أحمد الشكري، الشهادات السودانية ونزعات تمثلها للتاريخ المحلي إلى غاية القرن 18م، إشراف: مصطفى ناعمي ، جامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية- الرباط/ أكدال، 2006.
استمر المشهد الثقافي السوداني (نسبة لبلاد السودان أو إفريقيا الغربية بحسب الاصطلاح المعاصر) إلى غاية نهاية القرن 19م مطبوعا ومدموغا بأحكام ومقتضيات الثقافة الشفاهية. وعلى الرغم من انتشار الإسلام بالمنطقة عند نهاية القرن 13م، وتعلق السودان بالثقافة العربية الإسلامية خلال القرون اللاحقة، فإن الإنتاج التاريخي السوداني المدون، ظل قليلا وفقيرا، بسبب عدم تجدّر تقاليد التدوين والتأليف. وباعتبار هذا المعطى، فقد توجهت عناية الدارسين للرواية الشفوية، حيث لقيت من جانبهم اهتماما بالغا، بينما لم تجد لديهم النصوص السودانية التاريخية العربية المدوّنة، نفس العناية والاهتمام إلا في القليل النادر.
وفضلا عن الغايات التوثيقية والتحليلية المرجوة من دراسة مادة المتن التاريخي السوداني، تتطلع هذه الدراسة إلى بناء تصور واضح المعالم عن المادة المصدرية السودانية العربية المدونة قبل نهاية القرن 18م؛ وذلك من خلال مقاربة السؤال التالي: ما هي خصوصيات التناول التاريخي السوداني المدون، وما هي طبيعة توجهاته أو نزعاته المقصودة والمضمرة ؟
وللإجابة عن هذا السؤال المحوري، انطلقنا من المسلمة الشائعة بين فئة عريضة من الباحثين، والقاضية بأن كل مادة مدونة إنما هي ذات أصل شفاهي، مما يؤدي في نظرهم إلى القول بضرورة التماثل بين منظومة المتن الشفاهي ومنظومة المتن المدون. فهل حقا هناك تماثل سافر ما بين المنظومتين، مما يدعونا لإلغاء الحدود الفاصلة بين الثقافة الشفاهية والثقافة المدونة، ويمنعنا من التمييز بينهما؟ أم نكتفي بالجواب الذي رتبه لنا محمد القاضي: ” [فـ] كما أن المنطوق يصبح مكتوبا، كذلك يصبح المكتوب منطوقا”؟
وفي أفق تعيين وتحديد مدى مساهمة الإنتاج التاريخي السوداني في عملية تمثل الواقع المحلي، فقد شكلت الفصول الثلاثة الأولى من هذه الدراسة، محطة أساسية في هذا الاتجاه، حيث تمت معالجة جل الإشكاليات المتعلقة بالمسألة، سواء منها ذات الصلة بالجانب المنهجي أو الموضوعي؛ وقبل ذلك، اجتهدنا في التعريف بالنصوص التاريخية السودانية المنتقاة، وبأصحابها، وبسياق إنتاجها.
وفي الفصلين الرابع والخامس، انتقلنا لمقاربة المتن التاريخي السوداني بقصد الوقوف على شاراته المميزة، إن على مستوى الشكل أو على مستوى المضمون. وفي هذا الجانب، رصدنا عددا من الشارات أو الخصائص، نذكر منها على سبيل المثال:
* إغفال المنتج السوداني (=المؤلف) التعريف بنفسه أو توقيع مؤلفه.
* تجاهله للأبعاد الزمانية والمكانية المفيدة في تأطير الوقائع والحوادث.
* اعتماد الاختزال ثم الانتحال كنهج أساسي في عملية السرد التاريخي، الخ.
وأثناء استعراض هذه الخصائص أو المرتكزات المعتمدة من جانب المؤلف السوداني في سرده التاريخي، حاولنا توضيح خلفياتها، وذلك بإبراز مستنداتها في التراث الشفاهي المحلي. وترتيبا على ذلك، تيسّر لنا التقاط مساحات التقاطع مع أحكام الثقافة الشفاهية، وكذا مساحات التباعد المشاكسة للمقتضيات الجارية في التدوين والتأليف.
وقد أفادتنا هذه المقاربة في تنزيل تلك النصوص ضمن خريطة المواد المصدرية ذات الصلة بتاريخ المنطقة، سواء منها العربية أو الأوروبية أو الشفاهية المحلية. وانتهينا في الأخير إلى خلاصة، تفيد أنه على الرغم من التجاذبات التي كانت تتنازع المؤلف السوداني فيما بين أحكام التقاليد الشفاهية وأعراف التدوين في الثقافة العربية الإسلامية؛ فإن مقتضيات الثقافة المحلية الأصلية، كان لها تأثير قوي ونافذ على قلمه، إن عن وعي أو عن غير وعي منه، حتى إنه يحق لنا أن نعتبر النص السوداني المدون امتدادا أو استمرارا للرواية الشفوية بشكل مرسوم. وبالمثل، يمكننا أن نعتبر دور ووظيفة الكاتب-المؤلف في المجتمع السوداني، استمرارا لدور القوّال أو الرّاوِية المُخبر، أي” صاحب الكلام “بتعبير المؤرخ السوداني عبد الرحمن السّعيدي (ت. 1656م).