1- موضوع الأطروحة
موضوع الأطروحة النخبة المثقفة وأزمة السلطة في البلاد الإسلامية بين القرنين السادس عشر والثامن عشر الميلاديين: المغرب والدولة العثمانية نموذجا (دراسة مقارنة). وهي خلاصة وتتويج لسنوات من التكوين والبحث في إطار وحدتي التكوين والبحثالمغرب والعالم العربي الإسلامي والمتوسط والعالم الإسلامي. كما أنها استمرار لبحث تكميلي قدم لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في موضوع أزمة السلطة في البلاد الإسلامية بين القرنين السادس عشر والثامن عشر: دراسة مقارنة بين المغرب والدولة العثمانية، والذي اهتدينا فيه إلى حصر البحث في دراسة النخبة المثقفة والأزمة. وقد تعززت لدينا قناعة الإهتمام أكثر بهذا الموضوع بعد اشتغالنا، إلى جانب مجموعة من الزملاء الباحثين من وحدة التكوين والبحث المتوسط والعالم الإسلامي، على رقن موسوعة قاموس الأعلاملشمس الدين سامي. إذ سمح لنا ذلك بالتعرف على شبكة مهمة من رجال النخبة المثقفة العثمانية وعلى دورها في الحياة السياسية، خاصة في فترة الأزمة.
والأطروحة إسهام في تخصص الدراسات المغربية العثمانية، الذي توطد في الجامعة المغربية بفضل البحوث والدراسات الأكاديمية والأطروحات الجامعية المناقشة.
واذا كانت أهم الأعمال الجادة والمتميزة في هذا التخصص قد انكبت على دراسة العلاقات العثمانية المغربية من خلال دراسة معمقة ودقيقة لوثائق الأرشيف العثماني، فإن هذا البحث يسعى إلى توسيع وتنويع مجال التخصص، باقتراح مقاربة التاريخ السياسي والاجتماعيالمقارن، والتركيز على النخبة المثقفة التي تستمد مشروعيتها من المنظومة الإسلامية، واستعراض مشاريع الإصلاح والتحديث المقترحة في زمن مشبع بالأزمات سياسية، ورصد القواسم المشتركة والخصوصيات المميزة. وتستند هذه المقاربة بالأساس على دراسة متون وأدبيات النخبة المثقفة بلغاتها الأصلية وأبرزها العثمانية- التركية.
2-إشكالية الأطروحة
شغلتنا في ثنايا الأطروحة إشكالية مركزية تستمد مقوماتها من التاريخ السياسي، والتي لازالت حاضرة في راهن العالم الإسلامي. وقد حاولنا استجماع الخيوط الناظمة لهذه الإشكالية في صيغة النخبة المثقفة: سؤال الأزمة والإصلاح في البلاد الإسلامية بين القرنين 16 و18م: مقاربة تاريخية مقارنة بين المغرب والدولة العثمانية، أي دور المثقف في تشخيص الأزمة التي عرفتها مؤسسات البلاد وفي تقديم الحلول الكفيلة بتجاوزها خلال الفترة المدروسة.
وقد فككنا إشكالية البحث المركزية إلى أسئلة فرعية، منها: كيف كانت النخبة المثقفة تتصور مسببات الأزمة ومظاهرها في كل من المغرب والدولة العثمانية؟ ولماذا كانت أزمة السلطة تتجدد باستمرار في البلدين؟ وما هي الحلول والمشاريع التي تقدمت بها النخبة المثقفة لتجاوز الأزمة وتحقيق الإصلاح والتحديث؟ وكيف تطورت تصوراتها من دعوات إصلاحية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر إلى مشاريع حقيقية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؟ وهل نجحت السلطة السياسية في ترجمة مشاريعها إلى حلول عملية كفيلة بتجاوز الأزمة؟ وكيف كان مآل مشاريع الإصلاح والتحديث في البلاد الإسلامية؟
اعتمدنا في مقاربة هذه الإشكالية على المنهج المقارن، بتوظيف ثلاثة مرتكزات أساسية ذات ارتباط وثيق فيما بينها، وهي: المسارات والإنتاجات والتصورات.
وقد تتبعنا في المرتكز الأول مسارات النخبة المثقفة في البلاد الإسلامية، مما مكننا من تتبع إنتاجاتها في موضوع الأزمة ورصد تصوراتها لها ومعرفة ما عرضته من حلول لتجاوزها. ووظفنا مفهوم المسارات للدلالة على مسالك سير النخبة المثقفة، وعلى أصولها الاجتماعية والجغرافية، وعلى هوياتها المتميزة، وعلى تكوينها العلمي والإداري والسياسي، وعلى الوظائف المدنية والسياسية والعسكرية التي شغلتها. وقد ساعدنا البحث في هذا المسار على فهم دور التكوين والتخصص في صياغة الإنتاجات ومعالجة الأزمة من موقع الخبرة والمسؤولية.
وعرفنا في المرتكز الثاني، أي مرتكز الإنتاجات، بأهم إنتاجات النخبة المثقفة حول الأزمة، وخاصة برسائل الإصلاح السياسي والكتابة التاريخية والتقارير السفارية. وكان هدفنا من هذا التعريف إبراز التطور والتجديد الذي عرفته تلك الكتابات بين القرنين 16و18م، وكذا الاعتماد عليها في استخلاص التصورات.
وشكل مرتكز التصورات صلب الأطروحة، حيث قمنا فيه بتحليل واستقراء مختلف الانتاجات لاستنباط تصورات النخبة المثقفة لمسببات الأزمة ومظاهرها والحلول المناسبة لتجاوزها. وكشفنا في هذا المرتكز عن الصيرورة التي تم بها تصحيح وتجديد التصورات بموازاة مع تجدد الأزمة. ثم أبرزنا كيف وقع التحول في تلك التصورات، بالانتقال من تصورات تقليدية إلى تصورات “حداثية تجديدية” شكلت صلب مشاريع التحديث التي رفعتها النخبة المثقفة إلى السلطة.
وتجسدت نتيجة المرتكزات في مشاريع الإصلاح والتحديث. وتشكل ثمار تصورات النخب المثقفة، التي تطورت من دعوات إصلاحية خلال النصف الثاني من القرن السادس عشر إلى مشاريع حقيقية للتحديث خلال القرن التاسع عشر. وقد نجحت في تجاوز بعض الأزمات، وكان بإمكانها الاستمرار لو توفرت لها الشروط التاريخية المناسبة.
3- المادة المصدرية
تنوعت المادة االمعتمدة في هذا العمل، والمكونة من وثائق الأرشيف والمصادر والمراجع والدراسات الحديثة باللغات المختلفة العربية والعثمانية- التركية والفرنسية والإنجليزية. وقد تعاملنا بحدر مع غير المكتوب باللغة العربية، أثناء عملية الترجمة، تفاديا لتحريف المعنى. كما وضعنا نظرة عامة تفصيلية عن المادة المعتمدة في مقدمة الأطروحة.
وقد اعتمد هذا العمل على مادة وثائقية أرشيفية متنوعة. منها وثائق الأرشيف التونسي الموجودة ضمن السلسلة التاريخية والتي غطت القرنين السابع عشر والثامن عشر، والتي تم توظيفها في إبراز جدلية أزمة المركز العثماني بالولايات، ودور الجباية في الأزمة، وكذا في ابراز علاقات ولاية تونس بالمغرب خلال فترة الأزمة. ومنها وثائق أرشيف رئاسة الوزراء بإستنبول، والتي تم الإستناد اليها في توضيح دور السلطة السياسية في تجاوز الأزمة وتحديث الدولة من خلال مشاريع تعميم تدريس اللغات الأجنبية والإصلاحات العسكرية. كما تنوعت باقي المصادر المعتمدة في هذا العمل، بين كتب التراجم والتاريخ ورسائل الإصلاح والتقارير السياسية.
4- مضامين الأطروحة
بينا في الباب الأول أصول النخب المثقفة، ومكانتها الاجتماعية، ومساراتها العلمية، ومهامها الوظيفية، ودور هذه المسارات في تشخيص الأزمة بدقة والبحث عن حلول لها اعتمادا على الخبرة والتخصص. وأبرزنا علاقة النخبة المثقفة بالسلطة السياسية، ودورها في تجاوز الأزمة، ثم دور المنافسة والصراع بين النخب في تكريسها. وبحثنا في إنتاجات النخبة المثقفة حول الأزمة في كل من المغرب والدولة العثمانية. وركزنا على رسائل الإصلاح السياسي والكتابة التاريخية والتقارير السفارية، مبرزين بمقاربة مقارنة التطور الذي عرفته الرسائل بين القرنين 16 و19م، وموضحين منهجية المؤرخين العثمانيين والمغاربة في معالجة الأزمة، ومعرفين بإنتاجهم في هذا الباب. ووقفنا على أهمية التقارير السفارية والسفارات في البحث عن حلول جديدة لتجاوز الأزمة، وأشرنا إلى التحولات الطارئة على أهدافها.
وبينا في الباب الثاني تصورات النخبة المثقفة لمسببات الأزمة ومظاهرها، سواء تعلق الأمر بالأزمة الداخلية بين المركز والولايات أو الأزمة الخارجية بين الداخل والخارج. و ركزنا على تصورات النخبة المثقفة للإصلاح العسكري والإداري والسياسي والمالي. وخلاصنا إلى انتقال حلول النخبة المثقفة لتجاوز الأزمة من المستوى النظري إلى التطبيق، بحيث تتبعنا كيف تمت ترجمت تصورات النخبة المثقفة من قبل السلطة السياسية إلى مشاريع تحديثية مهمة، من أهمها مشروع تحديث المؤسسة العسكرية والمالية والإدارية، ومشروع المعرفة الجديدة، ثم مشروع المطبعة ودوره في تجاوز الأزمة. كما أحصينا العوامل والأسباب التي حالت دون نجاح مشاريع الإصلاح والتحديث، وأدت إلى استمرار الأزمة. وقدمنا شهادات بعض الدارسين حول الموضوع.
5- خلاصات ونتائج
سعينا في هذا العمل إلى كشف النقاب عن موضوع النخبة المثقفة وأزمة السلطة في المغرب والدولة العثمانية بين القرنيين السادس عشر والثامن عشر، مركزين على دراسة مسارات النخبة المثقفة وكتاباتها وتصوراتها لمسببات الأزمة ومظاهرها وحلولها المقترحة لتجاوزها.
وقد مكننا استقراء وتحليل مختلف إنتاجات النخبة المثقفة من تكوين نظرة عن تصوراتها. وقد تبين لنا أن تلك التصورات تطورت وتجددت تبعا لتجدد الأزمة، وهو ما أثمر مشاريع إصلاحية وتحديثية مهمة اختلفت زمنيا بين المغرب والدولة العثمانية.
وقد جاءت نظرة رجال النخبة المثقفة للأزمة نظرة دقيقة، حيث حددت مسببات الأزمة الداخلية في مشاكل الجيش والجباية وتدخل الحريم في السلطة وطبيعة التركيبة الاجتماعية، ورصدت مظاهرها في الفساد السياسي والإداري والمالي الذي لحق مختلف مؤسسات البلاد وكان له انعكاس على دواليب ومصالح الإدارة المركزية والمحلية.
لقد استوعبت النخبة المثقفة جدلية أزمة السلطة المركزية مع الولايات وحددت العوامل التي كانت وراءها. ومنها الأزمات السياسية المترتبة على انتقال السلطة، والسياسة الجبائية والتعسف في استخلاصها، مما ساهم في تراجع موارد الخزينة وأدى إلى تمردات في صفوف الجيش والأهالي. وترتب على هذا الوضع المأزوم تحول العلاقة بين السلطة المركزية والولايات والأقاليم التابعة إلى علاقة “موجودة الاسم معدومة الجسم” على حد تعبير رجال النخبة المثقفة.
وأكدت وثائق الأرشيف ما ذهبت إليه النخبة المثقفة حول جدلية أزمة المركز والولايات، حيث أوضحت بداية تفكك العلاقة بين السلطة المركزية العثمانية وباشوات وبايات تونس خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، والتوجه نحو الانفصال الفعلي خلال القرن التاسع عشر. والشاهد على ذلك سعي بايات تونس إلى ربط علاقات دبلوماسية وسياسية مع سلاطين المغرب، و مراهنتهم عليهم لتجاوز الأزمة بدل التوجه للباب العالي، مما يؤشر على السلطة المعنوية التي تمتع بها هؤلاء السلاطين في الولايات المغاربية.
ولم تستشعر النخبة المثقفة والسلطة السياسية الاختلال في العلاقات الدولية وامتدادات الأزمة الخارجية إلا خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، حيث سعت إلى تصحيح وتجديد التصورات بمعرفة ما كان يجري في العالم الأوربي والاستفادة منه لتجاوز الأزمة الداخلية. وأبرز مثال على ذلك المشروع الذي تقدم به إبراهيم متفرقة بخصوص الإصلاح السياسي والعسكري ودعوته لتبني “النظام الجديد” بالانفتاح على الدول الأوربية، ومشروع “جيش النظام” الذي تم الاعتماد فيه على عدد من الخبراء الذين وضعوا معالمه الكبرى ومنهم محمد خواجة التونسي.
ولم تأل النخبة المثقفة جهدا في البحث عن مشاريع إصلاحية وتحديثية قدمتها للسلطة لتجاوز الأزمة الداخلية والخارجية. وقد ظهر ذلك مع رجال النخبة المتخصصين، بدءا من حاجي خليفة وإبراهيم متفرقة ومحمود رئيف أفندي(الإنجليزي) وسيد مصطفى في الدولة العثمانية، وأبي القاسم الحجري ومحمد خوجة التونسي ومصطفى المشرفي في المغرب، والذين دعوا إلى ضرورة تحديث الخطط والمؤسسات العسكرية والإدارية والسياسية والمالية من أجل تجاوز الأزمة الداخلية.
وهكذا ومن أجل إنجاح عملية الإصلاح والتحديث، تم تبني مشاريع مهمة أبرزها تعميم المعرفة الجديدة التي ركزت على الاهتمام باللغات والترجمة وإعطاء الأولوية للعلوم التطبيقية مثل الرياضيات والجغرافية. وقد كان لمشروع المطبعة المتميز دور جبار في نشر أفكار ومبادئ “الحداثة والتجديد” وإحداث تغييرات جذرية في تصورات النخبة المثقفة والسلطة السياسية على حد سواء. وكانت النتيجة ترجمة تلك التصورات إلى مشاريع وبرامج واقعية هادفة إلى تحديث بنيات المؤسسات السياسية والعسكرية والمالية والإدارية. وقد اتضح ذلك في عهد كل من السلطان سليم الثالث ومحمود الثاني في الدولة العثمانية، ومع جهود السلطانين محمد الرابع والحسن الأول التحديثية في المغرب.
والملاحظ تبني النخبة المثقفة والسلطة الس
ياسية في المغرب “التجربة العثمانية” في الإصلاح والتحديث من أجل تجاوز الأزمات التي عرفتها البلاد مند القرن السادس عشر، حيث ثم استقدام “الحداثة العثمانية” لإصلاح الخلل الذي عرفته الخطط العسكرية والإدارية والمالية والسياسية.
لقد واجه تطبيق مشاريع الإصلاح والتحديث في البلدين تحديات داخلية وأخرى خارجية، كان أبرزها الصراع بين النخب التقليدية المناصرة “للنظام القديم” والمعارضة لأي انفتاح على الغرب، وبين النخب المتنورة التي تبنت “النظام الجديد” وآمنت بالتحديث والتجديد كضرورة لتجاوز الأزمة. وقد ساهم الصراع في تعميق الأزمة وتفويت فرص التحديث وإجهاض تجارب الإصلاح. كما أسهم العامل الخارجي في استمرار الأزمة، لأن الدول الأوربية كانت ترى في مشاريع الإصلاح والتحديث تهديدا لها ولمصالحها في الدولتين العثمانية والمغرب، لذلك لجأت إلى عرقلة تلك المشاريع مما أدى إلى استمرار الأزمة في البلاد الإسلامية.
موضوع مهم جدا أستاذ عبد الحي الخيلي .. أتمنى أن يسعفني الحظ وأقرأ أطروحتك في القريب العاجل
مزيدا من النجاحات
تحية للاستاد الخيلي مقال ممتاز نتمى لك مزيدا من التألق العلمي