بين متاهات العشق ومراتب الدهشة وسؤال الوجود يكتب عز الدين الشنتوف ديوانه الموسوم بعنوان لستَ سوايْ الصادر حديثاً عن دار توبقال للنشر سنة 2013م. وعز الدين الشنتوف باحث وناقد ومترجم خبرَ الشعر وتنظيراته دراسة وترجمة، وعضو بعدة جمعيات ثقافية وشعرية. وله العديد من الدراسات والمؤلفات كما ترجم العديد من الأشعار عن الإسبانية والفرنسية. ومن إصداراته الأخيرة أيضاً كتابالذاتية وبناء الكتابة، وترجمة كتاب La part du feuلموريس بلانشو. وديوان لستَ سوَايْ لحظة من لحظات الكتابة عند الشاعر لنصوص متحاورة ومتجاورة فيها تتحوّل الكتابة عند الشاعر إلى مساءلة مستمرّة عن الكتابة ذاتها لقولٍ له فعل البوح بما ينسجم وتصوّرات الشاعر المعرفية في بعدها الفلسفي والتاريخي والصوفي برغبة في الكتابة لا تنتهي. إنه قلق الشعر ومستحيلات أسئلة الكتابة. لذلك تجد الشاعر في العالم وخارج العالم، في الكلمات وخارج الكلمات وأحياناً يُصغي ولا يقوى على الكلام فيركب الشاعر دروباً وأمكنة تؤدي إلى اللاّمكان بتعبير هايدغر فلا ينتج المعنى بقصدية جاهزة، بل يصنعه النص بمُمْكنه الخاص، مما يفتح أفقاً آخر للنص، وأفقاً آخر لأسئلة مغامرة الكتابة عند الشاعر التي تتقاطع فيها الأجناس الأدبية والشعرية لنصوص موزونة، وأخرى غير موزونة، وأحياناً لنصوص تجمع بين الموزون وغير الموزون وتتحول فيها الصور والأفكار إلى لغة وامضة تشكّل متاهة للمتلقي فيصبح العالم نصا لا شعورياً وهو حركة الكتابة ذاتها بتعبير موريس بلانشو. لذلك تثير الكتابة عند الشاعر أسئلة عديدة تظلّ دائماً بحاجة إلى جواب. هي ذي أسئلة الكتابة التي لا يكتمل فيها السؤال والجواب. وقد يظلّ السّؤال غير مكتمل فيحتاج إلى إيضاح لأنه يقوم على النقص والنقص فراغ كما يرى موريس بلانشو.
ونجد في ديوان الشاعر استلهاماً للتراث الصوفي النفري بالغوص في أعماق التجربة الصوفية النِّفرِيّة التي لم يتّخذها في الديوان معتقداً بل سلوكاً ومنهجاً إبداعياً لرؤية العالم والكشف وأفُق الحلُم خاصة وأن الخطاب النفري منفرد ومختلف عمّن سبقه من المتصوفة. وبقدر ما يستلهم الشاعر هذا التراث بقدر ما تسمو القصيدة في بعدها الفني الجمالي وتستجيب لسؤال الحداثة والتحديث الشعري.
وعتبة العنوان من أهم العناصر المكونة للعمل الشعري، والمولِّدة لدلالات النص. فشعرية العنوان ودلالاته من حيث بنيته اللغويّة والتّناصية واتصالها بالتجربة الشعرية للشاعر في تناصٍّ مع المرجعية التراثية الصوفية، تكشف عن رؤية الشاعر الجمالية والفكرية بشكل جديد يرافق تحولات بنية اللغة الشعرية. ف”لستَ سوايْ” تحيلنا على كلمة “السوى” التي كثيراً ما تردّدت في كتابات النفري، والتي لا يمكن حصرها في مفهوم أو تجربة لأنها لانهائية كلانهائية القصيدة. ويرى سامي اليوسف في استخدام كلمة “السوى”، التي كثيراً ما ردّدها النِّفَّري، أنه ما من صوفي عمد قبل النِّفَّري في استعمال كلمة “السوى”، وهو الذي ابتكرها وجعل منها اسماً بدلاً من استثناء. كما اتخذها صاحب المواقف والمخاطبات مصطلحاً من مصطلحات مذهبه وعقيدته. يقول النفري والكون كله سواي” أو “يا عبد، المفازة كل ما سواي” وقال لي: “إن تبعك السوى وإلا تبعته”. وتكرار هذا المصطلح يكشف عن العلاقة التي يفتحها الشاعر مع السوي في تصورها للوجود والمطلق وتحقيق الرؤيا. وعنوان الديوان يحمل المدلول النفري لكلمة “السوى”. ف”لستَ سوايْ” معناها “لستَ أنتَ سوايْ”، أي في اتحاد تام بين الذات الشاعرة والذات الإلهية. فكل ما سوى الله غيراً إذ لا محل للآخر عند الشاعر. يقول في قصيدة “حجب” (ص.55):
… مؤانسةٌ مع الأضدادِ تُحييني
ألستَ غيريَ لا سوايْ
سواكَ
عرفتُهُ
حتّى
نسيتُ
سوايْ.
ويقول في قصيدة “وشم” (ص. 76):
…ينشُبُ في الوديعةِ
ويُقيمْ
كما لو كُنْتُهُ
أوْ كانَ مني
سوَايْ
لا محل للآخر إلا للحقّ والمطلق كما لا محل للآخر في خطاب النفري إلا للذات الإلهية. يقول النفري في موقف الوقفة: “وقال لي العالم يرى علمه ولا يرى المعرفة، والعارف يرى المعرفة ولا يراني، والواقف يراني ولا يرى سواي”. وبين المعرفة ووحي الكتابة يقول الشاعر في قصيدة “أمكنة” (ص. 40):
الآنَ فخٌّ يعيــــدُ لك المكــــانْ
الآنَ لا شــــــــــــــيءَ ســــــــــــــــــــــواكْ
الآنَ تكتبُ ما يوحى إليكْ
الآنَ ما زلتَ هنا
وتلعب العتبة التصديرية كذلك وظيفة دلالية هامة تحيل القارئ إلى فضاء هذه التجربة. ويتضمّن الديوان تصديراً واحداً للنفري، يقول فيه: “ليس الكاف تشبيها، هي حقيقة أنت لا تعرفها إلا بتشبيه”. ما يعني أن الكتابة عند الشاعر منفتحة على عوالم الكتابات الصوفية النفرية في علاقتها بالمعرفة والوجد والشطح. والشطح نوع من احتضان اللغة ومن الحضور الكُلّي في اللغة. وقد أورد النفري هذه القولة في مخاطباته التي يقول فيها: “أوقفني في الثوب وقال لي: إنك في كل شي ء كرائحة الثوب في الثوب”. والثوب هنا كأنه شكل والشكل معنى ومع ذلك “قال لي ليس الكاف تشبيها هي حقيقة لا تعرفها إلا بتشبيه”. والكاف هنا ليست تصوّراً لغوياً، إنما هي حقيقة يدركها المتصوّف. فالاتحاد بين المُشبَّه والمشبّه به هو اتحاد بالذات الإلهية وهو أيضاً اتحاد عشْق الشاعر لعشق النفري للغة التي كانت طريقه إلى التشبه بالله كسِرٍّ من أسرار التدوين والكتابة لقراءة الذات من داخل هذه النصوص في حوارها مع الحقيقة الإلهية. وهذه أرقى مراتب الرؤية عند المتصوفة لإدراك لحقيقة التي لا تُدرك إلا بتشبيه النفري.
ولهذا يخلو الديوان من استعمال الشاعر لحرف التشبيه، لأن موقفه من التشبيه موقف صوفي نفري لا بلاغي. فالتشبيه البلاغي وظيفته بيانية بديعية أما التشبيه الصوفي فدلالاته إشراقية قلبية. لذلك اتّسم الخطاب الشعري الصوفي عند الشاعر بسمة جمالية إبداعية عالية وتجربة روحية سامية، لما تمتاز به النصوص من كشف بين المرئي واللامرئي والحقيقة والخيال. لغة القصيدة لغة تنبع من جسد العاشق فخرجت عن المعايير السائدة لأنها لغة أحوال وكشف ومعرفة ذوقية عمد من خلالها الشاعر إلى اختراق المقدس والحوار والتجانس مع النفري في عالم المعنى من خلال اللغة. ما أضفى عليها نوعاً من الغموض، إلا أن الاغتراب في النص الشعري الصوفي نابع من صوره الشعرية المستعارة من الجمال الإلهي و”قوالب ألفاظ الكلمات لا تحل عبارة معاني الحالات” حسب ابن عربي.
والصور الشعرية في الديوان مستقاة من نبع المعاني الصوفية التي تمتاز بالغرابة في خلق المعنى في صور غنية بالتخييل. والتجربة الصوفية تجربة تخييلية فهي ليست صوراً بلاغية بقدر ما هي إشراق ورؤيا. والخطاب الشعري الصوفي مبني على الرؤية القلبية الذوقية وليست البصرية. يقول الشاعر (ص. 29):
تذكَّرْ أنك تكتبُ مهاجراً
وتموتُ هنا
ولذلك يتّضح أن تجربة الشاعر منفتحة أيضاً على علم المقامات والأحوال، وعلم المنازل والكشوفات وكذلك علم الحروف والأرقام، وللحروف قيمة كبيرة عند المتصوفة. فهي عند ابن عربي في فتوحاته المكية “أمة من الأمم، مخاطبون ومكلفون، وفيهم رسل من جنسهم، ولهم أسماء من حيث هم، وهم على أقسام كأقسام العالم المعروف…”. وللإمام الغزالي مصنّفات في علم الحروف وخواصّها، يقول: “الحروف خزانة الله، وفيها أسرارهم”. كل حرف عند المتصوفة يسبح في ملكوت الوجود. يقول النفري في المواقف: “كل شيء حرف”. وهذه الحروف هي التي تكشف معاني السوي. وفي عالم الشاعر المنفلت من كل القيود عمد الشاعر إلى توظيف المصطلحات الصوفية من حرف النون. يقول في قصيدة “شأن” (ص. 45):
“يكفيهمُ نونٌ بماءٍ ينكتبْ اكتُبْ سقيتُكَ من سواكَ فلست
لي
بُلِّغْتَ
عُرْيَكَ أن تواطئَ ما جهِلتَ قضيتُهُ نُزُلاً خرائبَ للمُحال”
وقد جاءت النون رمزاً للكتابة والرؤيا. فالإبتداء عند الشاعر هو فعل “اكتب” وبين الكتابة والنسيان، واستحالة التذكّر، واتساع الرؤيا يقول الشاعر في قصيدة “أكتب” (ص.10):
النونُ النــارُ تجاويـــــــفُ الرحمِ النايُ النُّـــــــــطَفَ النَّغَـــــــــــــمُ
الشهويُّ نُدوبُ الوقـــــــــت نبــــــوَّةُ نقصــــــــان المرقومِ نعيمُ
النفي إلى الأنوار تفيضُ حياضٌ من كلم الإبراء تكادُ
العينُ تطرّزُ وقتَ الخطف ارتدّ الطرفُ حجابٌ بــــــين
يدِ ويدٍ لا تعلمُ رفعـــــــــــاً كيـــــــفَ الوقفـــــــةُ حـــــــــين تجيءْ
وبين حروف العشق الصوفي وحروف القصيدة لا حدود لضفاف المعنى الشعري. فصلاة الحرف وشاعريته هو نواة انطلاق اللحظة الجمالية بين الواقع والحلُم. يقول الشاعر في قصيدة “أيُّ حرفكَ بينها حرفي” (.ص. 11):
“أمن أعمى تَمَنَّعُ فتنةُ الأسحار تنزلُ في قرار العين
نازفةً تعلَّمُ كيف تمشي نحو رائيها رأيتكَ مقــــــــــــــــرناً
لي من هواكَ نسائمَ الخطـــــــــــوات تبرّئُ سعيـــــــــكَ
المرشوشَ بالإمكانِ كنْ لي في وجودكَ في بروق
وتتضمّن هذه القصيدة أحد عشر نوناً في أربعة أسطر. بينما تتضمّن أيضاً قصيدة “اكتب” أحد عشر نوناً في خمسة أسطر شعرية. ما يوحي بأن حرف النون الذي تكرّر بكثرة في الديوان هو حرف الشاعر فهو حرف النور الإلهي، ونور المقامات الصوفية، ونور القرآن، ونور الرؤيا الصادقة. وقد اختص الله عز وجل يوسف http://forum.al-wlid.com/t142219.htmlبالرؤيا الصادقة. قال تعالى:”إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَـٰأَبَتِ إِنِّى رَأَيتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوكَبًا وَٱلشَّمسَ وَٱلقَمَرَ رَأَيتُهمْ لِي سَـٰجِدِينَ(سورة يوسف). وتوظيف الشاعر لأحد عشر نوناً قد يكون تيمّناً بأحد عشر كوكباً كملمح من ملامح الأسرار النورانية. فحرف النّون هو أحد حروف اللغة العربية والله أعلم بمقصده. وهو نون القسم، فقد أقسم الله بالقلم. قال تعالى “ن والقلم وما يسطرون”. ومن عظمة القلم الكتابة والعلم الذي هو نور الحياة. كما أن القرآن الكريم حروف، وبعض أوائل سوره حروف: “ألم،ألر،ألمص…” لا نعرف معناها ولا مقصدها، لكنها تحمل صفة الإعجاز. والوصول إلى الحقيقة الإلهية عند النفري لا يتم إلا بالخروج عن الحرف، أي عن المعنى المتداول السطحي إلى المعنى العميق. لذلك يرى النفري “بأن الحرف لا يخبر عن الله لأنه يعجز أن يخبر عن نفسه”.
والحروف عند الشاعر انفتاح للذات على الوجود والمعرفة التي تأتي من الشوق والعشق. وقد عنون الشاعر قصائده بالحروف التالية: قصيدة”ص” (ص.57)، وقصيدة “ق” (ص.65)، وقصيدة “ض” (ص.69)، وقصيدة “ف” (ص.73)، وقصيدة “النون” (ص. 119). وحرف النون أكثر الحروف تداولاً في النصوص الشعرية، لذلك جعلها الشاعر منازل. وقد قسّم هذه القصيدة إلى خمسة عناوين أو منازل وهي: منزلة الخلفاء، ومنزلة لا، ومنزلة القرين، ومنزلة التّذكّر، ومنزلة التّدليس. فصعود المقامات والمنازل الوجودية في هذه القصيدة لها حالات وأسفار في الحوار والإنصات مع الذات الإلهية. يقول النفري “الحرف ناري الحرف قدري الحرف حتمي من أمري الحرف خزانة سري”. كما أن للحروف عند الشاعر أسماء وعوالم وأسرار. يقول في حرف “التاء”: تثبيتٌ كان تَهَيَّبَ/من تكتيبِ مجاز/أو/تعطيل معان (ص. 16)، ويقول في الياء: يتمٌ يتخيّرُ من يعطيه اسمه/ياءٌ (ص. 16)، ويقول في الكاف: كتابُ البُعدْ/سلامٌ من ضيوف البُعدْ/لهم أغيارُ ما علموا (ص. 47)،ويقول في الألف: ألفاً سواكَ تكادُ عينُ الضوء تعبُرُ ما ينمنمُ صفحةَ البلورِ/وجهَكَ حين يسكنُها الشتاتْ بيني وبينَكَ كنتَ نهراً (ص. 49).
يبدأ الشاعر في تسلّق المقامات العرفانية والمنازل الوجودية وطرق باب التهيئ للوقفات استعداداً للسفر لدائرة الحضور الإلهي في أول قصيدة يفتتح بها الديوان. يقول في “باب” (ص.7):
لن تأتي في حلم بيواقيتَ انهمرت من ثقـــــب سماء لـــــــــــن
تتخطَّفها انفاسٌ خافت خطواً نحو الباب تهيَّأْ للوقفات.
حيث يلتحم الشاعر بالذات، فيُصبح “هي” وتُصبح “هو”، فينفجر سكون الصمت، يقول:
انسَ الميقاتَ الشوقَ ستلبسُ صوتاً يلهبُ نبض حواسكَ
تلبسُ هولَ الصمت ليبدأ فيك الطُّهر تمالكْ إن الحـــــرف
يذوب من الأشياء يُعلِّمُ صورته أذِنتْ للعين فلا تقــــربْ
فالوقفة عند الشاعر خارجة عن كل سوائية وغيرية ومن أحوالها الصمت والإنصات. ونجد أن مقام الوقفة ومقام الرؤيا أهم مقامات النفري. فتلقي الواقف للمطلق أهم مراتب الفناء. أما الرؤيا فأعلى مراتب الكشف والتجلي لتلقي الخطاب الإلهي حيث لا حُجب ولا أستار. وتأتي الخمرة كجسر للعبور إلى مقام الوقفة والرؤيا. يقول في قصيدة “سكر” (ص. 17):
وحده الحرفُ يمتصُّ
اغترابَ
الكأس
أَيُّ صفاءٍ تُلامسهُ الكتابةُ
المكرُ
أنايَ
أقاني للغيابِ.
والسكر في القصيدة حال وطريق إلى مقام الرؤيا. يقول في قصيدة “ما لا يُرى” (ص. 113):
للوقوفِ تلوَّنتْ أطيافُ خمرِكَ أينَ فتــــــحُ الدَّائريـــــــــنَ
تحلَّقتْ نُطَفٌ فصوصٌ نونُها المسكوبُ ينهَمُ غيمةَ
الإفــــرادِ لا مَــــنْ مِـــنْ ســــــواكَ يقــيلُ سمســـرةَ النــــــــداءْ
لا مَن مِن سوى الذات الإلهية منبع الحب والعشق الإلهي عند الشاعر، عشق نواته نون الكتابة المسكوب، ونون الرؤيا، ونون رؤية ما لا يُرى. فخمريات المتصوفة تعبير عن أنوار الله وتعبير عن سكر الترقّي الصوفي، أي سكر فناء الأرواح العاشقة في الذات الإلهية. والوقفة نوع من التجرّد عن الذات والارتقاء بها إلى المشاهدة الإلهية لمعرفة الله، وهو مفهوم جديد للمعرفة عند النفري، يقول “معرفة لا وقفة فيها مرجعها إلى الجهل”.
وهكذا نلاحظ حضور المضمون الفكري النفري في ديوان الشاعر سواء فيما يتعلّق باللغة أو التجربة أو رؤيا العالم. ففي نصوص النفري نوع من شعرية الفكر، إلا أنها أقرب إلى الأدب منها إلى النظر الفلسفي. يقول النفري في موقف “موقف من أنت ومن أنا”: “وجاءني كل شيء وفي يده حربة، قال لي: اهرب! فقلت: إلى أين؟ فقال: قَعْ في الظلمة. فوقعت في الظلمة، فأبصرت نفسي، فقال لي: لا تبصر غيرك أبداً، ولا تخرج من الظلمة أبداً، فإذا أخرجتك منها أريتك نفسي فرأيتني، وإذا رأيتني فأنت أبعد الأبعدين”.
وقد ارتقى الشاعر إلى مقام الرؤيا التي هي أعلى المراتب لما فيها من فناء في الذات الإلهية. فالرؤيا هي حلقة الارتباط بالخطاب الإلهي، لأنها أعلى مراتب الكشف والتجلي لإدراك الحقيقة. فمفتاح الرؤيا هو مفتاح القلب، ومفتاح المطلق لإزالة الحجب وهي كذلك المنتهى للوصول إلى الحق حيث تتحقّق المشاهدة. يقول النفري في المواقف: “وقال لي لا يكون المنتهى حتى تراني من وراء كل شيء” أي رؤية الواقف للحقيقة وراء كل شيء بعد عبور كل الأشياء. يقول النفري: أنت عابر كل شيء فجزت فرأيت كل شيء، ورأيت وجه كل شيء، ومعنى كل شيء.
فتح النفري آفاقاً جديدة في التصوّف، فرؤيته كشْف أكبرُ بكثير من اللغة وهو الذي يقول: “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”. وهي أشهر أقوال النفري التي تحوّلت إلى حكمة لأنها أدّت من المعاني ما عجزت عنه كل الكلمات، فاتّسعت لمعاني عديدة. فكلما اتسعت الرؤيا القلبية تضيق العبارة ويتعذّر التبليغ. فالعبارة تخون الدلالات وتحجبها، لأنها أصغر بكثير من الرؤيا. لذلك عمد المتصوفة إلى تمجيد الإشارة لما فيها من تجاوز للغة العادية لأنها لغة القلوب والأذواق. والمعرفة “جوهر مقام الرؤيا” عند النفري. فبها يمكن اختراق كل الحقائق للوصول إلى الحقيقة الإلهية.
ويصل الشاعر مرتبة الدهشة في قصائده المعنونة ب”ما لا يُقال” و”ما لا يُنشد” و”ما لا يُرى”. لأنه يكتب بفيض التجربة وهذا سرُّ بهاء اللغة الصوفية وسرّ من أسرار الكتابة لأنها لغة الصمت ولغة المعرفة. والحرف والعلم والمعرفة ٍفي مجملها أهم مظاهر السوي. بذلك يقيم الشاعر علاقته مع اللغة بحرّية مطلقة،تستعيد من خلالها الذّات لحريتها خارج كل أشكال الكبت الفكري واللغوي. فتعمّد إغفال استعمال علامات الترقيم مما جعل نصوصه تخضع لقراءات وتأويلات متعدّدة. فوظيفة علامات الترقيم تعليمية وليست شعرية. فقد كان أراكون لا يرى ضرورة استعمال علامات الترقيم في الشعر. فلم تعرف اللغات علامات الترقيم إلا في وقت متأخّر بظهور الطّباعة، ولم يعرفها الشعر الفرنسي في القرون الوسطى. والفتوحات المكية لابن عربي لا تتضمّن أية علامات ترقيم لأن اللغة وِعاءٌ لتجربة الشاعر. وقد كان الشعر عند ابن عربي هو نكاح اللغة ونكاح الحروف. وهو ما تمتاز به أيضاً لغة النفري الفريدة التي تتراوح بين الشعر والنثر. كما لم يقيّد الشعراء العرب القدماء البيت الشعري في معنى من المعاني بأدوات الترقيم التي كانت من وضع المحقّقين فيما بعد وليس الشعراء.
أحدث المتصوفة ثورة في اللغة العربية. واهتم الخطاب الشعري الصوفي بأدق تفاصيل هذه اللغة بما فيها الأسماء والحروف وعلامات الترقيم. لذلك كان الخطاب الشعري أقرب أنواع الخطابات لفهم العمق الجوهري للتدوين عند النفري، بينما لم تفلح الكتابات النقدية في الوصول إلى تحليل ميتافيزيقي واضح لما تتميّز به عبقرية النفري في التعامل مع اللغة والخيال معاً وهي على درجة رفيعة من الرقي الأدبي. فحالة العشق والوله وسعَة الخيال واتساع المعرفة كانت سبباً في تأثّر الشعراء المعاصرين بهذه الكتابات.
ويمتاز ديوان لستَ سوايْ بفنّية عالية في الصور والأخيلة بطريقة جديدة مستوحاة من ثقافة الشاعر الواسعة المتشبعة بالتراث العربي الصوفي والمنفتحة على الأدب الفرنسي والإسباني. وشعر عز الدين الشنتوف بعيد كل البعد عن أي تصنيف أجناسي، فهو ينتمي إلى الكتابة بمفهومها الواسع في الشعر العربي الحديث. وقد جاءت الكتابة عنده تجلية واستكشافاً من خلال كثافة الكلمات وعرائها وحمولتها الفلسفية والفكرية والكونية. ولذلك اعتمد في لغته على التركيب كآلية نصية ذات خاصّيتين:
الأولى: اهتمّ فيها بتوسيع العلاقات والروابط الإسنادية.
والثانية: عمد فيها إلى كسر الحدود بين الجمل. وهو ما يعطي للنص نفساً ممتداً في القراءة وفي التأويل.
بذلك تخرج الكتابة عند الشاعر من دائرة التكرار والمتداوَل وتفتح أفقاً آخر للنص، وأفقاً آخر للأسئلة، فتحيل القارئ إلى إمكان التساؤل عن الشعر والكتابة والتغيير في مفهوم القصيدة وطرق التعبير وقيمته المعرفية. والإجابة عن هذه الأسئلة بداية تورّط جديد في مكابدة لذّة جرح الكتابة.