أبو العباس أحمد الرهوني، عمدة الراوين في تاريخ تطاوين، تحقيق جعفر ابن الحاج السلمي، طنجة، منشورات جمعية تطاون أسمير، سلسلة تراث، 6، ط 1، 2001
يعد كتاب عمدة الراوين في تاريخ تطاوين، موسوعة شاملة تلامس بأجزائها العشرة مختلف مظاهر مدينة تطوان: التاريخية والحضارية، وتتطرق لمختلف المواضيع وأدقها مثل : ديموغرافية المدينة وتنظيمها المعماري، ونظامها الإداري، واقتصادها، وتراتبيتها الاجتماعية، ولغة سكانها وأخلاقهم وعاداتهم، فضلا عن كونها ترجمة ذاتية للمؤلف ولشيوخه.
وإذا كان الجزء الأول من عمدة الراوين يضم تحقيق اسم مدينة تطوان، ويسطر تاريخها، ويتحدث عن موقعها الطبيعي وأقسامها وحوماتها، وبنيتها الاقتصادية، وحياتها الثقافية، فإن الجزء الثاني منه يتطرق، لبيان عدد سكانها وديانتهم، ولمنشآتها الاقتصادية والدينية والتعليمية، من دور وحمامات وأفران وفنادق وإصطبلات ومساجد ومدارس وكتاتيب، ولتسلسل ولاتها وحكامها، ولسرد أسماء من تولى قضاءها، ولعادات أهلها، ولأخلاقهم.
ولعل الفصل المخصص لاستعراض عادات أهل تطوان هو من أهم ما تحتويه موسوعة عمدة الراوين وأطرفها. فهو يقربنا من التاريخ الإثنوغرافي، أو التاريخ الحضاري العام الذي يستعرض عناصر حضارة المدينة، الروحية والمعمارية والثقافية والدينية والمادية، من دون إقامة فصل تعسفي بين مكوناتها وأبعادها.
ويكفي أن نستعرض بعض العناوين لنلمس طرافة الموضوع وأهميته البالغة، ليس فقط بالنسبة للمؤرخين ولعلماء الاجتماع وعلماء الإناسة، وإنما حتى بالنسبة للمهتمين بتطور اللغة ومصطلحاتها؛ فهو يتناول، بأسلوب مباشر ودون تكلف، عادات أهل تطوان في المعيشة وفي اللباس وفي الزواج، وفي الولادة، وفي الفطام، وفي الجذري والحصبة، وفي الختان، وفي الحذقات، وفي عيادة المرضى، وفي الجنائز، وفي زيارة القبور، وفي المحرم وعاشوراء، وفي المولد النبوي، وفي الخميس فاتح رجب، وفي المعراج، وفي شعبان وليلة نصفه، وفي رمضان وليلة القدر، وفي عيد الفطر، وفي عيد الأضحى، وفي فصل الربيع، والصيف والخريف، والشتاء، وفي »الحاجوز «، وفي العنصرة، وفي مواسم الأولياء، وفي الاستسقاء والاستصحاء.
وينبهنا الرهوني في مطلع هذا الفصل الشيق بأن هدفه من إيراده لعادات أهل تطوان هو التنبيه على المستحسن منها “ليستمر عليه” ، وعلى المذموم منها “ليعمل الجهد في نسخه بما هو محمود شرعا وطبعا” (ص179). لذلك نجده ينبه مرارا على ما استحدث من عادات استهلاكية جديدة فرضتها “الحضارة العصرية الزاحفة” (ص 181)، خاصة فيما يتعلق بالأكل واللباس، وينبه على مخاطر الإسراف في النفقات الكمالية “التي تنذر بخطر الإفلاس العام”.
إلا أن مدّ نمط الاستهلاك الرأسمالي كان من القوة بحيث لم يكن تأثيره خاصا “بهذه البلدة، ولا بإقليمها المغربي، بل عم في جميع الأقاليم والقارات” (ص188).
وكما أن الرهوني يشيد ببعض العادات المحمودة والحسنة، لموافقتها للسنة، فإنه لا يترك الفرصة تمر دون أن ينبه على بعض العوائد الأخرى التي لا أصل لها في الشريعة الإسلامية، سواء تلك الموروثة عن الإفرنج (ص239)، أو تلك التي لها جذور “بربرية”، (أي سابقة على ظهور الإسلام) أو حتى “يهودية” (ص207 )، أو تلك التي تنهل من بعض الاعتقادات “الجاهلية” التي لا أصل لها في السنة (ص 228)، وتبتعد عنها و”تدنسها”.
ويستهزيء الرهوني من بعض هذه العادات الشاذة، من قبيل “إكثار النساء من زيارة القبور في نهار رمضان، على هيئة تهيج الأموات فضلا عن الأحياء”، أو “كثرة زيارتهن لبعضهن على حالة تستلفت الأنظار، وتشوش الأفكار، ويسمين ذلك بـ-الصْواب-، ولعمري إن الصَّواب ترك هذا –الصْواب- ” (ص233)، أو استهجانه للمغالاة في شراء ذبيحة عيد الأضحى “التي نقلتها العادة البطنية إلى الوجوب العيني، الذي من تخلف عن فعله كفر، ولكن ببطنه لا بربّه”، (ص236)، أو دعوته لمنع الناس من كشف عوراتهم بحمامات المدينة (ص9).
إن الوصف الدقيق الذي خصصه الرهوني لعادات سكان تطوان في الزواج له أهمية خاصة في معرفة تطور الذهنية التطوانية من جهة، وقوة العُرف في حياة المجتمع التطواني من جهة أخرى. فالرهوني ينهي كلامه بخصوص هذا الموضوع قائلا : “هذه حالة زواج الطبقة العليا والوسطى، وبعض السفلى عندنا، وهي برمتها مخالفة للسنة، ولكنها بدعة استحكمت حتى صار تركها من أعظم البدع عند حزب الشيطان” (ص209)، وخاصة ما يتعلق منها بالمغالاة في المصاريف المادية، من مهر وإطعام وحفلات وغناء…إلخ. ولم تفلح الجمعية التي أسست عام 1926، بغية العمل على ترشيد نفقات مناسبة الزواج، في حمل العامة على الاقتصاد في الأفراح والأتراح (ص193- 194 ). بل إن الرهوني نفسه لم يستطع مقاومة العُرف الجاري بمدينته، عندما زوّج ابنته، فصرف ما يزيد على ثلاثة آلاف ريال، زيادة على المهر، فكان “مع ذلك من المقصرين”، كما يعترف ( ص193).
والواقع أن قراءة هذا الفصل الشيق الذي يعمد فيه المؤلف أحيانا إلى مقارنة عوائد تطوان بعوائد مدينة فاس (ص196)، تمكننا من تلمس بعض القيم الجديدة التي تسربت تدريجيا لحضارة المدينة، وعملت على زعزعة كثير من قيم أهلها الموروثة، والتي أصبحت تترنح بسرعة تحت تأثير الأنماط الاستهلاكية الدخيلة (الرأسمالية).
ويختم الرهوني هذا الجزء من الموسوعة بتقديم عرض لما يراه أخلاقا شريفة لأهل تطوان؛ مثل الصدق في الخبر، والإخلاص في المعاملة، ومحبة العلم والعلماء والشرفاء، والأدب، ورقة الحاشية واللطافة، والشجاعة والتدين والتقوى والكرم، “لكن مع اقتصاد ونظر في العواقب” (ص248)، نافيا عنهم ضمنيا بعض الصفات المذمومة كالبخل، مع التنصيص على أن ما لا ينطبق مع هذه الأخلاق لا عبرة به، لأنه مرتبط “بالدخلاء” على المدينة.
وفضلا عن هذه الأهمية التاريخية الكبيرة التي يكتسيها الكتاب، فإنه بالنسبة للمشتغلين بتطور اللغة العربية واللهجات، يعد منجما ثريا من المصطلحات التقنية والحضرية، التي شرح المحقق كثيرا منها في هوامش الكتاب، أو أحال على شروحها في الأجزاء المخطوطة من عمدة الراوين. إنه جانب آخر لهذه الموسوعة، يحتاج إلى من ينكب على دراسته.
وإذا كنا قد تلمسنا أهمية هذه الموسوعة الرهونية من خلال هذا الجزء من عمدة الراوين، فإن الصورة لن تكتمل إلا بإصدار الأجزاء المتبقية من هذه الذخيرة الفريدة من تاريخ تطوان وتاريخ المغرب وحضارته، إصدارا كاملا.