تحاول هذه الورقة شرح كيفية صناعة الوثائق، من خلال نموذج عقد واحد، وستتبع عمليات بناء الوثيقة، بدءا من نصها الأول، ثم ما أضيف إليها من نصوص، إلى أن أصبحت الوثيقة في شكل وصورتها الحاليين.
وتركز الورقة على الوثيقة الرقية الخامسة ذات الأبعاد التالية: أربعة وسبعون سم طولا وتسعة وخمسون سم عرضا. وتحتوي على خمسة عشر رسما مع ملحق واحد للجميع، كلها مكتوبة على جانب واحد فقط، هو وجه الوثيقة. وعلى الجانب الآخر، أي ظهر الوثيقة، توجد بعض الكلمات فقط، وهي “عقد المعصرة”، وقد أضيف إليها لاحقا كعنوان قصير لأجل الحفظ والتحديد. وتدوم الحالات العدلية المعالجة في كل الرسوم أكثر من خمسة عقود، من سنة ألف وثمانين إلى سنة ألف ومائة وأربعة وثلاثين للهجرة، أي من سنة ألف وستمائة وسبعين إلى ألف وسبعمائة واثنين وعشرين للميلاد.
ويعدّ تسجيل عقود بيع وشراء عقار معيّن هو الغرض الرئيسي للوثيقة الخامسة، مثلها مثل الوثائق الأخرى في دار الكتب الشرقية. ونجد في هذه الوثيقة ثلاثة عقارات معينة، أي الخربة والبقعة والمعصرة، كما ذكر على ظهرها. وسوف تتحدث الورقة عن تفاصيلها والعلاقة بينها فيما بعد، وكلها موجودة داخل باب الجيسة، وهي واحدة من الأبواب الرئيسية في مدينة فاس، وتقع في شمال عدوة القرويين. وخارج الباب يمر وادي المالح من الغرب إلى الشرق ويصبّ في وادي فاس. وتسمى المنطقة المحيطة به الحبالات، وتضمّ مراعي كثيرة.
وقد درسنا هذه الوثيقة بالتفصيل، فقمنا في البداية بترقيم مكوناتها، أي خمسة عشر رسما، وفق الترتيب التاريخي، أي وفقا لتأريخ العمليات الشرعية التي قام بها العدول والقضاة وغيرهم (انظر الصورة 1). ويمكن أن نقسم هذه الرسوم الخمسة عشر إلى جزأين بالنظر لتاريخ كتابتها: الأول هو الرسوم المسجلة عند تحضير الوثيقة في المرحلة الأولى، والثاني هو الرسوم المضافة إليها لاحقا في مرات عدة.
الرسم الأول والرسم الثاني عالجا أمر الخربة، أي المنزل المهجور أو الأرض القاحلة، التي توجد داخل باب الجيسة. وكانت دار الراعي، مع الزينتين الاثنتين؛ الأولى “زينة بيت الأروى الكائن بوادي الزحول” الجاري من وسط عدوة القرويين، والثانية “جميع الثلثين في كافة زينة الثلاثة مراجع الكائنة بخندق السراق”. المكان غير معروف، لكنه على طريق الحبالات. وكانت هذه العقارات الثلاثة تقع في أماكن منفصلة وكانت أولا في ملك مشترك بين ثلاثة إخوة من أسرة بني اللمطي، بعد ذلك، أي في سنة ألف وسبعة وتسعين للهجرة، انتقلت ملكية الخربة في رسم واحد إلى عبد السلام بن كيران وعاد ثمنها إلى عبد الله بن أحمد من أسرة بني اللمطي.
واشترى عبد السلام بن كيران، في الرسم الثاني، حصة عبد الله بن أحمد من الخربة من ورثته في سنة ألف ومائة وخمسة عشر للهجرة، فأصبحت الخربة كلها في ملكيته. وفي هذا الرسم ملحق تم فيه وصف كيفية تقسيم ثمن البيع، أي مائة أوقية دراهم، بين ورثة عبد الله باستخدام القلم الفاسي، هذه الطريقة سيشرحها الأستاذ كامييا بعدي.
الرسم الثالث والرسم الرابع عالجا البقعة، أي قطعة الأرض، التي تقابل مزار سيدي الغسال وسقاية باب الجيسة، وتجاور الخربة المذكورة. وقيّم ثمن هذه البقعة في الرسم الثالث، المعلمان المتخصصان في العقار، وأكد ثبوت ذلك، قاضي الجماعة بمدينة فاس محمد العربي بن أحمد بردلة في سنة ألف ومائة وستة عشر للهجرة. ويبدو أن هذه البقعة أصبحت بلا مالك، في الرسم الرابع، ولذلك صارت لبيت مال المسلمين. وبعد التقويم مباشرة اشتراها عبد السلام بن كيران من نائب ناظر المواريث.
هذه الرسوم الأربعة ليست أصلية. فقد كانت كلها مكتوبة في البداية على وثائق أخرى ثم حولت إلى الوثيقة الخامسة؛ الرسم الأول والرسم الثالث بواسطة النسخ، والرسم الثاني والرسم الرابع بواسطة النقل. الثلاثة منها لها نفس تأريخ النسخ أو النقل، أي “أواسط محرم الحرام فاتح عام واحد وعشرين ومائة وألف”. وكان الرسم الثاني غير مؤرخ النقل، لكن من المرجح أنه تم النقل إليه في نفس الوقت مع الرسوم الأخرى.
وكتب الرسم الخامس أصلا على هذه الوثيقة، وهو رسم شراء هذين العقارين، أي الخربة والبقعة المجاورة لها، من قبل التاجر محمد بن العربي السلاوي من عبد السلام بن كيران. ويعود تأريخه إلى “سادس محرم الحرام فاتح عام واحد وعشرين ومائة وألف”، قبل وقت قصير من نسخ الرسوم الأربعة السابقة أو نقلها.
ولهذه الرسوم الخمسة الأولى سمات مشتركة فيما يخص الكتابة اليدوية، ووضع نفس العدل شكله على جميع الرسوم عندما تم النسخ أو النقل على هذه الوثيقة، أحيانا كشاهد بثبوت النسخة أو بخط العدل المتوفي، وأحيانا كعدل الرسم الأصلي. أما العدل الآخر، فهو أيضا شائع للأربعة منها، ما عدا الرسم الثاني. ولذلك تبين لنا أن الرسم الخامس هو الرسم الرئيسي في هذه الوثيقة عند تحضيرها الأول، وأن الرسوم الأربعة السابقة هي رسوم متعلقة به، كما ذكر ذلك الأستاذ ساطو. هذه الرسوم الخمسة تشكل الجزء الأصلي من الوثيقة الخامسة. فعندما تم عقد البيع بين عبد السلام بن كيران ومحمد بن العربي السلاوي، في سادس محرم سنة ألف ومائة وإحدى وعشرين للهجرة، حاول العدلان جمع الرسوم الضرورية التي تثبت أن البائع قد تملك العقارين، ثم كتبا كل الرسوم المتعلقة في البداية والرسم الرئيسي، أي الرسم الخامس، أسفلها. ومن المحتمل أن ذلك تم في أواسط محرم سنة ألف ومائة وإحدى وعشرين للهجرة. وكان هذا النموذج الأولي للوثيقة الخامسة في يد صاحب العقارين الجديد، أي محمد بن العربي السلاوي.
وبالمناسبة، يتكون الرسم الأول من نسخ عشرة رسوم. ونجد في كل نصوصه الإشارة إلى مكان الرسم الأصلي على الوثيقة الأصلية، مثلا “وهو مقيد أسفل المنصوص”، “وهو مقيد بمحول الرسوم المنصوصة” وهكذا… ونلاحظ أيضا في بعضها الإشارة إلى النسخ أو النقل من وثائق أخرى، مثلا النص الثامن وهو “نسخة رسمين اثنين”، والنص الثاني والنص السابع وهما “نقل”. وبالإضافة إلى ذلك، نجد في الرسم الثاني عبارة للإشارة إلى “الخربة المذكورة والمحدودة أعلاه وبمحول الرسم المنقول هذا منه بالمعنى وهي الرسوم المنتسخة أعلاه”، مما يفيد أنه كان مكتوبا في نفس الوثيقة الأصلية من النصوص العشرة من الرسم الأول.
ومن خلال هذه العبارات، يمكن أن نعيد تشكيل الوثيقة الأصلية غير الموجودة لدينا، كما يظهر في الشكل. هذا هو تماما مثال الوثائق الرقية في دار الكتب الشرقية، لها سمات مشتركة. النصوص الستة الأولى كانت مكتوبة على وجه الوثيقة من الأعلى إلى الأسفل. نفس العدلين وضعا شكليهما على جميع النصوص عندما تمت الكتابة أو النقل. في حين يذكر النص الثالث بشراء العقارات، أي الخربة والزينتين، وهو الرسم الرئيسي من هذه الوثيقة الأصلية. النصوص الخمسة الباقية هي الرسوم المتعلقة بهذا الشراء (النص الأول حول بينة ملكية البائع؛ النص الثاني حول الإيصاء؛ النص الرابع والنص الخامس حول إمضاء الصفقة؛ النص السادس حول بينة الشراء المشترك). عندما تم عقد البيع في ثاني وعشرين رجب سنة ألف وستة وتسعين للهجرة، حضر العدلان هذه الرسوم وكتباها كلها على الوثيقة الأصلية. النص السابع والنص الثامن أيضا وهما الرسمان المتعلقان بهذا الشراء حول الإيصاء والحضانة. تم في كلاهما النسخ أو النقل على الهامش الأيمن من الوثيقة الأصلية، ربما بعد التحضير مباشرة.
أما النصان الأخريان، أي النص التاسع والنص العاشر، فيذكران بشراء الخربة الذي حدث بعد سنة من التحضير الأول، أي أن النص التاسع هو رسم الشراء الجديد لثمن الخربة والنص العاشرمعه رسم متعلق به حول الاشتراك فيها. نفس العدل من عدلي النصوص الثمانية السابقة كتبهما بظهر الوثيقة الأصلية في سنة ألف وسبع وتسعين للهجرة. بعد قرابة عشرين سنة باع ورثة مالك الخربة واجبهم إلى شريكه فتمت إضافة الرسم الثاني بظهر نفس الوثيقة أسفل النص العاشر.
وعندما تم تحضير الوثيقة الخامسة الحالية، كتب العدلان الرسوم العشرة من الوثيقة الأصلية، أي من النص الأول إلى النص العاشر، بواسطة النسخ بسبب وفاة كل العدول الأصليين. وتحقق العدل الآخر من خطهم وقيد شهادته على ذلك في الأصل مع فعالية قاضي الجماعة في النسخ. لذلك تمت إضافة الجملة “شهد على خطهم في هذا الرسم. فقبل “إلى هذه الوثيقة الأصلية. أما الرسم الثاني فعدلاه الأصليان كانا حيين يرزقان حتى وقت تحضير الوثيقة الخامسة. ولذلك كتب عليها بواسطة النقل بشكل مختلف عن النصوص الأخرى. ومن المفترض أن الوثيقة الأصلية انتقلت مع الخربة من مالكها السابق إلى مالكها الجديد، إلى أن أصبحت في يد عبد السلام بن كيران، وبعد تحضير الوثيقة الخامسة انتهت مصائرها.
وتمثل الرسوم الباقية من الوثيقة الخامسة، أي من الرسم السادس إلى الرسم الخامس عشر، الجزء الإضافي إلى الوثيقة بعد تحضيرها الأول. وباختصار، فإن الرسم السادس ذكر بشراء الخربة من قبل محمد معن، وهو من الأسرة الصوفية الشهيرة في فاس والتي لديها العديد من العقارات المخصصة لإدارة الزوايا، اشتراها من محمد بن العربي السلاوي في أوائل رمضان سنة ألف ومائة وإحدى وعشرين للهجرة، والرسوم الثمانية المتتالية، أي من الرسم السابع إلى الرسم الخامس عشر، ذكرت بعدة انتقالات لملكية المعصرة الجديدة، أي مصنع زيت الزيتون، التي اشترتها في الرسم الخامس عشر آمنة بنت أحمد من محمد اليماني وابنه في سنة ألف ومائة وأربعة وثلاثين للهجرة.
ومن المعروف في الوثائق الرقية بدار الكتب الشرقية أنه بعد تشكيل الجزء الأصلي من الوثيقة، تستمر كتابة رسوم جديدة عندما يباع العقار وتنتقل ملكيته. ومن ناحية أخرى، نستطيع الإشارة إلى بعض السمات المميزة لهذه الوثيقة الخامسة.
الملاحظ بالنسبة للعقار في حد ذاته هو أن حالته وقيمته تتغيران كثيرا في هذه الفترة الممتدة لبضع سنوات خلال الشراءين في الرسم السادس والرسم السابع، أي بين سنوات ألف ومائة وإحدى وعشرين وثلاثة عشرين للهجرة. ويظهر خلالها أنه تم بناء معصرة جديدة على الأرض التي جمعت الخربة والبقعة المذكورتين معا، ولذلك أصبح ثمن العقار أكثر من ثمانية أضعافه على الأقل. وقد عرفت ناحية باب الجيسة في بداية القرن العشرين بالعديد من المعاصر، وكان الزيتون يصل إليها من الجنانات الموجودة في الضواحي الشمالية لفاس. ومن المرجح أن محمد معن استثمر العقارات وحاول إحياء الأراضي المهجورة كما ذكر في هذه الوثيقة. وهذا مثال جيد على الأنشطة الاقتصادية التي قام بها أهل البلد.
ومما يثير للانتباه في الوثيقة، تكرار بيع محمد معن حصته من المعصرة وإعادة شرائها بنفس الثمن بعد بضع سنوات. ففي الرسم السابع، اشترت منه آمنة بنت سيدي أحمد بن عبد الله ربع المعصرة بثمن ألفين وخمسمائة أوقية في أول رجب سنة ألف ومائة وثلاثة وعشرين للهجرة، وبعد ذلك اشترت ربعا آخر زيادة بثمن ألفين أوقية في أواسط ربيع الثاني سنة ألف ومائة وأربعة وعشرين للهجرة، وذلك مذكور في الرسم الثامن. ويتضح في الرسم التاسع، أنه بعد سنة تقريبا، أي في سنة ألف ومائة وخمسة وعشرين للهجرة، تم تخلي المشترية آمنة عمّا اشترته منه، وردت مجموع الثمن المدفوع إليها، أي أربعة آلاف وخمسمائة أوقية، وتم إرجاع نصف المعصرة إلى البائع محمد معن.
وحدث نفس الشيء بين سنتي ألف ومائة وستة وعشرين وسبعة وعشرين للهجرة. حيث اشترى الفقيه محمد بن أحمد اليماني من محمد معن نصف المعصرة بثمن خمسة آلاف ومائتين أوقية. وأكمل هذا البيع في أوائل رمضان سنة ألف ومائة وستة وعشرين للهجرة في الرسم العاشر، ولكن في الرسم الحادي عشر بعد خمسة أشهر فقط، أي في تاسع عشرصفر سنة ألف ومائة وسبعة وعشرين للهجرة، تمت إقالته.
ولا توجد في الوثيقة أية معلومات مباشرة عن السبب والهدف من هذا السلوك. ولكن اعتمادا على ما جاء في كتاب “سلوة الأنفاس” لمحمد الكتاني، ضمن ترجمة محمد معن هذا :”واقتبس من أنواره ومعارفه الخاص والعام، وكان يتصدق بجميع ما يحصل عليه من غلة أصوله…”، نفترض أنه كانت لديه مشاكل مالية باستمرار، وأن هذا النوع من البيع قد يكون بمثابة قرض مؤقت للبائع على أساس إقالته.
هذه الرسوم الثلاثة للشراء، أي الرسم السابع والثامن والعاشر، كلها مكتوبة أصلا في وثائق أخرى. ومن المحتمل أنه تم تحضيرها من أجل المشترين، ثم انتقلت إلى هذه الوثيقة لاحقا بمناسبة إقالتها. أعتقد أن البائع محمد معن كان يحتفظ بالوثيقة طوال سلسلة من عمليات البيع بغض النظر عن انتقالات الملكية، وكان يستمر أيضا في إدارة المعصرة خلال هذه الفترة، لأسباب نجهلها وما يزال يتعين علينا البحث فيها.
بعد هذه الانتقالات التي عرفتها الملكية نجد في الرسم الثاني عشر أن محمد معن باع حصته من نصف المعصرة إلى العربي بن حم الصقلي في سنة ألف ومائة وتسعة وعشرين للهجرة.وتم تعويض ثلاثة آلاف وخمسمائة أوقية بديون البائع للمشتري. وليس واضحا في هذه الحالة كيف أن محمد معن كان يتبع بنفس الأسلوب الذي اتبعه في البيعين السابقين.ومع ذلك، فقد استعمل محمد بن أحمد اليماني، الشريك في ملكية المعصرة، في الرسم الثالث عشر، حقه في الشفعة على البيع، فدفع نفس الثمن وأصبح مالكا للنصف الآخر سنة ألف ومائة واثنتين وثلاثين للهجرة. هكذا أصبحت المعصرة في ملكه لوحده. أما الوثيقة نفسها التي كانت في يد محمد معن حتى نهاية سنة ألف ومائة وتسعة وعشرين للهجرة على الأقل فقد انتقلت مع العقار إلى محمد اليماني، ربما عن طريق العربي الصقلي.
في الحيز الأخير من هذه الوثيقة، أي الرسم الخامس عشر، انتقلت ملكية المعصرة إلى يد آمنة بنت أحمد بثمن خمسة آلاف أوقية، وذلك في أوائل ذي القعدة من سنة ألف ومائة وأربعة وثلاثين للهجرة. ونعتقد أن آمنة هذه هي نفس المرأة المذكورة سابقا في الرسم السابع والرسم الثامن، وتعرف بأنها ابنة أحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن اللمطي، المذكور كأحد أصحاب الخربة في الجزء السابق من الوثيقة. وعلى اعتبار أن المعصرة قد أقيمت على أرض تلك الخربة، فهذا يعني أن العقار المعين قد عاد في نهاية المطاف إلى حفيد صاحبه الأصلي. هذه الوثيقة الرقية الخامسة، الثابتة كما هي عليه اليوم مع إضافة الرسم الخامس عشر، قد تكون محفوظة في أسرة لأجيال أو تنتقل من يد إلى يد، وأخيرا تم تخزينها بدار الكتب الشرقية في طوكيو.