الملخص:
سنتناول بالدرس والتحليل الخطابة السياسية العربية من منظور حجاجي بلاغي، يركز على تحليل وظيفة الحجاج بالعواطف في التأثير في المخاطبين، وقد اتخذنا “خطبة النصر” لمحمد أنور السادات الرئيس المصري الأسبق نموذجا.
تقديم:
ارتبطت الخطابة دائما بالإقناع، وكان أرسطو من الأوائل الذين فطنوا لذلك فقدم لها تعريفا يقول فيه: إن “الرِّيطُورٍيَّةَ قوة تتكلف الإقناع الممكن في كل واحد من الأمور المفردة”[1]. ويقصد بالقوة هنا تلك الملكة النفسية الوجدانية التي تصدر عنها أفعال إرادية، لأن القدرة العادية قد توجد في كل إنسان لكن الملكة تحصل عن قوانين تتعلم أو أفعال يعتاد الفرد القيام بها.
والخطابة بهذا الفهم ملكة راسخة في الذهن تستعمل في استمالة الجمهور والتأثير فيه وإقناعه. وهي بذلك “من الأدوات الأساسية التي لا يمكن لأي مجتمع أن يستغني عنها”[2] في مجال المحتمل والرأي والظن. ولا تتحدد الخطابة إلا ببعدها الحجاجي والإقناعي، الأمر الذي يفسر قيامها على الحجاج في التواصل، ويجعل الحجاج الخطابي “طريقة منظمة للإقناع”[3]، يوظف فيها الخطيب كل الوسائل المتاحة بما فيها من المغالطة والتضليل.
والحجاج البلاغي لا ينفصل عن مقاماته الخطابية التواصلية التي حدّدها أرسطو في ثلاثة أنماط خطابية أو أنواع من الخطابة. وهو تصنيف قام على مراعاة نوع المخاطب، وهذه الأنواع هي: الخطابة القضائية والاستشارية والاحتفالية4. وترتبط الخطابة القضائية بالمؤسسات القضائية ومقامات الاتهام أو الدفاع، وموضوعها قائم على العادل والجائر، وزمنها هو الماضي. أما فيما يخص الخطابة الاحتفالية أو التثبيتية، فهي تتعلق بالمحافل الجماهيرية الكبرى حيث يتم الاحتفال بالمناسبات، وموضوعها الجميل والقبيح بينما غايتها المدح والذم وزمنها هو الحاضر.
ويتأتى موضوع الاستشارية في تقديم المشورة في أمر عام أو خاص، وهي متعلقة بالخطاب السياسي ومجالها مؤسسة الجمعية العامة، وهذا النوع “يتجه فيه الخطيب المشير أو المفاوض المستقبل ورسم الأهداف القابلة للتحقيق والإنجاز”[4]. وقد جعل أرسطو السامع معيارا في تصنيفه أنواع الخطابة. فجعل “الباتوس” و“الإيتوس” في صلب الحجاج في جميع أنواع الخطابة؛ وعدهما جزءا من الحجج التي يوظفها المتكلم في الإقناع. يقول أرسطو: “يحصل الإقناع حين يُهَيّأُ المستمعون ويستميلهم القول الخطابي حتى يشعروا بانفعال ما”[5].
فالعواطف حسب أرسطو هي التي تتحكم في جذب الجمهور واستمالته، لما لها من تأثير مباشر على المخاطب. ولهذا طالب باستحضار الانفعالات، لأنها تساعد على الإقناع، فقال: “والعواطف مصحوبة بالألم أو اللذة، ويحمل تغيرها على تغير الناس في أحكامهم، كالغضب، والرحمة، والخوف، وكل الانفعالات من هذا النوع، وكذلك ما يضادها من انفعالات”[6]. وتبعاً لذلك، يعتبر الاحتجاج بالعواطف من أهم الاستراتيجيات التي تجعل الفاعل السياسي يتحكم في جمهوره ويستميله.
ووفقا لهذا التصور المعرفي، ستقوم هذه الورقة على معالجة الموضوع من منظور وصفي تحليلي يسائل النظرية الحجاجية، ويدرس العواطف باعتبارها مكوناً من مكونات البراهين الصناعية التي يرتكز عليها المتكلم لتحقيق الإقناع من خلال واحدة من الخطب الشهيرة للراحل محمد أنور السادات، وهي الموسومة بخطاب النصر.
وسنقارب هذه الخطبة من خلال الوقوف عند الأمور التالية:
- سياق الخطبة.
- الحجاج بالإيتوس: الطابع الذاتي لإيتوس المنتصر.
- الحجاج بالباتوس: جسور الأمل وعواطف الانتصار.
1- سياق الخطبة
ارتبطت هذه الخطبة بالانتصارات التي حققها الجيش المصري. وهي من أشهر خطب الراحل محمد أنور السادات، وقد ألقاها بمجلس الشعب يوم 16 أكتوبر 1973. ويرتبط مقام هذه الخطبة بحرب تاريخية خاضتها مجموعة من الدول العربية، وهي مصر وسوريا، مع الكيان الإسرائيلي عام 1973، بعد أن احتلت إسرائيل شبه جزيرة سيناء عام 1967 إثر حرب دارت رحاها مع مصر. وكان من نتائج حرب أكتوبر توغل القوات المصرية داخل سيناء والقوات السورية داخل الجولان في المراحل الأولى للحرب قبل أن تنقلب الموازين مرة أخرى ويبقى الجولان تحت السيطرة الاسرائيلية كما سيناء. وانتهت الحرب بتوقف إطلاق النار، ثم توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل استردت مصر على إثرها سيناء وقناة السويس. وخلقت هذه الحرب ردود أفعال كثيرة، فتغنى البعض بالانتصارات، ورأى فيها البعض الآخر حربا متعادلة، فيما كانت النتائج مخيبة للآمال بالنسبة للفريق الثالث. وجاءت خطبة محمد أنور السادات في هذا السياق، واختص موضوعها لتخليد الانتصار وتبليغ مجلس الشعب ومن خلاله الشعب المصري والأمة العربية بنشوة النصر على العدو.
2- الحجاج بالإيتوس:
الإيتوس هو كل ما يتعلق بأخلاق الخطيب ومصداقيته، وكل ما يجعله أهلا للتصديق، فللخطيب دور فعال في تحقيق عملية الإقناع، لذلك ينبغي أن يكون موضع قبول أثناء إلقاء الخطاب أو تلقيه. فحين يتحدث أرسطو عن الإيتوس، فإنه يذكر خاصيته الأخلاقية باعتبارها وسيلة إقناعية؛ وعليه فقد حدد أرسطو الأخلاق التي ينبغي أن تتوفر في الخطيب بقوله: “ولابد أن يتحلى بثلاث خصال كي يحدث الإقناع، لأنه بصرف النظر عن البراهين فإن الأمور التي تؤدي إلى الاعتقاد ثلاثة هي: اللب والفضيلة والبر”[7]. هي أخلاق وصفات ينبغي أن يظهر بها الخطيب أمام المخاطبين ليحدث التأثير ويصل الإقناع إلى الدرجة المطلوبة. فالثقة التي يوحي بها المتكلم أهم من أقواله الخاصة. وسنحاول أن نستخلص كل هذه المشارب من خطبة النصر للسادات.
أ- الطابع الذاتي لإيتوس المنتصر:
يفرض هذا الطابع نفسه بالنظر إلى مناسبة القول الخطبي ومكانة الخطيب في المجتمع. ونحن هنا أمام خطبة توفرت فيها كل مقاييس إبراز الذات الفردية للرئيس أنور السادات والجمعية للمجتمع المصري وجيشه الذي كان سببا مباشرا في دحر العدو. وقد سعى الخطيب إلى الاحتفال بالنتيجة المحققة وإهدائها إلى الشعب المصري والأمة الإسلامية. وهذا الاحتفاء، ليس الغرض منه إعلان النصرن بل يضمر الحديث عمن كان وراءه. فالجيش يأتمر بأوامر القائد الأعلى دائماً. وتحمل الفقرة الأولى من خطبة النصر للسادات عدة مؤشرات حجاجية عاكسة لإيتوس القائد المنتشي بانتصاره وهو يزف البشرى للأمة والوطن من خلال مجلس الشعب، ويعطي إشارة إلى أنه قائد الجيش وممثل الشعب ورمز الأمة العربية والإسلامية، لهذا جاءت الخطبة مفتتحة بالبسملة:
“بسم الله، أيها الأخوة، والأخوات.. كان بودّي أن أجيء إليكم قبل الآن، ألتقي بكم وبجماهير شعبنا وأُمّتنا، ولكن شاغلي كان كما تعلمون وكما تريدون، وأثق أنّكم تقدّرون وتعذرون، ومهما يكن فقد كنت أحس بكم وبشعبنا وبأُمّتنا معي في كل قرار، كنتم جميعًا معي فيما أخذته على مسؤوليتي تعبيرًا عن إرادة أُمّة، وتعبيرًا عن مصير شعب. ثم وجدت مناسبًا أن أجيء إليكم اليوم، أتحدث معكم ومع جماهير شعبنا، ومع شعوب أُمّتنا العربية، وأمام عالم يهمه ما يجري على أرضنا لأنه وثيق الصلة بأخطر قضايا الإنسانية”[8].
نجد في هذا المقطع الذي وظف لافتتاح الخطبة حضورا قويا لذات الخطيب. يلخصه الطابع القيادي لشخصه. فهو ليس قائدا للجيش المنتصر فحسب، ولكنه متكلم باسم الشعب وجماهيره وشعوب الأمة العربية والإسلامية. ولم يكن افتتاح الخطبة بالبسملة (بسم الله) واتباع الاستراتيجية التضامنية (الإخوة الأخوات) بمعزل عن رسم الصورة النموذجية للقائد البطل المسلم. فالبسملة شعار المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وهي من ثوابت السور في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. وكل قول لم يبدأ بالبسملة فهو أبتر. وبالتالي فإن الرئيس يحدد مجال التأويل وسبل التفكير ويشحن خطابه منذ البداية بالقاموس الديني المعبر عن المرجعية الدينية والثقافية. ولا غرو فالصراع كان مع اليهود، وتقبل الخطاب سيكون أقوى عندما تدغدغ المشاعر وتخاطب العواطف والأهواء الدينية. والتقدير سيتضاعف عندما يكون القائد المنتصر مسلما يتكلم باسم الأمة الإسلامية وليس فئويا يتكلم باسم جماعة صغيرة أو شعب محدد. إن البسملة تلغي القيود والحدود بين المسلمين وتجعلهم أمة واحدة تؤمن بإله واحد وهو الله. ولم يفوت الرئيس هذه الفرصة ليبرز ذاته في صورة عظيمة توحي بانشغاله الدائم بخدمة الوطن والأمة. ومن هذه الزاوية يمكننا قراءة الاعتذار الذي تصدر الخطبة عندما قال “كان بودّي أن أجيء إليكم قبل الآن، ألتقي بكم وبجماهير شعبنا وأُمّتنا، ولكن شاغلي كان كما تعلمون وكما تريدون، وأثق أنّكم تقدّرون وتعذرون، ومهما يكن فقد كنت أحس بكم وبشعبنا وبأُمّتنا معي في كل قرار.”
وهو اعتذار عن عدم المجيء قبل يوم الخطاب، ومن مضمراته انشغال الرئيس بأمور- يقدرها الناس- لا تقل أهمية من المجيء والاحتفال بالنصر. ويمكن بناؤه حجاجيا وفق سلم حجاجي كالآتي:
المقدمة الكبرى: الانشغال بقضايا كبرى مقدمة على غيرها.
المقدمة الصغرى: تأخري كان سببه الانشغال بقضايا الأمة.
النتيجة: تأخري مبرر.
لكن هذا البناء الحجاجي الذي يشحن العبارة ويمنحها معاني أخرى ترتبط بسياق النصر والاحتفال، يساهم في تشييد الذات وبناء صورة الخطيب الذي يراكم الانتصارات ولا تلهيه لحظات الفوز ولذة الشهرة عن الاستمرار في القيادة. فهو منشغل بأمور يعرفها الناس ويقدرونها. وعندما يقول بالتقدير فذلك معناه أن الشعب والأمة راضية عما يقوم به ويشغله ويشتغل به. فهو بهذه الطريقة يوظف الاستراتيجية التضامنية التي تقوم على إشراك المخاطب وجعله في مرتبة مساوية للخطيب في التواصل الحجاجي المبني على المساواة في الرتبة والأهداف. ومثال ذلك من نص الخطبة: “وربما جاء يوم نجلس فيه معا لا لكي نتفاخر ونتباهى، ولكن لكي نتذكر، وندرس، ونعلم أولادنا..، نعم، سوف يجيء يوم نجلس فيه لنقص ونروي ماذا فعل كل منا في موقعه، وكيف حمل كل منا أمانته وأدى دوره..، لدينا اليوم من المشاغل والمهام ما يستحق أن نكرس له كل وقتنا وجهدنا.”
وارتباطا بسياق الكلام، وهو الانتصار في حرب أكتوبر على واحد من أقوى الجيوش المعادية، فإن اعتماد الاستراتيجية التضامنية أنسب في هذا المقام، لأن إشراك مجلس الشعب ومن خلاله الوطن والأمة في تحقيق النصر من شأنه أن يضاعف من الإحساس بالتميز والانتشاء بما تحقق بسبب تضافر الجهود. وكأن الرئيس يقول هذا انتصارنا جميعاً وما تحقق هو بسبب الانسجام بين القيادة الرشيدة والشعب المخلص لقائده، وأن مهاما ومشاغل أكبر في الأفق تتطلب أن نكرس وقتنا وجهدنا لتحقيق ذلك. ولأن هذا النصر مصيري للأمة الإسلامية وهو موضوع الخطبة، فإن إيتوس الخطيب مهم وأخلاقه وصورته في المخيال الجمعي ينبغي أن ترتقي إلى مصنف الأبطال الذين يخوضون في موضوع الحرب والسلام. ولذلك جعل هذه الثنائية الضدية في صدارة الخطبة فقال: “ولأن الحوادث كبيرة، ولأن التطورات متلاحقة، ولأن القرارات مصيرية، فأنني أريد أن أدخل مباشرةً فيما أريد أن أتحدث فيه معكم، وسوف أركّز على نقطتين؛ الحرب والسلام.”
ب- إيتوس الحكيم:
أما عن الحرب، فالقائد أعلن في الخطبة أنه لم يأت للتباهي والتفاخر لما قال: “لست أظنكم تتوقعون منّي أن أقف أمامكم لكي نتفاخر معًا ونتباهى بما حققناه في أحد عشر يومًا من أهم وأخطر، بل أعظم وأمجد أيام التاريخ.” وهذا الكلام فيه مفارقة مقبولة، فالرئيس جاء لكي يحتفل بالنصر، لكنه في المقابل يعلن أنه لم يأت للتفاخر. هذا التوجه لا يمكن اعتباره تناقضا في القول يهدم الحجة، لكنه من الحيل الأسلوبية التي تحد من غلواء الاندفاع والركون للوهم والإحساس بانتهاء المهمة. فالنصر خطوة إلى الأمام تتبعها خطوات أخرى، وأعمال شاقة لبناء الوطن ورص الصفوف وترسيخ قيم النصر في النفوس؛ فهو نصر عظيم، بل من أعظم وأمجد أيام تاريخ مصر، ولكنه درس ينبغي أن يستفيد منه الجميع لترصيد أعمال الأبطال الذين خرجوا من بطن مصر “ليحملوا مشاعل النور وليضيؤوا الطريق حتى تستطيع أُمّتهم أن تعبر الجسر ما بين اليأس والرجاء.”
ولا شك أن تهدئة الانفعالات واستثمار النصر في البناء ومد جسور الرجاء بعد هدم جسور اليأس هي من أعمال الحكماء الأبطال، لأن هذه الأشياء تحققت في الواقع، فبذلك يكون إيتوس الرئيس القائد يجسد صورة البطل الذي قاد جيوش النصر وحطم جسور اليأس. وصورة القائد الحكيم الذي يسعى إلى استثمار النصر في قطف ثمار الرجاء وتشييد جسور الأمل بعد اليأس، بعيدا عن الاستغراق في التفاخر الذي قد ينسي الناس عظم ما ينتظرهم وضخامة المسؤولية الملقاة على عاتقهم. وأما عن السلام: فهو السبب الأول للحرب. لقد خاض القائد هذه الحرب لأجل السلام، وهي مسألة تنضاف إلى حكمته وتبصره. فجاء في خطابه: ” إننا حاربنا من أجل السلام، حاربنا من أجل السلام الوحيد الذي يستحق وصف السلام، وهو السلام القائم على العدل، إن عدونا أحيانا يتحدث عن السلام، ولكن شتان ما بين سلام العدوان وسلام العدل.” وخلاصة التجربة الحكيمة التي توصل بها القائد الحكيم هي أن الحرب تكون لأجل السلام. وهي خيط رفيع يفصل بين العدل والعدوان. ولذلك ميز بين سلام العدوان القائم على التهديد والإرهاب، وسلام العدل القائم على المساواة في الحقوق والواجبات.
وهذه المقارنة ترتفع بالقول درجات في سلم الحجاج بالإيتوس، لأن الحرب والنصر لا ينبغي أن تغيب السلام والعدل، وما أشد الفرق بين الظالم والمظلوم، وما بين العادل والجائر. وعندما يضع الخطيب المخاطبين أمام هذه المقارنة فهو يسعى إلى إشراكهم في النتيجة. وكأنه يقول إن من الحكمة أن تستثمر نتائج الحرب الجائرة التي فرضت علينا وانتصرنا فيها في بناء السلام العادل. وهذه الخصلة في زمن النصر ومقام القوة تعلي من شأن القائد الذي يسعى إلى العدل وينبذ الطغيان وهو في مقام المنتصر القوي وتظهر حنكته وحكمته في الحكم والتدبير. وهذا هو ثمن السلام المخصب بالنصر. ومن الحكمة أن يحافظ الشعب على هذا الرأسمال الرمزي ولا يلطخه بالظلم والعدوان، وقد بلغ من العلو مرتبة كبيرة سجلها التاريخ للشعب المصري بعد نكسة سابقة. “إن التاريخ سوف يسجل لهذه الأمة أن نكستها لم تكن سقوطا وأنها كانت كبوة عارضة”. ويسجل أيضا أن انتصارها كان لأجل السلام ولأجل البناء وليس الهدم. ومن أجمل ما عبر به القائد في هذا السياق الدال على الحكمة والتبصر قوله: “إن الأمم لا تستطيع أن تكشف نفسها وجوهرها إلا من خلال الصراع.” وهو يريد لأمته أن تكون في مستوى الصراع الحضاري الذي يبني في الحرب والسلام ويجعل العدل قاعدة وليس الطغيان. فلا يمكن للأمة أن تحارب ضد الطغيان وتمارسه. وهذه هي قمة الحكمة، أن يكف المرء عن ممارسة الطغيان في مقام الانتصار على العدو الظالم. ويلخص ذلك قوله: “لسنا مغامري حرب، وإنما نحن طلاب سلام، أدرك العالم ذلك كله، وكان يتعاطف من قبل ذلك مع قضيتنا، واليوم زاد على تعاطفه معنا احترامه لتصميمنا”
ج- إيتوس المؤمن
ورد في نص الخطبة: “حاولت أن أفي بما عاهدت الله وما عاهدتكم عليه قبل ثلاث سنوات بالضبط من هذا اليوم، عاهدت الله وعاهدتكم أن قضية تحرير التراب الوطني والقومي هي التكليف الأول الذي حملته ولاء لشعبنا وللأمة، عاهدت الله وعاهدتكم على أن لا أدخر جهدا ولن أتردد دون تضحية.” وينضاف هذا العهد إلى البسملة في أول الخطاب كي يعكس صورة عن القائد المؤمن الذي يعرف الله ويعاهده ويفي بعهده. وفي هذا القول استحضار لقوله تعالى: “والموفون بعهدهم إذا عاهدوا”. (البقرة 177). وقد تكررت عبارة “عاهدت الله وعاهدتكم” في الخطبة سبع مرات، ولم يكن توظيف التكرار اعتباطيا بريئا، بل كانت الغاية منه تحريك انفعالات الشعب وإثارة عاطفته. وغير خاف، الدور المهم للتكرار في الإقناع فهو آلية حجاجية تسعى إلى التأثير والجذب والاستمالة من خلال التأكيد والإصرار والترسيخ.
ولا شك أن في استحضار القرآن الكريم والقاموس الديني بكثافة (ربنا كن لنا عونا- ربنا وبارك لنا في شعبنا- ربنا إنك وعدت ووعدك الحق..) في سياق النصر، وجعل ذلك نتيجة للوفاء بما عاهد القائد به الله، ما يدل دلالة واضحة على صورة المؤمن التي أراد الخطيب أن يمنحها لنفسه. فهو القائد المنتصر المؤمن وعلامة إيمانه وفاؤه بالعهد الذي قطعه على نفسه أمام الله وأمام الأمة أن يحرر الأرض ويصون العرض، فأوفى بما عاهد به. ولا غرو، فإن سبب الإقدام هو الالتزام أمام الله ومعاهدته على تحرير الأرض وعدم الرجوع والنكوص في ذلك. وهذا يدل على إيمان القائد بأن له رباً وقضية مقدسة هي في صلب المشاغل الدينية. لأن الدفاع عن الأرض والعرض من أوكد الأمور في الإسلام. والقائد المؤمن ينفذ ما أمر به الشرع ويفي بوعد قطعه على نفسه. فحقق بذلك تواشجا بين الدين والدنيا. أو لنقل بين ما يمليه الشرع على المؤمن من التزامات وما يقتضيه السياق الحربي من استراتيجيات واستعدادات للقتال. فالإيمان وحده لا يكفي. لكن الحرب تقتضي بالإضافة إلى عدالة القضية أن يستعد الجيش بالقوة.
د- إيتوس القوي المسالم.
فرق كبير بين البحث عن السلم في مقام الضعف والهزيمة وبين المسالم في مقام النصر. وقد سعى القائد إلى بناء ذاته وهو يسعى إلى السلم في زمن الانتصار. وفي معركة يراها درسا يجب أن يدرس في المعاهد العسكرية فقال: “ولست أتجاوز إذا قلت إن التاريخ العسكري سوف يتوقف طويلا بالفحص والدرس أمام عملية 6 أكتوبر”. ومع أن هذا الانتصار نوعي في شكله ومضمونه، فإن القائد المنتصر لا يريد أن يظهر بمظهر المتغطرس، بل بمظهر المسالم. ومما يؤكد قوة الجيش المصري قول الرئيس: “إنّكم عاهدتم وكنتم الأوفياء للعهد، وصادقتكم وكنتم أشرف الأصدقاء، وقاتلتم وكنتم أشجع المُقاتلين، لقد حاربتم حرب رجال، وصمدتم صمود أبطال“، وكان النصر نتيجة لهذا الصمود. لكن الحرب لم تكن مقصودة في ذاتها، بل كانت من أجل “السلام”، السلام العادل الذي لا يلتقي مع الطغيان.
ويقول في هذا الصدد القائد المسالم وهو في أوج القوة: “ولقد كان في وسعنا، منذ الدقيقة الأولى للمعركة، أن نعطي الإشارة، ونصدر الأمر، خصوصًا وأن الخيلاء، والكبرياء الفارغة، أوهمتهم بأكثر مما يقدرون على تحمّل تبعاته، لكننا نًدرك مسؤولية استعمال أنواع معيّنة من السلاح، ونردّ أنفسنا بأنفسنا عنها، وإن كان عليهم أن يتذكّروا ما قُلته يومًا، وما زلت أقوله؛ العين بالعين، والسن بالسن، والعنف بالعنف“. وقد رسم القائد لنفسه في هذا المقام صورة ناصعة تجمع بين الصرامة واللين، وبين الحرب والسلام، وتجنح للسلم وتدرك متى وكيف يستعمل السلاح، وتجعل للحرب هدفا واحدا هو تحقيق السلام وردع العدو وليس إبادته. ويختم هذا المحور بالقول: “إننا لم نحارب لكي نعتدي على أرض غيرنا، وإنّما حاربنا، ونحارب، وسوف نواصل الحرب، لهدفين اثنين: الأول، استعادة أراضينا المُحتلّة بعد سنة 67، والثاني، إيجاد السبيل لاستعادة، واحترام الحقوق المشروعة لشعب فلسطين.“ وفي كلتا الحالتين تكون الحرب مفروضة، وينتصر الجيش المصري في حرب أريد لها أن تخدم السلام وليس الطغيان.
3- الحجاج بالباتوس: جسور الأمل وعواطف الانتصار:
الباتوس هو كل ما يتصل بنوازع المتلقي، فالسامع يحظى في بلاغة الحجاج بأهمية كبيرة، لأنه المستهدف في العملية الإقناعية؛ إذ تكرس كل الأدوات لأجل الوصول إلى تغيير حال المتلقي، ودفعه إلى التفاعل مع مقتضى القول، مما يجعله مميزا عن بقية العناصر. وفي ذلك يقول هنريش بليت: “ففي النموذج البلاغي للتواصل يحتل متلقي الخطاب المقام الأول بدون منازع”[9]. وتبعا لذلك، يمكن اعتبار هذه الخطبة خطبة عاطفية بامتياز. فالمقام مقام انتصار على عدو من العيار الثقيل، كان قد اغتصب أرضا مصرية عام 1967 في معركة غير متكافئة. ثم جاءت حرب 1973 حقق فيها الجيش المصري نصرا كبيرا وانتقم لكرامته واسترجع أرضه. ومن شأن هذا النصر أن يبني جسور الأمل والرجاء بعد سنوات من اليأس والقنوط. ولهذا سعى القائد في خطابه الشهير أمام مجلس الشعب إلى إثارة نوازع الاحتفال والانتشاء في نفوس المخاطبين من خلال استعراضه لفصول المعركة وفنون الحرب والقتال وحجم التضحيات التي قدمت لتحرير جزء من أرض مصر.
أ- باتوس الإنسان المظلوم:
حاول أنور السادات أن يرسم صورة قاتمة للظلم الذي تعرض له الشعب المصري وذلك لأجل إثارة الغضب في النفوس وحملها على الفرح المضاعف لما تحقق. ذلك أن انتصار المظلوم على الظالم يبعث على الشعور بالارتياح والانتشاء. وقد كان القائد في حاجة إلى تسويق هذه المظلومية حتى يكسب تعاطف الجمهور ويعطي للنصر معنى آخر يتجاوز حدود كسب المعركة بعد تجارب مخزية مع عدو قوي. ووصف قوته بالقول: “إن سجل هذه القوات كان باهرًا، ولكن أعداءنا؛ الاستعمار القديم، والجديد، والصهيونية العالمية، ركّزت ضد هذا السجل تركيزًا مخيفًا، لأنها أرادت أن تشكك الأُمّة في درعها، وفي سيفها.. ولم يكن يغامرني شك في أن هذه القوّات المُسلّحة كانت من ضحايا نكسة 67، ولم تكن أبدا من أسبابها.“ وهذا القول يعني أن حرب عام 1973 كانت بسبب هزيمة 1967 التي لم تعط فيها الفرصة للقوات المصرية كي تقاتل، فقال: “إن هذه القوّات لم تُعط الفرصة لتحارب دفاعًا عن الوطن، وعن شرفه، وعن ترابه، لم يهزمها عدوّها، ولكن أرهقتها الظروف التي لم تُعطها الفرصة لتقاتل”
ليس هناك ظلم أقسى على الجيش من هزيمته دون أن يعطى فرصة للدفاع عن نفسه، ودون أن يتمكن من مقاتلة عدوه الذي باغته بضربة قاضية طغت على الطيران الحربي المصري على الأرض، وغدرت بالجيش المصري فجاءت الهزيمة الظالمة دون فرصة للقتال: “كان في استطاعة هذه القوّات سنة 67 أن تحارب بنفس البسالة، والصلابة، التي تحارب بها اليوم لو أن قيادتها العسكرية في ذلك الوقت لم تفقد أعصابها بعد ضربة الطيران التي حذّر منها عبد الناصر، أو لو أن تلك القيادة لم تُصدر بعد ذلك قرارًا بالانسحاب العام من سيناء بدون عِلم عبد الناصر أيضًا.” ولأن الضربة الجوية كانت غادرة والقيادة فقدت أعصابها كانت الهزيمة المخزية لجيش لم يعط الفرصة ليقاتل. ولو أعطيته لانتصر. والدليل أنه انتصر في حرب 1973 عندما أعطيت له الفرصة أمام العدو نفسه.
ب- باتوس العزة والكرامة:
الانتصار على العدو الغادر هو قمة ما يمكن أن يشعر المرء بالفرح والانتشاء. وتكاد كل فقرة من هذا الخطاب تضج بهذا الإحساس المثير والمرتبط بالعزة والكرامة. فالنصر غاية كل محارب وهو السبيل إلى الأمان وحفظ الأرض والعرض، وقد عمل الخطيب على تحريك هذه المشاعر في النفوس لعلمه بحجم الأضرار النفسية التي رافقت الهزيمة الظالمة. ولذلك سمي هذا الخطاب بخطاب النصر. وهو يشعر بالعزة والكرامة لأنه انتقام من هزيمة 1967 عندما دمرت القوات المصرية في ستة أيام، والتي كانت من أحلك أيام الأمة فجاءت سنة 1973 لتزيل ذلك الغم على القلوب، فجاء أنور السادات ليحتفل ويفتخر ويتباهى حتى وإن قال: “لست أظنكم تتوقعون منّي أن أقف أمامكم لكي نتفاخر معًا ونتباهى بما حققناه في أحد عشر يومًا من أهم وأخطر، بل أعظم وأمجد أيام التاريخ.”
إن هذه العبارة تقول شيئا وتضمر أشياء أخرى، فالقائد المنتصر يخبر مجلس الشعب أنه جاء يخاطبهم ليس لأجل الافتخار والتباهي، لكنه لا يلبث أن يصف هذا النصر بكونه من أهم وأخطر وأعظم وأمجد أيام التاريخ. وعندما يطلق هذه الأوصاف على الانتصار ويستعمل صيغ التفضيل على وزن “أفعل”، فإنه يعلن تفوق هذا النصر وأفضليته على غيره. وهذه المقارنة والتفضيل تجعله ضمنيا يفتخر به وفقا للبناء الحجاجي التالي:
المقدمة الكبرى: كلما كان النصر كبيرا كان شأنه كبيرا ومدعاة للافتخار.
المقدمة الصغرى: نصرنا من أهم وأخطر وأمجد الانتصارات.
النتيجة: نصرنا مدعاة للافتخار.
إن الإحساس بالفخر لا تغطيه الكلمات بل تفصح عنه. وقد اختار الخطيب من قاموس العزة والكرامة والنصر ما يتيح للمخاطب أن يشعر بفخر الانتماء لهذا الوطن. وأزال عن القلوب غم الهزيمة وثقل المذلة والهوان، وارتقى بها إلى سماوات العزة والشموخ، وهي في مجملها مجموعة من المشاعر العاطفية التي من شأنها أن تحرك مشاعر الإحساس بالنصر والامتنان للجيش في شخص قائده الأعلى. وكلها حجج عاطفية يقدمها الخطيب لضمان تعاطف المخاطب واقتناعه بالمنجز.
خلاصة:
يتضح من خلال هذه القراءة أن الموجه الرئيس لهذه الخطبة هو العواطف. وهذا النوع من الحجاج يكون دائما مرتبطا بهموم الجمهور ويجيب عن أسئلة يثيرها الوضع الخلافي المنشئ للحجاج. والسؤال هنا يتعلق بحدث هام يرتبط بالحاضر والمستقبل وبكرامة الإنسان العربي التواق إلى النصر. وما يميز هذا النوع من الخطابات هو طبيعة المقدمات التي ينطلق منها، لكونه يروم الدفاع عن حقيقة معينة ويستهدف الإقناع الذهني والتأثير العاطفي. ولذلك فإن مداره يكون هو امتحان القول مجال الممكن مع ما يستوجب ذلك من ليونة ومرونة مكنت الخطيب من توظيف اللغة الخطابية بشكل يجعلها تستوعب السياق وتثير العواطف وتتلاءم مع الأنماط المختلفة للجماهير وتستثمر فاعليتها الحجاجية.
—————-
الهوامش:
1- أرسطو: الخطابة، ت: عبد الرحمان بدوي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1959، مرجع مذكور، ص. 9.
2- محمد الوالي: مدخل إلى الحجاج: أفلاطون وأرسطو وشايم بيرلمان، ضمن مجلة عالم الفكر، ع:2، المجلد 40، أكتوبر/ دجنبر 2011، ص. 24.
3 – Philippe Breton -Gilles Gauthier: Histoire des théories de l’argumentation, éditions la Découverte, Paris, 2000, P.27.
4- يقول محمد العمري: “وقد اعتمد أرسطو في تصنيفه للخطابة اليونانية على حال المتلقي الذي اعتبره حكماً، ثم نظر، بعد ذلك إلى القضايا المحكوم فيها”. محمد العمري، في بلاغة الخطاب الإقناعي مدخل نظري وتطبيقي لدراسة الخطابة العربية، الخطابة في القرن الأول نموذجا، أفريقيا الشرق- بيروت، 2002، ص. 37.
5- الخطابة، ترجمة عبد القادر قنيني، افريقيا الشرق، 2008، ص. 6.
6- أرسطو: الخطابة، تر: عبد القادر قنيني، ص. 16.
7- أرسطو طاليس، الخطابة، ص: 81.
8-الخطابة، الترجمة القديمة، ص 103.
9- خطبة النصر لمحمد أنور السادات وهي موجودة على الموقع الإلكتروني الخاص به. ويرمز التشديد في هذه الورقة على كلام الخطيب. http://sadat.bibalex.org/Historic_Documents
10- هنريش بليت، البلاغة والأسلوبية نحو نموذج سيميائي لتحليل النص، تر: محمد العمري، أفريقيا الشرق- المغرب، (دط)، 199، ص: 24.