بالحدود والتّخوم، ويقول بأنّ النّصوص تفتح أمام القارئ أفاقاً واسعة، ولكن ضمن حدود بعينها. (ص 187)
– أما “رورتي“ فيرى أنّ التّفكيك على ضلال، ومرّد ضلاله هو حمايته الطوبيك (الوجود المفترض)، لأبنية أو آليات نصيّة أساسيّة، واستمرارها في الاعتقاد بأنّ هناك إمكانيّة لاكتشاف الكيفيّة التي يشتغل بها النّص.
كما يتجلّى خطأ التفكيك أيضاً في نظر “رورتي“ في عدم قبوله بفكرة أنّ القراء ليس لهم إلا طرائق مختلفة في استعمال النّصوص، وليس لأحد منهم أن يقول لك شيئاً أعمق من ذلك. (ص 186 – 187)
ولكن الحقيقة هي أنّ التّفكيكيّة تربط الدّلالة بالسّياق، أي إنها نتاج علاقات داخل النّص، أو بين النّصوص؛ أما السّياق فيظل غير محدود، وبهذا نجد “رورتي“ من منظور “كالر” أقرب إلى روح التّفكيك من “إيكو“، لأنّ التّفكيك يملك إمكانيّة أن يمنح النّص القدرة على خلخلة المقولات أو كسر التوقّعات وتقويضها. (ص 187)
ويصر “كالر“ في هذا العنصر على أنّ وضع ضوابط وحدود للتّأويل ليس أكثر من تعطيل لفاعليّة القراءة، وحبس لقدرة اللّغة في كسر الحدود والتّخوم التي يضعها أي منهج.
ولهذا لا وجود لقراءة شاملة تستوعب من خلال مسار تأويلي واحد لمجمل دلالات النّص الواحد، لأنّ التّـأويل كتاب مفتوح لا نهاية له، ولكل قارئ طريقته وأسلوبه في قراءته، وفق استراتيجيّة معقّدة من التّفاعلات تفرضها مؤهلات كل قارئ، وهذا ما يحدّد مدى تفاعل القارئ مع النّص ومدى توافقه مع الدّلالات التي ينطق بها فحوى النّص.
وكخلاصة لما تمّ تقديمه يمكننا أن نقول إنّ كتاب “التّأويل بين السيميائيّات والتفكيكية” لـــ: أمبرتو إيكو نقطة من بحر، حاول من خلاله أمبرتو إيكو أن يرسو بسفينة التّأويل في مرسى التّفكير المنطقي، في الفهم والقراءة والكتابة، من خلال التمكّن من اللّغة والوعي بما يتلقاه من معلومات تهيئ له مدخلاً جيّداً لمعرفة المعنى المقصود، وإدراك التّجربة الجماليّة في النّصوص.