الخميس , 5 ديسمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » ثقافة العلوم الانسانية

ثقافة العلوم الانسانية

kiraat_13.4تمثل هذه المذكرةDenkschrift”  “ثمرة مشروع للبحث أشرف عليه وأنجزه مجلس العلوم والندوات بألمانيا الغربية بجامعة كونستانس. وتكمن أهمية هذه المذكرة، في كون جوهر اهتمامها هو البحث في فلسفة العلوم الإنسانية، حيث ركز الكُتَّاب الذين شكلوا فريق العمل بالمشروع، والذين ساهموا في إنجاز المذكرة، على  تقديم دراسة متعددة الاختصاصات و شاملة لمختلف الحقول الإشكالية التي لها أهمية خاصة بالنسبة لمشروعية ودور البحث  في مستقبل العلوم الإنسانية، من منظور تاريخي علمي، نسقي علمي ونظري علمي. كما تتجلى أهمية هذه الأبحاث في كونها تقدم لنا فلسفةًً للعلوم الإنسانية وكيف تصنع سيرتها الذاتية من وجهة نظر تخصصات علمية أخرى، رغبة في التعرف على  مناهج العلوم الإنسانية في تحديد الفهم الذاتي لها و معرفة انتظارات المجالات العلمية الأخرى منها.

        يتكون الكتاب من 216 صفحة من الحجم المتوسط، موزعة على خمسة فصول مطولة1.

 يطرح ميتلشتغاسه، الفيلسوف الألماني، في هذا الفصل الأول من هذا الكتاب “العلوم الإنسانية في نظام العلم”، تساؤلاً عاماً عن نظام العلم الذي تستطيع فيه العلوم الإنسانية إيجاد مكانتها كتخصص، ليخلص الكاتب إلى أن مفهوم النظام أو مفهوم الوحدة، والذي تحيل عليه العلوم اليوم، يكون ذا معنى فقط كمفهوم تنظيمي، ففي شكله التنظيمي، يستطيع أن يبني توجهه نحو خصوصية الفروع والتخصصات العلمية بشكل نقدي و بنَّاء. وعلى ما يبدو، توجد العلوم الإنسانية على هامش النظام العلمي، بينما تُعتبر العلوم الطبيعية علوماً نموذجية، متبوعة بالعلوم الهندسية. فمن اكتشافات العلوم الطبيعية والعلوم الهندسية، ومن نجاحاتهما يعيش الإعلام العام، ومن اكتشافاتهما ونجاحاتهما يعيش العالم الحديث. إنها ترمز إلى تقدم العالم الحديث وإلى نتائج هذا التقدم.

و نفس الشيء يمكن أن نقوله عن التقسيم التقليدي للعلوم، حيث يمكننا الحديث عن ثقافتين، وهما: ثقافة العلوم الإنسانية )بما في ذلك ثقافة العلوم الاجتماعية(، و ثقافة العلوم الطبيعية، وهو تقسيم يوضح العجز عن استيعاب مختلف التطورات  العلمية كتعبير عن ثقافة علمية موحدةEinheitswissenschaft.

 تهدف الدعوة إلى تعددية التخصصات Interdisziplinarität، إلى تثبيت التفكير في التخصصية والاحترافية المميزة. فتحت التأثير الأرسطي، نستطيع أن نميز بين الفلسفة النظرية، و الفلسفة التطبيقية، والفلسفة الشعرية (أو الميكانيكية(: يضم قسم الفلسفة النظرية علم اللاهوت، والفيزياء، والرياضيات. ويضم قسم الفلسفة التطبيقية علم الأخلاق، والسياسة. ويضم قسم الفلسفة الشعرية الفنون الميكانيكية، ويضم المنطق في هذا التصنيف أساساً تخصصات الترفيوم Trivium، أي تخصصات  النحو، والبلاغة، والجدل.

                   نشأت التخصصات العلمية بواسطة تاريخ العلم، وارتبطت أيضاً بالتطورات العلمية، وتضبط الوحدة النسقية المتوخاة لتخصصات العلوم الإنسانية العلاقة بين بعضها البعض، من خلال التعريف التقليدي للعلوم الإنسانية كتخصص علمي، كما تضبط العلاقة بين العلوم، وفي حالة العلوم الاجتماعية.

وفيما يخص مفهوم “الثقافتان”، تحدث ش. ب. سنوف C.P.Snow  (1905-1980) سنة 1956 عن الثنائية العلمية للعلوم الطبيعية، وثقافة العلوم الإنسانية، و بأن العلاقة بينهما موسومة بالتجاهل المتبادل. فمستقبل العلوم الطبيعية يوجد في الدم، بينما يتشكل مستقبل العلوم الإنسانية فقط وبشكل عام من ماضيها. و”العلوم الطبيعية” هي علم ووزن و قياس، بينما  “العلوم الإنسانية”هي أدب و تكوين و ذاكرة.

إن العلوم الإنسانية هي”مكان” يحصل فيه المجتمع الحديث على معرفة من ذاته على شكل علم، وفي البحث العلمي في العلوم الإنسانية يتحدد هذا الشكل مع الشكل الثقافي على العموم، يتعلق الأمر هنا بمفهوم للثقافة تعتبر العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية أيضاًً جزءاًً منه، والثقافة هنا تعني أمرين: جوهر كل العمل الإنساني وأشكال الحياة، وهي نظام جزئي للثقافة العامة، مع تمييزها عن مجالات التكنولوجيا، والاقتصاد، والسياسة. نفس الشيء يمكن أن نقوله عن العلوم الإنسانية التي تستطيع في الوقت ذاته، أن تجعل النظام العلمي نشيطاًًوحركياًً، بفضل قدراتها العابرة للحدود، وقدراتها المتكاملة، وقدراتها الحوارية، وبواسطة البحث العلمي الدائم.

                    في الفصل الثاني من هذا الكتاب “نموذجية العلوم الإنسانية في حوار التخصصات”2، يتساءل هانس روبيرت ياوس3 عن جدوى وأهمية العلوم الإنسانية بالنسبة لحوار التخصصات، وبالنسبة لوظيفتها كعلوم رائدة لثقافة انعكاسية، وأهمية المناهج التي تضعها في متناول البحث العلمي. فحفظ الإرث الثقافي يثبت شرعية العلوم الإنسانية، كما يشهد على ذلك تاريخها المبكر، وقدراتها المدهشة في مسلسل مساهمتها في تكوين التخصصات العلمية.

وقد نشأت العلوم الإنسانية في الأصل عابرة للحدود، خاصة عندما وسَّعت الفلسفة منذ العصر الإغريقي، حدود المعرفة، مادامت تعلي من قيمة السؤال المفتوح على حساب الجواب الحتمي، وفعَّلت العلوم الإنسانية التكوين في العلوم المتخصصة، فقد ابتدعت الفلسفة علم النفس، وعلم السياسة، وعلم الاجتماع، وعلم الأعراق البشرية كتخصصات، قبل أن تأخذ هذه التخصصات وضعية “تخصصات مستقلة” في القرن التاسع عشر.

والعلوم الإنسانية هي في أصلها متكاملة4، فقد ربطت بين المنطق والنحو وتدريس التفكير الصحيح والكتابة الصحيحة والقراءة الصحيحة، والكلام الصحيح. وقد أصبحت العلوم الإنسانية وكلية الفلسفة الجديدة، أرقى من علم اللاهوت والحقوق والطب، كما تغلبت معرفة الحقيقة من أجل ذاتها على الاهتمام العملي للتكوين. وقد امتازت الفلسفة في ظل “صراع الكليات” بإخضاع كل شيء للعقل في أعقاب إصلاح هامبولتHumboldt  الجامعي، وهكذا احتلَّ المبدأ التكاملي الدرجة الأولى، في حين تزايد مطلب تصنيف كل معرفة مجردة في حقل اختصاص معين، في أفق شامل “للفكر الموضوعي”. ونشأت العلوم الإنسانية في الأصل حوارية، فقد سهل فن التأويل كمبدأ منهجي مشترك بينه وبين العلوم الإنسانية وكمذهب لفن الفهم، والتفسير والممارسة، كفن لتأويل عقائدي، الحوار بين النص والمفسِّر وبين الماضي والحاضر. وقد حرر فن التأويل الحديث نفسه لفن تأويل حواري، مع  شلايرماخرSchleiermacher، وفي نفس الوقت كفن كوني، من افتراضات الإنجيل وقانون تأويله.

والعلوم الإنسانية حوارية، لأنها تضم الفهم الذاتي للنصوص المفسرة، هذا الفهم الذاتي يصبح قابلاً للإدراك حين يصبح في مواجهة مع الأجنبي فقط، بصفته تفاهماً مع الآخر.

 لم يعد هم الثقافة الذاتية هو حماية هويتها، بل أصبحت في حوارها مع الثقافات، موضوعاً للتفكير العلمي: من خلال الدعوة إلى تجديد نموذجيتها وتكامليتها وحواريتها، أصبح بالإمكان رؤية وشرح فرصة تحديث تقليد العلوم الإنسانية كعلوم للثقافة من خلال إعادة تعريفها،”فلا تتجلى الأهمية المركزية للعلوم الإنسانية بالنسبة للحداثة في تعويضها لها، بل تكمن فيما تنجزه من ثقافة حداثية تعني علمياً ثقافة تأملية”. هكذا يمكن أن تُفهم هذه الوظائف كأداة للتكوين في مجال”تداخل الثقافات” وتحصيل المعرفة الأنثربولوجية لإسهامها الحقيقي في شكل إعادة إدماج التقنية في الثقافة المستقبلية الاجتماعية، التي ستصبح أكثر ضرورة وإلحاحاً في الحوار المعاصر لكل التخصصات.

ويخصص الكتاب الفصل الثالث لموضوع  “التكوين الإنسي والطبيعي والتكنولوجي: تجربة القرن التاسع عشر”، حيث يتحدث عالم الأدب فولفكانك فريهفالد، عن تجربة هذا القرن، التي طبعتها خاصية التناقض بين التكوين اللغوي الإنسي والتكوين المتعدد التخصصات، وتبحث توضيح وشرح القاعدة التاريخية لغياب التنمية في الجامعات المعاصرة. في هذا الخضم أصبحت الأزمات الشرعية المستردة للعلوم الإنسانية وأزمات العقلانية في القرن 18، مؤشراً على علاقة عميقة بين البحث العلمي والتكوين والدراسة كما جاء في إصلاح هامبولت الجامعي.

لقد انتشرت رسالة هامبولت “التكوين بواسطة العلم”، وتُرجمت في الحداثة، مما يجعل العلوم الإنسانية تؤثر كعلوم متنورة ومكونة وكعنصر مندمج للتأمل، وأيضاً كعتبة ضد ميولات عصرنا الأسطورية. تنطلق فكرة هذا الفصل من الأطروحة القائلة بأنه لا يمكننا أن نتخلى عن الوظيفة التكوينية الأساسية للعلم، لأن كل العلوم و خاصة العلوم الإنسانية الموجهة إلى الجمهور تساهم في حل مشاكلنا النسبية لعصرنا، وذلك من خلال مراقبة التدريس والبحث بعضهما البعض، وترفع الأزمة الفكرية للجامعة بواسطة هذه المراقبة المستمرة والمتبادلة، فلا يوجد قطب للتكوين في العلوم الإنسانية ولكن مفهوم التكوين عندها يعلمنا التأمل الذاتي بين الأفراد والثقافات كوظيفة وكواجب نبيل للعلم، وهي الساعية إلى إيجاد الهوية وإلى تكوين هذه الهوية من خلال اهتمامها بالمواضيع والمناهج العلمية.

 لقد نالت تخصصات وفروع العلوم الإنسانية في أغلبها استقلالها اليوم بعد مرورها من أزمات وإصلاحات بأشكال متنوعة. ظلت النظرة العالمية للجامعة الألمانية في القرن 19 مميزة جداًً إلى درجة أنها خدمت بنفسها وفرة أدب الأزمة وأدب الإصلاح كرقاقة مقارنة لمراكز الجامعة العصرية. ويبدو ان جوهر الإصلاحات في ألمانيا بداية القرن 18 قد ضيَّع مسلسل التقدم العام للتخصص وتفتيت الفروع العلمية، هذا الجوهر هو: الربط العميق والمطلوب بقوة من خلال الإصلاحات بين التكوين والعلم، إنها القناعة العلمية للوظيفة التكوينية الخاصة بالنشاط العلمي الذي مصدره عصر العقلانية. إن وساطة شكل الحياة العلمي مع شكل الحياة غير العلمي للمجتمع، كما عبرت عنه عبارة هامبولت: التكوين بواسطة العلم، لم تعد تنتمي للوظيفة الحقيقية  للجامعة. وقد اظهر تاريخ القرن 19 تفكيكاً سريعاً  لمثالية هامبولت: “العلوم والتكوين”، حيث إن تقسيم العالم للعمل بين المدرسة والمعهد العالي لم يتم تثبيته بعد.

في العنوان الفرعي بهذا الفصل بعنوان “أزمات شرعية العلوم الإنسانية”، يتم وضع أزمات فهم الذات وأزمات الشرعية المتكررة دورياً للعلوم الإنسانية في علاقة مع أزمنة السلطة المتزايدة للعقلانية الفعَّالة Zweckrationalität أما في العنوان الفرعي الثاني،”البحث والتدريس، نظرية وممارسة”، فيثبت الكاتب مسألة اعتبار التدريس هو الشكل الخاص بالممارسة العلمية، كما يطالب على ضوء مسلمة “التكوين عبر العلم”، بأشكال جديد للتعلم المتقدم كتصحيح ضروري للبحث فقط. وفي العنوان الفرعي الأخير” العلم كتكوين”، يتم تعريف العلوم الإنسانية في اقتران مع العلم والتنوير، كحصن ضد الميولات نحو التفكير الخرافي للوراثة وكعنصر أساسي للتأمل الذاتي للعلم .

في الفصل الرابع من هذا الكتاب “كم هي اجتماعية روح العلوم الإنسانية”، يشير الكاتب راينهارت كوزيليك، بداية إلى أن البحث العلمي أثبت تجاوز الحدود الفاصلة بين العلوم الطبيعية والاجتماعية والعلوم الإنسانية وعلوم المجتمع منذ زمن.

في خطوة ثانية أصبحت الروح المشتركة مع تفاضل التخصصات الأكاديمية الوضعية مفتتة، دون أن تفقد مطالبها ذات التوجه المعرفي المشترك. وتقتصر نظرة العلوم الاجتماعية الفتية النشأة إلى الروح بأن جعلتها “قدرات معرفية قابلة للخضوع للعمليات ذاتياً”، يتحدث المؤلف عن ثلاث ثقافات تعتمد على الروح والطبيعة: إنها العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية ومنها نشأت كلية الفلسفة المشتركة، فقد كتب ماكس بلانك سنة 1926، إلى كورث بريش: “إن هدف كل فحص للحقيقة يجب أن يكون هو: فهم واستيعاب العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية كوحدة”. ما يزال مطلب تداخل الاختصاصات يشكل حتى اليوم مثالية: روح المثالية يحرر العديد من المجالات العلمية ومتعلق علمياًً وتاريخياً بالعلوم الإنسانية، فهل العلوم هي الدرجة الصفر الأثرية للمثالية الألمانية؟ أم أن دلالة العلوم الإنسانية تطرح مشاكل في علاقتها مع العلوم الطبيعية والاجتماعية وأيضاً صعوبة التبليغ؟، إن الفكر المثالي في تيار تحوله إلى كل العلوم يجلب معه محاولات وظيفية غايتها تحقيق مطلب وحدة العلوم. وهذا يعني أننا لا يمكننا أن ننظر إلى العلوم الاجتماعية كتخصص معزول وكمجال خاص، فما تمثله العلوم يشكل تشاركاً لا غنى عنه، لأن خطوط الحدود نحو العلوم المتجاورة  Nachbarnwissenschaftenيتم تجاوزها بشكل مستمر.

هناك عدة مصادر لنشأة العلوم الاجتماعية الحديثة: في نظريات السياسة، في حق الطبيعة، في علوم الدولة، في علوم الاقتصاد والسياسة، في فلسفة الأخلاق وأيضاً في العادات، وأن البعد الاجتماعي للعلوم الإنسانية واعترافها العلمي هو شيء مقدم، وقد كانت العلوم الإنسانية معرفياًً ونظرياًً وأيضاًً تجريبياًً، دائما علوماًً اجتماعية بغض النظر عن كون هذه الأخيرة استطاعت إن تستقل منهجيا وببطء. ويشهد على تأصل النظريات الاجتماعية في العلوم الإنسانية أساسان لهذه الأخيرة، في القرن العشرين: والتي تعالج إرث هيغل ودلتاي: نظرية  الفكر الموضوعي لهانس فراير والمنطق والنسق في العلوم الإنسانية لروتاكر 1927. والعلوم الاجتماعية هي علوم للمجتمع للاقتصاد الوطني ولعلم النفس والاثنوغرافيا.

في الفصل الخامس والأخير من هذا الكتاب”العلوم الإنسانية ووسائل الإعلام” يطرح عالم الأدب الألماني  بورخارت شتاينفاكس، مسألة العلاقة بين العلوم الإنسانية ووسائل الإعلام، وأهمية التحول في بيئة التواصل من خلال وسائل الإعلام الحديثة كتحد للعلوم الإنسانية اليوم، فهي بيئة تواصلية نشأت من أجل فهم أفضل للذات الثقافية بواسطة تقنيات التواصل الحديثة، فإلى أي حد يشكل التفكير في دور العلوم الإنسانية المشروطة بالتواصل التكنولوجي إسهاماًًفي تقدير تبعات التكنولوجيا؟

تعتبر وسائل الإعلام الجديدة وسائط لحفظ الخزينة العلمية للعلوم الإنسانية، فقد غيرت علاقة العلوم الإنسانية بالجمهور، حيث فتحت مجالات ومواضيع جديدة للبحث العلمي في العلوم الإنسانية، كما قاد استعمال تقنية معالجة المعلومات الالكترونية إلى انفجار ثورة علمية، والتي وقفت أمامها العلوم الإنسانية عاجزة، من ناحية أخرى غيرت بشكل قوي إنتاج واستقبال نظام المعالجة النصية للأدب العلمي. فالانتشار السريع للوسائط الالكترونية، قد يقود إلى ضياع ملحوظ لشرعية العلوم الإنسانية عند الجمهور، وقد أصبحت وسائل الإعلام الجديدة موضوعاً للانعكاس العلمي الإنسي، من منظور نقدي ثقافي للثقافة وصناعة الوعي، بحيث تتجه تخصصات علم الفن وعلم الأدب بشكل أحادي نحو تحليل تواصل الجمهور.

ومن الملاحظ أن المسافة التي توجد عليها العلوم الإنسانية والعلوم الثقافية ونتائج التكنولوجيا على ثقافتنا وعلى سلوك مجتمعنا و نظام الفنون على الوجود الجمالي والهوية التاريخية، على علاقة العلم وما هو عام، انكسرت في السنوات الأخيرة، ومن مظاهر هذا الانكسار نسطر مجموعة من العلامات الخارجية: فقد تم خلق العديد من الكراسي في الجامعات الألمانية لتدريس مادة علوم الإعلام، كما تم تكوين العديد من فرق البحث في السنوات الأخيرة، مثل فريق”الشفاهية والكتابية” بفرايربورغ، وفي زيغن “التلفزيون في الجمهورية الاتحادية” وفريق العمل”بمعهد البحث في الإعلاميات” بمانهايم، وأيضاً خارج الجامعة “تكوين مركز الإعلاميات” والذي يهتم بالإعلاميات وتطوير الفنون مثل” المدرسة العليا للإعلاميات” بكولونيا. كما تم توثيق الندوات والأيام الدراسية والمنشورات، مما يحيل على الاهتمام المتزايد للعلوم الإنسانية وعلاقتها بمجال الإعلاميات.

وبالنسبة لعلوم الفنون وعلم الأدب لا يلعب فيها الحاسوب كوسيلة بحث أي دور، ومن جهة أخرى تتوفر العلوم الإنسانية على نظام معالجة النصوص وأيضاًً معالجة معلومات المكتبات والأرشيفات في العلوم الإنسانية. تعتبر أشكال التبليغ والعرض في العلوم الإنسانية، وسائل إعلامها: وهي المحاضرة، والدورات التكوينية. باختصار أشكال التواصل المباشر والخط العلمي، الأطروحة، الكتاب، وتشكل هاتين الوسيلتين الأخيرتين الطريق الرئيسية، للتواصل العلمي في العلوم الإنسانية، وتحددان مدى حضورها لدى الجمهور العلمي. فالمكان الأصلي لجمهور العلوم الإنسانية هو الجامعة، وأشكال سيرها هو الحوار، والنقاش والمحادثة، وهي شروط تميز الجامعة قبل أية مؤسسة، كما تشكل طبيعة النشر الوسيلة الأكثر أهمية بالنسبة لحوار العلوم فيما بينها وللتبليغ بين العلم والمجتمع.

تخدم التكنولوجيا كوسيلة مساعدة للانبهار بالفنون والثقافة، والدمقرطة وتثبيت صدمة التقاليد الثقافية والتي هي الوجه الخلفي للأزمة المعاصرة وتجديد العلوم الإنسانية. وبالنسبة لعلم الفن فهو ينادي بواسطة مناهجه وحقول بحثه عن المشاركة في “استعمار قارات وسائل الإعلام”. ولهذا فإن الفن هو ضحية نجاحه الخاص في وسائل الإعلام.

                   مازلنا بعيدين عن تخصص علمي ثقافي إنسي آسمه علوم الإعلام وتشكل هذا التخصص لا يمكنه أن يتحقق إلا من خلال تعاون مشترك؛ فعلوم الإعلام التي تبحث عن ثقافة التواصل في بنائها ووظيفتها، في تأثيرها وتاريخها ستكون مثالاً لإنشاء جديد لعلم من اجل تجاوز حدود التخصصات المستمر وفي نفس الوقت من َأجل توجه جديد وعلمي ثقافي للعلوم الإنسانية.

تكمن أهمية هذه المذكرة، في كون جوهر اهتمامها هو البحث في فلسفة العلوم الإنسانية، وكيف تصنع سيرتها الذاتية من وجهة نظر تخصصات علمية أخرى، رغبة في التعرف على مناهج العلوم الإنسانية في تحديد الفهم الذاتي لها ومعرفة انتظارات المجالات العلمية الأخرى منها. كما تتجلى أهمية المذكرة في كونها تهتم بتاريخ نشأة العلوم الإنسانية واستقلالها المتقدم والفصل بين التخصصات من زاوية ابستمولوجية، ومن وجهة نظر تاريخ الأفكار، وأيضاً من زاوية منهجية ومؤسساتية، والعلاقة بين العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية في نظام العلم المعاصر، وبالعلاقة بين العلوم الإنسانية ووسائل الإعلام الحديثة، من خلال طرح أسئلة حول تحول أشكال التقديم والتبليغ عند جمهور العلوم  الإنسانية، وعن إمكانية وجود علم للإعلام مستقل.

                   تمثل هذه المذكرة إذاًً نقاشاً علمياًً يدور في أوساط الجامعة الألمانية عن العلاقة بين العلوم الإنسانية و علوم المجتمع معاً، عن السؤال عن التعدديّة الثقافية العلمية، حول إمكانية إيجاد أساس عملي لعلم ثقافة مستقبلي، وعن أشكال جعل البحث والتعلم العلمي والمجتمعي في ألمانيا مؤسساتياًً.

إنه حوار علمي ألماني-ألماني، يطرح تساؤلات حول الدور الذي لعبته العلوم الإنسانية والعلوم الثقافية وعلوم المجتمع  في مسلسل التحول في جمهورية ألمانيا الديمقراطية وأي الأدوار ستلعبه مستقبلاً، وما هي نتائج تحول الفهم الذاتي الثقافي بين تأكيد الذات والاندماج؟

خلاصات:

1. تقترن الحداثة بما تنتجه العلوم الطبيعية والعلوم الهندسية، وبما تقدمه العلوم الاجتماعية، وبشكل أقل بالعلوم الإنسانية، والتي تتمتع اليوم باهتمام جوهري.

2. تعتمد العلوم الإنسانية على الثقافة كجوهر لكل الأعمال البشرية، وهذا يعني أن العلوم الإنسانية تعتمد على الشكل الثقافي للعالم، فهماًً وتفسيراًً، إضافة إلى الشكل التنويري والشكل التحرري.

3. تشكل الفلسفة المثالية الألمانية في حقيقة الأمر الأساس الفلسفي الحقيقي للصراع الحداثي حول العلوم الإنسانية. إن الأصل المثالي للعلوم الإنسانية في ألمانيا يحدد بشكل دائم فهمها النظري للذات، فالجدير بالاهتمام هنا هو تقديم الثقافة كإنتاج للفكر.

4. إن العلوم الإنسانية تساعد التقاليد وتساعد الإنسان على احتمال نتائج وأضرار التقدم: “إنها ليست عدوة للتقدم، بل  -كتعويض عن أضرار التقدم- تقدم إمكانية للتقدم” بمعنى آخر: “كلما أصبح العالم الحديث متقدماً، كلما أصبح من المستحيل الاستغناء عن العلوم الإنسانية”، وهي أطروحة تجعل هذا التصور جذاباً لعلماء الإنسيات.

5. تطور مفهوم الثقافة كإرث مثالي غير منكسر للعلوم الإنسانية، والذي يساهم على الخصوص في الفهم النظري للذات، وهو مفهوم ساهم أيضاً في فتح آفاق جديدة في العلوم الإنسانية باعتبارها علوماً ثقافية. وفي هذا الإطار، اهتمت العلوم الإنسانية بالثقافة كجوهر لكل عمل إنساني وكجوهر لكل أشكال الحياة، بما في ذالك التطورات في مجال العلوم الطبيعية وموضوعها، الذي يضم أيضاً العلوم الطبيعية، هو إذًاً الشكل الثقافي للعالم.

6. تنفرد العلوم الإنسانية بوظائفها الثلاثة: تجاوز حدود التخصصات، وتكاملية تخصصاتها، وحواريتها، وتحديد هذه الوظائف يعطينا فرصة لإعادة تعريف العلوم الإنسانية الذي جاء به الإصلاح الجامعي لهامبولت كمؤسسة اهتمت بالعملية الاجتماعية للتحديث والدمقرطة. ويذكر ياوس أن مستقبل العلوم الإنسانية، رغم قصورها، يتجلى اليوم، أكثر من أي وقت مضى في الحفاظ على التقاليد والتعويض عن أضرار التحديث.

7. إن دور ما يسمى بالعلوم الإنسانية هو نقدي ثقافي، وسياسي مالي، وتخطيطي تكويني، ووظيفي تعويضي، وتثبيت هذه الوظائف يعني خرقاًً لكل قواعد الانفتاح العلمي، والتي بدونها لا يمكن أن نعيش ونبقى على قيد الحياة في هذا العالم.

8. بالنسبة للباحثين والمتخصصين في العلوم الإنسانية، فإن وسائل الحفظ والمعلومة تمثل لهم وسيلة بحث، فالحاسوب مهم خاصة في اللسانيات، الحفريات وما قبل التاريخ، للاتجاهات البحثية الخاصة كالأسلوبية أيضاً، وبالنسبة للأجزاء من البحث في تاريخ الاقتصاد والاجتماع.

9. مازلنا بعيدين عن تخصص علمي ثقافي إنسي اسمه علوم الإعلام، وتشكُّل هذا التخصص لا يمكنه أن يتحقق إلا من خلال تعاون مشترك، فعلوم الإعلام التي تبحث عن ثقافة التواصل في بنائها ووظيفتها، في تأثيرها وتاريخها ستكون مثالاً لإنشاء جديد  لعلم من أجل تجاوز حدود التخصصات المستمر، وفي نفس الوقت من أجل توجه جديد وعلمي ثقافي للعلوم الإنسانية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- فصول الكتاب الأصلية هي:

1.Die Geisteswissenschaften im System der Wissenschaften(Jürgen Mittelstraß)

Die Paradigmatik der Geisteswissenschaften im Dialog der  Disziplinien(H.R.Jauss)2.

3.Humanistische und naturwissenschaftlich-technische Bildung :Die Erfahrung des.3 19.Jahrhunderts(Wolfgang Frühwald)

Wie sozial ist der Geist der Wissenschaften ?(Reinhart Koselleck).4

Geisteswissenschaften und Medien(Burkhart Steinwachs).5

2- هانس روبيرت ياوس، “نموذجية العلوم الإنسانية في حوار التخصصات”،  ترجمة عن الألمانية رضوان  ضاوي، مجلة مبدأ للبحوث والدراسات الأدبية، عدد 1، ربيع 2012، ص141. -127، عن دار أمل للنشر والتوزيع، تونس.

3- أنظر فيما يخص عرض بعض كتب هانس روبيرت ياوس، المقالات التالية:

– مقال: مسالك الفهم الحواري و جماليات التلقي، رضوان ضاوي، مجلة المجلة، ع 6 سبتمبر 2012، ص. 47-50، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر.

– مقال: آفاق فن التأويل الحواري، رضوان ضاوي، مجلة رباط الكتب، ع 12، صيف 2012.

4- هانس روبيرت  ياوس،”تجديد وظائف العلوم  الإنسانية”، ترجمه عن الألمانية رضوان  ضاوي، مجلة مبدأ البحوث والدراسات الأدبية، العدد 2، صيف 2012، ص. 119137-، عن أمل للنشر والتوزيع، تونس.

- رضوان ضاوي

أستاذ باحث / الرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.