الإثنين , 9 ديسمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » الثقافة الشعبية بين رابليه وباختين

الثقافة الشعبية بين رابليه وباختين

ميخائيل باختين، رابليه والثقافة الشعبية في العصور الوسطى وإبان عصر النهضة، ترجمة شكير نصر الدين، بيروت، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، 2015

 

kiraat_02_1215    عكف ميخائيلباختين، الفيلسوف واللغوي والمنظر الأدبي الروسي، سنوات طويلة في التنقيب والبحث في سِرِّ أعمال فرانسوا رابليه. وقد أسهمت جهوده في الكشف عن عبقرية هذا الكاتب الفرنسي الكبير، الذي بدأ حياته راهبا فرانشيسكانيا ثم دومينيكيا، قبل أن ينقطع عن حياة الأديرة، ويصبح مشاركا فعالا في الحياة العامة، حيث مارس مهنة الطب. وقد ألّف عدَّة كتب تعرّض معظمها للرقابة والمنع من طرف جامعة السوربون، وبالخصوص عمله الضخم Gargantua et Pantagruel ، الذي اعتبر وصفا رمزيا ساخرا للفضاء الديني، مما سلَّط عليه الرقابة وشبهة الهرطقة لمدة طويلة.

من خلال الدراسة التاريخية – الأدبية لباختين التي نُشِرَت حديثا عن دار الجمل (2015)، تحت عنوان: رابليه والثقافة الشعبية في العصور الوسطى وإبان عصر النهضة، والتي نقلها إلى اللغة العربية شكير نصر الدين، نقف على موضوعات الضحك والهزل والسخرية والثقافة الشعبية بجميع أصنافها، فمن خلال الفصول السبعة للكتاب تَبرُز بجلاء الخصائص المميزة لمرحلة الانتقال بين العصرين الوسيط والحديث.

والكتاب المترجَم، في الأصل، أطروحة تقدَّم بها المؤلِّف لنيل شهادة الدكتوراه سنة 1946، نوقشت بالمعهد الأدبي التابع للأكاديمية السوفياتية للعلوم بموسكو، تحت عنوان رابليه في تاريخ الواقعية. وقد صدر هذا البحث لأول مرة باللغة الروسية سنة 1965 بغلاف حمل عنوان: إبداع فرانسوا رابليه والثقافة الهزلية الشعبية في العصور الوسطى وعصر النهضة، ولنجاحه ترجم إلى اللغة الإنكليزية عام 1986، وصدر آنذاك بعنوان: رابليه وعالمه، ويعتبر الكتاب من أهم أعمال باختين، إذ ارتبطت شهرته به.

سعى باختين إلى تقريبنا من أشكال الشعائر والطقوس والعروض الفولكلورية والاحتفالات الشعبية والكرنفالات وأدب النجاسة، والأسفل الجسدي، والمأدبة وغيرها من الصور التي سادت خلال القرون الوسطى وإبان عصر النهضة، وذلك من خلال الكشف عن أعمال رابليه التي تتجلى فيها تمظهرات الثقافة الهزلية للمرحلة، إذ تعكس بشكل صارخ الايماءات والحركات والأقوال والأمثال والمقالب والحماقات والنبوءات الشعبية، التي استقاها مباشرة من أفواه البسطاء والمجانين من عامة الشعب في الساحات العمومية، وفي المجالس الخاصة، ووظَّفها بطريقة ساخرة.

ومن المعلوم أن صدى كتاباته الملغَّزة جعلت الأحكام والتقديرات تتفاوت بشأن مكانته بين مفكري وكتاب عصره، غير أنها تتفق جميعا على الطابع الخاص والمتفرد لأعماله.

لا شك أن أهم عائق حاول باختين جبره، يتعلق بمدى سوء فهم الأجيال المتعاقبة للرموز الواردة في أعمال رابليه الصعبة، ومن ثم عمل على تفكيكها من جديد عبر القيام بدراسة معمَّقة لمصادره، ممَّا يسمح بتسليط الضوء على الثقافة الهزلية الشعبية التي قلما استرعت الانتباه، باعتبارها ثقافة تتعارض مع كل ما هو رسمي وجدي في التقاليد الدينية والإقطاعية للمرحلة.

لقد عانت الثقافة الهزلية المرتبطة بالضحك الشعبي وبفضاءات المحكي الساخر من الإقصاء شبه الكلي، فحتى إلى أجل قريب، لم يكُن المختصون في الفلكلور يدرجون مثل هذه الثقافات في دراساتهم المكرسة للأساطير والشعائر والملاحم الغنائية. لقد كان الضحك لا يشغل في أعمالهم إلا حيزا ضيقا وأحيانا مشوَّها، وهذا ما يعطي الأهمية القصوى اليوم لفك رموز ودلالات هذا النوع من الثقافة الشعبية في أعمال وكتابات رابليه المتميزة.

إن المظهر الهزلي في الأصناف والأشكال التي عمِل رابليه على تصويرها ونقلها مترابطة ومتمازجة بشكل كبير فيما بينها، بالرغم من تشعبها على مستوى التجليات والأجناس التعبيرية، فالكرنفالات الاحتفالية الساخرة خلال العصر الوسيط مثلا كانت تحتل الساحات العمومية وأزقة الأحياء لأيام ممتدة، وفي فترات متقاربة. فما يكاد ينتهي الاحتفال بأعياد الحمقى حتى يبدأ عيد الحمار، وحتى في الأعياد الدينية نجد فيها الكثير من المظاهر الهزلية الشعبية المتوارثة، حيث يتم استعراض موكب من العمالقة والأقزام والمسوخ والحيوانات المدربة في أغلبها، وكذلك الأمر بالنسبة للأعياد الفلاحية المرتبطة بمواسم الحصاد أو مواسم قطف بعض الفواكه، حيث يشارك فيها بصخب المهرجون والمغفلون والحمقى والمتهكمون الذين يتطاولون على المألوف من المراسيم الرسمية ذات الطابع الوقور، وعليه، فإنه من العسير فهم الثقافة السائدة في العصر الوسيط وبعده دون استحضار إسهامات الضحك الشعبي.

كل الشعائر والعروض الكرنفالية التي انتشرت في أوربا منذ القديم عرفت صيغا متنوعة، ومعقدة في آن، وبالخصوص في فرنسا. ولذا فإن تحليل منظومة الصور التي يقدمها رابليه تسمح لنا بالكشف عن خباياها السرية، وعن اختلافاتها عن أشكال أخرى من الشعائر والمراسيم الجدية للكنيسة، أو الدولة الإقطاعية، أو حتى البورجوازية بعد ذلك، والتي تقدم مظهرا مختلفا كليا للعلاقات الإنسانية العامة التي كانت تسود بالفعل بين الأفراد داخل المجتمع، مما يجعلنا أمام ازدواجية ثنائية. فبالموازاة مع الطقوس الجدية المقدسة تنتشر الطقوس الهزلية القدحية، والتي يمكن تسميتها بالضحك الشعائري. فمثلا أثناء الاحتفال بالأبطال كان هناك تجسيد مماثل لنظرائهم من الساخرين. ولأن مكونات هذه الثقافة الشعبية كانت راسخة ومتجذرة بعمق في الأوساط الشعبية، فإن الكنيسة فشلت في اجتثاثها، وخاصة حين عجزت عن اقتراح منتوج بديل مقبول ومقنع، وعلى سبيل المثال حاولت إقصاء الرقص والمواكب التي يكون فيها المشاركون مقنعين ولكن دون جدوى. ونفس الأمر ينطبق على الحكايات الشعبية التي لم تستطع الكنيسة سوى إعادة صياغتها وإضفاء الطابع الديني المسيحي عليها لتغدو جزءا من الثقافة العالمة(1).

وإذا كان ميخائيل باختين قد أفصح منذ البداية أنه لن يتتبع بشكل دقيق الأعمال التي أنتجت عن رابليه، فإنه اكتفى بعرض وجيز لوضعيات الدراسات الرابليهية، متوقفا عند الإنجازات دون أن يغفل العثرات والسلبيات.

لقد تتبع المؤلف، بحكم موطنه، حضور رابليه في الأبحاث والدراسات والمقالات التي صدرت في الأراضي السوفياتية، وقدم لوحة بانورامية شملت أيضا تتبع الاهتمامات التي حظيت بها هذه الشخصية في كتابات فلاسفة عصر الأنوار الفرنسيين، ووقف طويلا في فترة القرن التاسع عشر مع فيكتور هيكو الذي عبَّر عن الفهم الأكمل والأعمق لرابليه، فقد اعتبره باختين ناجحا إلى حد الكمال في فهم الطابع الشمولي لصور رابليه التي تتضمنها مجموع أعماله، وبالخصوص في كتابه وليام شكسبير.

وإذا كانت أعمال رابليه وحياته قد شكَّلت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر موضوعا لدراسات علمية معمقة، حيث خصصت له العديد من المونوغرافيات، وشٌرع في التحليل التاريخي والفيلولوجي الجاد لنصوصه، فإن الدراسات العلمية الأوسع ترجع إلى العقد الأول من القرن العشرين، حيث تأسست سنة 1903 جمعية الدراسات الرابليهية التي كانت تضم إلى جانب أبيل لوبران تلامذته وأصدقائه. وقد تعزَّزت ورشة البحث هذه بإصدار نشرة فصلية بعنوان “مجلة الدراسات الرابليهية”. وقد قامت هذه الجمعية والمجلة التابعة لها بدراسة النشاط النصولوجي واللساني وتعمقت في مصادر رابليه، وقد استطاعت إنتاج أعمال ضخمة عن هذه الشخصية جمعت بين وضع سيرة تركيبية وافية عنه، وبين التأويل التاريخي لإنتاجه، مع نشر طبعات نقدية محققه لأعماله. لقد مكنت أشغال هذه الجمعية من فهم ودراسة نصوص رابليه دراسة فيلولوجية. كما أتاحت المدونات الوثائقية التي تم تجميعها فهما أعمق لمكانته التاريخية(2).

وكان لافتا في الكتاب تطرق باختين إلى أهمية مؤلف لوسيان فيفر الموسوم بـ  “مشكل الإلحاد في القرن 16، ديانة رابليه”، والذي شَكَّل حدثا بارزا في تاريخ الدراسات الرابليهية. ففي هذا المؤلف، الموجه بالأساس ضد أبيل لوفران ومدرسته، “لا يتناول فيفر بالدرس المظهر الأدبي في الأعمال الرابليهية، كما لا يهتم بمجال المصادر السير ذاتية، وإنما يركز على تصور رابليه للعالم، وعلى الأخص موقفه من الدين والكاثوليكية. فهدف فيفر الأول هو فهم رابليه، وذلك بإعادته إلى ظروف وسطه الثقافي والفكري، في حدود الإمكانيات المتاحة في عصره، إذ يتعذر علينا فهم القرن 16 بعزل الفرد عن المناخ “الأخلاقي” وعن الجو “الفكري” للعصر الذي عاش فيه”، لذا فمن الضروري إعادة قراءة نص رابليه بعيون معاصريه، أهل القرن 16 وليس القرن 20. يجب بالنسبة لفيفر: “فهم رجل القرن السادس عشر ليس بالعلاقة معنا ولكن بالعلاقة مع معاصريه”، فبالنسبة للمؤرخ، “أكبر خطيئة يمكن أن يقع فيها، هي الإقدام على قلب الزمن، والسقوط في المغالطة التاريخية”. ومن هذا المنظور قام فيفر بانتقاد أبيل لوفران الذي يقول بأن رابليه يقوم بالدفاع عن إلحاد عقلاني منطقي. فحَسب فيفر لا وجود في ذلك العصر للأرضية أو للأسس المرجوة لقيام إلحاد عقلاني منطقي سواء من حيث الإحساس أو من حيث تصور العالم، “إنه أمر مستحيل بالنظر إلى الفترة التي عاش خلالها رابليه(3)، “لأن الأداة الذهنية لم تكن تسمح بتكوين رؤية ملحدة للعالم”(4).

انتقد فيفر بشدة ما افترضه أبيل لوفران استنادا إلى بعض الفكاهات الساخرة التي وردت على لسان رابليه ضد الرهبان الكاثوليك والبروتستانت، من كونه رجلا عقلانيا، ومفكرا حرا، واتهمه بالوقوع في المفارقة التاريخية، أي أنه قرأ نصوصا من القرن 16م بعيون القرن 20م. لقد أجاب لوسيان فيفر عن رأي ابيل لوفران بالقول: “لا، لم يكن رابليه المفكر الحر الذي تحلم به في عالم تتشكل فيه الحياة الجماعية على وقع الدين”.

ولم يسلم فيفر بدوره من انتقادات باختين، فبالرغم من إشادته بالكتاب، ودوره في مراجعة عدد من الآراء والأحكام حول ظواهر مختلفة من ثقافة القرن السادس عشر، إلا أنه اعتبر أن كتاب فيفر لا يساعد إلا قليلا على فهم روايات رابليه بصفتها أعمالا أدبية، لأن فيفر مثله مثل لوفران، يجهل الثقافة الهزلية الشعبية في العصر الوسيط والعصر الحديث، فتحليلاته ظلت عمليا محصورة في نطاق الثقافة الرسمية، ولهذا السبب يظل الأساسي في رابليه الحقيقي خارج حقل دراسته. فقد طبق منهجه التاريخي على الجوانب الجدية في أعمال رابليه وترك جانبا الضحك بصفته عنصرا ثابتا في كل العصور، ومن ثم تعامل معه باعتباره عنصرا غير تاريخي.

وإذا كان فيفر يعتبر أن قلب الزمن مسبَّة للمؤرخ وخطيئة كبرى (وقد اتهم بذلك أبيل لوفران وآخرون)، فإنه حسب باختين لم ينجُ بدوره من الانغماس في نفس الخطيئة، حينما تناول موضوع الضحك الرابليهي، فقد أنصت له بأذني القرن العشرين وليس مثلما كان يُنصت إليه معاصروه. ولذلك فإن دراسته في نظر باختين لم تستطع قراءة بانتاغرويل بعيني رجل القرن السادس عشر(5).

إن الدراسات الرابليهية الحديثة، بالرغم من أهميتها، لا تعيد في نظر باختين تشكيل الصورة الإجمالية للكاتب الفرنسي الكبير، إذ انصب اهتمامها على تجميع الوثائق، وإنجاز البيوغرافيا، دون أن يكون هناك تناول للمصادر الفولكلورية بطريقة دقيقة وموسعة، فكل الوثائق المجموعة لا تتجاوز عموما إطار الثقافة الرسمية بينما رابليه لا يندرج إطلاقا ضمن هذا الإطار(6).

وإذا كانت فصول الكتاب تمكننا من ملامسة منظومة الصور الرابليهية الشديدة السعة والشمولية في علاقتها بالثقافة الشعبية، من خلال إبراز الصراع بين الثقافتين: الثقافة الشعبية والثقافة الرسمية القروسطوية، فإن الفصل السابع من الكتاب يشكِّل خلاصة مفيدة في تتبع صور رابليه في علاقتها بواقع عصره، حيث تبدو أعماله كلها وقد خرجت من قلب حياة العصر الذي كان المؤلف مساهما فعالا فيه وشاهدا عليه. فبعيدا عن الدراسات التي أولت الاهتمام الكبير للأحداث السياسية ولانعكاساتها في أعمال رابليه من خلال تأويلها على المستوى الرسمي، تبدو رؤية المؤلف مغايرة، حيث وضع اليد على مهمة رابليه الأساسية، والتي تجلت في هدمه للأفكار الرسمية الزائفة، انطلاقا من الحديث بلسان ولغة الصور الشعبية.

قَدَّم باختين مجموعة من الأمثلة، من خلال كتابات رابليه، لتوضيح الطريقة التي عكس بها واقع عصره، بداية من المحيط المباشر لعصره ووصولا إلى الأحداث الكبرى، وذلك من خلال تتبع أسماء الأماكن والأعلام والأحداث، والوقوف على رمزية الألفاظ الشعبية المستخدمة في اللغة الوطنية الصاعدة، المتشكلة حديثا في آونة عصر النهضة.

لقد استطاع مؤَلِّف كتاب فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية ملامسة الأصالة الاستثنائية التي حددتها ثقافة الماضي الهزلي الشعبي التي ارتسمت ملامحها بشكل قوي في صور رابليه، وتجَاوز بشكل ناجح العيب الأساسي الذي ظل عالقا بمختلف الدراسات الرابليهية، التي ظلت قاصرة عن فهم ما هو جوهري في أعماله لجهلها بالثقافة الشعبية. ولذا يمكن اعتبار هذا الكتاب خطوة مهمة في مجال الدراسة الشمولية للثقافة الهزلية، التي أسمعتنا صوت الشعب عن قرب، ومكَّنتنا من فهم سليم للصراع الثقافي والأدبي للفترة الانتقالية بين العصر الوسيط وعصر النهضة، دون أن تضع روابط بين أعمال رابليه وواقع عصره والأدب السابق عليه.

الهوامش:

(1)   جاك لوغوف، هل ولدت أوربا في العصر الوسيط؟ تعريب محمد حناوي، يوسف نكادي، الطبعة الأولى 2015، وجدة،  مطبعة مفكر ، ص71، 72.

(2)   ميخائيل باختين، رابليه والثقافة الشعبية في العصور الوسطى وإبان عصر النهضة، ترجمة  شكير نصر الدين، بيروت، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2015، ص 172.

(3)   François DOSSE, Le Pari biographique. Écrire une vie, Paris. La découverte. 2005 ; p 213,235

(4)   بول ريكور. الذاكرة، التاريخ، النسيان.ترجمة دجورجزيناتي، بيروت، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى، 2009، ص 289.

(5)   ميخائيل باختين، رابليه والثقافة الشعبية في العصور الوسطى وإبان عصر النهضة،  ص 176- 181.

(6)   نفسه، ص17.

 

- خاليد فؤاد طحطح

أستاذ باحث في التاريخ

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.