تعززت المكتبة الوطنية بإصدار مهم من تأليف محمد جادور حول مؤسسة المخزن في تاريخ المغرب ضمن سلسلة أبحاث لمؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدرسات الإسلامية والعلوم الإنسانية بالدار البيضاء سنة 2011م. والكتاب في الأصل أطروحة جامعية نوقشت برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط يوم 6 يوليوز 2004م، وقد نال بها المؤلف شهادة الدكتوراه في التاريخ بميزة مشرف جدا مع توصية بالنشر.
ويعد هذا العمل بحق إضافة نوعية في حقل التاريخ والعلوم الإنسانية نظرا لطبيعة الموضوع المدروس والذي يسلط الضوء على مكون أساسي من مكونات الدولة المغربية ألا وهو “جهاز المخزن”، حيث كان ولا يزال مثار اهتمام من طرف الدارسين والباحثين المغاربة والأجانب في مختلف التخصصات1، سواء على مستوى المفهوم والممارسة في الواقع السياسي المغربي أو حول ضرورة إصلاح وتحديث هذا الجهاز خاصة في ظل التحولات السياسية العميقة التي يجتازها المغرب والعالم العربي الإسلامي في خضم الربيع العربي وما بعده.
وتكمن أهمية هذا الكتاب من خلال الموضوع المعالج “مؤسسة المخزن” والمنهج المعتمد، ثم المادة العلمية والمصدرية، وكذا من خلال الإشكالية المدروسة والنتائج والخلاصات المتوصل إليها والتي كانت عصارة سنوات من البحث العلمي الأكاديمي الرصين للمؤلف والذي أخرج لنا هذا العمل المتميز.
1- أهمية الموضوع وهندسة الكتاب:
تعالج هذه الدراسة بدقة “مؤسسة المخزن” إنطلاقا من تجربتين في الحكم وهي تجربة السلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي (1578/1603م) والسلطان العلوي المولى اسماعيل (1672/1727م)، وتعرف بمفهوم المخزن وماهيته وسياقات استعمالاته، كما تدرس تطور هذه المؤسسة وعلاقتها بالرعية، وتبحث في مظاهر الإستمرارية والقطيعة التي ميزت أجهزتها ومرتكزاتها، ثم توضح الثوابت والتحولات في هياكلها وبنياتها، وذلك إستنادا على القاعدة المادية للسلطة المخزنية في عهد السلطانين مثل مؤسسات الجيش والإقتصاد والسياسة والشؤون الدينية وغيرها. غير أن ما يميزها أيضا هو تفكيك الأبعاد الرمزية للحضور المخزني ودلالتها العميقة سواء بالنسبة لعلاقة المخزن بالرعية أو في علاقاته الخارجية.كما تكشف العوائق التي حالت دون استمرارية ونقل التجارب الناجحة من السلف إلى الخلف.
لقد جاء هذا الكتاب في ثلاثة أقسام بعد المقدمة والمدخل. فقد بين المؤلف في مدخل هذا العمل المقاربات النظرية المتعلقة بالجانب المفاهيمي لمصطلح المخزن والفرق بينه وبين مفهومي الدولة والسلطة.
أما القسم الأول فقد جاء موزعا إلى ثلاثة فصول، تناول في الأول منه مقاربة شخصية السلطانين أحمد المنصور والمولى إسماعيل وأسرار قوتهما من خلال الخطاب الإستوغرافي الذي جمع بين الأسطورة والخيال، كما بين فيه ظروف النشأة والتجارب المكتسبة قبل توليتهما دفة الحكم. وأفرد الفصل الثاني لتوضيح أشكال الحضور المخزني المادي، حيث وقف عند دواعي تبني السلطانين للآليتين العسكريتين وبحث عن مدى حضور البعد الإستراتجي في سياستهما العسكريتين، وانتقل إلى مقارنة الإدارة المخزنية من خلال محاولة فهم مكونات بنياتها على المستويات المركزية والجهوية والمحلية. وقد عالج في الفصل الثالث الحضور الرمزي للمخزن ومدى إسهامه في ترسيخ مشروعية السلطانين، وذلك من خلال دراسة الطقوس الإحتفالية خلال الأعياد والمناسبات الدينية وما واكبها من كرم، وعند مراسيم البيعة واستقبال المبعوثين الأجانب أو الرعايا. كما تطرق إلى الأنساق التنظيمية التي روعيت في المواكب المخزنية والدلالات الرمزية التي حرصت على إظهارها إما من خلال المناسبات الرسمية أو في إطار “الحركات” كتعبير عن الأبعاد الثقافية المستمدة من المرجعيتين الدينية والسياسية. وقد ختم هذا القسم بتناول الحضور الرمزي الثابت والمتجسد في البناء والترميم من أجل إبراز مظاهر الإستمرارية في سياسات السلطانين ونوعية المضامين التي اختزلها المعمار كوسيلة من وسائل التأثير التي تبرز العظمة والقوة.
لقد خصص القسم الثاني لتتبع آليات الممارسات المخزنية وأبعادها في المجالات الدينية والسياسية والإقتصادية والدبلوماسية، حيث ناقش في الفصل الأول طبيعة العلاقات التي ربطت المخزن بالقوى الدينية، وقد تساءل عن الأدوار التي تكفل بها العلماء، وعن الأسباب التي كانت تقف وراء عزوف أغلبهم للدخول في الخدمة المخزنية وعن الوسائل التي استعملها المخزن لإستقطابهم أو للضغط عليهم. كما قارن بين سياسة السلطانين تجاه الزوايا بهدف فهم الآليات المفسرة لها والتدابير المتخذة تجاههم. أما الفصل الثاني من القسم الثاني فقد وقف من خلاله المؤلف عند العوامل التي تحكمت في إنتقال السلطة وخاصة قضية المشروعية التي أثقلت كاهل السلطانين معا، في حين بين في الفصل الثالث مظاهر تحكم المخزن في البنيات الإقتصادية، كما وضح بعض الآليات التي مكنت من تدبير الدبلوماسية المخزنية.
بحث المؤلف في القسم الثالث من هذا الكتاب مضامين مفهوم المخزن وأبعاده من خلال تجربة السلطانين في الحكم، حيث بين السياق الذي تبلورت فيه “مؤسسة المخزن” ومدى تجسيدها للدولة، كما وقف على ما عبر عنه بالتمثلات الجمعية عن هذه المؤسسة وإستنادا على ما خلفته الكتابات الإخبارية. وختم هذا العمل بفصل خصصه لمضامين ومفهوم المخزن إعتمادا على أسس الحكم لدى السلطانين للمقارنة بينه وبين المسار الذي اتخذته مؤسسات السلطنة العثمانية والملكيات المطلقة في أوربا، وخلص إلى إبراز مكامن الخلل التي اعترت السلطة المخزنية على جميع المستويات والتي شكلت عائقا حال دون إستمرارية “المركزة” التي سعى إليها السلطانين.
2- منهج الدراسة والمادة العلمية المعتمدة:
تميز هذا الكتاب برصانة المنهج وقوة اللغة وتنوع المادة العلمية المعتمدة وهو ما يشكل بحق صلب العمل الأكاديمي الجامعي الرصين.
لقد توفق المؤلف في اعتماد المنهج المقارن2 في دراسته لمؤسسة المخزن من خلال تجربتي السلطانين أحمد المنصور والمولى إسماعيل، وقد سلك في ذلك مسلكا ليس باليسير حيث اختار تجنب الطريقة الكلاسيكية في المقارنة بتقسيم الدراسة إلى قسمين أحدهما مخصص لتناول مخزن المنصور، والثاني لمخزن المولى اسماعيل، ثم الخروج بخلاصات واستنتاجات في ختام الدراسة، بل اعتمد طريقة موضوعاتية تتبع خلالها جهاز المخزن طيلة فصول الدراسة باعتباره مؤسسة واحدة،كما أبرز أوجه التشابه والإختلاف في عهد كل من السلطانين دون إشعار القارئ بوجود تباين بينهما، وهو ما يبرهن بالفعل على أن المؤلف مالك لناصية المنهج الذي اعتمده في دراسته والذي مكنه من الخروج بخلاصات ونتائج جد مهمة.
تنوعت المادة العلمية التي اعتمدها المؤلف بين المصادر والمراجع العربية المخطوطة والمطبوعة، ووثائق الأرشيف ثم المصادر والمراجع والدراسات الأجنبية.
فقد توزعت المصادر المعتمدة في الدراسة بين المؤلفات التاريخة التقليدية وكتب التراجم، والوثائق الرسمية الصادرة عن السلطة المخزنية وأهمها المخطوطات المحفوظة في الخزانتين العامة والحسنية ومديرية الوثائق الملكية ثم المكاتبات والرسائل السلطانية الموجهة إلى أبناء السلطانين وخدامهما والتي نشرها كل من عبد الله كنون وعبد الوهاب بنمنصور. ولتغطية الخصاص في تلك الوثائق لجأ إلى المصادر الدفينة لتاريخ المغرب خاصة السلسلتين السعدية والعلوية. لم يكتف صاحب الكتاب بتلك المادة بل انفتح على الأرشيف الأوربي حيث استفاد من الأرشيف العام لسيمانكس والذي وفر له كما مهما من الوثائق المتعلقة بالمرحلة السعدية أغلبها باللغة الإسبانية وبعضها باللغة العربية أو مترجم من اللغة العربية إلى الإسبانية. كما استفاد من وثائق الأرشيف الهولندي خاصة سلسلة الأقاليم المتحدة والتي غطت مرحلت ما بعد وفاة المنصور والصراعات بين أبنائه، وكذا بعض الرسائل التي تبادلها المولى اسماعيل مع عماله في المنطقة الشمالية والتي تمحورت حول قضايا التجارة والجهاد بثغر سبتة وافتداء الأسرى.
وقد ساهمت وثائق الأرشيفين في تجاوز الفقر الذي اتسمت به المصادر المغربية خاصة فيما يخص علاقات المخزن الخارجية.
انفتح المؤلف على حقول معرفية أخرى أثناء دراسته لموضوع المخزن خاصة علم الإجتماع السياسي لفهم الإستفهامات والتشعبات التي يطرحها مفهوم المخزن وإدراك ماهيته، وتحديد أوجه التشابه والإختلاف بين التجريبتين المدروستين، ثم لتفكيك الأبعاد المادية والرمزية لهذه المنظومة، غير أنه كان على وعي بعمل المؤرخ الذي يلتزم بالتريث وعدم التسرع في اطلاق الأحكام، والإتجاه نحو التعيين والتخصيص بذل السقوط في التعميم.
3- إشكالية الموضوع والنتائج المحصل عليها:
سعى هذا العمل إلى دراسة تطور المخزن باعتباره جهازا وعلاقاته بالرعية من منظور مقارن، وحاول المؤلف من خلاله البحث عن مظاهر الإستمرارية والقطيعة في ركائزه وممارساته وعن الثوابت والتحولات في بنياته، وطرح أسئلة عميقة حول المكونات البنيوية لجهاز المخزن وتطورها في الزمن وأهم التقاطعات التي جمعت بين الجهازين في العهد السعدي والعلوي، وأوجه الربط بين التجربتين، ثم مدى استفادة المخزن في عهد السلطانين من تراكم التجارب على المستويات السياسية والعسكرية والإدارية والإقتصادية، ثم حول قدرة وتمكن المخزن من خلق “مؤسسات قارة” وقادرة على تجاوز الأزمات التي أعقبت وفاة السلطانين، كما تساءل عن كيفية تنظيم الحكم والسلطة ومدى ارتباط ذلك بشخصية السلطانين أكثر من ارتباطه بالبنيات المخزنية القارة.
لقد تمكن المؤلف من الخروج بخلاصات مهمة حيث نجح في تفكيك بنية المخزن على امتداد حكمي سلطانين قويين، وقد مكنه المنهج المقارن من استخلاص ماهو ثابت وما هو متغير انطلاقا من قراءة اتخدت من المحددات التاريخية مرجعية لها.
فقد درس المقومات الشخصية للسلطانين على اختلافهما استنادا على بعدين، الأول مادي كان أساسه تأسيس جيشين محترفين من أجل تدعيم تمركز السلطة واعتماد إدارة مخزنية اتخذت من الجباية وإعادة هيكلة المجال أهم أولوياتها، والثاني رمزي سعى من خلاله المخزن لإبراز القوة والأبهة والعظمة للتعبير عن التفوق وتجسيد سلطة التحكم في المجال. كما استنتج الروابط التي جمعت المخزن بالمكونات الدينية خاصة العلماء والزوايا والأشراف والتي كانت تهدف إلى تقوية الهياكل السلطانية.
لقد تبين للمؤلف أيضا من خلال البحث في بنيات المخزن أن مسألة المشروعية ارتبطت في شكلها ومضمونها بعدم وجود قاعدة مضبوطة لتعاقب الحكم في ظل تعدد الأمراء وتباين مؤهلاتهم وطموحاتهم السياسية وهو ما أدى إلى تجذر مشكل انتقال السلطة في سياسة السلطانين. أما في الجانب الإقتصادي فقد سلكا سياسة قائمة على الإحتكار والتعامل مع التجار الأجانب بدل تشجيع تجار المدن المحلية التي عانت من هيمنة المخزن على أنشطتها التجارية.
بعد تحليله لمفهوم المخزن خلص إلى ضرورة التريث في إعطائه مفهوم الدولة بل اعتبره بنية خاصة تنطلق من السلطان وتعود إليه، وهي متعددة الوظائف يتداخل فيها السياسي بالديني والمادي بالرمزي. كما أبرز العوائق والتحديات التي حالت دون الإستفادة من التراكمات المحققة، وأبرزها ما هو طبيعي مثل الكوارث الطبيعية التي انعكست سلبا على الأوضاع الإقتصادية، وما هو سياسي مثل إشكالية ولاية العهد وانتقال السلطة، ثم دور الجيش في عدم توفير الأرضية المساعدة على تنظيم إدارة قادرة على تحقيق النمو الإقتصادي، هذا إلى جانب الخصاص التقني في مجال الفلاحة والصناعة والمواصلات.
إن مقارنة جادور لمخزن أحمد المنصور السعدي بمخزن المولى اسماعيل اعتمادا على الوثائق والكتابات الإخبارية جعله يبين أن هناك ثوابت مشتركة تدل على مفهوم الإستمراية في نظام الحكم في المغرب من خلال إصرار السلطانين على فرض الأمن والإستقرار، غير أن الحصيلة كانت سلبية أدت إلى القطيعة وعدم استفادة المخزن من تراكم التجارب السابقة. كما أن المقارنة لم تكن تعني دائما أن تجربة المخزن في عهد السلطانين كانت متشابهة في جل حيثياتها بقدر ما أوحت بذلك نمطية الخطاب الإستوغرافي، وما يبرهن على ذلك محدودية الإستفادة وأخذ العبرة من أحداث الماضي من طرف السلطة المخزنية.
إن هذه القراءة التعريفية التي قدمناها للكتاب لا تكتمل في اعتقدنا دون التنبيه إلى بعض الملاحظات المنهجية والعلمية والتي لا تنقص من هذا العمل المتميز شيئا، ويمكن أن نجملها في الملاحظات التالية:
– إن أول مايثير الإنتباه في هذا الكتاب هو العنوان وعلاقته بالمتن، فالقارئ لمتن المؤلف يدرك أن الأمر يتعلق بدراسة المخزن المغربي خلال العصر الحديث من خلال تجربة السلطانين أحمد المنصور والمولى اسماعيل أكثر من تركيزه على “مؤسسة المخزن في تاريخ المغرب”، وهو ما يقودنا إلى ملاحظة أخرى حول “ماهية المخزن” وسياق تشكل هذه المنظومة وأصولها الأولى، والذي يحتم ضرورة الرجوع إلى الفترة الوسيطية بشكل أساسي في مدخل هذه الدراسة3 وإبراز امتداد هذه المنظومة خلال الفترة الحديثة وما بعدها.
– لقد نجح المؤلف في تفكيك “بنيات المخزن” خلال المرحلتين وتراتبيتها الإدارية والسياسية المركزية والجهوية والمحلية، كما بين أدوار النخب المخزنية أو ما عبر عنه ب”خدام المخزن” في توطيد علاقة المخزن بالرعية وبسط نفوذه ومراقبته للمجال والإقتصاد. غير أن ما يحتاج إلى مزيد من التوضيح هو استجلاء تصورات تلك النخب لمفهوم الحكم، وتدبير شؤون البلاد. وهو ما كان يتطلب تسليط الضوء عن هويات هؤلاء النخب وتكوينهم ومهامهم الوظيفية وتصوراتهم المختلفة ودور ذلك في هندسة السياسة السلطانية الداخلية والخارجية4.
– بين المؤلف سياسة المخزن من أجل مراقبة المجال وضمان مداخيل مالية وجبائية لخزينة الدولة، وبسط الأمن والإستقرار من خلال التحالف مع القبائل أحيانا والمزاوجة بين أسلوبي الزجر والرأفة لضمان الطاعة، والقيام بتجريد “الحركات” في حالة العصيان والرفض للسياسة المخزنية. لكن من الأجدر أيضا كشف الإنعكاسات السلبية لتلك السياسة المخزنية، والتي تسببت في خلق أزمات دورية داخلية، وفي حدوث أزمات دولية كان صلبها النزاع من أجل التحكم في المجال الترابي والسيادة عليه، ومن أبرز تجليات تلك الأزمة توتر العلاقات السياسية بين سلاطين المغرب وأتراك الجزائر والباب العالي حول السيادة على المجالات الحدودية الشرقية مثل منطقة فكيك5.
– درس جادور في الفصل الأول من القسم الأول مسار السلطانين من خلال النشأة والتجارب المكتسبة والتي أسهمت في تقوية الحظور المادي والرمزي لجهاز المخزن، حيث بين آثار عبد الملك المعتصم وانفتاحه على صقل شخصية أحمد المنصور، غير أن المهم في هذا التلاقح في نظرنا يكمن في توضيح مدى القطيعة أو الإستمرارية بين سياسة الرجلين. هل كانت سياسة المنصور استمرارا لسياسة المعتصم؟ أم أن أحمد المنصور أسس سياسة مناقضة لمشروع أخيه الذي كان يسعى لتحديث المخزن المغربي6؟
– أفلح المؤلف في توضيح معالم الإصلاح والتحديث في “مؤسسة المخزن” خلال عهدي السلطانين أحمد المنصور والمولى اسماعيل خاصة فيما يتعلق بالمؤسسة العسكرية، لكن بصمات التحديث داخل “مؤسسة المخزن” لا زالت في حاجة إلى مزيد من تعميق البحث خاصة فيما يتعلق بالأجهزة والخطط المخزنية الأخرى خلال الفترة السعدية التي شهدت مؤثرات متوسطية عميقة على بنيات المخزن وأخص بالذكر التأثيرات العثمانية7، وقد تنبه المؤلف لبعض منها، غير أن ذلك يقتضي التنقيب أن أجوبة لأسئلة مركزية من قبيل: كيف انتقلت مشاريع الإصلاح والتحديث التي شهدها العالم المتوسطي إلى المغرب الحديث ومن ساهم في نقلها؟ هل كانت بمبادرة من السلطان فقط أم في إطار شبكة من العلائق المنظمة التي ساهم فيها المخزن وفق تصور واضح وأهداف محددة؟ ثم ماهي امتدادات تلك المشاريع خلال الفترة المعاصرة؟
– خصص المؤلف الفصل الثالث من القسم الثالث للحديث عن العوائق التي حالت دون تحقيق تراكمات مهمة على المستويات السياسية والإقتصادية والإدارية والعسكرية، والتي عبر عنها ب”مكامن الهشاشة”، وكانت إما بنيوية أو ظرفية أو مرتبطة بمسؤولية المخزن السياسية والتي كان قطب الرحى فيها حسب اعتقادنا هو السياسات السلطانية “الخاطئة” المتمثلة في السياسة الجبائية المجحفة في حق القبائل، وتقسيم الولايات بين أبناء السلطانين، إلى جانب سياسة العنف المتبعة في حق المعارضة حتى من أقرب الأقارب (محمد الشيخ المامون ومحمد العالم)، وقد كان لتلك السياسات “الخاطئة” دور في تدمير “بنيات المخزن” بسبب الحروب الأهلية. لكن ما تجدر الإشارة إليه بشكل أساسي وهو لماذا لم يستفد المولى اسماعيل من أخطاء سلفه المنصور بخصوص تلك السياسات الخاطئة؟ وتجنيب البلاد آثارها السلبية؟
– سعى المؤلف من خلال المنهج الذي اعتمده إلى دراسة مؤسسة المخزن المغربي في عهد السلطانين بشكل مقارن وهذا مفهوم في سياق التجربة المغربية، غير أنه يطرح بعض التساؤلات حول جدوى المقارنة مع بنيات سياسية عثمانية وأوربية معاصرة تنتمي إلى عالم الإمبراطوريات القوية التي تتوفر على بنيات إدارية وعسكرية واقتصادية لا يمكن للخطط المخزنية أن تماثلها بأي حال من الأحوال، وأخص بالذكر “مؤسسة الأرشيف” التي شكلت امتداد لبنيات ومؤسسات الدولة القوية في الإمبراطوية العثمانية والتي غابت في المغرب حتى عهد قريب.
وأخيرا لا شك أن المنهج المقارن الذي وظفه المؤلف خرج بنتائج مهمة في التعريف بمفهوم المخزن وتفكيك نظيمته وهياكلها وأوجه التشابه والإختلاف بين تجربتي السلطانين المنصور واسماعيل في سياق تاريخي اتسم بالمد العثماني والنهضة الأوربية، وهو ما بينه المؤلف غير أن ذلك يتطلب أيضا الإلتفات إلى التجربة المغاربية التي سادت بها نظيمة المخزن ونخص بالذكر التجربة التونسية والتي تقتضي في نظرنا دراسة مقارنة بينها وبين التجربة المغربية.
الهوامش:
11- لقد تم تناول موضوع المخزن في سياقات مختلفة، حيث ركزت المدرسة الكولونيالية على محاولة فهم بنية المخزن المغربي والآليات المتحكمة فيه، ومن أبرز روادها إدمون دوتي وميشو بيلير وروبير مونطاني وهنري تراس، وقد نظرت لثنائية بلاد المخزن وبلاد السيبة وخلصت تلك المدرسة إلى وجود انفصال بين نظام المخزن والمؤسسات الإجتماعية والدينية. غير أن فترة ما بعد الإستقلال شهدت اهتمامات متعددة بموضوع المخزن ليس من طرف المتخصصين في مجال التاريخ فقط بل من حقول معرفية أخرى، وظهر ذلك من خلال دراسات جادة سعت إلى الرد على النظرة الكولونيالية ومن أبرزها أعمال عبد الله العروي وجرمان عياش ومحمد حجي أحمد التوفيق ومصطفى الشابي وعبد الرحمان المودن، ومحمد الحبابي وبول باسكون ورشيدة شريفي وعبد اللطيف أكنوش وغيرهم.
2- يعتمد المنهج المقارن على بحث وتفسير الظواهر الثقافية والاجتماعية والمعرفية انطلاقا من إبراز الأصول المشتركة أو القرابة التكوينية بين الظواهر. وقد طبق المنهج المقارن في علم الاجتماع فقد أكد دوركايم أن التاريخ لا يمكن أن يكون علما إلا عبر التفسير، ولا يمكنه أن يفسر إلا عبر المقارنة. وقد مر التاريخ المقارن عبر مرحلتين، المرحلة الأولى من أبرز روادها توينبي وسبنجلر حيث كان التاريخ أداة لكتابة تاريخ مقارن شامل وذلك عبر رصد آليات ارتقاء الحضارات وأفولها. المرحلة الثانية بدأ التوجه خلالها نحو مقارنة البنيات والمجتمعات والثقافات بهدف الكشف عن الثوابث والإسثناءات والإختلافات، في ظل التقدم في المناهج والإنفتاح على السوسيولوجيا والديمغرافية والإقتصاد والمنوغرافيات وغيرها. ويهتم التاريخ المقارن ب: سببية الأحداث، ويطرح تساؤلات دقيقة ومحددة ويدرسها على نحو معمق، لا يهتم بالسرد فقط بل يوضح طبيعة المشكلات الدائمة عبر الزمن التاريخي ويفسر تطور الأحداث التاريخية. ويرجع الفضل إلى مارك بلوخ في الإهتمام بالتاريخ المقارن الحديث من خلال مقارنته للمجتمعات الأوربية في كتابهالمجتمع الفيودالي. يراجع في هذا الصدد: -محمد حبيدة، من أجل تاريخ إشكالي: ترجمات مختارة، منشورات كلية الآداب بالقنيطرة، 2004، ص ص 87/98. ولنفس المؤلف أيضا، كتابة التاريخ قراءات وتأويلات، دار أبي رقراق، 2013.
3- ) أرى من الأجدر منهجيا أن يكون الفصل الأول من القسم الثالث هو مدخل الدراسة لأنه يبرز مفهوم المخزن والسياق التاريخي الذي تبلور فيه.
4- تحدث جادور في الفصل الثالث من القسم الثاني عن توظيف المخزن للنخب التجارية خاصة اليهود والآجانب من أجل تأمين مداخيل قارة، وبعض المعايير المتخذة في تقليد المبعوثين الدبلوماسين دون التدقيق في هوياتهم وتكوينهم الدبلوماسي وانعكاس ذلك على سياسة المخزن الخارجية.
5- لقد كان ضعف تحكم المخزن في المجالات الحدودية سببا في استقبال القبائل الثائرة والمعارضة لسياسة المخزن الجبائية من طرف أتراك الجزائر بمن فيهم زعماء المعارضة.- حول تنازع السيادة بين سلاطين المغرب وأتراك الجزائر والباب العالي بسب إختراق القبائل الثائرة والمعارضة السياسية للمجالات الحدودية ينظر:
El Moudden Abderrahmane , Sharifs and Padishahs : Moroccan-Ottoman Relations From The 16th through the18th Centuries, PH.D, Princeton, 1992
Yahya Dahiru, Morocco in The Sixteenth Century Problems and Patterns in African Foreign Policy, New Jersey,1989, pp 232/237.
Abu Nasr Jamil, A History of the Maghreb in the Islamic Period, Cambridge: Cambridge University Press, 1987.
بنحادة عبد الرحيم، المغرب والباب العالي:من منتصف القرن السادس عشر إلى نهاية القرن الثامن عشر، زغوان، تونس، 1998، ص ص177-178.
الطبايلي عبد الحفيظ، العلاقات المغربية العثمانية خلال القرن السادس عشر 1548-1617، د دع، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 1989.
6- يشرف الأستاذ كمال النفاع على إتمام أطروحته حول “الإصلاح والتحديث في عهد كل من عبد الملك المعتصم وأحمد المنصور” تحث إشراف الأستاذ عبد الرحمان المودن والتي ستشكل من دون شك إضافة مهمة في هذا الباب.
7- يراجع في هذا الصدد: -عبد الحي الخيلي، النخبة المثقفة وأزمة السلطة في البلاد الإسلامية بين القرنين 16 و18م، المغرب والدولة العثمانية نموذجا، دراسة مقارنة، أطروحة الدكتوراه، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 2011م، الفصل الثالث من الباب الثاني.