الإثنين , 9 ديسمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » أطروحات » البناء المغاربي بين الآمال والوقائع

البناء المغاربي بين الآمال والوقائع

مديحة صبيوي، البناء المغاربي (1958-2017).  من مؤتمر طنجة إلى اتحاد المغرب العربي[1]، أطروحة الدكتوراه في التاريخ، بإشراف محمد كنبيب، كلية الآداب والعلوم الإنسانية – جامعة محمد الخامس بالرباط، 2018-2019.

تندرج الأطروحة ضمن الحقبة الراهنة من تاريخ المنطقة المغاربية التي تعتبر من أكثر الفترات تعقيدا على مستوى البحث الأكاديمي. وهي تتناول موضوع البناء المغاربي خلال الفترة الزمنية الممتدة ما بين سنتي 1958 و2017. وتتمحور حول إشكالية المفارقة الموجودة بين الإمكانيات الكبيرة المتاحة لدى الدول المغاربية الخمس، أي المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا، خاصة على المستويين الاقتصادي والسوسيو- ثقافي لإقامة تكتل شمال – إفريقي فيما بينها من ناحية، واستمرار جمود “اتحاد المغرب العربي “، الاتحاد الوحيد الذي يضمها منذ عام 1989، من ناحية ثانية. فهذا الأخير مجمد قانونيا منذ 1995 وهو لم يستكمل مرحلته التأسيسية بعد، بل إن العلاقات بين دوله بعيدة عن التناغم والتكامل، ويطبعها التنافس والصراع في كثير من الأحيان كما هو الحال بالنسبة للمغرب والجزائر على سبيل المثال، دون ذكر الأزمات التي عرفتها العلاقات بين بقية بلدان المنطقة خلال مناسبات مختلفة.

تظهر قوة المفارقة المذكورة عند الانتباه إلى أربعة معطيات أساسية؛ أولها حاجة الدول المغاربية الملحة للتعاون فيما بينها، خاصة بالنظر إلى التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها جميعها لا سيما على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. وثانيها المتغيرات الجديدة التي تعيشها المنطقة، على رأسها ثورات “الربيع العربي” وتحديات الهجرة غير الشرعية وخطر الإرهاب، والتي خلقت واقعا جديدا في بعض الدول كتونس وليبيا وأثرت على جيرانهما المغاربيين. أما ثالث هذه الإكراهات، فيتمثل في رهانات العولمة وما تكرسه من تفاوت كبير بين “دول الشمال” و”دول الجنوب”، يلقي بثقله على الفضاء المغاربي. ويتجلى رابعها في اتجاه العديد من البلدان الأخرى عبر العالم نحو التكامل أو الاندماج لتحسين أوضاعها وتعزيز مكانتها ضمن المنتظم الدولي، الأمر الذي أدى إلى ظهور تكتلات عملاقة لا يمكن منافستها ككيانات منفردة. وينبغي في هذا الباب التذكير بأن الدول المغاربية نفسها منخرطة في مجموعة من الاتحادات الأخرى، سواء على المستوى الإقليمي الإفريقي، أو الأوربي. الأمر الذي يطرح مجموعة من التساؤلات على رأسها تلك المرتبطة بمبررات فشل الاتحاد المغاربي مادامت الدول المكونة له مستعدة للانخراط في تكتلات أبعد ثقافيا وجغرافيا.       

انطلاقا من الإشكالية المركزية وتفرعاتها، يمتد البحث في اتجاهين متقاطعين؛ فهو يدرس السيرورة التاريخية التي تدرجت خلالها “الوحدة المغاربية” من مستوى التضامن والتنسيق على الصعيدين النخبوي والشعبي خلال فترة الاستعمار الأوربي بالمنطقة المغاربية، إلى إقامة “اتحاد المغرب العربي” كأول اتحاد سياسي رسمي نهاية الثمانينيات، بعد مجموعة من المحطات المهمة. إلى جانب ذلك، يستعرض حصيلة هذا الاتحاد، الذي سرعان ما تم تجميده بعد ست سنوات فقط من تأسيسه، ويبحث في الأسباب التي تعرقل تفعيله، كما يفتح النقاش حول السياق الراهن بالبلدان المغاربية، المطبوع بمجموعة من المتغيرات الهامة التي أعادت الموضوع للواجهة. بناء على ذلك، تم تقسيم البحث إلى خمسة فصول: عنون الأول بـ”التضامن والتنسيق المغاربي في سياق الكفاح من أجل الاستقلال (1830-1956)”، وخصص الثاني لـ”مشروع الوحدة الثلاثيةفي سياق بناء الدول القطرية المغاربية (1956-1963)”، بينما أفرد الفصل الثالث لدراسة “المشروع الوحدوي الخماسي في سياق بروز قضية الصحراء (1964-1989)”. أما الفصل الرابع، فيتناول “توقف البناء المغاربي منذ التسعينيات”، في حين يتطرق الفصل الذي بعده (الخامس) لـ “الواقع الراهن لاتحاد المغرب العربي”.

يكتسي البحث قدرا كبيرا من الأهمية بالنظر إلى مجموعة من المبررات؛ فهو من ناحية أولى ذو راهنية كبيرة، لا سيما بعد عودة الموضوع الذي يتناوله إلى الواجهة خلال السنوات الأخيرة سواء على مستوى التصريحات السياسية الرسمية ووسائل الإعلام والنقاش العمومي، أو على ضوء الأحداث المتتالية التي تعيشها المنطقة والتي أنتجت بها مجموعة من المتغيرات، الأمر الذي يجعله يستجيب للعديد من الإشكاليات المؤثرة في واقع البلدان المغاربية الخمسة، كما أن شموليته تسمح بالتطرق إلى مجموعة من المواضيع الفرعية الهامة المتعلقة بالفضاء الجغرافي المدروس. من ناحية ثانية، تندر الكتابات الأكاديمية الشمولية حول الموضوع في مجال التاريخ على مستوى المكتبات المغربية؛ فالإنتاجات الأكاديمية وغير الأكاديمية المتوفرة تتركز في مجالات معرفية معينة، لاسيما العلوم السياسية والعلاقات الدولية، أو الاقتصاد، بينما تكاد تغيب الكتابات التاريخية بهذا الخصوص. بالإضافة إلى ذلك، تتوقف جل الأعمال المنجزة حوله عند حدود تسعينيات القرن الماضي، بُعيد تأسيس اتحاد المغرب العربي بوقت قصير، مما يقصي الفترة الراهنة التي تواترت خلالها مجموعة من الأحداث والمستجدات.

فيما يتعلق بالمادة البيبليوغرافية التي تم الاعتماد عليها، فهي تمتاز في المقام الأول بكثرتها من حيث العدد وتنوعها من حيث المضمون. ويمكن التمييز ضمنها بين خمسة أصناف أساسية من المصادر والمراجع التي تم توظيفها: الوثائق التاريخية الموزعة بين الأرشيف الدبلوماسي المحفوظ بمركز مدينة نانط بفرنسا ووثائق مغاربية مختلفة، والكتابات الأكاديمية، والمذكرات، والمقالات الصحفية، والمواد الإيكنوغرافية.

بتركيز شديد، يمكن القول إن البناء المغاربي تدرج وفق صيغ ومضامين مختلفة منذ مطلع القرن العشرين، حيث ساد طيلة فترة الاستعمار الأوربي بالمنطقة الحديث عن “وحدة شمال إفريقيا” و”وحدة المغرب العربي”، لكن دون أن يتبلور خلال هذه المرحلة أي مشروع وحدوي ملموس. ويتضح من خلال البحث أن المقصود بهذه الوحدة كان وحدة العمل لتصفية الاستعمار وليس الوحدة السياسية. وباستثناء المشاريع الملموسة القليلة التي تم تقديمها لإقامة تكتل مغاربي سياسي في مناسبات متفرقة خلال سنوات الاستقلال الأولى دون النجاح في إخراجها إلى أرض الواقع، ظل الخطاب الوحدوي فضفاضا إلى حدود تأسيس اتحاد المغرب العربي. ومن خلال تتبع هذه المحاولات وواقع الاتحاد الحالي على حد السواء، يظهر أن الوحدة المغاربية ارتبطت بأهداف مرحلية وظرفيات معينة، أكثر مما قامت على مشروع مدروس يروم الاستمرارية والنجاح على المدى البعيد. 

وبالوقوف على حصيلة اتحاد المغرب العربي، يظهر أنها تنحصر بصفة أساسية في انعقاد الاجتماعات البينية وإبرام العديد من الاتفاقيات في ميادين مختلفة، إلى جانب إنشاء بعض الهياكل والمؤسسات المنصوص عليها في معاهدة مراكش. عدا ذلك، لم يتم عقد قمم مجلس الرئاسة بانتظام، كما اعتذر بعض أعضاء المجلس عن الحضور في أكثر من قمة بسبب الخلافات البينية. وبرزت عدم فاعلية هذا التكتل على المستوى السياسي في مناسبات كانت فيها الدول المغاربية تعيش أزمات تحتاج فيها إلى دعمه لكنه لم يتخذ أي مواقف لصالحها، كما هو الحال بالنسبة للجزائر خلال مأساة “العشرية السوداء”، أو موريتانيا فيما يتعلق بنزاعها الحدودي مع السنغال، أو ليبيا أثناء العزلة والعقوبات الدولية المفروضين عليها عقب ما عرف ب”قضية لوكربي”، أو الصراع المغربي – الجزائري.

من خلال البحث في معيقات تفعيل اتحاد المغرب العربي، يكاد يجمع معظم الباحثين والمحللين على كون الخلاف بين المغرب وجارته الجزائر حول قضية الصحراء أبرز هذه العراقيل. ومن باب المفارقة طلب المغرب نفسه، الذي اعتبر ملكه السابق الحسن الثاني أن هذه القضية مجرد “حدث طارئ متطفل على التاريخ” وبالتالي فهي لا تعوق إنجاح أي تكتل مغاربي، من الجزائر تجميد الاتحاد عام 1995 بسبب القضية ذاتها. من ناحية ثانية، تتضارب تصريحات المسؤولين المغاربيين الرسمية حول مدى تأثيرها، وتتعارض تصوراتهم حول أسبقية تأسيس الاتحاد أم حل المشكل. وعلى الرغم من كون هذا الأخير الأكثر تعقيدا وتعميرا في المنطقة، فإن العلاقات الثنائية الأخرى لم تخل بدورها من توترات مرحلية سببت في قطع العلاقات في مناسبات مختلفة وأجلت التفكير في الوحدة.

من بين المعيقات الأخرى المطروحة كذلك، اختلاف الأنظمة السياسية في أقطار المغرب العربي وتباين التوجهات العامة والخيارات الأولوية بشكل واضح بعد الاستقلال في مختلف القطاعات، بالإضافة إلى إعطاء الأولوية لحل الأزمات الداخلية. من جانب آخر، تطرح المعاهدة المؤسسة لاتحاد المغرب العربي نفسها مشكلا جوهريا بسبب العراقيل المؤسساتية والتنظيمية التي تتضمنها. 

في سياق متغيرات الفترة الراهنة بالمنطقة المغاربية، برزت منذ مطلع الألفية محاولات جديدة لإحياء الوحدة على المستوى السياسي وعقد القمة الرئاسية السابعة المؤجلة منذ عام 1995. وبالموازاة مع ذلك، صارت بعض القوى الخارجية على رأسها الاتحاد الأوربي تشجع الدول المغاربية على المضي قدما لتحقيق ذلك. فهل يمكن اتخاذ خطوة حاسمة قريبة تنجح في تفعيل اتحاد المغرب العربي؟ أم على خلاف ذلك، ستتكرس حالة جموده؟


[1] نوقشت الأطروحة تحت هذا العنوان على أساس تغييره إلى عنوان آخر أكثر تناسقا مع المجال الزمني المدرج فيه: 1958-2017؛ حيث إن سنة 1958 تحيل على انعقاد مؤتمر طنجة لوحدة المغرب العربي، لكن عام 2017 لا يماثل تاريخ تأسيس اتحاد المغرب العربي وإنما يراد به التدليل على الفترة الراهنة من عمره.

- مديحة الصبيوي

باحثة في التاريخ الراهن / مقيمة بالولايات المتحدة الأمريكية

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.