الخميس , 25 أبريل, 2024
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » قلق الكتابة بين الذات والواقع

قلق الكتابة بين الذات والواقع

*محمد رمصيص، قلق الكتابة: تأملات نقدية في الكتابة الأدبية، تيفلت، منشورات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، 2018.

يثير هذا الكتاب القارئ على عدة مستويات تكوينية بدءاً من العنوان ولوحة الغلاف، مروراً بالتصدير، وصولاً إلى المقاربات النقدية الستة عشرة التي تشكل معمار الكتاب.

    بدأ المؤلف كتابه بتصدير حول قلق الكتابة يستدرج من خلاله المتلقي إلى مغامرة قرائية تتسم بالعمق والفرادة، كونها منذورة للاكتشاف واجتراح لغة ومضامين وسياقات مختلفة، إذ يقول: “كل كتابة قلقة هي صوت مبشر بالارتياب والشك ضدًا على السكينة والاطمئنان الزائف للمكرس بغاية إعادة النظر في المعنى واللغة والذات والحقيقة. القلق بالنتيجة مصدر تجديد السؤال بهدف تجنب استنساخ ما قيل.”[1] هذه الحيرة الفكرية، وهذا الإعصار التأملي الجارف ليس جديداً على ناقد دأب على التجوال في العوالم الأدبية والفطرية لكتاب آخرين، مما خوّل له باستمرار طرح أسئلة محورية  تحرك الفكر وتستفز الذهن وتفتح المجال لدراسة هادفة للماضي والمستقبل على حد سواء. 

    في هذا الإطار طرح المؤلف مجموعة من التساؤلات من قبيل: “ترى هل نكرر ذواتنا بكتابة عالم تم تكلمه؟ وبأي معنى يمكن فهم الكتابة كفعل صدامي، هل بمعنى ضرورة الدخول في صراع مع ما كتب أم الاكتفاء بطرح السؤال والتشكيك فيما أنجز؟”[2]

      لا شك أن سؤال الكتابة ينهض من بؤرة التوتر بين الذات والواقع حيث الذات دائمة القلق والرغبة في اكتشاف المجهول وتجاوز المعتاد، والكاتب القلق يعيش مخاضاً عسيراً مصحوباً بالآلام والآمال قبل ولادة نص مختلف يشعره بالأمان، “فلا وجود لكاتب قلق دون أثر متمرد على التشابه”[3]؛ فبالكتابة تمارس الذات حرية ما وتختار مصيراً معيًّناَ، تقودها إلى ذلك مجموعة من الانفعالات التي ترتفع بالنفس إلى الأشياء العظيمة، ولن تبلغ الأخلاق أو الأعمال ذروة السمو إلا بها، لكن الانفعالات لا بد لها  من نظام لئلا تكون مدمّرة؛ وعليه لا بد من إعمال العقل كأداة إرشاد وهداية. وبذلك وجب التوفيق بين العقل والوجدان في تناول أو مقاربة قلق الكتابة وما يترتب عنه من تحرير للذات الكاتبة ونفي للثوابت، وتمجيد للتجدّد، ورغبة في الولادة المتكررة باستمرار، وفوضى خلاقة بعيدة عن مراعاة الضوابط. ذلك أن للكتابة سلطتها التي تؤثر مباشرة في الناقد وفي المنهج وتوجهه إلى حيث يريد هو.

وهوية الناقد ليست مرتبطة بما يمكن له أن يتصوّره، فيما قبلية الكتابة أو التحليل بل فيما يمارسه في التحليل وما يصدر عنه من تصوّرات. ويبقى لكل ناقد حقيقته في النقد لأن الحقيقة نسبية في الكتابة. بهذه الخلفية جاءت مقاربات محمد رمصيص لمفهوم الكتابة في اشتباكها بمجموعة من المفاهيم من قبيل: الموت، الصحراء، السجن، الحب، الحرب، الحلم، الألم، الذاكرة، البحر، الحرية، الغربة، ثم علاقة المرأة بالكتابة، والكتابة عن الذات، والكتابة بالصورة أو مكر الإشهار، والكتابة بالبياض، والكتابة بلغة الّآخر.  تبنى الكاتب في تناوله لهذه العلائق طرح الأسئلة الحارقة المحورية، التي تقوم على الهدم من أجل البناء بشكل مغاير جاعلاً الخلخلة رهاناً جمالياً لمقارباته المستفزة للسؤال والمستدعية للتأمل والبحث في عمق الأشياء بعيداً عن المعطيات والنتائج التي تكرست بقوة التكرار. ويبدو أن المؤلف عمد إلى فتح المنغلق وإلى التقصّي الحثيث في كل الاتجاهات بناءً على منظومات مرجعية متضافرة العناصر قد تسعف في بناء معان جديدة وتوليدها، وفي تقدير العلائق الكائنة والممكنة بين مختلف الظواهر الأدبية الموجودة بين دفتي الكتاب. وهذا لا يتأتى إلا باستحضار جزئية القراءة السابقة واللاحقة “طالما أنه لا مكتوب خارج المقروء، والمقروء أساس المكتوب”[4]، فالذاكرة المشحونة بالوقائع والنصوص وبأفق انتظار (متحقق أو خائب) هي القادرة على تحويل فعل القراءة إلى فعل الكتابة بشكل مختلف.

    في مقاربته لمفهوم الكتابة والموت، طرح المؤلف سؤال الموت قبل اكتشاف الكتابة، ثم هل يموت الكتاب فعلاً أم أن كتاباتهم تخلدهم في ذاكرة التاريخ؟ وتطرق أيضاً لمفارقات الموت والكتابة إذ أن كلاهما لا يوقف نزيف التأمل والأسئلة، إلا أنه وضح اختلاف تمثل الموت باختلاف السياق، وتناول بعض تجليات الموت في الشعر العربي. وربط الكاتب بين الكتابة والصحراء من خلال كونهما مجالين شاسعين يصعب خوض غمارهما دون عدة أو دليل، ويلتقيان أيضاً في كون الصحراء تتلون بجنس الكاتب في حين تتلون الكتابة بالشريحة العمرية للكاتب الذي ينتصر على سؤال الموت وجرح الضياع ومتاهة الرمال كأخطار تتهدّد عابر الصحراء، ممّا يجعل الكاتب والرحالة الصحراوي يلتقيان في أكثر من مفصل، إذ أنهما في حالة تأهّب مستمرّة، ويتطلعان لاستكشاف أفاق غير مطروقة، إضافة إلى أن الصحراء شكّلت على امتداد التاريخ عمقّا مجالياً للنبوءات والرسائل الدينية، تماماً  كما مثلت الكتابة بؤرة فائقة الحساسية لاستشراف المستقبل. وبخصوص مقاربته للكتابة والسجن حدثنا محمد رمصيص عن سنوات الرصاص بالمغرب وما أنتجته من كتابة في السجن وعنه، وأعطى مجموعة من الأمثلة والنماذج التي عاشت التجربة وألفت كتباً حتى وإن لم يكن لها إلمام بضوابط الكتابة، فقارب نماذج مختارة من أدب السجون المغربي من خلال صنفين:

– محكي سجني مدني ومحكي سجني عسكري؛

– نماذج من أدب السجون لأقصى اليسار المغربي.

   وفي إطار علاقة المرأة بالكتابة ،أجاب المؤلف عن بعض الأسئلة من قبيل: هل من خصوصية للكتابة النسائية؟ وكيف تشكلت رحلة المرأة نحو الكتابة؟ ثم سؤال الكتابة النسائية بين الأطروحي والفني، واعتبر أنه إذا كانت الكتابة النسائية أطروحياً تستدعي المنسي والمهمّش والمكبوت والمبعد قصد المساءلة والانتقاد بنية التجاوز، فإنها على المستوى الفني تتشبّث في الغالب بضمير المتكلم قصد إثبات حضورها وشجبها لتاريخ إسكاتها الطويل. ومن هنا أمكنه أن يتساءل عن الكتابة عن الذات: هل هي شيء ممكن أم مستحيل؟ وما هي رهانات السيرة الذاتية؟ ثم ما هي دوافع الكتابة عن الذات؟ وما هي روافد السيرة الذاتية وأسئلة الذات القلقة؟ هذه مجموعة من الأسئلة التي أجاب عنها المؤلف في سياقات ثقافية وأزمان مختلفة.

    لم يقف الكاتب عند علاقة الكتابة بالذات، بل تجاوزها إلى علاقة الكتابة بمجموعة من المشاعر والانفعالات الإنسانية عبر مواقف وأحداث معينة ضرورية في الحياة، بما في ذلك تقاطع الكتابة والحب في كونهما خبرتين بشريتين حديثتين على تاريخ الحضارة الإنسانية، وأعطى نماذج لتمثل الحب في المتخيل العربي وفي المتخيل الغربي. ولا يمكننا أن نتحدث عن الحب بعيداً عن الألم، فالحب، مثل الرياضيات، يجعلنا نغوص في تلك التفاصيل الصغيرة التي قد تكون أحياناً مؤلمة. هكذا تناول الكاتب علاقة الكتابة بالألم وتطرق إلى المعنى الذي يمكن أن تكون به الكتابة ألماً تطهيرياً حيث كلما كانت تجربة الألم عميقة، كلما كانت الكتابة عاكسة لعالم الأحشاء. فوضح كيف تكون الكتابة جسراً لتصريف الألم ورياضة ذهنية للتخلص من الوجع. وإذا كانت الكتابة هي ذاك الفعل الأكثر استيعاباً لنزوات الذات، فإنها تتوسل الذاكرة والنسيان في سبيل ذلك، وخاطئ من يعتقد أن التذكر ضد النسيان، فهما في اشتباك دائم كما تشتبك الكتابة بالحلم. فإذا كانت لعباً رمزياً يشغلنا عن ألم الفقدان، فإن الحلم يعدّ أحد الوسائط الإبداعية الممكنة لتضميد جراح القلب. هنا تساءل الكاتب عن ماهية الحلم الإبداعي وإمكانية اعتباره خياراً جمالياً لمراوغة العجز الواقعي. مما قاده إلى الحديث عن صعوبة كتابة الحلم وتاريخ تطوّر النظرة إليه.

 كما تحدث أيضاً عن مآل الكتابة بالبياض الذي بلورته الرؤية الحداثية للكتابة مجترحة مفهوماً جديداً للقراءة، فأعطى أمثلة عن بياض الشعر وبياض الهايكو الذي يعدّ أشد أنواع الشعر ارتهاناً بالبياض. وفي مقاربته لمفهوم الكتابة والبحر، تطرق الكاتب إلى البحر في رحلات السندباد البحري، واقتصر في مقاربته للكتابة بلغة الآخر على اللغة الفرنسية بالنسبة للكتاب المغاربة، فحاول الإجابة عن سؤال الهوية وعلاقتها باللغة وبمضمون الكتابة معاً، ثم هل هناك استيلاب لحظة الكتابة باللغة الفرنسية؟ ما دمنا بين نسقين مختلفين، نسق قوي لغته الفرنسية، ونسق ضعيف لغته العربية. في هذا الإطار تناول نماذج مختارة من الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية: أحمد الصفريوي وعلبة العجائب، إدريس الشرايبي والماضي البسيط، محمد خير الدين والطائر الأزرق القادم من أقاصي العصيان، وعبد اللطيف اللعبي والعودة إلى قاع الخابية، والطاهر بن جلون وليلة القدر.

وأثناء مقاربته للكتابة والحرية، لم يجد بداً من توضيح علاقة حرية الكاتب بالقضية، وحرية المبدع والذائقة الجمالية، وقضية الحرية على خلفية اختلاف الجنس. كما تطرق الكاتب إلى أشكال الغربة المختلفة وعلاقتها بالكتابة من خلال بسط غربة ألبير كامو أو الغربة المطلقة ونهر الجنون أو غربة الأقلية، ثم غربة عبد الله العروي أو الغربة المركبة.

وتلتقي الكتابة بالحرب في نظره في كونهما معا يتأسسان على الخدعة؛ خدعة تراهن على الإيهام بما تعتبره حقيقة، بهدف إقناع المتلقي بصدقية الخطاب المصرح به بصرف النظر عن مطابقته للواقع، ويتجلى هذا في النظرة إلى الحرب في الأسطورة، والحرب في الشعر، والحرب في الرواية.

يخلص محمد رمصيص في استنتاج تركيبي إلى كون قلق الكتابة ممارسة صحية تتأسس على خلفية الرغبة في خلخلة المألوف وتعديله قصد إعادة ترتيب العالم وفق معطيات جديدة مختلفة.  وهذا ما يجعل الكاتب حائراً، يبحث باستمرار عما يجعل منه كائناً مختلفاً يحرص على مراجعة خلاصاته وتدقيقها. هذا القلق المنتج يمنح صاحبه غبطة بلا حدود، ويمنعه من الوقوع في الخطأ المطلق حتى وإن لم يوصله لحقيقة نسبية. قلق يتحصل بالقراءات المتعددة وباكتساب منهج وجهاز فرز يدعو إلى التفكير والتأمل الموضوعي الجاد.

      هكذا طرح الكاتب قضايا ذات بعد نظري وخلفية منهجية محاولاً خلخلة المألوف والتأسيس لإبدال متفرد في مقاربة الظواهر الأدبية من خلال تجديد طرح السؤال وتحريك المياه الراكدة بهدف حيازة معرفة مختلفة.

—————————

الهوامش

1-قلق الكتابة، تأملات نقدية في الكتابة الأدبية، ص 7.

2- نفسه، ص 7.

3- نفسه، ص 8.

4- جون بول سارتر، ما الأدب؟ ترجمة غيمي هلال، القاهرة، 1975، ص 31


.

- مليكة معطاوي

كلية الآداب والعلوم الإنسانية/الرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.