تتأسس هذه القراءة لرواية هذا الأندلسي للكاتب المغربي سالم حميش على فرضية تستحضر التحولات التي تعرفها الرواية المغربية المعاصرة، والإقتراحات التي تقدمها على أصعدة التخييل واللغة والسرد. ومعلوم أن الرواية المغربية، وهي تحقق تراكما نوعيا، تتطلع متحررة من عقدة الولادة الحديثة إلى إنتاج المعرفة بالعالم اعتمادا على المغامرة الخيالية والتمثيل متعدد المستويات. لكأنها في حوارها مع الحساسيات الجمالية الجديدة، عربيا وكونيا، توجد نكهتها الخاصة ويتدفق شهد السرد فيها مفرجة عن قدرة تكلمية عالية.
وتكتسب رواية هذا الأندلسي أهميتها باندراجها ضمن هذا الأفق، لما يحتشد فيها من إجراءات سردية وأسلوبية متنوعة، وأحداث ووقائع وممارسات، وانفتاح على نصوص وخطابات ووسائط مختلفة كالفلسفة والتصوف والشعر كإجراء تناصّي يخدم استراتيجيتها التلفظية والدلالية. إن نصا يكتنز بهذه الصيغ السردية، ويجتهد في الانفتاح على الروافد الثقافية التي تغذي التخييل وتقدح زناده لا يمكن إلا أن يحفز على مستوى التلقي على إنتاج دلالات ليست أحادية ولا مستقرة كما أنها موصولة بالسياق الاجتماعي والإيديولوجي الذي يمتح منه الروائي.
وإذا كانت الأعمال الفنية بتنوع أجناسها وأشكالها الكتابية تقترح على قرائها عالما مخصوصا بفضاءاته وأزمنته وعاداته وقيمه، عالم سرعان ما يحتك القارئ بأسئلته وانشغالاته وهو يرتاد آفاق السرديات الحادثة فيه، فإن العالم الذي يجود به السارد في رواية هذا الأندلسي لا يغرينا بالتموضع إزاءه داخليا وحسب، وإنما يحرضنا على توليد الأسئلة من خارجه، لكأن الرواية بحق حياة تأخذ وجودا مضاعفا عبر التخييل. وهذه الخاصية تكتسب منطقها ومعقوليتها في الكتابة عند سالم حميش بحكم ما يتميز به من زاد ثقافي وفكري وجمالي متنوع، يمنح سردياته أشكالا وبناءات تصويرية شديدة الخصوصية. ولأن تجربته السردية هي حصيلة تجارب لغوية وفكرية ومراكمة ثقافية، فإن التخييل يغدو فيها محضنا للفكر والمعرفة والسؤال المهيب الذي يضع الرواية في قلب الراهن الغريب والملتبس والمطبوع باحتكارات الأنساق المغلقة والشمولية للحقيقة ولأشكال ممارستها.
وإذا علمنا أن الرواية رغم كونها ممارسة تخييلية فإنها ليست معفاة من مسؤولية تقديم عالم كما لو أنه حادث بالفعل، وهي تنجز ذلك من خلال البطل بما أنه يعيش ويفكر ويشعر ويتكلم أي باعتباره ذاتا1، أمكننا القول بأن فهم الاقتراحات التي يقدمها السرد المعاصر، خاصة النصوص العميقة الموصولة بالتجربة الإنسانية، يتطلب قراءة تنظر للسرد باعتباره شكلا من المعرفة، وتبوئه المكانة التي يستحقها في تمثيل ما لا تستطيع اللغة التعبير عنه. وهذا الأفق الذي يرسي فهما للسرد على أساس فلسفي وتأويلي هو الذي يؤطر هذه القراءة ويشكل خلفية لفرضيتها العامة.2
أولا: المتن السردي وتداخل المرجعيات
1- تقديم الرواية
يكمن الهدف المعلن لرواية هذا الأندلسي في التعريف بالمخطوطة الضائعة لابن سبعين من خلال حكاية يتحمل فيها مسؤولية السرد. وبذلك، تخلف الوثيقة الضائعة حسرة شديدة في نفسه لأنها ثمرة بحث يوتوبي عن مجتمع يحترم العلم والعلماء وأهل الحكمة. لكن الرواية باعتمادها على المصدر التاريخي في إعادة بناء سيرة ابن سبعين وإخضاعه للمنظور التحريفي للخيال تتقصد إلى ما هو أبعد من إعادة الاعتبار للجوانب الفكرية والروحية التي تمثلها هذه الشخصية. فتذويت الرؤية إلى العالم من خلال استدماج الأفعال المشخصة للحالات الداخلية المتعلقة بالتفكير والشعور والتأمل والاعتقاد يقلل من سطوة الماضي، ويجعل الرواية أكثر انجذابا إلى الزمن الخاص بتجربة القارئ3. وهذا الاشتغال المخصوص الذي تنجزه الرواية حول المصادر التاريخية دون أن تفقد خصوصيتها ككتابة تخييلية يؤكد على مرونتها وقدرتها اللامحدودة على تطويع الأشكال والخطابات والسجلات لخدمة عوالمها ومقاصدها وإمكاناتها التدليلية.
وتبدو أهمية هذه الرواية في إعادة الاعتبار للحكي كفعالية إبداعية أولى بعدما تضاءل دوره في الحساسية الروائية الجديدة. فبالقياس إلى البناء الشذري الذي يشكل قاسما مشتركا بين كتاب تلك الحساسية، تأخذ الدينامية السردية خصوصيتها في هذه الرواية من نظام سيميائي محدد الاشتغال، يتميز بالمزج الخلاق بين المكون الروائي الذي ينهض على الحقيقة الافتراضية التخييلية، وتشير إليه الرواية من خلال التعيين التجنيسي الذي يحمله غلافها، والمكون السيرذاتي المؤسس على الرؤية الاستعادية لحقيقة مطابقة للواقع الذي كانته الذات الساردة في الماضي، ومن تجلياته داخل الرواية الوُرودُ القوي للأفعال الدالة على التذكر والاستعادة والإشارة المباشرة للحياة الفردية وتاريخها. وإذا كان لأفعال التذكر من دلالة فهي التأسيس لمقومات الحكي السيرذاتي لأنها “تقوم دليلا على أن زمن الحكاية هو زمن مستعاد أو مسترجع، حادث في العالم قبل حدوثه في النص، فالذاكرة هي خزان الماضي، الذي تنتقل منه الأحداث إلى الخطاب لتثبت فيه نهائيا بواسطة اللغة”4. وبموازاة مع الرؤية الاستعادية التي يضطلع بإنجازها صوت الناظم الداخلي، تنبثق رؤيات تزامنية تخلق الإيهام بالمحايثة، خاصة ما يتعلق بالمشاهد والأمكنة التي تحرك فيها ابن سبعين، وهذا ما يعطي للسارد بضمير المتكلم دورا مركزيا في هذه الرواية. كما أن المسافة بين الحلم والحقيقة، بين الروحي والمادي تفسح المجال لظهور وضعيات يغمرها الحب والسخرية، كعلاقة ابن سبعين بفيحاء السبتي وطلابه ومريديه أو علاقته بمن يحتكرون الحقيقة ويفرضون شروط تداولها وينبذون من يعارضها أو يشكك فيها.
ومعلوم أن الانصهار بين هذين الخطابين في النسيج اللغوي والسردي للرواية يحقق لها القدرة التكلمية، بحيث يتراسل فيها اللجوء إلى استدعاء الماضي من أجل تشييد الهوية الذاتية سرديا بالمعظلة الجماعية التي تحيل على علاقات التفاعل بين هذه الذات والعالم. فاللجوء إلى تأصيل الكيان الفردي يظل مشروعا غير قابل للتحقق على النحو الأفضل إذا لم يستند إلى تأصيل للكيان الجماعي5. وذلك لأن الإنسان، كما أكد على ذلك ميخائيل باختين، لا يمكن أن يعيش إلا في التواصل، وذاته لا تتوضح على النحو الأفضل إلا في علاقة بالآخرين الذين يحتك بهم ويصادفهم في الواقع الخارجي الذي ينشد فيه آماله ويلاحق فيه حقيقته المؤرقة. بهذا المعنى، فالرواية وهي تلقي بالبطل في مواجهة عالم لغزي وغريب يشكل مسرحا للدسائس والصراعات والعداوات لا تشخص الزمان المروي فيها وحسب، بل تغدو أكثر إفصاحا عن الزمن الراهن وما يبطنه من معاني الصراع والعبث واللاجدوى. وهذا ما يمنحها بعدا فكريا ويجعل الزمان المروي فيها موضوعة أساسية في بنائها العام.
وإذا كان هذا المنحى الأسلوبي الذي يختصّ به بناء الرواية، والذي يحاور فيه سالم حميش الكتابة السيرية ويستثمر مقتضياتها، نجد له أثرا في بعض الأعمال الأخرى التي كتبها، إذ جربه في روايته مجنون الحكم التي أعاد فيها تشييد الهوية الفردية للحاكم بأمر الله، وكذلك رواية العلامة التي أنجز فيها تخييلا حول سيرة بن خلدون، فإننا عندما نتأمل هذا الإجراء السردي في سياق النصوص الروائية الثلاثة التي تتخذ من سير بعض الأعلام الثقافية العربية الإسلامية مادة للتحبيك السردي، يتبدى منجز الكاتب حاملا سمات المشروع السردي الذي تلاحق فيه الرواية قامات وعلامات بارزة في التاريخ العربي الإسلامي ثقافيا واجتماعيا وسياسيا، وتقرأ في مساراتها وبياضاتها العديدة التباسات الحاضر واستعصاء أسئلة الإنسان فيه. وإذا كان التحري في هذه النصوص من هذه الزاوية يقربنا مما يحتشد فيها من علاقات موضوعاتية تحيل على الحياة بكل ما يعتمل فيها من أنساق وتوترات وصراعات وأحقاد وغبطات مفتقدة، فإن ذلك لا يلغي المخططات المختلفة التي تكتنزها المكونات السردية، مما يجعلها أقدر على الوفاء بمتطلبات التخييل دلاليا وجماليا، خاصة في هذه الرواية التي يحاور فيها كاتبها ثقافة السرد العربي باقتراح إبداعي خصيب.
2- السردية التاريخية كبنية للفهم
يتأطر المتن الحكائي في هذا العمل الروائي تاريخيا ضمن القرن السابع الهجري، وهي مرحلة تميزت بتفكك الوجود العربي الإسلامي بالأندلس، وزحف الممالك الإسبانية ومن ورائها أوربا على معاقل العرب بها. ومن هذه الناحية حتى وإن كانت الرواية تمثل شكلا من التقصّي في العلاقة بين ابن سبعين ومخطوطته الضائعة، إلا أن ما تقوله يتعدى مجرد السرد الاستعادي الشخصي، حيث تكتب الرواية واقعا عربيا إسلاميا مريضا وتقرأ أسباب تداعيه وانهياره.
يمثل ابن سبعين الشخصية الرئيسية في الرواية: مثقف وفيلسوف، ولد بقرية رقوطة في بادية مرسية شهر رجب من عام 614 للهجرة. ويظهر من خلال السرد الاستعادي الذي يجري على لسان ابن سبعين أن علاقته بالدنيا لم يكن هاجسها البحث عن المواقع والمراتب والتقرب من أجهزة السلطة، بقدر ما كان يمحض المعرفة حبا خاصا، وكان هاجسه في ذلك أن يبحث عنها ولو كانت في الصين. وهو يصف نفسه في سياق تذكراته بأنه السالك المكابد، والمحقق في مجرّات المطلق والماهيات. وهي طباع ما كانت لتتحقق فيه لولا ملازمته المستمرة للكتب، وإقباله على الاغتراف من خزائنها التي لا تنضب. لكن البحث عن المعرفة لم يكن منفصلا لديه عن الوعي بتحولات العالم ومصائر الإنسان الذي يعيش فيه. فقد كان ذلك بالنسبة له نضالا من أجل تثبيت كلمة الحق، وإصلاح ما أفسدته الممالك الإسلامية المتناحرة فيما بينها. لهذا لم ينصع لما كان يرغب به أبوه، كما أنه لم يكن راضيا عن موقف أخيه عندما تدخل منتدبا من قبل السلطة ليفاوضه حول ما تقرأه في علاقاته بمريديه من تحريض ضدها. لم يعبأ ابن سبعين بالتهديدات التي حملها إليه، بل أشفق عليه لما رآه منه من تجاهل لمصير المسلمين وأندلسهم.
وإذا كانت الملفوظات التي يضطلع ابن سبعين بإنجازها تظهر لنا تحسره الشديد على مخطوطة ضاعت منه وضمّنها كلما جادت به قريحته، خاصة وأن مصدرها فيض من الوجد والسكر لا يجود به الزمان إلا لماما. وبسبب من ذلك الفشل في العثور عليها أو استعادة محتواها، أخذ على عاتقه الحفر في ماضيه لعله يتمكن من ترميم ملامح تلك الصورة المتضمنة في الوثيقة التي يصفها في سياق حواره مع قطر الندى فيقول: “زاد في ذهولي فقدي لمخطوطة صفحاتها كأنها من وحي أوحي إلي، أو من فيض الوجد الروحاني عليّ، كلماتها علوية التكوين، أوجيّة التعبير، واردات هي من جنس ما لا يخالج الفكر والنفس مرّتين بل مرة خرقة للعادة، متفرّدة “(ص،84) فإنها- أي الملفوظات- تقربنا من شخصيته كإنسان وما تحظى به المرأة من موقع خاص عنده. وإذا عرفنا أن الرواية عند سالم حميش تتعين حقلا خصبا لاشتغال الأهواء والعواطف والارتقاء بها إلى أفق المتعالي المشيد روائيا أمكننا القول إن علاقة ابن سبعين بالمرأة تفسح المجال للخيال للتأسيس لانجذاب وارتباط خاصين بالعالم. بهذا المعنى، فإذا كانت العلاقة التي جمعته بالمرأة اليهودية أو ببلقيس المرأة المتمردة على كل الديانات والتي تنتسب لجماعة الأرضيين، أو قطر الندى المرأة المسلمة التي تعرف عليها وهو يتجول في مدينة أندلسية تظهر لنا أن الأندلس كانت فضاء تعايش بامتياز بين الديانات والثقافات والأعراق والمذاهب، كما كانت مجالا لظهور التوترات بين الفقهاء وأصحاب الرأي خاصة الفلاسفة، وهي توترات كان يحكمها فهم خاطئ من جهة المؤسسة وأتباعها، ينمّ عن أحكام مسبقة لا تستند إلى علم، فتطورت إلى تحريض ضده وضدّ طلبته الذين ازداد عددهم حتى أنهم كونوا فرقة أطلقوا عليها السبعينية مما أفضى إلى رحيله عن الأندلس باتجاه سبتة، فإن هذه العلاقات تبرز لنا جوانب من اشتغال التخييل في هذه الرواية، خاصة من جهة توليد البياضات والشروخ التي تُمكّنُ من إعادة تشييد صورة البطل، وتخصيصها بما يوطد صلتها بأسئلة الإنسان وهو يجابه لغزية الزمان مجردا من كل رعاية يمكن أن تحمي ظهره من ضروب العداوات والمضايقات. لذلك، فالحدث المرتبط بفقد المخطوطة لا تكمن أهميته في المعرفة التي يوفرها حول شخصية ابن سبعين وحسب، وإنما هو استراتيجية بلاغية تضعنا في صلب إمكانات تخلق النص السردي وتكونه. لكأننا عبر الرؤية الاستعادية نتابع سرديات الفقد وهي تتشكل عبر متواليات حكائية مشوقة مما يجعلها بنية مركزية للفهم.
إذا كانت الرواية تنجز تمثيلا سرديا لمشاعر الحزن التي خيمت على سماء ابن سبعين بضياع مخطوطته، وتستدعي جوانب مما تضمنته الوثيقة عبر السرد الاستعادي، فإنها لا تغلق على ممكنها التخييلي في حدود هذه الحكاية المؤطّرة، وإنما يتوسّع كونها السردي من خلال برامج حكائية جزئية تضيء جوانب مختلفة من عصره، وكذا العلاقات السائدة فيه وطرائق التعليم ومحتوياته. فابن سبعين على زهده في الدنيا وإقباله على العلم والمعرفة وحلقات الذكر، لا يقدم ههنا شخصية متعالية منفصلة عن محيطها، بل يجذره الكاتب في البيئة الاجتماعية ويُنسِّب ممارساته فيبدو شخصية منفتحة، يهبه اطلاعه الواسع على كتب النفس وأحوالها وكتب الدين والأخلاق والطب قدرة على فهم الآخر والاستعداد للتضحية في سبيل التخفيف عنه وتحقيق سبل راحته. ويظهر هذا التسامح في شخصيته انطلاقا من موقفين اثنين صدرا عنه في سياقين مختلفين: الأول عندما أصابت أمّه حمى شديدة كادت تفقدها صوابها نتيجة عشقها لأحد رجال الأندلس المعروف بعلمه ووقاره وحكمته. أما الموقف الثاني فيتمثل في عشق ميمونة له وهي الزوجة المطلقة من أخيه، ولما طلبت منه أخته وراحيل جارتها اليهودية أن يخصص لها وقتا للنزهة على بغلته، وأن يترك شيئا من ملابسه يُذكِّرُهَا به، لم يتردد في قبول ذلك العرض تخفيفا لمعاناتها وآلامها.
ولفهم الاشتغال التخييلي الذي ينجزه سالم حميش وأثره في شعرية هذا النص واقتراحاته الجمالية وإمكاناته على الحض على التأويل وممارسة التفكير النقدي، تلزم الإشارة إلى أحداث تميز المتن السردي، وهي التي تتصل بقدوم ابن سبعين إلى سبتة وإقامته بها مدة خمسة أعوام تفرغ فيها للعلم والمعرفة ولممارسة دوره كعالم في نصرة المظلومين والتخفيف من حيرة الحائرين وإنارة الطريق للسالكين والمتمسكين بالتوحيد. واللافت في هذه المحطة الهامة من حياته يُحدّثُ عن أمرين اثنين:
الأول اتصاله بفيحاء السبتي وانخطافه بجمالها وأخلاقها وقراره القبول بطلبها الزواج منه حيث اتخذت حياته مسلكا آخر في كنفها زاده إدراكا لنور الحق في جمالها. وفي هذا الجانب يظهر العشق عند ابن سبعين مفضيا إلى هدأة الروح وتجلي الإجابة، أما المرأة فتبدو موضوعا للكشف والظهور والاستفاقة. وهو هنا يقاسم شيخ العرافين ابن عربي النظرة إلى المرأة وما يتحصل بسببها من معاني الظهور والانكشاف والانفلات من ظلمة الغيب. يقول ابن عربي: “وليس في العالم المخلوق أعظم قوة من المرأة لسر لا يعرفه إلا من عرف فيما وجد العالم وبأي حركة أوجده”6. بهذا المعنى يضطلع الحضور الصوفي بالتأسيس للحكاية المروية داخل الرواية، فهو يجعل الهوية السردية للبطل أكثر تقبلا وإشراقا في عين القارئ، كما أنه يفعم الرواية بالمعرفة، ما دام لغة تقتضي التأويل وتحض على التفكر قصد الاقتراب مما تولده من دلالات تؤثر فينا وفي اعتقادنا حول الواقع.
أما الأمر الثاني فيذكّر بما حصل له بالأندلس. حيث اشتد ضغط السلطان وتحامل الفقهاء عليه فأرغم على مغادرة سبتة باتجاه مكة لأجل الحج تاركا وراءه فيحاءه وطلابه، لكن إقامته بمكة وإن شهدت في بدايتها ما يخفف عنه وطأة الضيق والشدة سواء من خلال العلاقة التي انتسجت بينه وبين أميرها أبي نمى أو لقاءاته المتجددة بوليه الششتري، فإن هذه السعادة لم تكتمل بالتحاق زوجته فيحاء به، إذ فارقت الحياة بالقرين، ودفنت في مقبرة هناك الأمر الذي ألقى بظلال كثيفة من الحزن عليه، لم يخفف من وطأتها إلا زواجه من امرأة تدعى أمامة كان قد تعرف عليها بمكة.
إذا كانت الرواية تنتهي باشتداد الضغط على ابن سبعين من جهة القائد المملوكي بيبرس، ودعوة أبي نمي له لمغادرة مكة والتواري عنها، فإن اختيار ابن سبعين مواجهة أعدائه قارئا في انخطافاته ونظراته الغائمة مقدار حقدهم عليه وأياديهم الأخطبوطية تمتد نحوه بالضرب واللطم يجعل منه بطلا تراجيديا يتحرك في وضع المفارقة والإشكال.
3- الاختيارات السردية والخطابية
عديدة هي الاختيارات السردية التي يوظفها الكاتب في تقديم المتن الحكائي. وإذا كان لذلك من دلالة فهي التأكيد على أن الكتابة المُبدِعة عند سالم حميش لا تلامس حدودها القصوى إلا عندما تستقدم إليها ما يهبها قدرة على التقاط الأسئلة الصعبة والإصغاء لأعماق الإنسان الغريب المقذوف في عالم يفتقد الوضوح والأمان. وهو في ذلك لا يختلف عن تطبّعاتِ البطل الذي اختلقه في هذه الرواية حينما رأى فيها،أي الكتابة، زلزلة فجائية وفورة صاعدة تتأبى على من يقترفها أو يتصنعها. إنها كتابة تحاور التوحيدي وابن رشد والغزالي، وتغوص في أحوال أبطالها مستدعية النفري والحلاج وابن عربي. وهي إذ تستحضر كل ذلك تسبك لغتها الخاصة التي تستأنس بأطياف عصرها، وتحمل إليه نقدا صريحا مشغولا بأسئلة راهنة. ومن إجراءاتها نهوض السرد فيها على أسلوب المحاورة. وهو مسلك يحيل القارئ على محاورات أبي حيان التوحيدي في كتبه المعروفة.
لا شك أن هذا الأسلوب السردي يمكن قراءته كما لو أنه بصمات لطريقة الكاتب في التأليف السردي، أو استراتيجية يسلكها في علاقته بالقارئ لتسريب معلومات عن خطته في الكتابة، إذ يومئ له إلى الأسفار التي يتبنين من خلالها النص، ولا بد من استحضارها في قراءة أبعاده المعرفية والجمالية. وإذا كان لهذه المسألة امتداداتها في المناخ الثقافي العام، فإن الإحالات التي تتوارد داخل الرواية إلى أبي حيان التوحيدي هي إشارة إلى مصادر التخييل ومواده وموارده، وكذلك مُوجِّهاته الخارجية كالإسناد والشفاهية التي منها يستمد ملامحه الخطابية ويغتني وتتفتح آفاقه. وعلى نهج التوحيدي تشتق المحاورة بين ابن سبعين والششتري أو بينه وبين طلبته مسارها وترتاد عوالمها ناظرة فيما هو مطروح عليها. فتارة يزاوج بين وظيفتي السرد والجواب حيث يتلقى الأسئلة ويستفيض في الرد عليها إما تثمينا أو معارضة، وتارة يتحول فيها إلى مسرود له يتلقى ما يضيء الأفكار التي تشغله ويفك مغالقها. وما يتحصل عن هذه المحاورة من إشراقات يشي بأمر هام يتعلق بالصحبة باعتبارها وسيلة بيداغوجية ملائمة لتحصيل المعرفة أو تمكين الآخرين منها. وهذا ما عبر عنه التوحيدي على لسان أستاذه أبي سليمان العسكري ردا على أحد تلامذته: “بكم اقتبست، وبحجركم قدحت، وإلى ضوء ناركم عشوت، وإذا صفى ضمير الصديق للصديق، أضاء الحق بينهما واشتمل الخير عليهما، وصار كل واحد منهما رداء لصاحبه، وعونا على قصده، وسببا قويا في نيل إرادته ودرك بغيته، ولا عجب من هذا، فالنفوس تتقادح والعقول تتلاقح والألسنة تتفاتح”7.
بهذا المعنى، تطفح المحاورة بما يتجاوز الإطار المونولوجي؛ فهي تستدعي الشيء ونقيضه، وتقرأ موضوعاتها من منظور نسبي تعددي ومنفتح يُذكرُ بما تحدث عنه ميخائيل باختين في تحليلاته الرصينة. وما توفره المحاورة لبناء الرواية يتجلى كذلك في تعدد مستويات التواصل فيها. فبالإضافة إلى التواصل البرّاني بين المؤلف الواقعي والقراء الواقعيين المحتملين، يتحقق تواصل داخلي بين عبد الحق ابن سبعين الشخصية المتخيلة الناهضة بدور السرد في النص والمروي له بمستوياته المتعددة، مما يجعل الرواية قائمة على تعدد الأصوات والخطابات والرؤى. وهذا التواصل المتعدد لا يظهر فقط من خلال الأحلام والرؤى المتخللة عبر الخطاب المنقول، بل ومن خلال المحكيات الجزئية الكثيرة التي تتخلل الرواية وتمثل إما إضاءة على حياة ابن سبعين وأفكاره وأحواله مع أولي الأمر في عصره، أو نقدا لمظاهر التنافر والشقاق بين الإمارات الإسلامية في الأندلس وزحف القشتاليين عليها. وهي كلها عناصر تحسبها كما لو أنها خارج المحكي الإطار للرواية، لكن وظيفتها في الإفصاح عن مضمون السرد جلية وبيّنة.
ولما كان السرد في الرواية يتم بضمير المتكلم على لسان شخصية تعد من أهم أعلام الأندلس وأكثرها إيغالا في معرفة الحكمة وارتحالا في علوم الأوائل، كان لا بد أن تستدعي الرواية ما يلاحق أسفار هذه الشخصية وارتحالاتها، سواء تلك الأسفار القسرية الواقعية أو تلك الخيالية التي كان يجريها في خلواته ومعتزلاته. لهذا استفادت الرواية من إمكانات السرد الرحلي. فابن سبعين تنقل من الأندلس إلى سبتة حيث أقام فيها بعضا من الوقت، ثم أرغم على إخلائها فتوجه إلى مكة عبر الجزائر وبجاية ثم مصر. وفي هذه الرحلات القسرية كان يقطف متعة الاختلاف أثناء توقفاته، ولذا لا ينطبق عليه هنا ما ينطبق على السائح، فقد كان أحيانا يختار طرقا وعرة ويواجه مواقف صعبة تتبدى فيها المخاطر التي كانت تحدق به. وأثناء أسفاره نجده لا يتحدث فقط عن مشاقّ السفر وأهواله، وإنما يشير كذلك إلى زمان انطلاق الرحلة وكل ما يتصل بها. فهو يذكر تاريخ دخوله القاهرة حيث تم ذلك في منتصف المائة السابعة، كما يشير إلى اسم من كان يحكمها وهو السلطان ثوران بن نجم، كما فعل نفس الشيء فيما يتصل بدخوله إلى مكة وإقامته فيها، وإن كانت يومياته بمكة قد هيمن عليها الإشارة إلى الموضوع الديني متمثلا في القيام بالمناسك بشكل منتظم، مما يعمق العلاقة بينه وبين ربه.
وبحكم أن الرحلة تمثل تنقلا في الزمان والمكان، فقد مثلت بالنسبة له فرصة للانفتاح على الآخر القريب خاصة من رافقوه في الرحلة، كما مكنته من الإطلاع على أحوال البلاد الإسلامية وما يحاك لها من مكائد. غير أن المحكي الرحلي ليس منفصلا عن السياق السردي الخاص بالرواية، فهو يتعين اقتراحا فنيا يسلط الضوء على مقاومة ابن سبعين لجور الحكام والأعداء وفقهاء الحشو، وذلك بالضرب في الأرض الإسلامية أملا في أن يجد في بعض ربوعها ما يجلو العتمة ويخفف الضغط. وإذا كانت هذه المقترحات السردية التي يوظفها الكاتب في الرواية تخدم العلاقة بين التخييل ومراجعه، فإنها تفسح المجال، خاصة أثناء الرحلة، لتدخل قوى فوق طبيعية مما يقرب الرواية أيضا من ثخوم العجائبي وبلاغته المتوترة.
ثانيا: التشكيل الخطابي للهوية
1- الهوية السردية
تكتسي الإحالة إلى بول ريكور أهمية خاصة في قراءة العلاقة بين السرد والهوية الشخصية، ذلك أن التصور اللماح الذي ركبه في مؤلفاته، خاصة “الزمان والسرد”8 و”الذات عينها كآخر”9 يفيدنا في فهم تشكل الهوية السردية في السرد عموما وفي روايةهذا الأندلسي بشكل خاص. ومعلوم أن مشروع بول ريكور التنظيري الذي يُنظر إليه كاستمرار للمشاريع غير المنتهية التي أرسى أسسها إيمانويل كانط ومارتن هيدغر والتي عنيت بفكرتي الخيال الإبداعي وزمانية الوجود البشري10، ينطلق من منظور أساسه التماثل بين الخطاب التخييلي الافتراضي والخطاب التاريخي خاصة فيما يتصل بالزمانية11. وبهذا المعنى يتساوى الخطابان في حضور الخاصية السردية. فكما يلجأ المؤرخ إلى إعادة تمثيل وقائع الماضي في حبكة سردية قد يعتبرها تمثيلا صادقا للأحداث، فكذلك يتصرف الكاتب إزاء الأحداث التي يتخيلها12.
من هذا المنطلق اعتبر ريكور الترابط الذي يطبع الحبكة القصصية خاصة فيما يتصل بجمعها بين التوافق والتنافر هو ما يجعل منها الشكل الأمثل الذي تتحقق فيه الهوية السردية. ولذلك ذهب إلى أن “الشخص حين نفهمه كشخصية في قصة، ليس بكيان مختلف عن تجاربه. على العكس من ذلك فإن الشخص يتمتع بنظام الهوية الدينامي نفسه الخاص بالقصة المحكية. إن الرواية تبني هوية الشخصية التي نستطيع أن نسميها هويتها السردية، وذلك حين تبني هوية القصة المحكية. إن هوية القصة هي التي تصنع هوية الشخصية”13.
بهذا المعنى، نفهم أن ثمة تلازما بين تحقق السردية ووضوح الشخصية في العمل الروائي. فكلما أوشكت القصة على إلغاء الشخصية فإن الرواية تفقد كذلك صفاتها السردية. وهذا ما يلاحظه انطلاقا من النصوص التي تطرح أزمة غياب الهوية، مثل رواية: رجل بلا ميزات لروبرت موزيل وميشيل ليريس في “سيرته الذاتية”، حيث يضمر السرد فيها وتقترب الصياغة الأسلوبية من المقالة التي يقل فيها التشخيص. وهذا التأكيد من جانب بول ريكور على قدرة النسيج السردي التخييلي على احتضان صورة الحياة المروية وإعطائها شكلا منسقا ودالا، لم يكن ليمنعه من الإصغاء للاعتراضات حول تعقيدات العمل الذي تضطلع به العملية السردية ومنها: التباس مفهوم المؤلف، عدم الاكتمال السردي للحياة، تشابك قصص الحياة بعضها ببعض، إدخال قصص الحياة ضمن دياليكتيك التذكر والاستباق14.
إن إيمانه بوجاهة هذه الاعتراضات لم يمنعه من اعتبارها غير جديرة بإبطال علاقة السرد بالحياة. ففيما يتصل بالتباس المؤلف يرى ريكور أن الكاتب حينما يقوم بتأليف قصة حياة ليس هو مؤلفها بالنسبة للوجود الحقيقي فإنه يقوم بدور المؤلف المشارك بالتأليف بالنسبة إلى المعنى، وفيما يتصل بالوحدة السردية للحياة يرى كذلك بأن القصة الخيالية تمكننا من التغلب على الطابع الهروبي للحياة وذلك عندما ننظمها بطريقة استعادية بعد مرور الحدث. والأدب لا يُمكِّننا من تحديد البدايات السردية لمبادراتنا وحسب، وإنما يساعدنا كذلك على تحديد نطاق النهاية المؤقتة. لذلك فهو لا يستعصي عليه تشابك قصص الحياة بعضها ببعض. بل كلما نجح الأدب في إحداث تداخل بين حيوات كثيرة كلما أمكنه تقديم نماذج حية للتفاعل. أما الاعتراض القائل بأن الطابع الاستعادي للقصة يجعلها لا تختص إلا بالجزء الماضي من حياتنا فيرى ريكور أنه – أي الاعتراض- لا يفهم أن القصة ليست استعادية إلا بمعنى محدد جدا. “إن الوقائع المروية لم تحدث في الماضي إلا من وجهة نظر الراوي وحده. إن ماضي السرد ليس سوى شبه- الماضي للصوت السردي. والحال أنه بين الوقائع المروية في زءمن غابر هناك مشاريع توقعات واستباقات تأخذ مكانها وتتحكم في توجيه الشخصيات الرئيسة للقصة نحو مستقبلها المحتوم”15.
لعل ما يتبين من هذه الردود مفاده أن العلاقة بين القصص والحياة هي من التلازم والتواشج والتداخل. لذلك نجد بول ريكور يقر بأن الهوية السردية التي تتحقق داخل الرواية تشي بالعلاقة بين السردية والأخلاق. وحتى في السرود التي تدعي الموضوعية والحياد مثل السرد التاريخي فإن “المؤرخ الذي يريد أن تحركه الفضولية، أكثر من مجرد الميل إلى الاحتفال أو الاحتقار والشتم، يجد نفسه وقد دفعته هذه الفضولية إلى البحث عن الطريقة التي استعملها البشر في سعيهم لبلوغ ما كانوا يعتبرونه يشكل الحياة الحقيقية، وكيف حققوا ذلك أو فشلوا فيه “16.
بهذا المعنى، يبلغ السرد في نظرية ريكور تلك الخصوبة التي تبوئه موقعا توسطيا لا يمكن نكرانه سواء بالنسبة للمؤلف الذي يجري اختيارات عديدة حول الصيغ السردية الممكنة لإضفاء الخيال على الحيوات التي يقوم بسردها أو بالنسبة للقارئ المدعو إلى إنجاز نوع من التصور لا يتحرك في حدود الخيال وحسب وإنما يتجاوزه إلى بناء العلاقة بين السردية ومن يقوم بروايتها. وبتوسيع هذا التصور عبر الإحالة إلى فيليب لوجون، يتبين أن موضوع السرد المبأر حول الذات هو استعادة الحياة الفردية في حميميتها وسريتها. ولذلك اعتبره ممارسة فردية واجتماعية تتحقق في أشكال كتابية مختلفة: السيرة الذاتية – المذكرات- اليوميات الخاصة- تخييل ذاتي – محكي الحياة ..إلخ17 لكن الهوية الفردية لا تتحقق إلا في الخطاب، ففيه تأخذ الحياة الفردية صورتها المروية. وبذا تكون الهوية السيرذاتية هوية سردية “لا تستقيم في شكلها الكلامي مكتملة المعالم والسمات إلا من خلال إخضاع وقائع الحياة المعيشة بمختلف أنواعها سواء كانت اجتماعية أو فكرية أو انفعالية شعورية إلى رؤية تنظيمية جديدة تزامن فعل الكتابة وتوجهه”18. أما الشكل الأنسب لها فهو الشكل القصصي الذي يوحد بين التنافر والتوافق. فالكاتب يستطيع بذلك نقل الوقائع والأحداث والمواقف من وجودها الحياتي غير المنظم والفاقد للمعنى لينسجها في حبكة قصصية جديدة تخضع فيها لسياق السرد، وتأخذ فيه انسجاما واتساقا ودلالة.
هذا بالتحديد ما تضطلع به الحبكة السردية في رواية هذا الأندلسي حيث تنسج وقائع وأحداث خاصة بابن سبعين ضمن أفق سردي يجعلها أثناء التلقي تشف عن صورة جديدة تضيء ما خلفته أحداث الماضي من تأثير على شخصيته، وما اختصت به من طباع وسلوكات خاصة ما له علاقة بالتبحر في الموجودات، وعرض النقائض والأضداد، وإدراك الحق في وجوده الشفيف الذي يتجلى في الذرّة والكون(ص،156) وأهمية هذا التأويل تكمن في صونه للمرتكزات الخيالية التي يستند إليها الروائي في بلورة المعرفة بالأحداث والوقائع التي يقوم بسردها. فليس التاريخ ها هنا إغماطا لحق الرواية كجنس أدبي مخصوص في تمثيل الزمانية البشرية، بل التاريخ يكتسي بعدا خاصا من خلال استدراكات المخيلة، مما يجعله إمكانا لقراءة الدلالات المتعددة والرحبة التي تؤسس لها الرواية من خلال أوالية التمثيل السردي.
ويتضح من خلال بداية النص أن ابن سبعين، الشخصية الساردة، يلجأ إلى تقديم ما يراها مبررات لتبئير الحفر في ماضي الشخصية في الحيز التواصلي السردي. وإذا شئنا جعلنا ذلك في مستويين اثنين:
مستوى خاص يحيل على حزنه على مخطوطته الضائعة، ومستوى عام وأساسي يحيل إليه مضمون الاستشارة التي قدمتها له إحدى العرافات حين قالت له بأن الحل يكمن في الرباط والعزلة والغطس في الماضي عله يتذكر أو ينسى. “في المحصلة الأولى طالعني ذلك الطائش النزق الذي كنته. تربيت كالإمام ابن حزم وترعرعت بين أفخاذ النساء، وتقلبت في حجورهن، أتعلم منهن حفظ القرآن والأشعار، وفن التجويد والإلقاء، وحتى الخط والعزف والعود والناي. وإني لتغمرني لذكراهن أنفاس ثغورهن والصدور فتسري في باطني عطرا وطيبا”( ص،12)
وابن سبعين وهو يترجم لذاته ويترسم مساره الحياتي ينطلق من مرحلة الصبا ليبلور من خلالها زمنية خاصة. ومن مرحلة الصبا إلى الشباب وما عرفه من طيش وصحبة النساء إلى حلقات العلم والمعرفة والإكراه على ترك البلاد والتوجه إلى المغرب، يبدو السرد التعاقبي الشكل الأمثل لإدراك تاريخية الذات. وقد أشارت الناقدة التونسية جليلة طريطر إلى أن الزمن التعاقبي يحيل في السيرة الذاتية على زمن التجريب الذي ينفتح تدريجيا على تحقيق الذات واستكشاف ملامحها واستكناه ثوابتها حيثما مالت بها تجارب الحياة ومنعطفات الطريق الطويلة الشاقة19، لكن ابن سبعين إذ يستعيد هذه اللحظات من طي الماضي لا يتغافل على ما ينتابه من حنين إليها زمان الحكي، وهو ما يجعل الماضي يتراسل مع الحاضر في سياق هذه الاستعادة.
وما تصرح به الرواية هو أن هذه المراجعة للذات يتغيا من خلالها ابن سبعين القبض على شذرات من حياته الماضية عله يعوض بذلك مرارة الفقدان. وإذا كان الناقد محمد الداهي قد لاحظ، في سياق دراسته لسيرة ابن خلدون، بأن بعض الاعتراضات التي تقدم بصدد السير العربية القديمة تتمثل في كون أصحابها يعطون الأولوية للتكون الفكري على حساب جوانب أخرى تهم الذات في الحياة وموقفها من صروف الدهر وتقلبات اليومي20 فإن ما تضيئه الأحداث والوقائع المقتطعة من حياة ابن سبعين يعكس أن هذا الرجل كان على اطلاع بتأليف السير في عصره أو العصور التي سبقته. غير أن ما يميزه في استرجاعاته كونه لا يُمحِّض الشكل السردي الاستعادي للتركيز فقط على ما له علاقة بالجانب العلمي والديني، وإنما يحيط بأمور تخص حياته الجوانية كعلاقته بأمه وأبيه وأخيه، كما يقف على مغامرات الفتى الذي كانه مع النساء وإقباله الشديد على صحبتهن، وتفكره لما تحصّل له بسببهن من أحوال. لذلك، فما يلفت الانتباه في الهوية السردية داخل الرواية هو الخط المعرفي الذي يتعين من أهم مظاهر مغامرة الذات بحثا عن ما يميزها في منظور الآخرين. لذا تتعدد إشارات المتحدث عن ذاته إلى الكتب والمصنفات التي يقرأها ويمعن فيها النظر باستمرار، من أجل اكتساب الكفاءة التأويلية التي تمكنه من مصارعة العناصر العاتية، وفهم الظواهر التي يصادفها سواء كانت بشرية أو طبيعية أو دينية أو فقهية أو فيما يتصل بأحوال النفس البشرية وما يعترضها في رحلتها بحثا عن الحق من التباسات وإشكالات. وهذه الغربة المبدِعة التي كان ابن سبعين يتطلع إليها بحب، كان يرى فيها دافعا لمجابهة الضحالة والسطحية التي تتفشى في عصره. لذلك كانت جزءا من وعيه كمثقف بطبيعة الهموم الملقاة على عاتق من يغرق في متاهات المعنى، ويتقصد الوصول إليه عبر سبيل جديد يرفض الطرق المطروقة والأقوال المكرورة. يقول: “في وسط يشكو من سقم فكري حاد، وأمية متعددة الأشكال والأبعاد، ليس للمحقق التواق إلى الهواء الطلق إلا أن يختار تعلم الغربة المبدعة الهائلة. فلربما في هذا تكمن طريقته الخاصة للقدح في الغباوة الزاحفة والعمل على لقاءات القمة بين الغرباء “(ص،130).
2- تجليات الوعي الكتابي
ينهض الوعي الكتابي على أساس وعي الذات بأهمية الكتابة والقراءة، خاصة في ما يتصل بتفكيك عوالم الكتابة ورموزها العصية والعاتية. فإذا لم تكن ثمة قراءة ما متوقعة أو قارئ ما متوقع لم تكن ثمة حاجة للكتابة لأي كتابة.21 ومفهوم الوعي الكتابي يعني تلك القدرة التأملية والقدرة على الإفصاح عن الذات والتعبير عنها من خلال الكتابة22. وهي قدرة تتنامى وتتطور كلما تعمق الوعي بالكتابة وبدورها المحوري في تمثيل العوالم والمجردات، والإحاطة بأحوال النفس وتلبية احتياجاتها. وروايةهذا الأندلسي ينهض فيها الوعي الكتابي بدور مميز في رسم ملامح الهوية السردية للشخصية. وهو يتمظهر في صور مختلفة تعكس، بالنسبة لابن سبعين، أهمية العلم والمعرفة في ارتياد المجهولات واكتساح الآفاق المغايرة للرداءة والبلادة وثقافة التسطيح. ويأخذ الوعي الكتابي حضورا أكثر جاذبية في مرحلة إقامة ابن سبعين بسبتة خاصة حينما تزوج بفيحاء السبتي التي أغرم بها وأحبها بقوة حتى أنها غطت على شجونه وأحزانه على المخطوطة الضائعة.
وفضلا عن وعي الذات بأهمية القراءة والتقييد في تشخيص الوضعيات والحالات التي تعيشها، فإنها تلجأ كذلك إلى توفير الظروف الملائمة التي تمكنها من الاستفادة من هذه الكنوز الطافحة بالمعاني والدلالات. ومما يدل على الحالة الأولى أن ابن سبعين في زيارته الثانية لفيحاء قبل زواجهما حيث ازداد اكتشافه لما تنطوي عليه هذه المرأة من أسرار قرأ فيها جلال الذات الربانية متمظهرا في خلقه، لم يجد أمامه من حيلة تحيط بما هو فيه من فيض المشاعر والأفراح إلاّ معاودة النظر في ما هو متوفر لديه من مصنفات العلماء والصوفية. “وقعت عيناي على محاسن المجالس لابن عريف الصنهاجي الأندلسي، فارتأيت أن مقالاته في التجرد الأقصى والزهد المطلق لا تناسب مقامي أو هي خارج طوري وسني، ثم رمقت كتاب خلع النعلين لابن قسي، فأعدت الانكباب عليه للتحقيق في علاقة هذا الصوفي البرتغالي بابن العريف وتأثره به في ثورته على المرابطين بمعية مريديه”( ص،208). لكن هذا الرجوع لم يكن عشوائيا وإنما عكس طبيعة الوعي الذي تمتلكه الذات بصدد ما تفكر فيه وتقرأه. خاصة وأن هذه التقييدات كان ابن سبعين يستعملها لغرض الدرس أو النشر.
وكما كانت الذات تحرص على انتقاء النصوص الملائمة للمقامات والسياقات، كانت كذلك أشد حرصا على توفير الأجواء التي تجعل القراءة والكتابة أكثر إنتاجية وأقدر على التعبير على احتياجات النفس. ومن مظاهر ذلك العزلة والخلوة. ففيها يلتقي سكون المكان ونوره، وتغدو مصاحبة العلوم سبيلا لارتقاء مدارج العمق والكمال. وفي إحدى معتزلاته بجبل موسى خلال شهر رمضان تفرغ ابن سبعين لقراءة أبي حيان التوحيدي خاصة كتاب الإشارات الإلهية والأنفاس الروحانية، وأمضى فيه وكتبٍ أخرى أياما وليالي يقلب الصفحات لا يتوقف سوى لحظات لسد الرمق عند الإفطار والنوم قليلا وإقامة الصلوات. وقد تمخضت هذه العزلة بما غمرها من فيض رباني عن كتب حررها هي: “الرسالة الفقيرية و كتاب فيه حكم ومواعظ و رسالة خطاب الله بلسان نوره و رسالة الألواح المباركة( ص،305).
بهذا المعنى، تنفتح الكتابة على القراءة ولا تتكامل إلا بها. وإذا كان هذا هو أساس الوعي الكتابي عند ابن سبعين كما يتحقق نصيا، فإنه في تقييداته لا ينطبق عليه ما ينطبق على الكتاب الآخرين، بل هو نسيج وحده في ذلك حيث يقول: “لا، لست من صنف هؤلاء الكتاب الذين يجلسون لاقتراف الكتابة عمدا مع سبق الإصرار، تعلوهم أمارات الخيلاء وقدر غير يسير من التصنع في النظرة والحركات…هيئتهم، والله ، تنفرني وأحيانا تضحكني”( ص،304). بل الكتابة بالنسبة له “زلزلة مباغتة وفورة فجائية صاعدة، أو هي أيضا اختمار شائك عسير، وإثمار باطني وئيد”( ص،305). وما يتحصل عن هذه الكتابة هو ما يتعين في منظوره أدبا رفيعا ييسر الحياة ويدعو للإقبال عليها. “وهل بسواه ندرك أقوال الكتب المقدسة أو نقر إعجاز القرآن والقسم الإلهي في ( ن والقلم وما يسطرون)”( ص،305).
هذا المعنى هو الذي أبصره ابن سبعين في كتابات أبي حيان التوحيدي الذي سبر أغوار النفس وسخر من مثالب الوزراء والأكابر وقاوم الفقر والحاجة، فَحقَّ اعتباره من زمرة من أنتجتهم الغربة المبدِعة. والحال أن ابن سبعين عانى كذلك من ظلم الساسة وسئم من الانحدار الذي يلون عصره، وحزن على الأندلس التي تضيع من أيدي المسلمين دون أن يتحرك لهم ساكن. لقد أبصر وعيه الكتابي في ثقافة التوحيدي الحوارية التي جادلت في أمور الفلسفة والدين والفكر والمعرفة والسياسة فلم يقنع بما يجود به مألوف العلم في عصره، وإنما اشرأب إلى المختلف والمغاير والمحرض على التساؤل والفضح والتعرية.
تركيب
لا شك أن الروائي المغربي سالم حميش أنتج في هذا الأندلسي رواية متوترة تدلل على واقع عربي مرهق، وتشخص ملامحه بقوة في حبكة تفوح بعبق التاريخ والتصوف والعشق والجمال. وإذا كانت الرواية تستند في إنجاز ذلك التمثيل إلى بطل سارد يبدو كما لو أنه ينوب عن المؤلف في نقد جور الزمان وتسلطه على أهل الرأي والمعرفة، فإنها بذلك تبنين أبعادها الواقعية وفق نسق خاص. فما يُحدِّثُ به البطل الروائي يشي بتميزه في لغة تتمرد على اللغة التقريرية المباشرة، وتقف على مسافة منها. فهي لغة تحتشد كثافة ومجازات وتفيض صورا ومعاني ودلالات كما لو أن الزمان الذي جار بهذه الشخصية وتسلط عليها وسعى إلى إسكاتها لا يمكن الاحتجاج عليه إلا بلغة ليست منه، لأنها تتغذى بالخيال الذي هو كشف وإظهار واتصال بنور إلهي ينفذ إلى الكون فيجعله جليا في وجوده، بينا في مرآته الصقيلة. لذلك كله، تأخذ شخصية ابن سبعين وجودا خاصا تتدخل اللغة في تحديد عناصره ومقوماته.
وبما أن الرواية تنجز حفرا عميقا في الذاكرة وتنفتح على مرجعيات نصية متعددة، كما تستثمر آليات سردية مختلفة تعكس حوارها مع التجارب الروائية الكونية فإن ذلك كله يؤكد أن التعامل معها من منطلق الإمكانات التخييلية والسردية التي تحققت لها بالانفتاح على النص التاريخي لا يعني أنها تتحرك في دائرة ما يقرره ذلك النص. وما قيمة الرواية إذا لم تجرؤ على زحزحة اليقينيات المزعومة ومساءلتها بهدف تجديد المعرفة بها. وسالم حميش لا يمنح الرواية تركيبها الخاص وحسب، بل، ومخلصا دائما للخلق والإبداع، لا يكف عن تطوير لغة سردية خاصة به ولا يضارعه فيها أحد. فمفرداتها مصقولة بعناية فائقة وصورها ثمرة اشتغال يمتزج فيها التشكيل التجريدي والسرد الواقعي والفانتازيا. وهذا ما مكنه من توسيع أفق الرواية لاحتضان وجوه رسمت ملامحها وقسماتها بمهارة فنية، لكأنها أكثر انتماء لزماننا هذا.
بهذا المعنى تفتح رواية هذا الأندلسي إمكانات متعددة لإعادة قراءة وقائع وأحداث وتواريخ وممارسات، كما تنجز استبصارات عميقة في شخصية ابن سبعين عبر استدراكات المخيلة. أما المكون الصوفي الذي تستثمر الرواية الكثير من خصوصياته فقد جعلها تحتشد بالمعاني والصور التي لا تجعلنا نتقاسم مع البطل انتماءه الشعوري وحسب، وإنما مكنتنا من تذوق ذلك الجزء الآخر من الحقيقة التي يكابد المتجرد في الوصول إليها والإمساك بنورها خارج المشترك التاريخي العام. والروائي في كل ذلك يبدو متطلعا إلى أفق جديد يوسّع التجربة ويلامس بها الحدود القصوى. وهو ما تحقق له في هذه الرواية التي تتعين كتابة أدبية رفيعة لا تجود بها إلا غربة مُبدِعة مماثلة لتلك التي امتدحها ابن سبعين رغم ما يتخللها من ضروب المعاناة والمكابدة والاحتراق.
الهوامش:
1- Kate Hamburger, Logique des genre littéraires, Traduit de l’allemand par pierre Cadiot, Préface de Gerard Genette, collection Poétique, éditions du seuil, Paris1986, page71.
2- للاستفادة من هذا التصور يرجى الرجوع إلى الدراسة الهامة للفيلسوف جون غريش(Jean Greisch):EMPÊTREMENT ET INTRIGUE UNE PHÉNOMÉNOLOGIE PURE DE LA NARRATIVITE EST-ELLE CONCEVABLE ? على الرابط التالي: http://www.vox-poetica.org/t/pas/greisch.htm
3- يعتبر كتاب منطق الأجناس الأدبية لكايت هامبرغر من أهم الأعمال التي تكرست للبحث في خصوصية الكتابة السردية انطلاقا من اللغة. كما تناولت خصوصية السرد المنفتح على التاريخ وأبرزت كيف تقلل الرواية من هيمنة الماضي باعتمادها على سيرورات التشخيص الداخلي مما يقوي الاعتقاد بكون ما يدور حوله السرد هو من وحي الخيال. م م، ص88.
4- جليلة طريطر، مقومات السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث (بحث في المرجعيات)، مركز النشر الجامعي – مؤسسة سعيدان للنشر، تونس 2004، ص: 514.
5- جليلة طريطر: م م ، ص: 734.
6- نزهة براضة: المرآة أو حضرة الأنوثة عند ابن عربي، ضمن كتاب: ابن عربي في أفق ما بعد الحداثة، تنسيق محمد المصباحي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط 2003، ص: 59.
7- أبو حيان التوحيدي: المقابسات، تحقيق حسن السندوبي، القاهرة – دار سعاد الصباح 1992، ص: 164.
8- بول ريكور، الزمان والسرد، ترجمة سعيد الغانمي وفلاح رحيم، دار الكتاب الجديد 2005.
9- بول ريكور، الذات عينها كآخر، ترجمة جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، ببيروت 2006.
10- الوجود والزمان والسرد، فلسفة بول ريكور، ترجمة وتقديم سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 1999، ص59.
11- الوجود والزمان والسرد، فلسفة بول ريكور، م م.
12- الوجود والزمان والسرد، فلسفة بول ريكور، م م، ص: 189.
13- بول ريكور، الذات عينها كآخر، م م، ص: 306.
14- الذات عينها كآخر، ص: 328.
15- الذات عينها كآخر، ص: 330.
16- الذات عينها كآخر، ص: 333.
17- “Les écritures du Moi, autobiographie, journal intime, autofiction”, inMagazine littéraire, Hors-Serie , n11,Mars- Avril2007 ,Page,3.
18- جليلة طريطر، م م ، ص: 512.
19- جليلة طريطر، م م ، ص، 516
20- محمد الداهي، الحقيقة الملتبسة قراءة في أشكال الكتابة عن الذات، دار المدارس للنشر والتوزيع، الدار البيضاء 2007، ص، 24.
21- حسن البنا عز الدين، الشعرية والثقافة. مفهوم الوعي الكتابي وملامحه في الشعر العربي القديم، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء 2003، ص، 135.