اختلفت مقاربات النّقّاد والأدباء العرب لأسئلة الإبداع والحضور الشعري زمن الربيع العربي كما تنوّعت مواقف الشعراء من الأحداث التي يعيشها وطننا العربي. فكانت العديد من الآراء تتحدّث عن خفوت الشعر وموت الشعراء مُتناسين أن الشاعر لا يكتب لزمن الرّبيع فقط ولا لزمن معيّن ولكنّه يكتب للفصول مجتمعةً في زمنٍ واحدٍ يسري على كل الأزمنة. لأن الشعر لا يرتبط بالزّمن والتّاريخ والأحداث، بل يرتبط بتجربة الشاعر التي تحدّد مفهوم وحالة الكتابة عنده. فالشعراء لا يتحدّثون عن الثورة فقط بل يصنعون ويبنون الثورات كما يبنون الحداثة.
ونستثني في هذا المقال بعض الكتابات النّثرية الشّائعة في وسائل الإعلام الورقية والإلكترونية والتي تُنشَر باسم الشّعر، في حين أنها لا تكتسب أية جماليةٍ لغويةٍ أو تخييليةٍ مع أن الشعر هو أسمى طُرق التّعبير وأرقى أنواع القول.
وفي تاريخ الشعوب لم يكن الشعر يوماً غائباً عمّا عرفته الشعوب من أحداثٍ، لأن هناك علاقةً وطيدةً بين التطور الاجتماعي والسياسي، والتطور الأدبي. ولذلك سنحاول تسليط الضوء على ما عرفته القصيدة العربية من انفتاحٍ وطرقٍ جديدةٍ في الاحتفاء بالشعر داخل وخارج الوطن العربي. ولا نقصد بذلك التّنبّؤ بإبداعٍ شعريٍ جديدٍ ظهر في ظل زمن التحوّلات الكبرى التي عرفها العالم العربي على المدى القصير ليس من حيث الكمّ، لأن الشعر لم يُحقّق بعد تراكماً على مستوى القصيدة، ولم تنضج بعد معالمها كتجارب شعريةٍ مختلفةٍ لزمنٍ مختلفٍ، ولكن الجديد يكمن في طريقة وكيفية الاحتفاء بالقصيدة وانفتاحها على أنماط الفنون.
دعوة الشعراء إلى الحوار الثقافي والاحتفاء بحلم ربيع شعر جديد
رغم كل ما نُشِر ويُنشر عن خفوت الشعر، فقد بدا الشعر في زمن الرّبيع العربي سيد الموقف والصديق الوفي الذي لا يخون. لم يكن الشعر بمعزلٍ عن الأحداث لأن الشعر في حدّ ذاته من القيم الفكرية التي ترسّخ لثقافة الحوار، إذ لجأ الشعراء إلى الحوار الثقافي الذي يستطيع الإنسان من خلاله أن يعبّر بصدقٍ عن أحلام المواطنين. فليس بالضرورة أن يُعبّر الشعر عن واقعٍ سياسيٍ، لأن من خصلة الشعر التّعبير عن أحلام الإنسان في التطلّع إلى مستقبلٍ أفضل مفعمٍ بالحبّ والحرّية والكرامة.
وإن كانت صورة الرّبيع العربي بدت خريفاً بائساً إلا أن ربيع الشعر لم يفقد ألوانه الزّاهية، ولم يتحوّل إلى لونٍ رماديٍ. لكنّه ولّد نوعاً من الغبطة والفرح والدّهشة في نفوس الشعراء. ونجح الشعر في أن يجعل من الجُرح العربي جُرحاً إنسانياً كونياً، فبدت القصيدة العربية مزهوةً بمحبّة من أحبّوا الحرية وتعلّقوا بها حتى الموت.
يقول الشاعر محمد بنيس: “ثورة في بلاد عربية أتت من حيث لا ندرى، هي الدهشة وهى الغبطة وشعب أزاح عن كتفيه كلمة نعم للطاغية وشوارع لم تعد تنام بعد أن نامت من قبل أكثر مما يستوجبه النوم، وحشود تتظاهر وتعتصم بشكل سلمى ومنظم تحافظ على الحياة العامة وتحمى الممتلكات ويتبلور جدل بأصوات أجيال”. (مجلة الدراسات الفلسطينية). ويرى بنيس أن جموعاً بشريةً نزلت إلى الشّوارع بلغةٍ لا تشيخ ولو أن عمرها يعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي، لغة شعرية هي وحدها التي استطاعت أن تنقل الشّعب من الحذر والخوف والصّمت إلى الجرأة والشّجاعة والكلام. كما انتقد “التهافت على تطويع الثقافة كي تتلاءم مع متطلبات خطاب الدعاية للاستبداد وتبريره وتقديم تأويلاتٍ فاسدةٍ وإعلان الحرب على كل متمسك بوعى نقدى”. (مجلة الدراسات الفلسطينية).
ويرى الشاعر عبد المعطي حجازي أن تدهور الشعر ظهر جلياً قبل الثورة، وبمجرَّد ما انطلقت الثورة أحس المصريون بأنهم كلُّهم شعراء لأنهم كلهم أحرار. فنحن محتاجون للثورة وللشعر لأننا بالثورة نتحرر وبالشعر أيضاً نتحرر ونمارس إنسانيتنا (جريدة الخليج).
ودعا الشاعر قاسم حداد إلى التعامل مع الحدث ثقافياً، والاهتمام مبدئياً بأسئلة الثقافة بدل أسئلة السياسة، بعيداً عن أي انحيازٍ إلا ما اقتضته مشاعر المحبّة وتحقيق العدالة والحرّية تفادياً للانقسامات. وبأن تكون الثقافة “سبباً في الحب وليست إسهاماً في التأزيم”. وعن الشعر في ظلّ الربيع العربي يقول حداد إن الإبداع بفنونه كافة “لا يحاكم بهذه المقاييس، لأنه الأساس الذي يتصل بتوق الإنساني والحرية والعدالة في كل العصور، ولا يرتهن لا بربيعٍ أو خريفٍ أو شتاءٍ، لأنه جذوةٌ دائمة الاشتعال، ومهما مرت عليه من حقبٍ ومن محنٍ يظل هو الأصدق”.(صحيفة الحياة).
وقد صاحب الشعر الثورات العربية أكثر من أي جنسٍ فنيٍ أدبيٍ آخر، لأن القصيدة علّمتنا أن زمن الشعر هو زمن الحرية والتخلص من القيود والحواجز، وهو زمنٌ يعلّمنا التواضع أمام القصيدة واستيعاب معانيها قبل أن يأتي الفهم متأخّراً. والشعوب العربية أدْمت معصمها القيود على حد تعبير الشاعر إبراهيم ناجي. فقد غنّت أم كلثوم قصيدته الرائعة قصيدة الأطلال على مسرح أولمبيا في باريس سنة 1967، وهي من ألحان رياض السنباطي. وعندما وصلت إلى مقطع “أعطني حُرّيتي أطلق يديّا” قامت الدنيا وعَلَت الهتافات فكانت كلمة الحرّية كقيمةٍ إنسانيةٍ أعمق من المعنى الذي يحمله النص الشعري. فإذا كان المحبوب قد قيّد محبوبته بقيود – مواثيق الهوى – فإن كلمة الحريّة حملت معنى استعارياً أكثر شمولاً وهي الانفكاك والتحرر من أي سلطةٍ تُقيّد الإنسان حتى سلطة الهوى إذا كانت ستسلب من المحبوب حرّيته. كما نعرف عن حياة الشابي أنها سلسلة من الآلام والأحزان بسبب المرض والفقر والاستعمار لكنه كان شابّاً مجنون الحرّية ومجنون الكرامة والقيم الإنسانية. وجابت قصيدته كل البلدان العربية، فَكوّن بذلك لنفسه أُمّةً من القُرّاء. فتجاوزت قصيدته الزّمان والمكان وأصبحت من أشهر القصائد على الإنترنت، من خلال تداولها الكبير على الفيسبوك والتويتر وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي، في سابقةٍ لم يشهدها الأدب العالمي.
وهكذا لم تكن مواقف الشعراء العرب غائبة عن كل ما يجري في المنطقة العربية شأنهم شأن جميع المثقفين والمفكرين العرب ومنهم من هم شعراء وأدباء ومفكرون. إلا أن العديد من أفكار الشعراء تستعصي على الفهم أو تُفهَم بشكلٍ سيئٍ. فاتُّهِم منصف الوهايبي بمسّ المقدسات. وتمّ تهديد الشاعر والمفكّر أدونيس بالقتل لتبنّيه الرأي المخالف، كما اتُّهم بالتّهجّم على الدّين الإسلامي. ما دعا إلى فتح نقاشٍ واسعٍ حول علاقة الشعر بالدين والسياسة ومدى فاعلية الرّمز الدّيني المقدّس في الشعر المعاصر. فاتهام الشعراء بالتّطاول على المقدّسات مسألة عرفتها الثقافة العربية قديماً. وهذه المسألة تذكّرنا بوضعية الشعر في الثقافة العربية، وبأهمّية دعوة طه حسين في مقدمة كتابه “في الشعر الجاهلي” إلى الفصل بين العقيدة والشعر من أجل تقدّم الدرس الأدبي.
وهكذا طرق الشعراء أبواب الشعر بدون استئذان مبهورين بضوئه حتى أنه لا صوت إلا صوت الشعر، يقول الشاعر فاروق شوشة في ديوانه “الرحيل إلى منبع النهر” الصادر 2011م: مولاي الشعر / اغفر لي أني قد جئت بلا استئذان / ووقفت ببابك/ أدخل أم لا أدخل؟ (…)/ يبهرني ضوؤك / تغشي عيناي فلا تريان.
وللشاعر منصف الوهايبي قصائد غنيّة بالتخييل. يقول في نصه تمرين على كتابة يوم الجمعة 14 يناير 2011م: ليصُمتْ إذن كلُّ شيء هنا هذه الجمعة/ رفيف العصافير في تونس خضراء أجراسها القزحية/ أشجارها إذ تغني/ ليصمت إذاً كل شيء/رنين الهواتف في كل يَد/ورنينُ المعاول في كل يد..
وقد استنكر العديد اقتحام منصف الوهايبي للدّين والمقدّس باسم الإسلام. في قصيدة منصف الوهايبي سخرية وانزياح وطاقة تصويرية كبيرة. فالزمن التونسي هنا زمن معرفي قابل لطرح الأسئلة الكبرى حول المسلّمات ومحاورة النص القرآني والتراثي والشعري. يقول: ليصمتْ إذنْ كلُّ شيءٍ هنا/ هذه الجُمعَهْ/ أغاني الرّعاهْ/ أذانُ الصلاةْ/ قلْ لهمْ: لا تُصلّوا/ ولا تقرؤوا الفاتحهْ/ هذه الجُمُعهْ/ وقفوا مثلما يقفُ التونسيّونَ والتونسيّاتُ في هذه الجمُعَـهْ/ رتـّـلوا: الحمدُ للشعبِ سيّدِنا أجمعينْ/ رتـّـلوا: الحمدُ للشمس وَهْوَ يكوّرُها في يَـدَيْـهْ/ نحنُ مِنـْـهُ ونحنُ لهُ إذ نكونُ علـيـْهْ/ رتـّـلوا صامتينْ/ رتـّــلوا: الحمدُ للأرضِ وَهْوَ يدورُ بها/ ويُدوّرُها في يَـدَيـْهْ/ وإذا كان لا بدّ من توْبةٍ أو صلاة/ فتوبوا إليهِ.. وصلّوا عليهْ/. وهكذا بدا الصمت في القصيدة صمت مقدس. إنه لحظة خلق جميلة تحمل بعداً إنسانياً كونياً في استشراف الآتي. صمت لا يكسّره إلا وقع أقدام الطاغية وهو يهرب ويرحل ليرقد في جثة خاوية.
أما الشاعر العربي أدونيس فقد تعرّض للعديد من الانتقادات بسبب موقفه الغير الواضح من الثورة السورية رغم بعض الحوارات التي كان قد أجراها وبعض المقالات التي كتبها. إذ رماه البعض بالتحيّز للسّلطة التي تحاول إجهاض الثورة. ويرى أدونيس أن هناك خللاً في العلاقة بين المعرفة والسياسة داخل الثقافة العربية. فالأولوية دائماً تُعطى لما هو سياسي، ما يؤدّي إلى خروج النص من إطاره البحثي المعرفي أو الفنّي الجمالي ليتحوّل إلى ساحةٍ للصراع وإلى معركة وسلاح ما يؤدّي إلى استمرار الرّقابة وسيادة عقل التحريم والتحليل. ما يدلّ على أن صراعنا هو صراع انتماءات سياسية وإيديولوجية باسم الثقافة. ودعا أدونيس إلى قراءة الدين قراءة حديثة تؤدّي إلى فهمٍ جديدٍ والفصل بين ما هو ديني وما هو ثقافي اجتماعي. أي الدين كتجربة روحية فردية لا تُلزم إلا صاحبها. بذلك يتحوّل الدّين إلى أفقٍ روحانيٍ مفتوحٍ على الإنسان والكون. (صحيفة الأهرام).
الانفتاح الجمالي بين الشعر والفن
شهِد ربيع الشعراء في السنوات الأخيرة احتفاءً جديداً ومتميّزاً بالشعر. وكان للقصيدة العربية حظّها الوافر من هذا الاحتفاء في الوطن العربي وغير العربي. وساعدت الرّقمنة على انتشار الشعر على مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الثقافية الخاصّة بالشعر. وذلك بنشر قصائد الشعراء، وتداول أخبار الشعر والشعراء والأنشطة الثقافية المتعلّقة بالشعر ونشر القصائد بمختلف لغات العالم ونشر الدراسات والندوات واللقاءات الخاصة بالشعر ونقل أجواء الاحتفاءات. وكان لانفتاح القصيدة على الفنّ إثراءٌ وإغناءٌ لانزياحاتها المتعددة وخاصّةً ما تمتاز به جمالية الكتب الفنّية الشّعرية لكبار الشعراء العرب.
وقد تبنّت العديد من الفرق الموسيقية الاحتفاء بالشّعر بتقديم عروضٍ عديدةٍ في أجواء من الغناء والموسيقى والتّشكيل والمسرح بالعديد من الدول العربية وكذلك بأوروبا وأمريكا وغيرها. فقد قدّم مارسيل خليفة أغاني ومعزوفات موسيقية شارك فيها العديد من العازفين العالميين. واتّهم العديد من النّواب الإسلاميين عرض “مجنون ليلى” لمارسيل خليفة وقاسم حداد في فعاليات مهرجان ربيع الثقافة في البحرين بأنه يتضمّن إيحاءاتٍ جنسيةً. وقد أرسل كلّ من مارسيل خليفة بالاشتراك مع الشاعر قاسم حداد بياناً بعنوان “جئنا لنعلن أن الحبّ يستهجن الإرهاب الفكري”.
وهذا الحوار بين الشعر والفنّ كان رسالة المحبة الإنسانية. وكان فيها الشعر هو نواة الفنّ وبؤرة الخلق والإبداع الذي تستوحي منه جميع الفنون أجمل الصّور وأعذب الألحان وأرقى المعزوفات. فَحوْلَ القصيدة يلتفّ المسرحي والسينمائي والرّسّام والموسيقي والملحّن. وتحتضن القصيدة كل أنواع الموسيقى باختلاف ألوانها وجنسياتها بما فيها الموسيقى الغربية والشّرقية والإفريقية والأمريكية واليابانية والصّينية والرّوسية وغيرها. ولعلّ النّجاح الكبير الذي حظيت به فرقة بروزوني (Claude Brozzoni) الفرنسية في السّنوات الأخيرة والذي احتفت فيه بشعر محمود درويش يدلّ فعلاً على أن الزّمن الرّاهن زمن الشعر والانفتاح على الفنون بامتياز. وقد قدّمت هذه الفرقة المتميّزة عروضها في العديد من المدن الفرنسية والبلجيكية والسويسرية. ما يدلّ كذلك على قيمة القصيدة العربية ومكانة الشعر العربي بين شعريات العالم. وبذلك يُثبت الشعر حضوره في حضور الاختلاف والانفتاح على الثّقافات والشّعريات الكونية.