يندرج هذا البحث ضمن مشروع كتابة مؤلف حول السيرة الاجتماعية والسياسية بالمغارب، ويسعى إلى تسليط الأضواء على نموذج سير اجتماعية متقاطعة في علاقتها بحدث احتلال مراكش بعد معركة سيدي بوعثمان سنة 1912، انطلاقا من مقاربة تاريخية تراهن على مقاربة المعطى الفردي والعام عبر تتبع تفاعل التاريخ المحلي والإقليمي والدولي.
سنحاول من خلال هذه السير رصد العلاقة بين الأشخاص ومؤسستي المخزن والقبيلة، في تفاعلاتهما مع القوى الأجنبية وخاصة فرنسا وألمانيا وإسبانيا. وسنسعى إلى تناول الحدث وتبعاته انطلاقا من السيرة الاجتماعية والسياسية لباشا وقائدين مشهورين، وسنبين أن الأزمة التي انتهت على المستوى العسكري سنة 2191، قد استمرت على المستوى السياسي والاجتماعي والرمزي إلى حدود وفاة القائد الكيلولي سنة 1928 ، والباشا ولد منو سنة 1970 ، وإلى ما بعد وفاة القائد الناجم الخصاصي سنة 1972.
تطرح شخصيات الباشا إدريس ولد منو والقائدين عبد الرحمان الكيلولي والناجم الأخصاصي عدة قضايا مرتبطة بكون كل هذه الشخصيات عاشت مسارات تأرجحت بين الخضوع والزعامة القبلية والمخزنية لتنتهي إلى شخصيات خدمت القبيلة والمخزن الشريف، ثم عاشت تحت حماية السلطات الفرنسية والألمانية والإسبانية. ولكن ما يطبع هذه الشخصيات هو تأرجحها المستمر على مستوى الولاء والمعارضة والمهادنة.
ومن أجل رصد مسارات هذه الشخصيات، ارتأينا أن نتناول الموضوع من خلال مدخل نظري عام يضبط السياق والتحولات، وثلاثة محاور ترصد مسار كل شخصية على حدة. وسنخصص المحور الأخير لتحديد التقاطعات وفهم أسبابها وأشكالها.
السياق الاجتماعي والسياسي
ما هي الخطوات والاحتياطات التي ينبغي اتباعها أو الانتباه إليها في كتابة ثلاث سير ترتبط بأحداث ومجالات جغرافية محددة ورهانات اجتماعية وسياسية مشتركة ؟ ثم ما هي مشروعية هذا التساؤل إذا كانت الشخصيات الثلاث قد واجهت نفس المصير، وتعرضت لنفس العقوبات بعد مواجهتها أو معارضتها للاحتلال الفرنسي الذي خضعت له مدينة مراكش بعد هزيمة المقاومة المغربية في معركة سيدي بوعثمان ؟ وما هي الإضافة التي ستقدمها هذه الدراسة من خلال مفهوم التقاطع بين مختلف السير على مستوى التحليل؟
يلتقي الباشا والقائدان في طول فترة الخدمة ودرجة الوفاء للمخزن، وهي الفترة التي يمكن تحديدها بين سنتي 1898 و 1912 وإذا كانت خدمة الباشا ولد منو هي الأطول، فإن فترة خدمة القائد الأخصاصي هي الأكثر إثارة. أما فترة خدمة القائد الكيلولي فهي الأطول والأكثر إشعاعا، وإن كان كل واحد منهم قد أُقحمت قضيته ضمن أجندات قوى أجنبية، وتميزت بمتابعة سياسية ودبلوماسية دولية خاصة. وتعد الشخصيات الثلاث ممثلة للمخزن، إلا أنها تختلف في أصولها الاجتماعية. فإذا كان القائد الناجم الأخصاصي لا ينكر تدرجه من “عبد” في خدمة أسياد ليتمكن في ظروف محددة من الانتقال إلى محارب متميز، وقائد في الجيش المخزني، فإن الباشا إدريس ولد منو هو أحد الأشراف الوزانيين الذين استطاعوا الوصول إلى مراكز القرار. أما القائد الكيلولي فهو يمثل الحلقة ما قبل الأخيرة ضمن الزعامة الكيلولية التي اعتمدها المخزن في الصويرة ولدى قبائل حاحة قبل أن تمتد إلى منطقة و قبائل سوس.
وتجدر الإشارة إلى أن الكلاويين وعلى رأسهم التهامي الكلاوي سينحازون للقوات الفرنسية، وسيشكل احتلال مدينة مراكش فرصة لإزاحة الباشا ولد منو وإبعاد حلفائه، ومنهم القائد الكيلولي وأنفلوس والقائد الناجم الأخصاصي الذين تحالفوا مع حركة أحمد الهيبة.
طبيعة الأرشيف والمصادر
توجد ملفات كل من الباشا ولد منو والقائدين الأخصاصي والكيلولي ضمن سلسلة “ملفات شخصية” بالأرشيف الدبلوماسي بنانط بفرنسا[1]. وتشكل نموذجا متكاملا يشمل وثائق مكتوبة بالعربية والفرنسية والألمانية. ولعل ما يميز هذه الوثائق هو أنها تختزل نوعا من التداخل بين الروايات التاريخية والشفوية والأسطورية. وقد كتبت بعض هذه الوثائق خلال الأحداث، والبعض الآخر بعد حدث احتلال مراكش وتداعياته خلال المرحلة الممتدة بين 1912 و 1935. وغالبا ما صدرت هذه الوثائق عن الشخصيات الثلاث، أو المخزن، أو السلطات المدنية والعسكرية الفرنسية والألمانية. وهي بالتالي مادة مصدرية غنية ومكملة لما تقدمه المصادر العربية، وخاصة كتابات المختار السوسي الذي خصص ترجمة مستفيضة لكل هذه الزعامات في كتابي المعسول وحول مائدة الغذاء،أو ما أورده الصديقي في كتابه إيقاظ السريرة في تاريخ الصويرة. ومن هذا المنطلق، يمكن الجزم بأن مذكرات الناجم الأخصاصي التي نقلها المختار السوسي في الجزء العشرين من كتابه المعسول، وكُتبت في سنة 1958 ، قد نقلت بشكل متأخر بالمقارنة مع الأرشيف الفرنسي. غير أن ما يثير الانتباه هو تركيز الروايات الفرنسية على جانب السيرة والحدث المركزي، وهو حدث احتلال مراكش، وحدث دار القاضي أو ضربة أكادير 1911-1912، كما أن هذا الأرشيف عالج العلاقة بين الشخصيات الثلاث وبين المخزن أو السلطات الألمانية. وقد تناولت الوثائق الفرنسية الوقائع العسكرية لإعادة بناء حدث احتلال مراكش ومعركة دار لوضا التي انهزم فيها الفرنسيون أمام قوات القائد الكيلولي. لكن الحدث سيتم تناوله من منظورين: أحدهما يصف الشخصيات الثلاث بالخيانة، والآخر يبرؤهم من كل تعاون أو تعامل مع ألمانيا أو مناصرة لحركة أحمد الهيبة.
يكتسي هذا الأرشيف أهمية بالغة لأنه يعطينا فرصة للحديث عن فترات تتقاطع فيها المقاومة والعمالة للأجنبي، كما أنه يقدم لنا معلومات عامة ودقيقة لفهم وتفكيك تشكل وتداخل الذاكرتين الفرنسية أو المغربية الخاصة بحدث احتلال مراكش والمقاومة التي واجهتها السلطات الفرنسية.
يتبين من خلال القراءة المتأنية لمختلف الأرشيفات والمصادر المغربية والأجنبية أن الروايات تتداخل فيما بينها وتتناقض، بل تخضع لمنطق مختلف الأطراف، أي السلطات المدنية والعسكرية الفرنسية، والسلطات الألمانية، ثم الكتابة التاريخية الوطنية التي يجسدها المختار السوسي. ويمكن القول إن السلطات الفرنسية التي سعت إلى إعادة إدماج النخب الوطنية المصنفة ضمن حركة المقاومة، قد أنتجت بخصوصها أرشيفا وذاكرة تنصفها وتضعها في خانة خدام المخزن الشريف الذين تحولوا إلى خدام للسلطات الفرنسية. كما أن المصادر المغربية التي تخلدهم وتعطيهم صفة المقاومين لا تتوفر على مختلف الوثائق، وخاصة تلك التي تؤكد على التوبة والتراجع عن المواقف السابقة والدخول في مسلسل التسابق نحو استعادة الأملاك.
إن ما يثير الاهتمام هو أن القائد الناجم الأخصاصي بقي مصنفا ضمن الثوار والأعداء التاريخيين للفرنسيين، رغم أنه حاول التقرب من السلطات الفرنسية لتقديم الطاعة مقابل استرجاع ممتلكاته. ويمكن تفسير هذا الأمر بالدواعي الآتية:
أولا- لم ينسق الضباط الفرنسيون فيما بينهم بالشكل الكافي لمعرفة هوية الناجم الأخصاصي. فمشاركته في احتلال مراكش من طرف القوات الموالية لأحمد الهيبة، وبالتالي مقاومته للقوات الفرنسية، قد نجمت عنها مغالطة كبيرة. فالملف الخاص بالقائد يحمل العنوان التالي: “الثائر الناجم بن مبارك أخ (أحمد) الهيبة“، والسلطات الفرنسية لم تحدد أصوله بدقة، بل صنفته كأحد المنحدرين من عائلة الهيبة. وقد جاء في البطاقة التعريفية أنه بيع بصفته عبدا لآيت الفكاك بعبدة، ثم أصبح قبل أحداث 1912 خليفة لإدريس ولد منو على قبائل انتيفة بالأطلس الكبير؛ كما أوردت أنه كان من وراء سجن القنصل الفرنسي الذي احتمى في وقت سابق بالتهامي الكلاوي. وعموما، تتحدث الوثائق الفرنسية عن موقف معارض للسلطات الفرنسية من جانب الأخصاصي والكيلولي، وموقف مزدوج للباشا منو، وموقف متعاون في حالة التهامي الكلاوي.
ثانيا- لم يقم الأخصاصي علاقة مباشرة بالسلطات الفرنسية بعد الأحداث، كما هو حال كل من ولد منو والكيلولي، بل كان يراسل الفرنسيين عن بعد، أو عن طريق ولد منو، وهي نقطة سنعود إليها في وقت لاحق.
ثالثا- إن لجوء الأخصاصي لدى السلطات الإسبانية بسيدي إفني وبإسبانيا في بعض الأحيان، سهل على السلطات الفرنسية عملية تجاهل الملف الخاص بمطالب القائد، أي استرجاع أملاكه بكل من فاس ومراكش، خاصة بعد سنة 1935 التي يقف عندها الأرشيف الخاص به. ومعلوم أن الأخصاصي كان قد راسل السلطات الفرنسية بهدف استرجاع أملاكه. وهو الأمر الذي سكت عنه الأخصاصي في مذكراته التي نقلها المختار السوسي، بينما أوردتها السلطات الفرنسية كما تبين ذلك الوثائق التي يتضمنها ملفه. وقد عثرنا على نسخ مصورة لرسائل للناجم الأخصاصي، يطلب فيها هذا الأخير من الباشا ولد منو أن يتوسط له لدى السلطات الفرنسية لتقديم ولائه مقابل استرجاع ممتلكاته. وقد كتبت الرسالة الأولى في17 رجب 1345 هـ / 7 يناير 1927، وكتبت الثانية في 3 رمضان 1345 هـ / 7 مارس 1927، وأرفق الناجم الأخصاصي رسائله بلائحة لأسماء ومواقع ممتلكاته. وهناك أخيرا رسالة وتقرير وجههما الأخصاصي في 20 رمضان 1345هـ / 21 يونيو 1927 إلى المقيم العام ستيغ يسرد فيهما الخدمات التي أسداها للمخزن وللضباط الفرنسيين، سواء بمدينة فاس أو بمراكش. ويتبين أن وساطة إدريس ولد منو لفائدة الناجم الأخصاصي، قد مرت عبر وساطة ثانية لأحد الأجانب الإنجليز يُدعى Niguel d’A. Black Hawkins.، ولم يراسل هذا الأخير الجنرال ستيغ إلا بعد مغادرته للمغرب، وذلك بسبب مرض ألم به كما أشار إلى ذلك في رسالته إلى المقيم العام.
ويعطي الناجم الأخصاصي رواية أخرى للأحداث، فيقول إنه هرب من مراكش خوفا من بطش الكلاوي وزبانيته، وليس نصرة للهيبة أولمقاومة الوجود الفرنسي. وهي رواية تخالف ما أورده السوسي في كتابه المعسول، والتي تؤسس لخطاب وطني ولملحمة المقاومة في سيرة الناجم الأخصاصي. فالشهادات المكتوبة التي وجهها هذا الأخير للسلطات الفرنسية تضع الصراع بين الزعامات المغربية في إطار قبلي، بينما كان هذا الصراع في واقعه مواجهة مغربية- فرنسية.
وقد عثرنا ضمن نفس الملف على وثيقة تحكي رواية أخرى تمجد بطولات الأخصاصي، وترجع نسبه إلى القبيلة المحاربة أولاد دليم، وتؤكد أنه من أبناء عمومة القائد محمد بن الطاهر الدليمي الذي عين قائدا على آيت باعمران وتكنة. ويضيف التقرير أن الأخصاصي أصبح خليفة للقائد الدليمي قبل أن ينتقلا معا إلى مراكش، حيث شكلا سندا قويا للمخزن ضد ثوار الرحامنة في سنة 1894. فقد عينه السلطان عبد العزيز قائدا في الجيش المخزني جزاء له على مساندته للمخزن. وتبين نفس الوثيقة أن هروب الناجم من مراكش بعد فشل حركة أحمد الهيبة سنة 1912، هو الذي تسبب في محنته. وتصور الرواية الفرنسية الأخصاصي كمقاوم هرب مذعورا من بطش الكلاويين، ويبين ذلك كيف يتم تحوير الحدث التاريخي من أجل محو تاريخ المقاومة وتأهيل الشخص المترجم له ليندمج من جديد في سلك المخزن الفرنسي.
رابعا- لا يتوفر الناجم الأخصاصي على سند قبلي أو نفوذ عائلي كما هو حال الباشا ولد منو أو القائد الكيلولي.
يمكن القول، في هذه المرحلة من التحليل، إن كتابة السيرة الاجتماعية لا تتم فقط بالتوازي مع بناء الحدث العسكري، بل تتم أيضا من خلال العلاقة بين قوة المطالب وبين الأصول الاجتماعية للمعنيين الثلاثة.
الناجم الأخصاصي : السيرة التي تختزل سير الآخرين
يمكن اعتبار ترجمة ومسار القائد الأخصاصي من الشخصيات النادرة والمثيرة في تاريخ المغرب المعاصر. فنموذج هذا الشخص الذي بيع في “سوق النخاسة”، و تنقل بين “الدور الكبيرة” لزعامات ووجهاء الجنوب المغربي، تمكن من الالتحاق بمراكشفي إطار صفقة بيع جديدة فشلت، فنجا من العبودية مرة أخرى، وأصبح بعد سنوات قليلة أحد المحاربين المتميزين ضمن قوات قبلية، وبعد ذلك ضمن الجيش المخزني. أما نسبه، فهو الناجم بن مبارك بن مسعود، وقد ولد بإدجلول من قبيلة الأَخصاص حوالي سنة 1284هـ/1867 م من أبوين ينتميان إلى ” عائلتين مرتَ على تحريرهما من العبودية قرابة أربعة أجيال.”
وقد سبق لناجم أن عمل في خدمة جملة من القواد، مثل دحمان بن بيروك (ت 1881م)، وبوهيا (ت 1882م)، ومحمد بن الطاهر الدليمي (ت 1890م). وقد تألق الأخصاصي بعدما التحق بالجيش المخزني، واعتقل الثائر الجيلالي الزرهوني الشهير بـ”بوحمارة”، وأصبح قائد المائة، ثم قائد الرحى في الجيش المخزني. ويستفاد من الشهادات التي أدلى بها القائد الأخصاصي للفرنسيين بعد سنة 1920، أو تلك التي قدمها للمختار السوسي، قبيل وبعيد الاستقلال (1954-1960)، أنه تمكن من شراء منازل وممتلكات بفاس ومراكش بعد تألقه في الجيش المخزني حيث حصل على صلات وتعويضات هامة. ولكن الإشكال الذي يطرح خلال معالجة سيرته هو أن الشهادات التي أوردها المختار السوسي في كتابيه “المعسول” و و”حول مائدة الغذاء” تتضمن مقولات و مسارا لا تنفصل عن مقولات ومسار الباشا إدريس ولد منو. ف”القائد-العبد” لم يعد يعير أية أهمية للمسافة الاجتماعية، لأن شهادته التي كانت بالأمس غير مقبولة من الوجهة الشرعية، أصبحت على قدم المساواة مع شهادة الباشا الشريف منو في كتابات المختار السوسي والتقارير الفرنسية بخصوص أحداث شهر شتنبر 1912، والمتعلقة بتحديد المسؤوليات والأدوار فيما يخص ظروف سجن وإطلاق سراح القنصل الفرنسي ومرافقيه. وفي سياق هذا الاختلاف بين المصادر، يظهر الباشا ولد منو والناجم الأخصاصي في كتابات السوسي كوطنيين مستميتين، بينما وصف الأرشيف الفرنسي الأخصاصي كثائر، وإدريس ولد منو كباشا سابق.
فالناجم الأخصاصي ليس فقط “العبد” الذي ارتقى عبر السلم الاجتماعي، بل إنه سوف نجده يسرد مجموع ممتلكاته وعدد “عبيده”. ويمكن أن نعتبره الشخصية الوحيدة التي سكنت الزمان المغربي وهاجرت أمكنته، خاصة عندما أقام بأفخم فنادق مدريد والتقى بالجنرال فرانكو. وقد غاب هذا البعد في سيرة الباشا ولد منو والقائد الكيلولي اللذين خضعا للإقامة الإجبارية بمكناس قبل عودتهما إلى ديارهما بعد عبر مقام قصير بسطات في حالة ولد منو، و بآسفي في حالة القائد الكيلولي.
سيرة إدريس ولد منو
ينتسب إدريس ولد منو لإحدى الأسر الوزانية الشريفة التي استقرت بإدا ومنو بمنطقة سوس. وقد تلقى والده محمد ولد منو تكوينا بالخارج، وأصبح بعد عودته للمغرب من الزعامات العسكرية التي صارت في خدمة ثلاثة سلاطين، وهم عبد الرحمان بن هشام وابنه محمد، ثم السلطان الحسن الأول. وقد توفي أبوه سنة 1293هـ ، بعد مرور سنة واحدة على ولادة إدريس ولد منو الذي سيكبر رفقة أبناء السلطان الحسن الأول : عبد العزيز، وعبد الحفيظ، والمولى يوسف. وقد عُين في عهد عبد الحفيظ باشا لمدينة مراكش ومكناس. وتذكر الوثائق الفرنسية أنه حصل على إقطاعات مهمة بعد أن حارب قبائل بني مطير والثائر الجيلالي الزرهوني. وأثناء أحداث فاس، تعرف ولد منو على العقيد الفرنسي موانيي والجزائري عبد الرحمان بن اسديرة وقواد فرنسيين آخرين، بل ساهم في مواجهة الثوار سنة 1911، وحصل بفضل ذلك على “وسام البزولة”[2] ثم على وسام حفيظي. وبعدما خضعت فاس للفرنسيين، عين ولد منو قائدا على مناطق تادلة ومراكش وسوس. غير أن التقرير يقول إن ولد منو انحاز لحركة الهيبة، إلا أن إحساسه باندحارها دفعه إلى تحصين ممتلكاته بواسطة الأجانب واليهود وخاصة شركائه كالألماني Marx والقنصل الألماني Neyer ونائب القنصل الهولندي Nessim Corriat وامحمد الغالي السبتي. وقد تم استنطاق ولد منو من طرف الضابط سيمون من أجل التأكد من طبيعة ممتلكاته، ومعرفة ما إذا كانت بالفعل إقطاعا سلطانيا كما يدعي، أم أنها مُنحت له للانتفاع فقط. وقد تذرع ولد منو بحجة أنه لم يعد يتوفر على الظهائر السلطانية، بل سبق له أن وضعها في ذمة شريكه ماركس حتى يحافظ عليها. لكن الفرنسيين تمكنوا من ضم بعضها إلى الأملاك المخزنية وتركوا بعضها في ملكيته.
سيرة عبد الرحمان الكيلولي
هناك إشكالات تتعلق بطبيعة الخطاب الذي استعملته الوثائق المغربية والأجنبية في حديثها عن شخصية القائد عبد الرحمان الكيلولي ودوره في مختلف الأحداث المرتبطة بالسياسة الألمانية، بدءا بأزمة أكادير ومساندته لحركة أحمد الهيبة، وانتهاءً بهزيمة الفرنسيين فيما بات يعرف بـ”حادث دار القاضي” (الكتابات الفرنسية) أو “معركة دار لوضا” (الكتابات المغربية). وهناك قضايا أخرى نرتبط بصفة المقاوم التي تُطلق على القائد الكيلولي على اعتبار أن مقاومته لفرنسا تزامنت مع تحالفه مع الألمان وخدمته لسياستهم!
لقد عين الكيلولي محتسبا على مدينة الصويرة بعد رفع الإقامة الإجبارية التي خضع لها رفقة إدريس ولد منو بمدينة مكناس. ومعنى هذا أن التعايش مع السلطات الفرنسية والمخزنية دام مدة أطول من المدة التي قضاها في مقاومة الاحتلال الفرنسي. وتنطبق هذه الملاحظة على حالة الباشا ولد منو، في حين أن زمن المقاومة استمر لمدة أطول في مسار الناجم الأخصاصي الذي ألصقت به تهمة الثائر إلى ما بعد الاستقلال.
فما هي الظروف التي دفعت القائد الكيلولي إلى مساعدة البارجة الألمانية قبالة ساحل أكادير في سنة 1911، والتصدي للجيش الفرنسي- المخزني سنة 1912 ؟ ثم ما هي تداعيات أزمة أكادير؟ وكيف تم استحضارها من خلال قضية رفع الحماية الألمانية عن القائد الكيلولي ؟
إن الغرض من هذه المعالجة، هو تبيان كيف أن قضية المحميين التي عولجت في مؤتمري مدريد سنة 1880 والجزيرة الخضراء سنة 1906 ستستحضر بمناسبة محاكمة الكيلولي على خلفية أزمة أكادير ومقاومته للاحتلال الفرنسي سنة 1912 بمراكش. ويمكن القول إن محاسبة الكيلولي ومعاقبته وتدويل قضيته من طرف ألمانيا جسدت استمرارية لأزمة 1911 من خلال رمزية الأدوار التي لعبها القائد الكيلولي. ومن هنا، يمكن أن نعتبر ترجمة وسيرة هذه الشخصية كمسرح لتداعيات أزمة أكادير ومدخل لفهم الجوانب الذاتية وتداخل البُعدين المحلي في المنافسة الألمانية- الفرنسية حول المغرب.
و يمكن القول إننا أمام شخصية تعاملت معها الوثائق الألمانية من الناحية الاقتصادية والسياسية، في الوقت الذي تعاملت معه الوثائق الفرنسية من الناحية الشرعية و النفسية. هذا في الوقت الذي تجاذب النسيان والخطاب الوطني شخصية الكيلولي في الكتابات والمصادر المغربية. فمن هو إذن القائد عبد الرحمان الكيلولي ؟
تشكل سيرة القائد الحاحي مدخلا لدراسة القضايا التي طرحناها في المقدمة. وهي في الآن نفسه محاولة لاستجلاء الغموض الذي اكتنف تاريخ منطقة حاحة إبان الحماية.
فالقائد عبد الرحمان بن سعيد الكيلولي هو ثاني أبناء القائد سعيد الكيلولي. كان خليفة لأخيه مبارك الكيلولي، ثم تولى بعده القيادة الحاحية في تمنار عام 1911م- 1330 هـ. فهو الحلقة الأخيرة ضمن قيادة الأسرة الكيلولية قبل خضوع المنطقة للاحتلال الفرنسي. ويمكن اختصار مميزات فترته من خلال ما قاله المختار السوسي عنها ” سنة الانقلابات والحوادث الجُلى في المملكة”[3] كما توجت فترته بعلاقة تاريخية وطيدة مع الألمانيين.
ورغم أن فترة حكمه لم تدم إلا سنتين فقط، فإنها شهدت مجموعة من الأحداث والتحولات السياسية الكبرى سواء في المنطقة أو في المغرب ككل، مما جعل دراسة القيادة الكيلولية خلال هذه المرحلة تكتسي أهمية بالغة في تاريخ المغرب ككل، . وعلى مستوى آخر، كانت مرحلة هذا القائد، مرحلة بارزة وحاسمة في مسار الأسرة الكيلولية ذاتها.
لقد تمكن الهيبة من الوصول إلى مراكش في المرحلة الأولى بفضل التخطيط الطي قام به القائد عبد الرحمان الكيلولي، وهو ما يدل على نجاح الخطة الألمانية الحاحية التي رسمها مع الألمان والهادفة إلى نجاح حملة أحمد الهيبة على مراكش رغم أنف الفرنسيين بغية الحد من زحفهم نحو الجنوب المغربي. وقد شكل هذا النجاح الأول تتويجا للدبلوماسية والتعاون بين الحاحيين والألمان رغم أنه أصبح من المؤكد أن فرنسا وألمانيا أقامتا مفاوضات ثنائية حول إنهاء الوضع بالجنوب لصالح فرنسا.
وعند دخول الهيبة إلى مراكش، استقبل من طرف قواد كبار من أمثال الباشا منو، وعبد المالك المتوكي، والأخوين المدني والتهامي الكلاوي. وتسجل الروايات التاريخية أن عبد الرحمان الكيلولي لم يلتحق بحرْكة أحمد الهيبة إلا بعد دخولها إلى مدينة مراكش. لكن الحدث الذي تدور حوله التراجم الثلاث يرتبط بشكل كبير في الأرشيف الفرنسي باعتقال القنصل الفرنسي و مرافقيه[4] من طرف الهيبة ومعاونيه الباشا ولد منو والناجم الأخصاصي.
في الواقع، يعود تأجيل الهيبة لبعض القضايا الهامة الخاصة بحرْكته إلى انتظار التوجيهات من ألمانيا. ومن هذه القضايا التي انتظر فيها الهيبة وصول القائد أسر قنصل فرنسا مع بعض أصدقائه في مراكش. “فقد آووا إلى دار الحاج التهامي أياما ثم أراد أن يسير بهم (قنصل فرنسا وأصدقائه) إلى أسفي (…). أما الحاج التهامي (فقد) جمع عنده في داره غالب رؤساء سوس فأقام لهم حفلة كبيرة فصار يمت إليهم بالأخوة ويرجو منهم أن يتوسطوا عند الهيبة أن يطلق الأسرى، لكن الهيبة أبى كل الإباء (…) فكانت كثير من الأمور العظام إذا نوقش فيها لا نبث فيها حتى يأتي القائد عبد الرحمان الكيلولي الحاحي[5]”. لأن هذا القائد هو الذي كان يحمل في حقائبه أوامر ألمانيا التي حاولت بهذه السياسة أن تشوش على فرنسا التي انفردت إلى حد ما بالمغرب بعد توقيع معاهدة الحماية في 30 مارس 1912-1330 هـ.
وفي سياق حديث المختار السوسي عن التحاق القائدين الكيلولي وأنفلوس بحرْكة الهيبة، نسجل تأثر التحالف الحاحي- الألماني بمعاينة القائدين لتصرفات ومواقف الهيبة من العناصر الحاحية أو المنتمية لمنطقة سوس. فقد أكدت العديد من المصادر التي أوردها المختار السوسي الحيف الذي كان يطال العنصر الأمازيغي ضمن مكونات الحرْكة كنتيجة لهيمنة حاشية أحمد الهيبة على الموارد الغذائية والمالية بمدينة مراكش[6].
وكان لكل هذا تأثير بالغ على الخطة السابقة التي رسمتها ألمانيا وهي تتمثل في توجيه مجموعة من القوى القبلية ضد الوجود الفرنسي. وقد اتضحت معالم ذلك منذ دخول الهيبة إلى الحمراء وميله إلى قواد مراكش المتواطئين مع فرنسا والذين استطاعوا أن يوقعوا الهيبة وجيشه في الفشل الذريع، حيث انهزم رفقة جيوشه المتحالفة (السوسيون- الصحراويون).
تتفق الروايات المغربية والفرنسية حول هذه الأحداث، إلا أن ما يسترعي انتباهنا هو السؤال التالي: ما هو السر الذي يكمن في استمرار تداول قضية الكيلولي رغم نهاية ضربة أكادير سنة 1911 ، وانتهاء المقاومة التي ساهم فيها إلى جانب الهيبة بمراكش أو بمنطقة حاحا.
دوائر السيرة الاجتماعية
إن ما يلفت الانتباه هو أن القائد الكيلولي ثم نفيه إلى مدن الصويرة ومكناس، ثم عين بعد ذلك محتسبا بمدينة آسفي، ثم عاد إلى الصويرة وتوفي بها سنة 1926. تظهر هذه الحركة المجالية الدائرية في مسار الكيلولي أن هذه الدائرة يمكن أن تكون سياسية. وتدل على أن القائد المقاوم قد التحق من جديد بالمخزن الشريف المحمي من طرف السلطات الفرنسية. ففيما بين 1912 و1913 ، تفاوضت السلطات الفرنسية والمخزنية مع الكيلولي لكي يتخلى عن الحماية الألمانية مقابل إلحاقه بالسلك المخزني ورفع الإقامة الإجبارية عنه. وتدل المراسلات التي تم تبادلها بين الوزير الكباص والكيلولي أو ما بين الكيلولي والقنصل الألماني بالصويرة وطنجة، على أن الكيلولي ظل متشبثا بالحماية الألمانية. وهو ما دفع السلطات الفرنسية إلى التهديد بتدويل المسألة[7]. لقد انطلق مسلسل قضية الكيلولي في 10 يوليوز 1912 حين قامت السلطات الفرنسية بالحجز على خمس ممتلكات للكيلولي بمدينة الصويرة بعد مساندته لأحمد الهيبة، إلا أن القنصل الألماني بالمدينة احتج على هذا الحجز بدعوى أن الكيلولي محمي من طرف ألمانيا[8]. وقد كاتب الوزير محمد الكباص السلطات الفرنسية في 14 أكتوبر 1912، ليؤكد أن الكيلولي قائد وموظف مخزني حتى يتسنى للسلطات الفرنسية أن تفند المزاعم الألمانية، على اعتبار أن الحماية تعتبر لاغية في حق الموظفين المخزنيين. إلا أن الكيلولي أعلن في 12 نونبر 1912 تشبثه بالحماية الألمانية وأكد أنه لم يعد ينتمي للجهاز المخزني.
يستدعي هذا الأمر ضرورة طرح السؤال التالي : هل يمكن اعتبار سجن ومحاكمة الكيلولي استمرارا لأزمة 1911-1912، أم أنه استمرار لسياسة التدخل الألماني في المنطقة على أساس أن هذه الدولة لم تتخل عن أطماعها في المنطقة إلى حدود انطلاق شرارة الحرب العالمية الأولى ؟ تشير مراسلة وجهتها وزارة الخارجية الفرنسية بتاريخ 4 مارس 1913 للمقيم العام ليوطي إلى ضرورة رفع دعوى ضد ألمانيا التي لا يحق لها حماية مسؤول مخزني وفق البند الخامس من معاهدة مدريد سنة 1880[9]. لكن السلطات الألمانية، وكذا مواقف وتصريحات الكيلولي، تؤكد أن هذا الأخير لم يعد موظفا مخزنيا، ولذلك لم يكن خاضعا لبنود معاهدة مدريد لسنة 1884. وقد تم تداول هذه القضية بين كبار المسؤولين في العاصمتين باريس وبرلين، كما لو أن القضية أصبحت بحجم أزمة أكادير 1911، حيث هدد وزير الخارجية الفرنسي برفع دعوى بمحكمة لاهاي الدولية. وطالب قنصل ألمانيا بالدار البيضاءM. Means بمقابلة الكيلولي بمكناس، لكن السلطات الفرنسية رفضت طلبه، واستندت على دلائل تثبت مساهمة الكيلولي في المقاومة، وأعلنت أن هذا الأخير ينبغي أن يخضع للمحاكمة، وربما كان يواجه احتمال الحكم بالإعدام لأنه تسبب في مقتل العديد من الجنود الفرنسيين في معركة دار القاضي، ورفضت ألمانيا هذه الحجة بدعوى عدم توفر الدلائل المقنعة.
وانطلاقا من سنة 1914، حاولت فرنسا إرجاع ممتلكات الكيلولي مقابل تخليه عن الحماية الألمانية. لكن الرسوم التي تثبت ملكية الكيلولي للعديد من الممتلكات كانت بيد شركائه الألمان، وهو ما طرح مشاكل مسطرية جديدة ومستعصية. و في 9 أبريل 1914 صدر قرار يجيز استرجاع الكيلولي لممتلكاته باستثناء الممتلكات التي تم ضمها للملك العمومي، ويجيز إطلاق سراحه باتجاه مدينة آسفي.
والملاحظ أن نفس الدائرة ونفس المسار ينطبقان على شخصية الباشا ولد منو الذي احتمى أيضا شريكه الألماني ماركس من أجل تحصين ممتلكاته إلى حدود تدخل السلطات الفرنسية التي ستعمل على فك الارتباط بينه وبين شركائه الألمان مقابل خضوعه التام لسلطات الحماية. وإذا كانت هذه الدوائر السياسية قد تحققت في حالة ولد منو والكيلولي، فإنها لم تشمل الناجم الأخصاصي لأسباب ذكرناها سابقا. لكن الحركية الدائرية ستتحقق على المستوى الاجتماعي بالنسبة للأخصاصي، حيث عاد إلى نقطة البداية، أي منطقة آيت باعمران، ولكن من دون أن يتقرب من دواليب المخزن الخاضع للسلطات الفرنسية. ويمكن القول إنه حاول بدوره العودة إلى دار المخزن عبر المطالبة باسترجاع أملاكه إلا أن محاولته لم يكتب لها النجاح لأسباب ذكرناها آنفا.
الذاكرة و التاريخ والأسطورة
تشكل مراسلات القائد الكيلولي مع السلطات الفرنسية، وكذلك تلك التي تبادلتها السلطات المدنية والعسكرية الفرنسية، وأخيرا المراسلات التي تمت بين الفرنسيين والألمان مادة مصدرية غنية، تؤكد أن الكتابة التاريخية مرتبطة بضبط جوانب متعددة ومتداخلة مرتبطة بمسار الأفراد والمؤسسات، كما هو حال الباشا والقائدين ومؤسستي المخزن والحماية. تلتقي بعض الروايات التي قدمها الكيلولي ببعض الروايات التي قدمتها السلطات المدنية الفرنسية والألمانية. وتشترك كل هذه الروايات في خلق أسطورة عدم تورط الكيلولي أو الباشا ولد منو في أحداث 1912، وخاصة الأحداث التي تلت دخول الهيبة إلى مراكش. ومن ثمة نطرح السؤال الآتي: كيف يمكن أن تلتقي كل هذه الروايات في خلق هذه “الأسطورة” التي تخدم أهدافا متباينة ومتناقضة ؟ فالرواية الألمانية حاولت تبرئة القائد الكيلولي من الأحداث المنسوبة إليه للإبقاء عليه كمحمي ألماني واستخدامه كورقة ضغط لتحقيق مصالح محددة. كما أن رواية بعض السلطات الفرنسية التي سعت إلى تخليصه من الوصاية الألمانية وإعادة إدماجه في سلك المخزن قد برأته من كل عمل عنيف وصاغت رواية أخرى بشأن الأحداث. وستعتمد هذه الرواية في حالة الباشا ولد منو أو القائد الأخصاصي بهدف استمالتهما لفرنسا. لكن التبرئة لم تكن مبادرة اتخذتها السلطات الفرنسية، بل كانت تبنى انطلاقا من رسائل استعطاف كتبها كل من الكيلولي والأخصاصي وولد منو، وغالبا ما برأوا من خلالها ذمتهم، أو ذكروا فيها بالخدمات التي أسدوها للمخزن أو للضباط الفرنسيين خاصة سنة 1911 بفاس أو أثناء أحداث شتنبر 1912 بمراكش، كما لو أن تاريخ الحماية قد بدأ مع أحداث فاس سنة 1911. ويتبين من الرسالة التي وجهها الكيلولي إلى المقيم العام ليوطي، أنه كان يسعى من خلال روايته للأحداث أن تتم تبرئته ويعاد إدماجه في جهاز المخزن، ويحصل على موقع أسمى من منصب المحتسب الذي أسند إليه بعد إطلاق سراحه[10]. يقول الكيلولي في هذه الرسالة إنه حارب أحمد الهيبة في أكادير وتزنيت بناء على موقعه كباشا لتزنيت خلال سنتي 1912-1913، مع أن الوقائع التاريخية تثبت أنه كان آنذاك تحت الإقامة الإجبارية في مدينة مكناس انطلاقا من يوم 20 فبراير1913. وفي سنة 1926، وجَّه الكيلولي رسالة إلى المقيم العام ستيغ الذي عُين مكان الجنرال ليوطي بعد تداعيات حرب الريف وثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي. ويقدم الكيلولي في هذه الرسالة نفس الرواية، ويتبرأ من المقاومة التي ينعت زعيمها أحمد الهيبة بالروكي والفتان[11]. وتجدر الإشارة إلى أن الكيلولي ظل رهن الاعتقال إلى حدود سنة 1921 ، حيث تم إطلاق سراحه في سياق لعبت الظروف المرتبطة بالحرب العالمية الأولى. أما الرواية الفرنسية فقد كانت تهدف إلى تبرئته لمساعدته على رفض الحماية الألمانية. فالسلطات الفرنسية لم يعد عدوها هو القائد الكيلولي، بل الوجود الألماني ومناوراته في المنطقة، خاصة وأن الجنوب المغربي لم يخضع للسلطات الفرنسية إلا في سنة 1934. وتبقى السلطات العسكرية الفرنسية بزعامة كورتاد Cortade والضابط Trean الحاكم العسكري لمنطقة حاحا الجنوبية، هي الوحيدة التي عارضت السياسة المتبعة من طرف السلطات العليا بما فيها فكرة إطلاق سراحه وتعيينه محتسبا لمدينة آسفي ثم الصويرة. وخلافا للكيلولي الذي توفي سنة 1926 من دون أن يسترجع منصب القائد، فإن الباشا ولد منو توارى خلف شخصية الباشا التهامي الكلاوي، بينما كاد أثر الناجم الأخصاصي أن ينمحي لولا مذكرات المختار السوسي وأرشيف مدينة نانط.
خاتمة
كيف يمكن أن نكتب سيرة اجتماعية انطلاقا من أحداث سياسية وعسكرية أدت إلى تهميش مؤقت لأصحاب السير، وأعادت إدماجهم في وقت لاحق داخل المنظومة المخزنية ؟ كيف يمكن فهم موضوع استرجاع الأملاك الذي طُرح فيما بين سنوات 1913 و1926 مع ولد منو والكيلولي، وظل مطروحا إلى حدود سنة 2003 مع إعادة طرح ملف أملاك ناجم الأخصاصي[12] على ضوء مختلف الشهادات التي استعرضناها في هذه الدراسة؟
لقد حاولنا إعادة طرح إشكالية كتابة الحدث والتاريخ في ضوء كتابة السيرة الاجتماعية لثلاث شخصيات غالبا ما صنفت في خانة المقاومة. وبفضل على هده الوثائق، تبين لنا أن المقاومين تبرأوا من فعل المقاومة إلى حد نعت أحمد الهيبة بالفتان والروكي، كما ورد في مراسلات الكيلولي الذي قلب الأحداث رأسا على عقب. لكن هذه العملية لم تكن من “إخراج” الضحايا المترجم لهم وحدهم، بل إن الكتابات الفرنسية ذاتها تعمدت هذا القلب بخصوص الأحداث وأدوار الفاعلين بهدف جر الكيلولي أو الباشا ولد منو إلى صفها وغبعادهما من التأثير الألماني. وينبغي القول إن الأخصاصي لم يكن محظوظا، على اعتبار أن منفاه في منطقة خاضعة للاحتلال الإسباني الذي كان ينسق مع السلطات الفرنسية لم يساعده على دفع فرنسا إلى معالجة ملفه. إنه زمن الكتابة التاريخية ضمن منطق المصالحة الخاضعة لقانون الهدية والهدية المقابلة لها حسب تعبير مارسيل ماوس. فـهدية الولاء والخضوع كانت تقابل بهدية الأملاك كما لو أن الإقطاعات والإنعامات المخزنية قد أصبحت من اختصاص السلطات الفرنسية.
تبين القراءة المتعددة لمختلف المصادر والوثائق، وخاصة الفرنسية منها، أن الخطاب الوطني المتجانس لا يصمد في وجه الوقائع الواردة في هذه الوثائق. فالمقاومة خطاب تؤثثه أحداث وشخصيات، ويتم تأويله حسب السياقات والأهداف. فقد نفي الألمان صفة المقاوم عند الكيلولي بسبب رغبتهم في تثبيت نفوذهم وتمديد زمن المقاومة. ونفت السلطات الفرنسية نفس الصفة عند المترجم لهم بسبب رغبتها في تقزيم النفوذ الألماني وإنهاء المقاومة وتسهيل قبول طلب الصفح والعفو الذي تقدم به هؤلاء من خلال رسائل وجهت إلى السلطات العليا للحماية. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن التاريخ الوطني، وخصوصا تاريخ المقاومة، قد كتب انطلاقا من المصادر الوطنية وبانتقائية كبيرة لم تأخذ بعين الاعتبار كل أصناف ومضامين الأرشيف والروايات. ويمكن القول إن كتابة السيرة الاجتماعية مدخل مهم لكتابة تاريخ الممارسة السياسية خلال مرحلة الحماية. فالسلطات الفرنسية لم تتردد طويلا في معالجة قضايا تهم مؤسسات وأشخاص من خلال خلق جسور للتقارب بين النخب المخزنية الثائرة وسلطات الحماية التي عرفت كيف تعيد إدماج النخب المخزنية خدمة لمصالحها العليا.
ويتبين من قراءتنا للأرشيف الفرنسي كيف أن السلطات المدنية كانت أكثر ذكاء في تحاليلها لملفات المترجم لهم، خاصة على مستوى الربط بين الأبعاد المحلية والوطنية والدولية، بخلاف السلطات العسكرية التي اقتصرت في مقاربتها على الهاجس الأمني وعلى التفاعلات القبلية والإقليمية.
[1] Centre des archives diplomatiques de Nantes, Direction des affaires indigènes, Dossiers nominatifs, dossier Guillouli, Najem Lakhsassi et Driss Ould Mennou.
[2] المقصود في الغالب به هو وسام العطف وربما التلميح إلى نوع خاص من الامتيازات المخولة للحاصل على هذا النوع من الأوسمة. [3]- المختار السوسي، المعسول ، ج 15، ص. 232. [4]يتعلق الأمر بالقنصل ميكري وخليفته مونج وكدا معونيهم وهم كالآتي : فيرلي هانيس، فيوريوكوادي.Maigret, Monge, Verlet Hanus, Fiori et Kouadi.
([5])– المختار السوسي، ن م ، ص .143.
. المختار السوسي، ن.م.، ج 15، ص. 234. [6]
[7]CADN, Dossiers nominatifs.
[8]من الخارجية الفرنسية للسفير الألماني بباريس.رسالة موجهة بتاريخ 10 يوليوز 1912.[9]Lettre adressée par le Ministre des affaires étrangères au Résident général Lyautey, 4 mars 1913, CADN, Dossiers nominatifs, Guillouli.
[10] رسالة موجهة بتاريخ 17 يناير 1925، مركز الأرشيف الدبلوماسي بمدينة نانط. [11] رسالة موجهة إلى المقيم العام ستيغ عن طريق حاكم الجنوب دوكان في آسفي بتاريخ15 شتنبر 1926. [12]عولجت قضية أملاك القائد الناجم الاخصاصي يوم 7 دجنبر 1958. ثم في نفس السنة بمراسلة الاخصاصي للملك محمد الخامس، خاصة وأن أملاكه الموجودة بمراكش وفاس والاخصاص قد تم ضمها إلى الأملاك المخزنية بقرار صادر في 17 شتبر 1935، كما يظهر في مراسلة موجهة من كوتارد Coutard إلى قائد المنطقة العسكرية لمراكش. وبعد استقلال المغرب، عادت قضية الأخصاصي للواجهة، وبأمر من السلطان محمد الخامس، تم تخصيص منحة مالية تقدر بمائة ألف فرنك للأخصاصي. وطُرحت القضية بعد مماته لتعالج على صفحات” جريدة العلم (عدد 19528، 6 نونبر 2003).