الأحد , 13 أكتوبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » حـــوارات » حوارمع نور الدين العوفي

حوارمع نور الدين العوفي

el_oufiولد الإقتصادي نور الدين العوفي في 17 مارس 1950، وهو أستاذ في جامعة محمد الخامس في الرباط، حصل على الدكتوراه في العلوم الإقتصادية والسياسية من نفس الجامعة في 1990. بالإضافة إلى العديد من الأنشطة العلمية التي يقوم بها، فالأستاذ العوفي له إصدارات عديدة في المجال الإقتصادي.

عرف المغرب خصوصا في عقد الستينات والسبعينات إنتاجا فكريا غزيرا في حقل الاقتصاد. بنظركم، ما هي السمات الأساسية لهذا الفكر؟، وما هي الكتابات الرائدة خلال هذه الفترة؟

لابد في البداية من تحديد مفهوم “الفكر الاقتصادي” الذي ورد في سؤالكما. وكتعريف أولي، يحيل هذا المفهوم على المساهمة المعرفية التي يحركها الاشتغال النظري، وصياغة المفاهيم في إطار تحدده منهجية صارمة ومضامين باراديغمية متجانسة.

من هذا المنظور العام -الذي يحتاج إلى تدقيق-يمكن القول- للإجابة المباشرة عن سؤالكما بأن هناك “كتابات اقتصادية” تتعدد مشاربها وأهدافها ومضامينها ومرجعياتها ومنهجياتها (مقالات، بحوث جامعية، دراسات ميدانية، تقارير خبرة، إلى غير ذلك). غير أنه من الصعب استنتاج “سمة فكرية” بالمفهوم الدقيق أو الجزم بإنتاج “فكر اقتصادي” وطني خلال المرحلة التي أشرتما إليها، بالمعنى المحصور.

ومع ذلك بالإمكان إذا ما توخينا المسح التاريخي الطويل، أي منذ الاستقلال إلى الآن، العثور بين طيات “الكتابات الاقتصادية” المتعددة التي تم إنتاجها أو نشرها خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي على بوادر تشكل “فكر اقتصادي” مغربي. قد نعتبر – من هذه الزاوية- أن هذه الفترة عرفت صياغة فكرية ذات ملامح منهجية متماسكة مع نشر كتاب الاستثمار في المغرب دار النشر المغربي، 1968. للراحل عزيز بلال، الذي أعتبره شخصيا إنتاجا فكريا متميزا يؤسس بحق لمدرسة وطنية في العلوم الاقتصادية.

لماذا هذا التميز؟

هو في الأصل بحث أكاديمي وأطروحة جامعية لنيل الدكتوراه في الاقتصاد نوقشت بجامعة كرونوبل بفرنسا. بحث يمزج بين البعد النظري والتحليل التطبيقي ويستقرئ المحددات والديناميات الماكرو اقتصادية للعملية الاستثمارية في المغرب منذ عهد الحماية والتحديات التي عرفتها منذ الاستقلال إلى أواسط الستينيات من القرن المنصرم.

في نفس السياق سوف تتوالى مجموعة من الأبحاث الأكاديمية التي تم إنجازها أيضا بالجامعات الفرنسية في نهاية الستينيات أذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، أطروحة فتح الله ولعلو حول المساعدة الأجنبية، وأطروحة عبد العالي بن عمور في موضوع المؤسسات البنكية والمالية، ورسالة محمد برادة حول المقاول المغربي، والحبيب المالكي في إشكالية الفائض الاقتصادي. ما يميز جل هذه الأعمال هو الإسناد النظري والتقيد المنهجي، وإن بدرجات متفاوتة بين هذا وذاك. ويعود ذلك، بطبيعة الحال، إلى الإطار الأكاديمي الذي يستوجب مثل هذه القواعد الشكلية والضوابط المنهجية ويتطلب حدا أدنى من الحمولة النظرية.

هناك سمة أخرى لما يمكن أن نسميه “الموجة الأولى” من البحث الاقتصادي الوطني تتعلق بانتماء أغلب هذه الأعمال، من حيث النظرية والمنهجية وحتى الإديولوجيا، إلى باراديغم “نقد الاقتصاد السياسي” بصفة عامة، وإلى المنظومة الماركسية بصفة خاصة.

ينبغي أن لا ننسى السياق التاريخي الذي تسمه عناوين الاستقلال الاقتصادي – بعد نيل الاستقلال السياسي- واسترجاع أسباب السيادة في مجال صياغة سياسة عمومية وطنية، وإشكالية التنمية، والتصنيع، والإصلاح الزراعي، ووضع الشروط الضرورية للتراكم وللاستثمار الوطني، ولإنشاء القطاع العمومي كقاعدة ارتكازية للإنتاج، وللتحكم في الدينامية الماكرو اقتصادية وغير ذلك من القضايا والمعضلات التي كانت تعج بها بلدان العالم الثالث أنذاك.

مرحلة السبعينات مرحلة خصبة من حيث الكم والكيف. مرحلة كانت الجامعة تشكل خلالها فضاء ينبض بالنشاط، وساحة لا تهدأ من الجدل النظري ولا يخمد فيها النقاش السياسي والعراك الإيديولوجي.

على مستوى النشر لا بد من التذكير بالدور الذي اضطلعت به المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع (BESM) التي كان ينشطها عبد الكبير الخطيبي، وكان يساهم فيها باستمرار اقتصاديون وعلماء اجتماع وأنتربولوجيا ومؤرخون إلى غير ذلك حيث كانت تعد أداة مرجعية بالنسبة للطلاب والباحثين الشباب وتشكل نموذجا راقيا لتساكنية الحقول المعرفية ولتكاملية المناهج المختلفة للعلوم الإنسانية والاجتماعية.

في مقابل الخصوبة الفكرية والإسناد النظري المميزين للكتابات المنتجة في الستينات والسبعينات والمؤطرة بسياق محلي ودولي يحوز كثيرا من مقومات التميز، هل عرف “الفكر الاقتصادي المغربي” تحولات ملموسة بعد تلك الفترة؟ ما طبيعتها؟ وما هي الكتابات التي تؤشر على هذه التحولات إن وجدت؟

بالطبع سوف يعرف “الفكر الاقتصادي” المغربي – باعتبار الحدود التي أشرت إليها من قبل- إنعطافا مع نهاية الثمانينيات من حيث المضامين والمناهج والإشكاليات والتيمات. وحتى المنابر وفضاءات النشر سوف تتبدل طبيعتها وأدواتها وآلياتها وشريحة القراء والمستهلكين “للمقالة الاقتصادية”. لهذا التحول أسباب عميقة ومتعددة ومتشابكة.

أولا، هناك الأزمة التي عرفتها الجامعة باعتبار الآثار السلبية الناجمة عن تطبيق سياسة التقويم الهيكلي التقشفية.

ثانيا، بالموازاة مع ذلك، سوف تعرف البنيات الاقتصادية المغربية –في المغرب مثل باقي الدول- إنخراطا قسريا في سيرورة العولمة الليبيرالية وتوطينا متسرعا لآليات اقتصاد السوق ولأدوات التدبير والتسويق. مع انتعاش القطاع الخاص والاستثمارات المباشرة الأجنبية، سوف ينتفض خطاب المقاولة و”الماناجمنت” (Management) وسوف تتعزز جاذبيته حتى على الجامعة حيث سنلاحظ إقبالا متزايدا لطلبة العلوم الاقتصادية على التخصصات المرتبطة بالتدبير والمحاسبة و”الماركتينغ” التي أمست أكثر ملائمة مع احتياجات سوق الشغل ومتطلبات المقاولة.

في هذا المناخ غير المسبوق سوف ينساق – بالتدريج- أغلب الباحثين الاقتصاديين وراء بريق “النموذج الليبرالي”، ولن تصمد سوى القلة منهم لإغراءات سوق الخبرة الوطنية والدولية ولفوائد مكاتب الدراسة والاستشارة. وهو ما سوف يساهم، إلى حد بعيد، في الإفقار النظري للكتابات الاقتصادية التي ستجد في الجرائد وصفحات والمجلات غير العلمية مرتعا خصبا لها وإطارا جذابا يحضنها ويرعاها ويمنحها اللمعان والانتشار. هذا الإفقار النظري وهذا التسيب المنهجي لابد أن تكون له تبعات على مستويات تأطير البحث داخل الجامعات ومن ثمة على الشكل والمضمون للأطروحات التي سيتراجع عددها سنة بعد أخرى.

إضافة إلى العوامل المساهمة في إنتاج هذا الوضع، ما دلالة الضحالة الفكرية وغياب العمق النظري في الكتابات الاقتصادية خلال هذه المرحلة؟ هل يمكن القول بأننا نعاني عقما معرفيا؟

هو على كل الحال ليس “عقما جينيا” (génétique) باعتبار أن “النواة الأولى” برهنت على حيوية البحث الاقتصادي ببلدنا وخلقت تراكمات بدائية، ووضعت بصمات. عندما تتوافر الشروط وتحضر الرغبة في التحفيز والتطوير لا بد أن يتناسل البحث النظري والميداني ويعاود النهوض والارتقاء. دورة الجزر ليست دورة أبدية.

في مقابل الفقر النظري والمنهجي ل”الفكر الاقتصادي المغربي”، ما هي سمات الفكر الاقتصادي العالمي، وهل عرف تحولات عميقة؟

على المستوى الدولي ستعرف العلوم الاقتصادية خصوبة كبيرة وتطويرا عميقا في شقيها النظري والمنهجي. وسوف يسهم (الاقتصاد المؤسساتي Economie institutionnaliste) – على سبيل المثال- في تجديد البنية المفاهيمية وفي إعادة إنتاج الفرضيات التي يقوم عليها الباراديغم التقليدي “الأورتودوكسي”.

كما ستعرف المقاربات غير السائدة أو “الإيتيرودوكسية” مثل نظرية الضبط (Théorie de la régulation) واقتصاد الاتفاقيات (Economie des conventions) والاقتصاد التطوري ( Economie évolutionniste) دينامية نظرية ومنهجية نقدية غير مسبوقة بالنسبة لمنظومة التوازن العام التي يقوم عليها الاقتصاد الليبرالي.

ما هي الكتابات التي تعكس هذه الدينامية على مستوى الفكر الاقتصادي العالمي؟

هناك إنتاج غزير يعكس حصيلة البحث النظري سوف يصعب استحضاره بدقة هنا. لكنه من السهل اليوم الإحاطة بما توصل إليه البحث الاقتصادي على المستوى الدولي، في “الزمن الحقيقي” كما يقال. يكفي الرجوع إلى “محركات البحث” وإلى المواقع الإلكترونية المتخصصة مثل –Wikipédia- للاطلاع على آخر المستجدات النظرية والتطبيقية في ميدان العلوم الاقتصادية.

ماذا عن الامتدادات التطبيقية لهذه النظريات؟

بصفة عامة الأدبيات الرمادية، أي التقارير التي أضحت المؤسسات المالية الدولية ( البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) تسعى إلى نشرها على نطاق واسع، بعد أن كانت في السابق وثائق شبه سرية لا يتداولها العموم. هذه التقارير، التي تبدو للقارئ جافة ومباشرة ومفتقرة ل”لمعنى النظري” تعكس في الواقع محصلات الفكر الاقتصادي وتقوم أغلب “المقترحات” و”الاجراءات” التي توصي بها على بنية نظرية ومفاهيمية عميقة ومعقدة.

المقترحات التي أمسى يعتمدها البنك الدولي منذ مدة لمحاربة الفقر والإرتشاء ولتطبيق وتطوير “الحكامة الجيدة”، على سبيل المثال، تجد تسويغا نظريا ومنهجيا لها في الخلاصات النظرية لاقتصاد المؤسسات.

يلاحظ أن انتقال المؤسسات المالية الدولية من العقيدة الكلاسيكية التي تشدد على دعم حرية المبادرة الفردية والحد من تدخلية الدولة في دواليب الاقتصاد إلى المقاربة التي تؤكد على أن الدينامية الاقتصادية مرتبطة بالدولة وبالمؤسسات والاهتمام بالمجال الاجتماعي، تزامن مع الجاذبية المتنامية لفكر أمارتيا صن (Amartya Sen). فهل يمكن أن نستنتج من ذلك تأثير بعض النظريات الاقتصادية الجديدة على سياسات هذه المؤسسات؟

يمكن اعتبار مقاربات أمارتيا صن (Amartya Sen) امتدادا لمنظومة “نقد الاقتصاد السياسي” وتجديدا للبنية الفكرية التي يمكن أن يستوحي منها الخطاب المناهض للعولمة الليبرالية آليات اشتغاله السياسي والإيديولوجي.

لقد انتبهت بعض المنظمات الدولية مثل برنامج الأمم المتحدة للإنماء (PNUD)، في التسعينيات من القرن الماضي، إلى أهمية البحوث التي أنجزها أمارتيا صن حول مفهوم “التنمية البشرية” والتي سيحصل بها على جائزة نوبل في الاقتصاد سنة 1998. هذا المفهوم النظري والمجرد سوف يتحول بسرعة إلى أدوات أو مؤشرات إجرائية تساعد على تحديد مستويات التنمية والمقارنة بين أداءات الدول في ميدان التمدرس ومحاربة الأمية والصحة ومشاركة المرأة والحريات والديمقراطية. أهمية نظرية ” التنمية البشرية ” – بالمقارنة مع النظرية التقليدية- تكمن في استيعابها لجدلية التنمية والديمقراطية.

في المنظومة التقليدية – الاقتصادوية- يكون المحدد شبه الوحيد للتنمية هو معدل النمو الذي يؤشر عليه الناتج الإجمالي الخام. عند أمارتيا صن ” التنمية البشرية” مفهوم مركب لا يمكن اختزاله في معدل النمو الاقتصادي، بل يتجاوزه إلى عوامل مؤسساتية وإلى نجاعة السياسات العمومية من حيث إنتاجها للحريات ودعمها للاقتدارات والكفايات (Capabilités).

في ظل الفقر النظري الذي تعاني منه الكتابات المغربية، يطرح سؤال الأرضية الفكرية للسياسة الاقتصادية المغربية؟ هل نحن أمام سياسة من دون سند فكري أم يمكن القول بأن تقارير المؤسسات المالية الدولية تشكل السند الفكري لهذه السياسة؟

لا شك أن الباراديغم الاقتصادي السائد بات يمارس -تأثيرا مباشرا أو غير مباشر- على آليات بلورة السياسات العمومية الوطنية. هذا السؤال يحيل إلى إشكالية “السيادة” في صوغ السياسات الاقتصادية في البلدان النامية.

في سياقات العولمة أمست البرامج الاقتصادية والمالية والاجتماعية وصفة جاهزة توصي بها أو تمليها – بالأحرى– المنظمات المالية الدولية على أغلب الحكومات في البلدان النامية باختلاف طبيعتها السياسية، يسارية كانت أم يمينية، تقدمية أم محافظة.

في بداية الثمانينيات إضطر المغرب لتطبيق برنامج التقويم الهيكلي ومنذ ذلك الحين يبدو أن هامش “السيادة الاقتصادية” تقلص وتراجع تحت ضغط الإكراهات الدولية. إنها سيرورة تاريخية مصاحبة للعولمة أدت فيما أدت إليه، إلى تبدل “الأشكال المؤسسية” للحكامة ولتدبير السياسات العمومية التي أمست تتحدد ملامحها، إلى حد بعيد، على المستوى الدولي. هل هذا يعني فقدان المبادرة الوطنية ولا جدوى “الفعل الاقتصادي” المستقل عن آليات إنتاج القرار التي تحتكرها المؤسسات الاقتصادية والمالية والتجارية المشكلة لما يسميه ميكايل هاردت وأنطونيو نيكري ( Michael Hardt et Antonio Negri) “الامبراطورية”؟.

في تقديري جدلية السيادة الوطنية/الإكراهات الدولية ليست ثابتة بل هي متحولة باستمرار وفي حركة التحول – بالذات- تكمن الهوامش، وتنمو القدرة على الفعل، والتأثير بدل الاستكانة لرد الفعل، والتكيف. من مداخل “السيادة الاقتصادية” في عالم اليوم نجد –طبعا– الديمقراطية والحريات والمشاركة كما تؤكد على ذلك بامتياز نظرية “التنمية البشرية”. هذه النظرية تؤكد بامتياز أيضا على دور التربية والتكوين والبحث العلمي في عملية الارتقاء بالقدرات البشرية وتوسيع دائرة الاختيار الفردي والجماعي.

إننا –من هذا المنظور- في حاجة ماسة إلى تطوير العلاقة بين آليات صنع القرار الاقتصادي والاجتماعي وبين آليات إنتاج البحوث النظرية والميدانية. في غياب الحد الأدنى من التوطين النظري لا أرى إمكانية صوغ سياسات عمومية ملموسة وملائمة لواقعنا الملموس الوطني أو المحلي ومستقلة عن النماذج العامة وعن الوصفات الجاهزة.

على ضوء التحولات التي عرفتها الكتابة المغربية في حقل الاقتصاد، هل يمكن الحديث عن بوادر تشكل كتابة ليبرالية مغربية؟

بصفة عامة، هناك ندرة في الكتابة الاقتصادية بغض النظر عن اتجاهاتها وأشكالها. ندرة كتابة وندرة قراءة أيضا. قد نلاحظ نزوعات نحو المضامين الليبرالية لبعض الكتابات التي تأخذ بعين الاعتبار “طلبات السوق” وتستجيب لرغبات القراء في الاستهلاك السريع والخفيف. من ثمة هل يمكن الحديث عن تشكل “كتابة ليبرالية” محددة المعالم ومنتجة لخطاب ليبرالي منسجم ومتماسك؟. لا أعتقد أننا أمام “وعي” عميق بالمفهوم وللمفهوم الليبرالي في بلادنا حتى الآن.

هل لكم أن تذكروا نماذج من الكتابات التي تعكس هذا الفكر؟

لا أريد الدخول في التعيين وفي التصنيف. لا جدوى من ذلك. فأصحاب “المقال الليبرالي” أمسوا يملؤون صفحات اليوميات والأسبوعيات. لقد سبق أن أشرت إلى التحول العميق الذي حصل في المنظومة الفكرية الاقتصادية ومن ثمة في السياسة الاقتصادية في الثمانينيات من القرن الماضي، حيث أضحت “الدوغما” الليبرالية هي السائدة. الموضة الليبرالية داهمتنا بطبيعة الحال وأغرت كثيرا من الاقتصاديين منا.

لقد أسسنا مؤخرا (يونيو 2006) “الجمعية المغربية للعلوم الاقتصادية” وفي “الورقة الفكرية” التي طرحناها للنقاش تجد تكثيفا للوعي بالبياضات التي يعرفها – منذ مدة – التفكير الاقتصادي ببلادنا وبغياب شروط الجدل والمناظرة العلمية والتصدي الفكري. نتمنى أن تتمكن “الجمعية” من المساهمة في إحياء فضيلة النقد الاقتصادي وتقليد السجال والمقارعة التي بدونها لا يمكن أن نؤسس لإنتاج فكري ذي قيمة مضافة.

في إطار العلاقة بين الفكر والسياسة الاقتصادية يلاحظ أن حزب الاتحاد الاشتراكي الذي يشغل أحد أعضائه منصب وزارة المالية والخوصصة، انتقل من خطاب نقدي يعبر عن رؤية سياسية لمجتمع طبقي ويوظف لغة بحمولة قوية (الأزمة – الجماهير المحروسة- الطبقة الكادحة) إلى خطاب مسوغ لسياسة تركز على التوازنات الاقتصادية الكلية ويدافع عن القطاع الخاص والمناطق الحرة والمستثمرين، دون أن تواكب هذا الانتقال أرضية فكرية تدافع عنه. كيف تفسرون هذا الأمر، هل يؤشر هذا على أن الممارسة تعفي عن التنظير؟ هل تتجاوز دينامية الواقع ما يمكن أن يوصف بجمود النظرية؟

هذا السؤال ينطوي على ثلاثة أبعاد. الأول يحيل إلى التحول الذي طال المنظومة النقدية بصفة عامة، والنقد الاقتصادي بصفة خاصة. إننا نلاحظ – لنقل منذ سقوط حائط برلين – إنعطافا إبستيميا من مستوى “نقد الرأسمالية” إلى مستوى “نقد الأداء الرأسمالي”. حتى الحركات المناهضة للعولمة أمست حركات تسعى لا إلى إسقاط نظام العولمة بل إلى إقامة أنماط “عولمة بديلة” للعولمة الليبرالية. الهدف ليس سيان. بلاغة “القطيعة” لم تعد نفس البلاغة.

إذا ما اعتبرنا – على المستوى الفكري- نظرية الضبط كامتداد متقدم ل”قراءة ألتوسير” (Louis Althusser) لماركس (أنظر على سبيل المثال كتاب الأزمة وضبط الرأسمالية لميشيل أكلييطا، نشر كالفان ليفي، باريس، 1976)، فإننا سوف نجد أن منهجية النقد أصبحت أكثر إجرائية، تنصب على الآليات وعلى الأشكال المؤسسية والتنظيمية وعلى الأدوات التدبيرية للسوق وللمقاولات أكثر مما تنصب على ماهية “البنية الرأسمالية” التي أعطى ماركس مفاتيح تحليلها وإدراكها وتغييرها.

البعد الثاني من السؤال يتعلق بما لاحظناه من “استمرار” السياسة الاقتصادية القائمة على التوازنات الماكرواقتصادية المالية بالخصوص حتى مع حكومة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي.

قد يكون ذلك صحيحا باعتبار الزاوية النقدية – لبرنامج حكومة “التناوب التوافقي” – التي تفترض “القدرة السياسية” على التغيير، تغيير الأوضاع الاقتصادية بجذرية وبسرعة، إذ تكفي الإرادة أو تكفي “آداب الاعتقاد” حسب تعبير ماكس فيبر.

في عدد خاص من مجلة النقد الاقتصادي حول الحصيلة الاقتصادية والاجتماعية لحكومة عبد الرحمان اليوسفي (Critique économique, n° 8, 2002) تقرأ وجهات نظر أخرى أكثر نسبية في تقييم الأداء الاقتصادي لحكومة التناوب. الإنجاز الاجتماعي -مثلا– بالنسبة لمعدل الميزانية المخصصة لقطاعات التربية والتكوين والسكن والصحة، يمكن النظر إليه بالمقارنة مع حجم العجز وندرة الموارد.

في العلاقة مع هذا الموضوع، كيف ينظر تقرير “50 سنة من التنمية البشرية” الذي ساهمت في إعداده، إلى إشكالية العجز أو “الإرث” الذي ينطلق منه برنامج “حكومة التناوب”؟

سوف أقتصر هنا على “وجهة النظر” التي حرصت شخصيا على إبرازها في التقرير التركيبي الذي أشرفت على إعداده (بمعية أحمد حرزني ومحمد بنسعيد) حول “النمو الاقتصادي والتنمية البشرية”، في تقديري التنمية الاجتماعية غير كافية للتقليص من العجز وللحد من الفوارق الصارخة إذا ما ظلت محصورة في الهوامش الحدية لميزانية الدولة.

التنمية الاجتماعية – بمنظور التنمية البشرية- ليست –فقط- زيادات طفيفة في الأجور وإعادة توزيع الدخل وقروضا صغيرة إلى غير ذلك من الأدوات النقودية لمحاربة الفقر. هذا النوع من “السياسة الاجتماعية” لا تأثير له عندما يمسي العجز بنيويا ومتراكما في المدة الطويلة.

تكمن حدود “الاجتماعي” في كونه يأتي – في الموضوع الاقتصادوي- كحساب متبقي من صرف النمو الاقتصادي. عندما يتجاوز معدل النمو 5% يكون بالإمكان آنذاك –حسب هذا المنظور– اعتماد ميزانية للنهوض بالقطاعات الاجتماعية.

نظرية “التنمية البشرية” تقول بعكس ذلك، أي أن الاستثمار في أسباب الارتقاء بالقدرات عن طريق التربية، والتكوين، ومحاربة الأمية، والصحة، والسكن اللائق، والنهوض بالحريات عبر المشاركة السياسية، والديمقراطية هو المدخل الحقيقي والعامل الحاسم، في آخر التحليل، في ربط دينامية النمو الاقتصادي بدينامية تحسين الأوضاع الاجتماعية ربطا جدليا ومستديما.

دعني الآن أستأنف الجواب عن السؤال السابق. هناك بعد ثالث لابد من الإشارة إليه. إن سؤال الإشتراكية اليوم – في شقه المعياري– لا ينبغي أن يراوح في نفس الأجوبة المتقادمة؛ بل عليه أن يعيد صياغة البرامج الإصلاحية ويعيد إنتاج آليات التدخل العمومي، خاصة الاقتصادية والاجتماعية منها، على ضوء ما توصلت إليه “الفلسفة الاقتصادية”، و”الفلسفة السياسية”، أو “الأخلاقية” من خلاصات تهم إشكاليات العدالة الاجتماعية، والمجالية، و”الممتلكات الشائعة أو المشتركة”، والحكامة الجيدة والديمقراطية الإجرائية وتماسكية الهندسة المؤسسية إلى غير ذلك من المعضلات المعاصرة.

لنأخذ -على سبيل المثال- “التدخل العمومي” الذي لم يعد بالإمكان حصره في طبيعة الدولة أو في بنيتها الطبقية بقدر ما أمسى يرتبط بالأشكال المؤسسية لأداء الدولة وبالتحديد بالأدوار الجديدة التي تقوم بها في شتى الميادين.

هذه الأدوار الجديدة – التي تتشابك فيها الأبعاد الإستراتيجية بأنماط الضبط– لا تلغي، بطبيعة الحال، “الغاية العمومية” التي تبرر الوسيلة. خاصة في البلدان النامية كالمغرب التي تعرف علاقة تاريخية قائمة على “الدين الجوهري” (Dette primordiale) بين الدولة والمجتمع– حسب فرضية نظرية لشارل مالامود (Charles Malamoud). “دين جوهري” يهم بامتياز تلبية الحاجيات الحيوية للمواطنين من تربية، وتكوين، وصحة، وسكن، وحريات التي لم تتمكن الدول النامية حتى الآن من تسديدها. بعبارة، أسئلة الاشتراكية اليوم ليست أسئلة الأمس. كما أن الأجوبة ليست هي الأجوبة باعتبار درجة العجز الاجتماعي والاحتياج البشري في البلدان النامية.

يلاحظ في المرحلة الحالية، تنامي قوى جديدة معارضة لطروحات الدولة تعتمد الدين مرجعية فكرية، فهل يؤشر ذلك لإمكانية بزوغ فكر اقتصادي بحمولة دينية؟. وإذا كانت هناك بوادر لتشكل هذا الفكر، فما هي الكتابات التي تعكسه؟.

لقد سبق للمفكر محمد باقر الصدر أن أجاب بوضوح عن هذا السؤال في كتابه اقتصادنا. نجد بطبيعة الحال في الفقه وفي التشريع الإسلامي صفحات مليئة تتعلق بتنظيم بعض الأنشطة التجارية والاقتصادية بالأخص. إلا أنه –بالرغم من أهمية هذا التراث- يصعب تصنيفه في خانة العلوم الاقتصادية لعدم توافر الشروط الإبستيمية لذلك من قبيل تلك التي تحدث عنها محمد باقر الصدر نفسه من موضوع وإطار نظري ومنهجية أوالتي حددها كارل بوبر (Karl Popper) في الفرضية – الوضعية- المتعلقة بالدحض وبالتفنيد ( Réfutabilité).

ماذا عن علال الفاسي الذي ضمن كتابه النقد الذاتي فصلا عن الفكر الاقتصادي؟.

مساهمة علال الفاسي في مجال الاقتصاد مساهمة هامة بالرغم من قلتها النسبية، لشمولية المساحة الفكرية التي تغطيها كتاباته الفكرية. في الباب الثالث من كتاب النقد الذاتي الذي يحمل عنوان “الفكر الاقتصادي” نجد تعليقا مكثفا على المقاربة الماركسية التي تقوم على التحليل الاقتصادي أي –المادي- للتاريخ.

كما نقرأ نقدا في البنية الفكرية لما يسميه “الحلول العصرية لمشكلة الاقتصاد” حيث يتصدى للاشتراكية وللليبرالية ول”الفوضوية” ول”النقابيين الثوريين” و”النازيين والفاشيين”.

ومن اللافت أن نجد إشارة إلى كتاب جيمس برنهام عهد المنظمين الذي يؤسس نظريا لتحول الرأسمالية إلى النمط التدبيري. من الملفت أيضا تلك الصفحات التي خصصها علال الفاسي لكل من “المحاولات النصرانية” و” النظريات الشاذة في التاريخ الإسلامي” لحل “مشكلة الإقتصاد” حيث لم يتوان عن صب جام نقده عليها.

بصفة عامة يمكن إرجاع التفكير الاقتصادي عند علال الفاسي ووصله بـ “الباراديغم” الخلدوني وهو ما يعني – في تقديري – أننا أمام رؤية متميزة تزاوج بين الطرح العلمي والتفسير الوضعي للعملية الاقتصادية من جهة وبين استعارة الدلالة الأخلاقية ودور القيم والمسلكيات من جهة أخرى. وللإشارة فإن المدرسة “البيهافيورية” (السلوكية) الأنكلوسكسونية المعاصرة تسعى في نفس الاتجاه إلى استحضار منظومة الأخلاق والقيم والمعتقدات في تفسير السلوكيات الاقتصادية عند الفاعلين. المقاربة المعيارية بارزة أيضا في كتاب في المذاهب الاقتصادية الذي يشدد على “الأصول الإسلامية” لاقتصاد “التعادلية”.

ماذا عن كتابات بعض عناصر الحركات الاسلامية؟ ألا ترى بأن كتابات مرشد جماعة العدل والاحسان عبد السلام ياسين تِؤسس لملامح تفكير اقتصادي بحمولة دينية؟

كتابات علال الفاسي هي أرقى ما قرأت في هذا الصدد ومن هذه الزاوية الفكرية البعيدة عن كل مظاهر “الهياج الدعوي”.

انتهى الحوار.

ومن بين إصدارات نور الدين العوفي:

El Aoufi N., Bensaid M. et Hollard M. dir, «Economie des organisations.Tendances actuelles», Economie critique, L’Harmattan, Rabat /Paris, 2007

El Aoufi N., «La théorie de la régulation» entretien avec Robert Boyer, Critique économique, n° 15, Hiver-printemps 2005.

El Aoufi N., Herzenni A. et Bensaid M., «Croissance économique et développement humain», 50 ans de développement humain au Maroc et perspectives pour 2025. 2005

El Aoufi N., Bensaid M., «Chômage et employabilité des jeunes au Maroc»,Cahiers de la stratégie de l’emploi, 2005/6, BIT, Juillet 2005.

El Aoufi N., Hollard M., «Les relations professionnelles au Maroc : violence et justification», Critique économique, n° 12, Hiver- Printemps 2004.

El Aoufi N., «Trajectoires nationales au Maghreb», in R. Boyer, Y. Saillard (éds),La Théorie de la Régulation. Etat des savoirs, Ed. La Découverte, Paris (1ère édition 1995).

El Aoufi N. dir, L’entreprise côté usine, les configurations sociales de l’entreprise marocaine, Publications du GERRHE, Coll. “Enquêtes”, Rabat, 2000.

El Aoufi N., «L’évolution du rapport salarial au Maroc en longue période»,Mondes en Développement, n° 89/90, Tome 23, 1995.

El Aoufi N., La Régulation du rapport salarial au Maroc, 2 Volumes. Editions de la faculté des Sciences Juridiques, Economiques et Sociales, Rabat, 1992.

- أحمد إدعلي - جواد النوحي

11

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.